بين اليأس والرجاء
صوتان لا بد أن يرتفعا في كل أمة ويجب أن يتوازنا حتى لا يطغى أحدهما على الآخر: صوت يبين عيوب الأمة في رفق وهوادة، ويستحث على التخلص منها والتحرر من قيودها، وصوت يُظهر محاسنها ويشجع على الاحتفاظ بها والاستزادة منها. والصوتان معًا إذا اعتدلا كونا موسيقى جميلة منسقة تحدو الأمة إلى السير إلى الأمام دائمًا؛ هي موسيقى الجيش تبعث الرجاء والأمل، وتمني بالنصر والظفر؛ فإن بغى أحد الصوتين على الآخر كانت موسيقى مضطربة تهوش النفس وتدعو إلى الفوضى والارتباك؛ وإذا كان «الدور» في الموسيقى يكون منسجمًا كله، ويشذ أحد أصواته لحظة فيكون «نشازًا» يخدش السمع ويجرح النفس، فما ظنك «بدور» كله «نشاز»؟
•••
مما يدعو إلى الأسف أن صوتًا في الشرق علا كل صوت، وهو ليس خير الأصوات وأحبها إلى النفس؛ هو صوت اليأس والتثبيط يتغنى به كل أصناف الدعاة؛ فخطيب المسجد تدور خطبته دائمًا على أن من يخطبهم ليسوا مؤمنين حقًّا، فقد ارتكبوا من الأوزار، واجترموا من الآثام ما أخرجهم عن الإيمان الحق، وأبعدهم عن الدين الصحيح، ولو آخذهم الله بأعمالهم لأمطرهم حجارة من السماء، أو خسف بهم الأرض؛ ثم يَصُب هذا المعنى كل أسبوع في قالب، وكل القوالب متشابهة متقاربة، ويخرج السامع دائمًا وقد ملأه اليأس، وانقطع به الرجاء، إلا أن يتداركه الله بعفو ليس جزاءً على عمل.
ودعاة اللغة والأدب يلحون في أن اللغات الأجنبية خير من اللغة العربية، وأن الأدب الأجنبي أدب الثقافة والفن والعلم، ولا شيء من ذلك في الأدب العربي، وأن من شاء أن يفتح عينيه فليفتحهما على أدب أجنبي ولغة أجنبية، وإلا ظل أعمى؛ وموجز دعوتهم أن يتحول الشرق في لغته وأدبه إلى الغرب في لغته وأدبه، لا أن يختار من لغة الغرب وأدب الغرب ما تلقح به لغة العرب، وأدب العرب.
ودعاة الاجتماع أدهى وأمر، فليس في الشرق كله ما يسر، قد جرده الله من كل حسن، فلا طبيعته جميلة، ولا مناظره جذابة، ولا شيء فيه يأخذ باللب ويدعو إلى الإعجاب، والقمر في الغرب أنور منه في الشرق، والبحر الأبيض قد جمل منه ما لامس الغرب، وقبح ما لامس الشرق، وكل شيء في عادات الشرق وتقاليده تعافه النفس، وينفر منه الطبع؛ وعلى الجمله فالله تعالى الواهب ما شاء لمن شاء قد جمع الحسن كله في ناحية، وقال له: كن الغرب فكان، وجمع القبح كله في ناحية وقال له: كن الشرق فكان؛ وهم إذا لم يقولوا ذلك كله جهارًا آمنوا به إيمانًا، وصدرت عنه أفعالهم، واتجهت إليه حياتهم.
ودعاة العلم من هذا الطراز، فكتب العلم العربي إنما تصلح لدارس التاريخ أو طعمة للنار، وماذا فيها إلا تخريف وتحريف؟ قد كانت نتاج القرون الوسطى، ونحن نتاج العصر الحديث. ومجالسنا صدى لهذا الصوت، فإذا استثنيت عُشر معاشرها فكلها نقد للأخلاق، وطعن في حياة الشرق، وتهجم على حال أمتهم، وتجهمٌ لكل ما يصدر منهم، وقل أن تسمع صوتًا ينطق بمدح أو يعجب ببطولة، أو يتغنى بعمل مجيد.
هذه نغمة مملولة كانت أجنى على الشرق من كل عيوبه؛ ولن تفلح أمة من غير ذخيرة تعتز بها، ومجد طارف وتليد تعتد به، ونُعْرَة قومية تدعوها إلى الفخر والإعجاب. ولأمر ما قال تعالى: كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ. وليس عبثًا أن يكون في أناشيد الألمان «ألمانيا فوق الجميع»، وأن يعتقد بعض الأمم في أنفسهم أنهم شعب الله المختار، ونحو هذا مما ينعش الأمل، ويدعو إلى العمل.
تلك ظاهرة نفسية لا مجال لإنكارها؛ فاعتقد الغباوة في طفلك وكرر عليه اعتقادك تقتل كل ما فيه من ذكاء، وأعلن أنه ذكيٌّ وشجعه على ما يبدو منه من ضروب الذكاء تستخرج أقصى ما عنده من عقل. وفي المثل الإنجليزي: «دَعَوا الكلب عقورًا فشُنِق» بعنوان أنهم اعتقدوا في كلب سوءًا وسموه عقورًا وظلوا يطلقون عليه هذا الاسم حتى صدر منه من أفعال السوء ما استوجب قتله. وفي أمثالنا العامية «قالوا للفلاح: يا حرامي شرشر منجله» ذلك أن الاتهام يحمل على ارتكاب الجريمة من ناحيتين: من ناحية الإيعاز، فمن اتهمته فقد أوعزت إليه واقترحت عليه العمل، وأظهرت له الجريمة ماثلة أمام عينه حينًا بعد حين، ومن ناحية أن أكبر ما كان يمنعه من الشر خوفه أن يتهم بالشر، فإذا اتهمته فقد كان ما يخشاه، وأقدم على ما كان يتحاماه؛ هذا إلى ما يوحيه الاتهام الدائم من شعور باطني يسيره نحو العمل وفق الاتهام؛ وهذا هو السر في أن بعض القوانين تسَن لمعاقبه بعض أنواع الإجرام فتكون سببًا لكثرة الإجرام، ثم ترفع فيقل الإجرام فتكون سببًا لكثرة الإجرام؛ لأن وجود القوانين كان موعِزًا بارتكابها. ولعل أنواعًا من الآثام زادت بكثرة الكلام فيها من جهلة الوعاظ ممن لم يحسنوا دراسة النفوس وقوانينها.
إذا سقط الفتى فأريته أن سقطته قابلة للعلاج، وأخذت بيده لانتشاله، كفر عن سقطته وعاد إلى حاله؛ وإن أنت أريته أن سقطته لا تغتفر، وأنه لم يصبح إنسانًا، استمر يسقط أبدًا — وكثير من الساقطين والساقطات لو أحسوا في الناس استعدادًا لقبولهم، وشعروا أنهم يفسحون لهم في صدورهم، لعدلوا عن سقطتهم، ونهضوا من عثرتهم.
•••
وبعد، فليس الشرق بدعًا من الخلق، إن اعتز أحد بماض فليس أمجد من ماضيه. وإن كان لكل أمة غريبة محاسن ومَساو فللشرق محاسنه ومساويه، وإن كانت مساوي الغرب لم تمنعه من نهوضه فلم تمنع الشرق مساويه من نهوضه؟ ليس أعوق للشرق من هذا الصوت الكريه يصدر من دعاته فيبعث اليأس وينفث السم!
أيها الدعاة: كسروا قيثارتكم هذه التي لا توقع إلا نغمة واحدة بغيضة؛ واستبدلوا بها قيثارة ذات ألحان صنعها طَب بأدواء النفوس عليم؛ وأكثروا من ألحان تبعث الأمل، وتدعو إلى العمل، وتزيد الحياة قوة؛ ولا تُشَهرُوا برذيلة إلا إذا أشدتم بفضيلة، ولا تسمعونا صوت المعاول إلا إذا أريتمونا حجر البناء.