القلب
رمتني آنسة «بأن لا قلب لي، وإن كان فليس يخفق»؛ لأني كتبت موضوعًا في مجلة الرسالة عنوانه «أدب القوة وأدب الضعف» سميت فيه الأدب الذي يضعف النفس ويمرض العاطفة أدبًا ضعيفًا مائعًا.
لك الله يا آنسة! أفتدرين أن أشنع سُبة يسب بها الإنسان: أنه لا قلب له؟ وهل المرء إلا قلبه؟
ليس الإنسان جسمًا بعضه القلب، لكنه قلب غلافه الجسم.
لقد قالوا: «إن المرء بأصغريه قلبه ولسانه»، ولكنهم — بقولهم — قد رفعوا شأن اللسان إذ قرنوه بالقلب، ووضعوا من قيمة القلب إذ قرنوه باللسان. وهل اللسان إلا حَاكٍ بكئ لأحط حركات القلب وانفعالاته؟ وكيف يعبر المُحْدَث عن القديم؟ أم كيف يحيط المحدود باللامحدود؟ وأين يقع معجم اللغة من معجم العالم.
إن القلب يقرأ ما رسمه الله على السماء والأرض من أشعار، ولا يسمح منها للسان إلا بالقليل التافه، وما الشعر الملفوظ بجانب الشعر المحسوس؟
القلب لا يكذب أبدًا واللسان لا يصدقُ إلا قليلًا.
لعلك يا آنسة إن فتشت عن أعجب ما خلق الله في السماء وفي الأرض لم تجدي أعجب ولا أروع ولا أدق ولا أجمل من قلب الإنسان — تصلح أوتاره فيفيض رحمة وشفقة وحبًّا وحنانًا، ومعاني لطافًا وشعورًا رقيقًا، حتى يتجاوز في سموه الملائكة المقربين؛ وتفسد أوتاره فينضج قسوة وسوءًا حتى يَهْوي إلى أسفل سافلين.
حوى على دقته كنه العالم، فما أدقه وأجله! وما أصغره وأعظمه!
يكبر — ولا نرى كبره — فيتضاءل أمامه كل كبير، ويصغر — ولا نرى صغره، فيتعاظم عليه كل صغير.
اتحد شكل القلب واختلفت معانيه؛ فقلب كالجوهر الكريم صفا لونه، وراق ماؤه، يتلقى الإشعاع ويعكسه وهو على أشد ما يكون ضوءًا ولمعانًا، وقلب كالصخر قوي متين، ينفع ولا يلمع، وقلب هواء، خف وزنه، وحال لونه، وقلب … وقلب … مما لا يحصيها إلا خالقها. إن اتحدت عيون الناس وآذانهم ووجوههم ورءوسهم نوعًا من الاتحاد فإن لكل إنسان قلبًا وحده، ينبض بنوع من حب وكره، وقسوة وحنان، وإعظام واحتقار، ورفعة وانحطاط لا يشركه فيه قلب آخر؛ وبهذا — وبهذا وحده — اختلفت قِيَمُ الناس وتعددت مراتبهم.
يموت القلب ثم يحيا، ويحيا ثم يموت. ويرتفع إلى الأوج، ويهبط إلى الحضيض؛ وبينما هو يساوي النجوم رفعة، إذا به قد لامس القاع ضعة، وهكذا يتذبذب في لحظة بين السماء والأرض والطول والعرض؛ وخير الناس من احتفظ برفعة قلبه، وسمو نفسه.
هو إن شئت فردوس، وإن شئت جحيم. هو إن شئت مَلَك، وإن شئت شيطان، هو إن شئت نار تتقد بالحب:
وإن شئت سلا فكان برْدًا وسلامًا:
القلب مركز العاطفة، والرأس مركز العقل، وما العقل لولا العاطفة؟ إن العقل أكثر ما ينفع للهدم، والقلب أكثر ما ينفع للبناء؛ إن القلب يؤمن والعقل يلحد، والقلب يحب، والعقل يحذر.
القلب يؤسس العالم، والعقل يسكنه، والقلب يخلق الشيء، والعقل يغضبه سلي التاريخ: أليس أعظم بناة العالم قد امتازوا بكبر القلب، وصدق الشعور، وقوة الإرادة، أكثر مما امتازوا بسعة العقل وقوة الإدراك؟
القلب بنى البناء والعقل نَقَدَه، والقلب أحيا الشعور والعقل حده.
هل تعلمين — يا آنسة — أن من وجد كل شيء وفقد قلبه لم يجد شيئًا، وأن من جُردَ من قلبه لا يعرف صداقة ولا يدين بوطنية ولا يشعر بحنان، ولا ينطوي على إيمان؟
أو تعلمين أن من سُلِب القلب فقد سُلب الفن والأدب؛ لأن الفن مناطه القلب، والعلم مناطه العقل؟ وقد سئل مصور ماهر: كيف تمزج ألوانك؟ فقال: أمزجها بدم قلبي؛ وكذلك الأدب الحق، هو ما كان ذوب القلب.
يا آنسة: لقد رَمَيْتِ فأصْمَيتِ، ولشد ما خفق قلبي لسُبَّتِك، كأنه يريد أن يثبت وجوده.