الجامعة كما أتصورها
للجامعة — كما أتصورها — وظيفتان: وظيفة علمية ووظيفة خلقية، وكلتا الوظيفتين متصلة بالأخرى أتم اتصال؛ فالضعف العلمي يتبعه ضعف خلقي والعكس، كما أن القوة العلمية تتبعها قوة خلقية والعكس.
فمن الناحية العلمية أرى أن وظيفتها تخالف الوظيفة العلمية للمدارس الابتدائية والثانوية؛ ففيهما توجه العناية إلى وسائل التعليم أولًا، وكمية من العلم أثبت العلم صحتها ثانيًا. أما في الجامعة فوسائل التعليم فيها ثانوية، وإنما القصد الأول إلى البحث العلمي ووضع القضايا العلمية والأدبية موضع البحث والنظر؛ من أجل هذا لا يمكنك أن تتصور مدرسة ابتدائية أو ثانوية من غير طلبة؛ لأنه لا يمكن تعليم من غير متعلم؛ ولكن يمكنني أن أتصور دراسة في كلية أو جامعة من غير طلبة، وذلك بعكوف طائفة من العلماء ومساعديهم يبحثون وينقبون — بل ولو كان هناك طلبة فالجزء الأهم من الجامعة لا يُقضى بين الفصول، ولكنه يقضى في مكاتب الأساتذة والمكاتب العامة والمعامل.
وقديمًا قالوا: «العلم لا يعطيك بعضه إلَّا إذا أعطيته كلك» وهذا أكثر انطباقًا على العلم الجامعي والبحث الجامعي.
فأستاذية الجامعة — كما أتصورها — نوع من الرهبنة؛ فكما ينقطع الراهب للعبادة في دير ينقطع الأستاذ للعلم وخدمته، أو بعبارة أخرى إن الراهب يعبد الله عن طريق الصوم والصلاة، وهذا يعبده عن طريق العلم أيضًا.
فإذا شغل الراهب بالمال وطرق تحصيله وحب الشهرة والرياسة والجاه فهو راهب فسد، كذلك العالم إذا شغلته العلاوات والدرجات وحب الشهرة والجاه فهو عالم فسد؛ إنما يجب على الأمة والحكومة أن توفرا له وسائل راحته الضرورية التي تتناسب مع تفرغه للعلم وتضحيته للذائذ الحياة من أجل العلم، فإن هو بعد ذلك ضل عن منهجه العلمي فاللوم عليه.
هذا العالِم — في هذا الوضع — قد وطن نفسه على خدمة العلم، وخدمة الأمة من طريق العلم، وخدمة الإنسانية من طريق العلم، لا غرض له في حياة إلا ذلك؛ العلم مثله الأعلى والعلم لذاته العظمى، والعلم يشغل أهم جزء في مخه، في أكله وشربه وراحته ورياضته وأحيانًا في نومه؛ هو يحب الحقيقة كما أحب المجنون ليلى؛ يرى أنه لا يخفف آلام الإنسانية إلا الإخلاص في الفكر، والإخلاص للعلم، ومواجهة الحقائق كما تبدو له، كائنة ما كانت ولو خالف الناس جميعًا.
من أجل هذا كله تتطلب حياته الاستقلال التام، بل إن الاستقلال له ألزم من الاستقلال السياسي؛ لأن العلم لا يمكن أن ينهض إلا إذا كان حرًّا؛ والعالم لا يعد عالمًا إلا إذا عشق الحق، سواء كان ما اعتقده حقيقة يرضي الحكومة أو لا يرضيها، يرضي السياسة أو لا يرضيها، يرضي الآراء الشائعة أو لا يرضيها. إن كانت السياسة تعترف بأن من وسائلها المشروعة تقريبَ وجهات النظر فالعلم لا يعرف ذلك، إنما يعرف أن هذا أسود أو أبيض ولا شيء غير ذلك. أما أن يكون أغبش فلا — لا يبيع رأيه بمال ولا بجاه ولا بمنصب، بل ولا بالدنيا كلها بل ولا بحياته، فكثير ضحوا حياتهم لنظريتهم العلمية.
هذا ما أتصوره في الأستاذ الجامعي، فإن انحرف عن هذا النهج لم يكن أستاذًا بحتًا، بل كان أستاذًا وتاجرًا، وكل ما في الأمر أنه تاجر بعلمه والآخر تاجر بسلعته؛ بل هو شر من التاجر البحت؛ لأنه اتخذ من العلم سلعة فقلبَ الوضع وتاجَرَ في غير متجر.
مثل هذا الأستاذ عزيز، وإذا ظفرنا بواحد من هذا الصنف في كل بيئة جامعية ضمنا نجاحها؛ لأنه إذ ذاك يصبح منارًا يهتدي به المدرسون والطلبة في الظلمات؛ هو مثل حي للتضحية، ومثل حي في سمو الخلق، ومثل حي لغلبة المعنويات على الماديات، هو خير على العلم والخلق جميعًا.
هناك عامل آخر في البناء الخلقي الجامعي يعين الأستاذ على تحقيق مَثَله، هو الجامعة ككل، ممثلة في مجالس كلياتها ومجالس جامعتها ومديرها وإدارتها.
وهي أن تكون متمشية مع الأستاذ في استقلاله، تصل الواجب بقطع النظر عن كل اعتبار آخر، لا تخدم إلا شيئين: العلم والخلق، ليست تخدم حزبًا سياسيًّا، ولا تخدم رغبة وزير؛ إنما تخدم العلم كعلم عالي لا وطن له، وتخدم الخلق كخلق إنساني؛ فإن كان ولا بد من حصر هذه الدائرة الخلقية فإنها تخدم أمتها ككل، تتخذ لنفسها مركز النجم في السماء يسترشد به الساري، سواء أكان مؤمنًا أو كافرًا، وسواء أكان لونه السياسي أبيض أم أسود، تعتقد أنها الجامعة المصرية لا الجامعة السياسية الحزبية؛ فإذا هي موضع التقديس من كل حزب، وموضع الإكبار من كل هيئة؛ ومتى اتخذت هذا الوضع كانت كل العواصف السياسية والحزبية تهُب بعيدًا عنها ولا تلمسها؛ تهب حولها لا عليها؛ فإن أريد منها أن تتنحى قَيدَ شعرة عن هذا النهج قال كل من فيها: «لا» بملء فيه، حرة في معالجة مسائلها، حرة في وضع برامجها، حرة في تصريف مالها في حدود ميزانيتها، حرة في معالجة مشكلاتها كما يتراءى لها؛ قد تخطئ في ذلك ولكنها تتعلم من الخطأ كما تتعلم من الصواب، وتسترشد بضلالها كما تسترشد بهدايتها، وهي بهذا تنمو من الداخل لا تنمو من الخارج، تكون كالإنسان يكبر ويترعرع من الأكل الصحي والهواء الصحي، لا كإنسان يضخم بكثرة الملابس عليه.
إن الجامعة إن فعلت ذلك كانت مثلًا للطلبة يحتذى في تصرفاتهم. إنهم يخجلون أن يتحزبوا إذا كان كل الجو الجامعي حولهم لا يتحزب. إنهم يعودون إلى آبائهم الروحيين إذا لعبت بهم الأهواء. إنهم يسمعون نبضات قلوب أساتذتهم كما يسمعون دقات ساعاتهم، يضبطون بأعمال أساتذتهم أخلاقهم كما يضبطون على ساعة الجامعة ساعاتهم. أما إن عكس الوضع وسير الخارج الأساتذة وسير الطلبة الأساتذة والخارجَ، كان ذلك هرمًا مقلوبًا أو كان رجلًا يمشي على رأسه، أو كان ضبطًا لساعة المرصد على ساعة رجل الشارع، وفي ذلك إنذار بالخيبة.
بجانب أستاذ الجامعة وهيئة الأساتذة والإدارة عامل آخر كبير سو عوامل الخلق الجامعي، هو تكوين رأي عام بين الطلبة يشعر بالواجب … المسئولية؛ وأعتقد أن تسعين في المائة من زلات الطلبة ترجع إلى فقِدان هذا العامل الهام؛ فلو أن هناك رأيًا عامًّا يحتقر الطالب إذا كلم فاه كلمة نابية أو نظر إليها نظرة شاذة فهل يجرؤ الطالب على ارتكاب هذا الخطأ؟ وإذا كان الرأي العام بين الطلبة يحتقر الكاذب ويحتقر المستهتر ويحتقر الهازل فما أعظم الإصلاح الذي يرجى من وراء ذلك!
إن معظم الزلات الخلقية من الطلبة لا تقع تحت سلطان القانون، فليس القانون يؤاخذ على كذبة ولا نظرة نابية ولا كلمة جارحة ولا ضحكة مستهترة ولا نحو ذلك من الشرور؛ إنما يترك ذلك كله للرأي الجامعي يعقب عليه بالازدراء والاحتقار والمقت؛ فما لم يوجد رأي عام من هذا القبيل واكتفى بالقانون فلا أمل في النجاح.
لا بد من الإكثار من اجتماع الطلبة بمناسبات مختلفة يتعرضون فيها للخطأ، ويهيأ الرأي العام فيها للنقد على هذا الخطأ، حتى يتبلور الرأي العام ويأخذ سبيله في سلطانه على النفوس — يجب أن يعودوا أن يحكموا أنفسهم بتكوين قضاة منهم يحكمون على زلاتهم وينفذون قضاءهم بأيديهم وألسنتهم؛ بهذا يسود في الطلبة الشعور بالشرف والندم على الهفوة — يجب أن تكون للجامعة تقاليد قد أسست على قانون الشرف، يخشى كل طالب من كسرها كما يخشى من ارتكاب السرقة أو الخيانة.
حكى لي أستاذي المرحوم عاطف بركات باشا، أنه لما سافر في بعثة إلى جامعة من جامعات إنجلترا، وكان حديث عهد بها، دخن في حجرة كان التدخين فيها محرمًا، فمر بعض رجال الجامعة في هذه الحجرة وشم رائحة الدخان، فسأل: مَن المدخن؟ فلم يجب أحد ولا عاطف بركات، فتركهم الأستاذ وانصرف. قال عاطف باشا: فأحسست أن كل من حولي من الطلبة ينظرون إلي نظرة فيها شيء كثير من الاحتقار. فمن ذلك اليوم عظم شأن الصدق في نفسي واستفظعت غلطتي ولم أعد بعد إلى مثلها.
ومما يتصل بهذا بث الروح بين الطلبة بشدة ارتباطهم بكليتهم؛ فيفخرون بأستاذهم الشهير بعلمه ومؤلفاته، ويفخرون بالنابغة فيها من أساتذتهم وطلبتهم، وبانتصار كليتهم في الألعاب وفي جميع أفعال البطولة وفي ميادين الأعمال الشريفة؛ ويستهجنون أعمال النذالة والسلوك الوضيع، وعلى الجملة يشعر كل طالب بأنه جزء من كل، يعتز بعزة الكل ويهون بهوانه.
•••
أستاذ صالح يقوم مقام المنارة في الكلية، وهيئة صالحة من الأساتذة والإدارة، ورأي عام من الطلبة له سلطان على نفوسهم، هي أهم ما أرى من عوامل الإصلاح للخلق الجامعي والعلم الجامعي.