سلطة الآباء
رحم الله زمانًا كان الأب فيه الآمر الناهي، والحاكم المطلق، والملك غير المتوج؛ ينادي فيتسابق من في البيت إلى ندائه، ويشير فإشارته أمر، وطاعته غُنم؛ تحدثه الزوجة في خفَر وحياء، ويحدثه الابن في إكبار وإجلال؛ من سوء الأدب أن يرفع إليه بصره، أو يرد عليه قوله، أو يراجعه في رأي، أو يجادله في أمر. أما البنت فإذا حدثها لف الحياء رأسها، وغض الخجل طرفها؛ قليلة الكلام، متحفظة الضحك، خافضة الصوت، تتوهم أنها أخطأت في التافه من الأمر فيندَى جبينها، ويصبغ الخجل وجهها؛ وإذا جاء حديث الزوج والزواج فإلى أمها الحديث لا إلى أبيها، وبالتلويح والتلميح لا بالتصريح، والأمر إلى الأب فيما يقبل وفيما يرفض، وفيما يفعل وما لا يفعل.
في جملة الأمر أن البيت ينقسم إلى قسمين: حاكم وهو الأب، ومحكوم وهو سائر الأسرة؛ منه الأمر ومنهم الطاعة، له السيادة وعليهم الخضوع، يرسم الخط وهم ينفذونها، يجلب الرزق ويتولى الإنفاق وهم يسيرون على ما رسم، وويل لمن عارض أو تبرم! فإن أحس الابن حاجة ملحة إلى مال، أو شعر بضرورة ملجئه إلى أكثر مما أخذ، لم يجرؤ أن يجابه بالطلب، إنما يحاور ويداور ويلمح ويرمز؛ فإن أعياه الأمر وسط الأم لعلها تستطيع أن تعبر تعبيرًا أوضح وأصرح، وقل أن تنجح.
وبجانب سلطة الأب الدنيوية كانت سلطته الدينية. فهو يوقظهم قبل الشمس ليصلوا الصبح أداءَ لا قضاءَ، ويسألهم في أكثر الأوقات عن صلاتهم كيف صلوا، وعن وضوئهم كيف توضأوا، يعلم الجاهل ويؤم المتعلم، ويجمعهم حوله من آن لآن يصلي بهم، ويذكرهم ويعظهم، ويقص عليهم قصص الأنبياء، وحكايات الأولياء والصالحين. وإن أنْسَ لا أنْسَ جمال المواسم الدينية — كيوم نصف شعبان، إذ تشعر في البيت من الصباح بحركة غير عادية: هذه ترتب البيت، وهذه تعد الأكل الحافل، ويتهيأ الجميع قبل الغروب استعدادًا لصلاة المغرب، قد لبس النساء البياض؛ وتقنعن بالشاش الأبيض، وإذا رب البيت يؤم جميع من في البيت، ثم يُخرِج دعاء نصف شعبان من جيبه ويتلوه عليهم، يقول جملة فيرددونها، ويبتهل معهم إلى الله أن يسعده ويسعدهم، ويصلحه ويصلحهم، ويبارك له في ماله وفي نفسه وفي ذريته، ثم يأخذون حظهم لبطونهم، كما أخذوا حظهم لأرواحهم، وشملتهم السعادة، وعمهم البشر والهناءة.
•••
لقد ودعنا ذاك الزمان بخيره وشره، وحلوه ومره، واستقبلنا زمانًا سار فيه الأبناء آباءَ، والمرءوس رئيسًا والرئيس مرءوسًا.
قالت الخطيبة لخطيبها: الناس أحرار، وأنا إنسانة وأنت إنسان، فإن اعتززْتَ بالكسب اعتززتُ بالإنفاق، وإن اعتززتَ بالرجولة اعتززتُ بالأنوثة، وإن اعتززت بأي شيء فأنا أعتز بمثله وبخير منه؛ فأنا وأنت شريكان لا سيد وأمة، ولا مالك ومملوك، لي كل الحقوق التي لك، وقد يكون علي بعض الواجبات التي عليك؛ فإن سفرتَ سفرتُ، وإن غشِيتَ دور الملاهي غشيتُها؛ عليك أن تحصل المال وعلي الإنفاق، ولك السلطان التام في اختيار طرق التحصيل، ولي الخيار التام في وجوه التبديد. أنت للبيت والبيت لي؛ وإن كان لك أم شَبِعَتْ سلطة في الماضي أيام كانت زوجة، فلا حق لها أن تنعم بسلطانها وسلطان غيرها، فليس لها الحق إلا أن تأكل، كما ليس لك الحق في حبها؛ فالحب كله للزوجة، إنما لك أن ترحمها. والدين لا شأن لك فيه بتاتًا، فهو علاقة بين العبد وربه؛ وكل إنسان حر أن يحدد هذه العلاقة كما يوحي إليه قلبه؛ فإن شئت أن تتدين فتديَنْ، على شرط ألا تقلب نظام البيت، وتقلق راحتي وراحة الخدم.
ورأى الرجل أن الأحكام قاسية، والشروط فادحة، وهام يبحث بين الممدنات عمن يرضى به زوجًا على الشروط القديمة فأعياه البحث.
وأخيرًا نزل على حكم القضاء، وأسلم نفسه لسلطان الزمان، وقدم الطاعة للزوجة، بعد أن كانت هي تقدم الطاعة له، ولا يزال في دار الآثار في المحاكم الشرعية قضايا اسمها قضايا الطاعة، يحكم فيها للأزواج على الزوجات، حفظ شكلها وبطل روحها؛ ولو كانت المحاكم محاكم عصرية لحكمت بالطاعة على الزوج لزوجته وحكمت بالنفقة على الزوجة لزوجها.
وتم الزواج، وفرحت الزوجة بالظفر فغالت في الطلب، وابتدعت كل يوم مطلبًا جديدًا، وأرادت أن تنتقم لأمهاتها من آبائه في شخصه، فطالما أَطَعْن وطالما خضعن، فليطع دائمًا وليخضع دائمًا، جزاءً وفاقًا على ما جنى آباؤه وأجداده.
قالت: إن رقصتَ رقصتُ، فذلك حقك وحقي. قال: نعم. قالت: بل إن لم ترقص رقصتُ؛ لأنك إن أضعت حقك لم أُضع حقي، وإن خاللتَ خاللتُ فالجزاء من جنس العمل، بل إن لم تخالل ربما خاللت؛ لأن حياة الزوجية البحتة قد يعتريها الركود والسأم والملل؛ فصرخ ولف الغضبُ وجهه، وحاول أن ينكل بها فتراجعت، وسجلت مطلبها الأخير، ورأت المحكمة أن تتريث بعض الشيء حتى يبلع ريقه من أثر الصدمة الأولى، ويستعد للصدمة الثانية، فإن لم يسعفها الزمان أوصت بناتها بشروطها الجديدة.
قالت: وسيكون أول ما أوصي به ابنتي أن تتخذ قياس خطيبها، ثم يكون من أول جهازها أن تفضل له بَرْدَعَة ولجامًا على قدره، فتضع البردعة عليه وتركبه إذا شاءت، وتشكمه باللجام إذا حاول أن يتحرك يمينًا أو شمالًا على غير رغبتها.
•••
وشاء الله أن يُرْزَقَا بنين وبنات.
وقد رأوا أن الأم لا تُجِل الأب فلم يُجِلوه، ولم تُعِره كبير التفات فلم يعِيروه، ورأوها تبذر في مال الأب فبذروا، ورأوها حرة التصرف فتحرروا، ورأوها تخرج من البيت من غير إذن الأب فخرجوا خروجها، وتعود متى شاءت ففعلوا فعلها، ورأوها لا تتدين فلم يتدينوا، ورأوها تطالب الأب ألا يفتح رسائلها فطالبوا، ورأوها تتكلم في المسائل الدقيقة أمام أبنائها وبناتها في صراحة فتفتحت شهواتهم، وتحركت رغباتهم، وجمحت تخيلاتهم.
وقال الأبناء لأبيهم: إنا مخلوقون لزمان غير زمانك فاخضع لحكم الزمان، وقد نشأنا في زمن حرية في الآراء، وحرية في الأعمال، وحرية في التصرف، لا كما نشأت في جو من الطاعة والقيد والأسر والتقاليد، فمحال أن يسع ثوبك الضيق أبداننا، وتقاليدك العتيقة البالية نفوسنا، فإن حاولت ذلك فإنما تحاول إدخال الثورة في قارورة، أو لف القصر الكبير بمنديل صغير! قال: نعم. قالوا: وأنت الذي سمح لنا بادئ ذي بدء أن نغشى دور السينما والتمثيل، وأن نسمع الأغاني البلدية، ونشاهد المراقص الأوربية، فإذا أقررت المقدمة فلا تهرُب من النتيجة، وأنت الذي عودنا ألا نضع للبيت «ميزانية» فأنت تعطي «ماهيتك» لأمنا تنفق من غير حساب، فإن انتهت في نصف الشهر طلبَتْ منك أن تقترض فاقترضت، وأن تشتري ما لا حاجة لنا به فاشتريت، وأن تقدم الكمالي على الضروري فأطعت؛ فليس لك أن تطالبنا بالاقتصاد في الجدول الصغير، والنهر الكبير ليس له ضابط. وخرق أن تحاول أن تضع ميزانية دقيقة لمصلحة، وميزانيةُ الدولة مبعثرة! قال: نعم. قالوا: وقد أضعت سيادتك على أمنا فلِم تفرض سيادتك علينا؟ ورضيت بالخضوع لها فلِم تأباه علينا، وهي أم الحاضر وأنت أبو الماضي ونحن رجال المستقبل؟ قال: نعم. قالوا: وأنت نشأت في زمن خضوع تام: خضعت لأبيك في المهد صبيًّا، وخضعت للفقيه في المكتب وللمدرس في المدرسة، فإذا قلت برأسك هكذا، قال الأستاذ بعصاه هكذا، فنكست رأسك، وغضضت بصرك، وأسعفتك عينك بالبكاء، ولم يسعفك لسانك بالقول؛ فلما صرت «موظفًا» وقفت من رئيسك موقفك من أبيك وأستاذك، تنفذ دائما وتطيع دائمًا؛ ولم يجْرِ على ذهنك يومًا تفكير في استقلال، ولا على لسانك نداء بحرية. أما نحن فحريتنا في بيتنا حرَّرْتَنا على أساتذتنا، ونادينا بالحرية القومية فتبعتمونا في شيء من الرياء، تظهرون الطاعة لرؤسائكم، وتبطنون الرضا عن حركاتنا، وتريدون أن تجمعوا بين الحرص على ماهيتكم والحرص على وطنيتكم المكبوته. قال: نعم. قالوا: فلما قدناك وقدنا رجالنا في السياسة فلنقدكم جميعًا في كل شيء. في البيت وفي المال وفي العلم وفي رسم الخطط، ولنقلب الوضع فنكون قادة وتكونوا جنودًا، وإلا لم نرض عنكم جنودًا ولا قادة.
وقالت البنات لأبيهن: يا أبانا الذي ليس في السماء! رقَصَتْ أمنا فرقَصْنا، وشربت أمنا فشربنا، وشربَتْ سرًّا فلتسمح لنا بحكم تقدم الزمان أن نشرب جهرًا، ورأينا في روايات السينما والتمثيل حبًّا فأحببنا، ورأينا عريًا على الشواطئ فتعرينا، وتزوجت أمنا بإذن أبيها فلنتزوج نحن بإذننا. قال: نعم. قلن: وقد أوصتنا أمنا أن نركب الزوج، ولكننا أمام مشكلة يشغلنا حلها. فإنا نرى شبان اليوم متمردين لا يخضعون خضوعك ولا يستسلمون استسلامك، فإرادتهم قوية كإرادتنا، وهم يحبون السلطة حبنا؛ فهم أحرار ونحن حرائر، وهم مستبدون ونحن مستبدات، فكيف نتفق؟ هل يمكن أن يبقى البيت بعدة استبدادات؟ ولكن لا بأس يا أبانا! هل البيت ضرورة من ضرورات الحياة؟ أو ليس نظام الأسرة نظامًا عتيقًا من آثار القرون الوسطى؟ قال: نعم. قلن: على كل حال فيصح أن يجرب جيل النساء الجديد مع جيل الرجال الجديد، فإن وقع ما خشينا عشنا حرائر وعاشوا أحرارًا، وطالبنا بتسهيل الطلاق وبهدم المحاكم الشرعية على رءوس أصحابها، وتعاقدنا تعاقدًا مدنيًّا. قال الأب: وماذا تفعلن بما ترزقن من أبناء وبنات؟ قلن: لك الله يا أبانا! إنك لا تزال تفكر بعقل جدنا وجدتنا! لقد كنت أنت وأبوك وجدك تحملون أنفسكم عناءً كبيرًا في التفكير في الأولاد، وتضحون بأنفسكم وأموالكم في سبيلهم، وتعيشون لهم لا لكم. أما عقليتنا أهل الجيل الحاضر فأن نعيش لأنفسنا لا لغيرنا. لقد ضحك عليكم الدين والأخلاق ففهمتم أن الواجب كل شيء، وكشفنا اللعبة ففهمنا أن اللذة كل شيء، فنحن نمنع النسل، فإذا جاء قسرًا فليعش كما يشاء القدر؛ ولنقدم حظنا على حظه، وسعادتنا على سعادته، ولا نفكر فيه طويلًا، ولا يتدخل في شئوننا كثيرًا ولا قليلًا.
قال الأب: وأمر المال كيف يدبر؟ كيف تعشن أنتن وأولادكن إذا كان طلاق وكان فراق؟ قلن: هذا ظل آخر ظريف من ظلال تفكيرك، دع هذا يا أبانا والبركة أخيرًا فيك.
•••
أما بعد، فقد خلا الأب يومًا إلى نفسه، وأجال النظر في يومه وأمسه، فبكى على أطلال سلطته المنهارة، وعزته الزائلة، ورأى أنهم خدعوه بنظرياتهم الحديثة، وتعاليمهم الجديدة — قال: لقد قالوا: إن زمان الاستبداد قد فات ومات، فلا استبداد في الحكومة، ولا استبداد في المدرسة، فيجب ألا يكون استبدادًا في البيت؟ إنما هناك ديمقراطية في كل شيء، فيجب أن يكون البيت برلمانًا صغيرًًا يسمع فيه الأب رأي ابنه ورأي ابنته ورأي زوجه، وتؤخذ الأصوات بالأغلبية في العمل وفي المال وفي كل شيء؛ وقالوا: تنازل عن سلطتك طوعًا، وإلا تنازلتَ عنها كرهًا، وقالوا: إن هذا أسعد للبيت، وأبعث للراحة والطمأنينة، وقالوا: إن هذا يخفف العبء عنك، فنحن نقسم البيت إلى مناطق نفوذ: فمنطقة نفوذ للمرأة، وأخرى للرجل، وثالثة للأولاد، وكلهم يتعاونون في الرأي ويتبادلون المشورة. سمعت وأطعت فماذا رأيت؟ رأيت كل إنسان في البيت له منطقة نفوذ إلا شخصي، ولم أر البيت برلمانًا، بل رأيته حمامًا بلا ماء، وسوقًا بلا نظام، إن حصلتُ على مال أرادَتْهُ المرأة فستانًا، وأرادته البنت بيانو، وأراده الابن سيارة؛ ولا تسل عما يحدث بعد ذلك من نزاع وخصام. وإن أردنا راحة في الصيف أردت رأس البر لأستريح، وأرادت الأم والبنت الإسكندرية قريبًا من ستانلي باي، وأراد الابن أوربا؛ إلى ما لا يحصى، ولا يمكن أن يستقصى؛ وأخيرًا يتفقون على كل شيء إلا على رأيي. فوالله لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما تزوجت، فإن كان ولا بد ففلاحة صعيدية، لم تسمع يومًا بمدينة، ولم تركب يومًا قطارًا إلى القاهرة والأسكندرية، لها يد صناع في عمل «الأقراص» ورأس صناع في حمل «البلاص».
أيتها الزوجة! ويا أيها الأبناء والبنات! ارحموا عزيز قومٍ ذَل!