عدوُّ الديمقراطية
لندع الديمقراطية السياسية، فلها نظرياتها ورجالها، ولها نزاعها الحار بين أنصارها وأعدائها.
ولنتكلم في الديمقراطية الاجتماعية وأعدائها — فأكبر مظاهرها الاشتراك في مرافق الحياة من غير أن تتميز طبقة من طبقة؛ فإذا رأيت في القطار درجة أولى وثانية وثالثة فهذا مظهر أرستقراطي، وإذا رأيت ذلك في عربات الترام والسيارات العامة والسينما والتمثيل فهذا أيضًا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت أحياءَ يُعنَى فيها بالكنس والرش والنور، وأحياء لا يعنى فيها هذه العناية فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية، وإذا رأيت في المآتم والأفراح كراسيَّ ضخمة مذهبة، وأخرى بسيطة ساذجة، وقومًا يستقبلهم آل الميت وآل العرس بالحفاوة فيجلسونهم في الصدر، وآخرين يُستقبلون في غير حفاوة فيُجلسون في الذيل؛ فهذا أيضًا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت قاعات المحاضرات أماكن حجزت لكبار المدعوين وأخرى حقًّا مشاعًا للدهماء، فهذا كذلك مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ وإذا رأيت الحجاب على الأبواب يفتحونها لمن نزل من سيارة، ويغلقونها في وجه ذي الجلباب الأزرق، فذلك نوع من الأرستقراطية؛ وإذا رأيت مقهى أفرنجيًّا فيه فنجان القهوة بخمسة قروش أو تزيد، ومقهى بلديًّا فيه فنجان القهوة بخمسة مليمات أو تنقص، فهذا مظهر من مظاهر الأرستقراطية؛ ولا أسترسل في ذلك، فلعلك — يا صاحبي — فهمت مظاهر الأرستقراطية والديمقراطية، وعلمت أنك في كل خطوة تخطوها ترى هذه المظاهر في أشكالها المختلفة، وألوانها المتعددة.
وهناك دعاة يدعون إلى هذه الديمقراطية الاجتماعية، كما أن هناك دعاة يدعون إلى الديمقراطية السياسية، ولهم على ذلك حجج وبراهين.
ولكن لعل أعدى أعداء الديمقراطية وأهم طعنة توجه إلى دعاتها، وأقوى حجة يتسلح بها دعاة الأرستقراطية شيء واحد هو «القذارة»؛ فأكثر تصرفات الأرستقراطيين وأشباههم عذرهم فيها طلب النظافة والترفع عن القذارة.
قد يركب راكب الدرجة الأولى في القطار أو الترام أو السيارات طلبًا للوجاهة وخشية أن يراه الناس بين الناس بين جمهور الفقراء، أو نحو ذلك من أعذار كلها سخيفة، ولكن عذرًا واحدًا يصح أن يقام له وزن، وهو قذارة بعض ركاب الدرجة الثالثة والخوف من أذاهم ومن عدواهم.
وقد يتطلب بعض الناس أعلى مطعم وأغلى مقهى حبًّا في الظهور ورغبة في الجاه. وطلبًا لمخالطة العظماء، ولكن العذر صحيح أنه ينشد النظافة في هذا المطعم وهذا المقهى، ويفر من قذارة المطاعم الرخيصة والمقاهي الرخيصة.
فلو عني الناس بالنظافة، وكان من لَبِسَ لَبِسَ نظيفًا، ومن فتح مطعمًا أو مقهى عني بنظافته، وكان الفرق بين لبس الغني والفقير، والمطعم الغني والفقير ليس فرقًا في الكيف، فالكل نظيف، وإنما هو فرق في النوع والكم، لانهارت الأرستقراطية الاجتماعية في كثير من نواحيها، ولما تقززت أوساط الناس وخيارهم من أن يخالطوا الفقراء في مأكلهم ومشربهم ومركبهم، ولسلحوا الديمقراطية بسلاح قوي متين؛ ولهذا ترى الأمم التي عنيت بالنظافة والتزمتها في صغيرها وكبيرها، وفي فقرها وغناها قد أفسحت الطريق أمام محبي المساواة ودعاة الديمقراطية. وتراهم وقد قضوا على اختلاف الدرجات في السيارات العامة، وقل منهم من يركب الدرجة الأولى في القطار، وقل من يتطلب أفخم مطعم وأغلى مقهى، علمًا منهم بأن الكل نظيف والكل مريح. وأن الذين يركبون بجوارهم أو يجلسون بجانبهم لا يؤذونهم بمنظرهم ولا برائحتهم ولا بأي شيء فيهم، إنما تتميز هذه الطبقات بوضوح وجلاء، في مرافق الحياة الاجتماعية حيث تفشو القذارة.
إن عقلاء الناس يحتملون الديمقراطية الاجتماعية بل يتعشقونها، ولكن إذا وصل الأمر إلى احتمال عدوى مرض، أو آلمت أنوفهم رائحة كريهة، أو آلم عيونهم منظر بغيض، سهل عليهم بيع الديمقراطية للأرستقراطية.
•••
لو جرى الأمر على المعقول لكان المسلم من أنظف الناس في العالم، فقد رُبطت صلواته الخمس بالوضوء، وفُرض عليه الاستحمام في أوقات، وكان أول باب من أبواب فقهه باب الطهارة.
وأغتبط إذ أسمع وصف «ابن سَعِيد» لمسلمي الأندلس فيقول فيهم: «إنهم أشد خلق الله اعتناءً بنظافة ما يلبسون وما يفرشون، وغير ذلك مما يتعلق بهم. وفيهم من لا يكون عنده إلا ما يقوته يومه فيطويه صائمًا، ويبتاع صابونًا يغسل به ثيابه، ولا يظهر فيها ساعة على حالة تنبو العين عنها».
ويؤلمنى أشد الألم ما ذكره ابن سعيد نفسه، وقد زار القاهرة، وركب منها حمارًا إلى الفسطاط إذ يقول: «فأثار الحمار من الغبار الأسود ما أعمى عيني، ودنس ثيابي، وعاينت ما كرهت، وقلت:
أَلِمَ من منظر الفسطاط، وقال: إنه رأى شوارعها غير مستقيمة، ورأى حول أبوابها من التراب الأسود والأزبال ما يقبض نفس النظيف، ويغض طرف الظريف، ورأى البياعين يبيعون في مسجد عمرو، والناس يأكلون فيه، ورأى في زوايا المسجد العنكبوت، قد عظم نسجه في السقوف والأركان والحيطان، ورأى حيطانه مكتوبًا عليها بالفحم والحمرة بخطوط قبيحة مختلفة من كتابة فقراء العامة، إلخ …
آلمني هذا الوصف لمصر، ولو زارها اليوم لما عثر بحماره، ولأقلته سيارة فخمة من باب زويلة إلى الفسطاط في أرض معبدة ممهدة، لا تثير غبارًا ولا تدنس ثيابًا، ولرأى مسجد عمرو نظيفًا، لا يأكل فيه آكل، ولا يكتب على حيطانه كاتب.
ولكن هل كان يعدل عن حكمه القاسي في مقارنته بين أهل مصر وأهل الأندلس في النظافة؟ ذلك ما أشك فيه كل الشك.
لست أدري: لِمَ لم يلتفت الدعاة إلى هذا الأمر في الأمة، فيدعون ويلحون في الدعوة إلى النظافة، ويضعون الخطط الدقيقة لها، فإنها خير وسيلة للتقريب بين طبقات الأمة، فلا يأنفُ بعد مثقف أن يجلس مع المثقفين، ولا متعلم أن يجالس غير المتعلمين، وفي هذا الاختلاط نشر للثقافة، ودعوة للآداب العامة وغلبة للعنصر المهذب.
يظن الناس أن النظافة غالية، وأنها مرتبطة بالغنى، وهذا خطأ بين، فكم من غني قذر، ومن فقير نظيف؛ والأمر يتوقف على تعود النظافة أكثر مما يتوقف على المال، فليست النظافة أن تلبس أغلى اللباس، وأن تأكل أفخم الطعام، وإنما النظافة أن تلبس نظيفًا ولو كان أحقر الثياب، وأن تأكل نظيفًا ولو كان أحقر الطعام.
هذه بديهيات أولية، ولكنا مع الأسف مضطرون أن نقولها.
•••
لعل الأمر في العلماء والأدباء على نحو ما بينا في الماديات؛ فالذي يفرق بين عالم أرستقراطي وعالم ديمقراطي، وأديب أرستقراطي وأديب ديمقراطي، هو نظافة آراء الأولين وأفكارهم وأسلوبهم؛ وعكس ذلك في الآخرين. ولو التزم كل العلماء والأدباء نظافة نظرياتهم، ونظافة كتاباتهم مهما اختلفت في النوع والقيمة لانهارت الأرستقراطية العلمية والأدبية أيضًا، ولكان الكل سواءً في الاحترام.