الضَّحِك
ما أحوجني إلى ضَحْكة تَخْرُج من أعماق صدري فيدوي بها جوي ضحكة حية صافية عالية، ليست من جنس التبسم، ولا من قبيل السخرية والاستهزاء، ولا هي ضحكة صفراء لا تعبر عما في القلب؛ وإنما تعبر عما في القلب؛ وإنما أُريدها ضحكة أُمسك منها صدري، وأفحص منها الأرض برجلي، ضحكة تملأ شدقي، وتُبدي ناجذَيَّ، وتفرج كربي، وتكشف همي.
ولست أدري: لماذا تجيبني الدمعة، وتستعصي على الضحكة، ويسرع إلي الحزن، ويبطئ عني السرور، حتى لئن كان تسعة وتسعون سببًا تدعو إلى الضحكة وسبب واحد يدعو إلى الدمعة، غَلب الدمع وانهزم الضحك، وأطاع القلب داعي الحزن ولم يطع دواعي السرور!
ولي نفس قد مَهَرت في خلق أسباب الحزن، ونبغت في اقتناص دواعيه، تخلقها من الكثير، ومن القليل، ومن لا شيء، بل وتخلقها من دواعي الفرح أيضًا؛ وليست لها هذه المهارة ولا بعضها في خلق أسباب السرور، كأن في نفسي مستودعًا كبيرًا من اللون الأسود، لا يظهر مَظْهر أمام العين حتى تسرع النفس فتغترف منه غَرْفة تسود بها كل المناظر التي تعرض لها؛ ثم ليس لها مثل هذا المستودع من اللون الأحمر أو اللون الأبيض!
يقولون لي: اضحك يدخل على قلبك السرور. وأنا أقول لهم: أَدْخِلوا السرور على قلبي أضحك. ففي المسألة «دَوْر»، كما يقول علماء الكلام، وكما يقول الشاعر:
وإلى الآن لم أدر مَن المصيب! هل الضحك يبعث السرور، أو السرور يبعث الضحك؟ ودخلَت المسألة في دور من الفلسفة مظلم كالعادة، وانتقلَت إلى بحث بيزنطي، فلنغلق هذا الباب، ولنعد إلى «الضحك».
يقول المناطقة في أحد تعريفاتهم للإنسان: «الإنسان حيوان ضاحك»، وهذا عندي أظرف من تعريفهم الآخر: «الإنسان حيوان ناطق»، فالإنسان في هذا الزمان أحوج إلى الضحك منه إلى التفكير، أو على الأصح نحن أحوج ما نكون إلى التفكير والضحك معًا.
ولكن لِمَ خصت الطبيعة الإنسان بالضحك؟
السبب بسيط جدًّا. فالطبيعة لم تحمل حيوانًا آخر من الهموم ما حملته الإنسان، فهَم الحمار والكلب والقرد وسائر أنواع الحيوان أَكْلَة يأكلها في سذاجة وبساطة، وشربة يشربها في سذاجة وبساطة أيضًا؛ فإذا نال الحمار قبضة من تبن وحفنة من فول وغرفة من ماء، فعلى الدنيا العفاء؛ ولكن تعال معي فانظر إلى الإنسان المعقد المركب! يحسب حساب غده كما يحسب حساب يومه، وكما يحسب أمسه؛ ويخلق من هموم الحياة ما لا طاقة له به، فيحب ويهيم بالحب حتى الجنون، ويشتهي ويعقد شهواته حتى لا يكون لعقدها حل، فإذا حُلت من ناحية عقدها من ناحية؛ ثم إذا سذجت اللذة وتبسطت لم تعجبه، بل أخرجها من باب اللذة، وعقد أملًا على لذة معقدة؛ وإذا تفلسف — والعياذ بالله من فلسفته — خرج بها عن المعقول، وحاول أن ينال ما فوق عقله، ولم تعجبه الأرض والسماوات مجالًا لبحثه؛ إنما يريد الحقيقة والماهية والكُنْه، وويل له من كل ذلك! أستغفر الله؛ فقد نسيت أن أذكر هموم الموظف بالعلاوات والترقيات، وما كان منها استثنائيًّا، وما كان غير استثنائي، وما يترتب على ذلك من معاشات وحساب تمغة، وما إلى ذلك من أمور لا تنتهي، وهذا أيضًا من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك.
أقول: إن الطبيعة عودتنا أن تجعل لكل باب مفتاحًا، ولكل كرب خلاصًا، ولكل عقدة حلًّا، ولكل شدة فرجًا؛ فلما رأت الإنسان يكثر من الهموم ويخلق لنفسه المشكلات والمتاعب التي لا حد لها، أوجدت لكل ذلك علاجًا، فكان الضحك.
والطبيعة ليست مسرفة في المِنَح، فلما لم تجد للحيوانات كلها همومًا لم تضحكها، ولما وجدت الإنسان وحده هو المهموم المغموم، جعلته وحده هو الحيوان الضاحك.
•••
لو أنصف الناس لاستغنوا عن ثلاثة أرباع ما في «الصيدليات» بالضحك، فضحكة واحدة خير ألف مرة من «برشامة أسبيرين» وحبة «كينين» وما شئت من أسماء أعجمية وعربية؛ ذلك لأن الضحكة علاج الطبيعة، والأسبيرين وما إليه علاج الإنسان؛ والطبيعة أمهر علاجًا وأصدق نظرًا وأكثرُ خنْكة. ألا ترى كيف تعالج الطبيعة جسم الإنسان بما تُمده من حرارة وبرودة، وكرات حُمر وبيض، وآلاف من الأشياء يعالج بها الجسم نفسه ليتغلب على المرض ويعود إلى الصحة، ولا يقاس بذلك شيء من العلاج المصطنع.
فانفجار الإنسان بضحكة يُجري في عروقه الدم؛ ولذلك يحمر وجهه، وتنتفخ عروقه؛ وفوق هذا كله فللضحكة فعل سحري في شفاء النفس وكشف الغم، وإعادة الحياة والنشاط للروح والبدن، وإعداد الإنسان لأن يستقبل الحياة ومتاعبها بالبشر والترحاب.
ولو أنصفنا — أيضًا — لعددنا مؤلفي الروايات المضحكة والنكت والنوادر البارعة التي تستخرج منك الضحك وتثير فيك الإعجاب والطرب، وهؤلاء الذين يُضْحكون بأشكالهم وألاعيبهم وحركاتهم — أقول: لو أنصفنا لعددنا كل هؤلاء أطباء يداوون النفوس، ويعالجون الأرواح، ويزيحون عنا آلامًا أكثر مما يفعل أطباء الأجسام، ولعددنا من يستكشف الضحكات في عداد من يستكشف دواء للسل أو للسرطان أو نحو ذلك من الأدواء المستعصية؛ فكلاهما منقذ للإنسان من آلام، مصلح لما ينتابها من أمراض.
والضحك بَلْسم الهموم ومرهم الأحزان؛ وله طريقة عجيبة يستطيع بها أن يحمل عنك الأثقال، ويحط عنك الصعاب، ويفك منك الأغلال — ولو إلى حين — حتى يقوى ظهرك على النهوض بها، وتشتد سواعدك لحملها.
•••
ومن مظاهر رقي الأمم أن نجد نواحي المضحكات ملائمة لاختلاف الطبقات: فللأطفال قصصهم وألاعيبهم ومضحكاتهم، ولعامة الشعب مثل ذلك، وللخاصة وذوي العقول الراقية المثقفة ملاهيهم وأنديتهم ومضحكاتهم. فإن رأيت أممًا — كأممنا الشرقية — حُرِمَ مثقفوها من معاهد الضحك، وكانت مسلاتهم الوحيدة أن ينحطوا ليضحكوا، أو يرتشفوا من الأدب الغربي والتمثيل الغربي ليضحكوا، فهي أمم ناقصة في أدبها، فقيرة في معاهدها؛ وهذا أيضًا ضرب من ضروب الفلسفة المظلمة، فلنعد إلى الضحك.
•••
تعال معي نتعاهد على أن نرعى في حياتنا جانب الضحك كما نرعى جوانب الصحة والمرض، وجانب الهزل بجوار جانب الجد، ولنتخذ علاجًا في بعض أمورنا.
قال لي صديق مرة: إنه حاول أن يتغلب على همومه وأحزانه بعلاج بسيط فنجح؛ ذلك أنه إذا اشتد به الكرب، وتعقدت أمامه الأمور حتى لا يَظن لها حلًّا، انفجر بضحكة مصطنعة فسُري عنه وتبخرت همومه.
ويروى أنه كان عند اليونان فيلسوفان يلقب أحدهما الفيلسوف الضاحك، والآخر الفيلسوف الباكي؛ كان أولهما يضحك من كل شيء ضحِكَ جِد أحيانًا، وضحك سخرية أحيانًا. يضحك من سخف الناس ومن وضاعتهم وحقارتهم، ويبكي الثاني مما يضحك منه الأول.
وقرات مرة قصة لطيفة أن بئرًا ركب عليه دلوان، ينزل أحدهما فارغًا، ويطلع الآخر ملآن، فلما تقابلا في منتصف البئر سأل الفارغ الملآن: مِم تبكي؟ فقال: وما لي لا أبكي؟ أخذ الرجل مائي وسيأخذه وسيعيدني إلى قاع البئر المظلم! وأنت مم تضحك وترقص؟ فقال الفارغ: وما لي لا أضحك؟ سأنزل البئر وأمتلئ ماءً صافيًا وأطلع بعدُ إلى النور والضياء.
وقد أراد مؤلف القصة أن يصور نفس الموقفين اللذين وقفهما الفيلسوف الضاحك والفيلسوف الباكي، وأن الحياة مليئة بأشخاص يتولون عملًا واحدًا، ثم هذا ينظر إليه من الجانب السار الفرح، وذاك ينظر إليه من الجانب الحزين القابض.
فكن الفيلسوف الضاحك، ولا تكن الفيلسوف الباكي. وكن الدلو الراقص، ولا تكن الدلو الدامع. وجرب أن تلقى الحياة باسمًا أحيانًا، ضاحكًا أحيانًا، ولأجرب معك!