أكاذيبُ المدنية
لكل مدنية جانبان: جانب يصح أن نسميه «الجانب المادي»، وجانب يصح أن نسميه «الجانب الروحي».
ونَعني بالجانب المادي القوة الحسية وما يتبعها وما يُمِدهَا؛ فالتسليح وما إليه قوة مادية، والمخترعات الحديثة — من كهرباء وبواخر وقطارات وطائرات وغواصات — قوة مادية، وما اخترع من صنوف الترف — كاستخدام الكهرباء في شئون الحياة، واستخدام القوى الميكانيكية في تنظيم الأعمال — قوة مادية؛ بل إن الوسائل التي تستخدم لهذه الغاية، كالعلوم الرياضية والطبيعية والكيمياوية والطبية هي أيضًا قوة مادية؛ لأن نتيجتها في الحياة هي هذه المخترعات والمستكشفات التي تزيد في ترف الناس ونعيمهم من الناحية المادية، بل المدارس والجامعات التي تعلم لهذه الغاية هي قوة مادية للدولة.
والقوة الروحية هي رسم الَمثَل الأعلى للإنسان، والسعي في الوصول إليه، وهي العمل على إصلاح النوع الإنساني بأكمله من الناحية الفردية ومن الناحية الاجتماعية والسياسية، وهي تعويد الإنسان أن يفكر ويشعر ويعمل لخير الإنسانية، حتى تقرُب من المثل الأعلى لها، وهي أن يخفق قلب الإنسان بحب الناس جميعًا، وبحب الخير العام لهم جميعًا، وهي أن يوضع من النظم ومن طرق التربية ومن القوانين ومن المعاهدات ما يحقق هذه الغاية أو على الأقل ما يقرب منها، وعلى الجملة هي تغذية الروح بحب الخير للإنسانية.
وليس يمكن أن تُعَد المدنية مدنية راقية إلا إذا وجد فيها الجانبان، وكانا معًا راقيين، وكانا متوازيين.
فلننظر — في ضوء هذا القول الجميل — إلى المدنية الحديثة، أهي مدنية صالحة؟ أهي مدنية راقية؟ أهي أمل الإنسانية؟
الحق — مع الأسف — أنها ليست كذلك.
لقد نجحت في الجانب المادي نجاحًا فوق ما كان يُنتظر، وفشلت في الجانب الروحي فشلًا أبعد مما كان ينتظر، فأما الذين يهمهم الرواة والمنظر وحُسن الشكل والمتعة المادية فقد صفقوا للمدنية الحديثة حتى كلت أيديهم من التصفيق، وبحت أصواتهم من نداء الاستحسان؛ وأما الذين يهمهم من الإنسان روحه لا جسمه، ومن المادية روحها لا مادتها، فنالهم شيء غير قليل من اليأس. أما المادية فحدث عنها ولا حرج، لقد حلقت الطيارات في السماء، وغاصت الغواصات في قاع الماء، وأتت الكهرباء بالسحر الحلال، تضغط على زر فتبعث ما شئت من أنوار، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حرارة، وتضغط على زر فتبعث ما شئت من حركة؛ هذا التليفون بين أوربا وأمريكا، وهذا اللاسلكى يفعل أعاجيبه، بل كيف أَعُد والمخترعات لا تحصى عددًا، والعجب منها لا ينتهي أبدًا، حتى ظننا أن العالم احتفظ بأسراره كلها منذ خُلق، ثم باح بها جميعها لرجال المدنية الحديثة، فلم يعد لديه سر، وكل ما في الأمر تصفية حساب الأسرار.
ولكن لا تخدعنك هذه المظاهر، فالمثل العامي يقول: «لا يعجبنَّك البيت وتزويقه، فساكنه قد جف رقيه»، لا تنظر إلى المكان وانظر إلى السكان.
هذه مشكلات العمال العاطلين، وهذه الملايين المملينة من البائسين، وهذه الحروب الطاحنة في أسبانيا، بين الشيوعيين والفاشستيين، وهذه الدول كلها تتسلح لتقذف بأبنائها جميعًا في أتون من نار مساحته الأرض كلها، وهذا وهذه، مما لا يعد من ضروب الشقاء.
هذا هو القصر السعيد، فأين سكانه السعداء؟ وهذه هي السفينة الجميلة المعدة بكل وسائل الإعداد، فأين بَر السلامة؟ وهذا «الفرح»، فأين «العريس»؟!
سر هذا الشقاء كله طغيان جانب المادة على جانب الروح. سر هذا كله أن المدنية الحديثة عجزت عن أن تنظر إلى الإنسان كوحدة على الرغم من أنها قربت بطرق المواصلات والمعاملات بين أجزاء العالم.
لقد قربت في المكان وباعدت بين السكان، تقدمت في علم الجغرافيا ولم تتقدم في علم الاجتماع، استكشفت الجبال والوديان والصحاري والأنهار والبحار، ولم تستكشف قلب الإنسان. عملت على وحدة الإنسان جغرافيًّا، وعملت على تفريقه اجتماعيًّا؛ فما أغرب شأنها، وما أصح عينها، وما أضعف ذكاءها!
لقد تساءلت المدنية: كيف نعيش؟ فحسنت كيف نعيش، ولكن لم تتساءل لِمَ نعيش، وكيف يجب أن نعيش، وما الغاية التي لأجلها نعيش، فلم تتقدم في هذا الباب شيئًا.
إن العلم كان وسيلة صحيحة لتحسين كيف نعيش، ولكن العلم لا يكفى للإجابة عن بقية الأسئلة، فلم يكن وسيلة صحيحة لها.
لقد ابتكرت المدنية الحديثة فكرة الوطنية فكانت سبب شقائها، ومصدر محنتها، وفقدانها روحانيتها.
لقد كانت الأسرة هي الوحدة، ثم كانت القبيلة، ثم كانت المدينة، ثم كانت أهلَ الدين الواحد، ثم كانت في المدنية الحديثة الأمة؛ ولكن في كل ذلك شقاء، ولا يمكن أن يسعد العالم حتى تأتي مدنية تجعل الإنسانية كلها هي الوحدة، وهي الغاية، وهي المثل الأعلى.
فكر في أكثر شرور هذا العالم، وكلما بدأ سبب فأرجعه إلى علته الأولى، تصل أخيرًا إلى أن علة العلل ضيق هذا النظر في جعل الأمة لا الإنسانية هي الوحدة؛ فالتسلح، والحروب الماضية، والحروب المستقبلة، وكثرة العاطلين، وغلاء الأسعار، والخصومات بين الأحزاب، والخصومات بين الأمم، وعدم وجود المال الكافي للإصلاح الاجتماعي، سببه كله هذه النظرة الضيقة، نظرة الساسة المستبدين إلى أمتهم، يؤيدهم من وراء ستار رجال الأموال والأعمال، وحتى الرجال الذين كانوا موضع الأمل في إعزاز جانب الروح، وهم رجال الدين أصبحوا — كذلك — رجال سلطة.
هذه المدنية التي شرحتها طغت على كل شيء؛ فالأخلاق أساسها هذه المادية، وبرامج التعليم أساسها الوطنية، ومالية الدولة مشلولة بالأغراض الحربية، والآلات المخترعة جعلت أصحاب الأموال والحكومات ينظرون إلى الإنسان نظرهم إلى ترس في آلة، واستغرقت المادة كل تفكير المفكرين، من اقتصاديين وماليين وعلماء وحكوميين؛ ومن اتسع تفكيره لإصلاح روحي أو لإصلاح اجتماعى صدم بميزانية الدولة التي أسست على النظرة المادية، وصدم بالحالة الدولية العامة، كالذي كان في عصبة الأمم؛ فقد خذلت وأصيبت في صميمها؛ لأنها حاولت محاولة بسيطة أن توجه تيار المدنية الحديثة إلى الناحية الروحية، فلما كانت البيئة التي حولها لا تساعدها اختنفت وأصبحت هي الأخرى جسمًا بلا روح؛ ثم أصبح الناس جميعًا وقد فقدوا حريتهم الحقيقية، على الرغم من الطلاء الكاذب من المناداة بالحرية؛ فالحالة الاقتصادية المادية سلبت الناس حريتهم، وجعلتهم يعانون أشد المعاناة وسائل العيش، ولا حرية لهم في التخلص منها؛ وكلما زادت المدنية زادت مطالب الحياة، وتعقدت سبل الحصول عليها، وشعر الناس بضيق من شدة الضغط؛ وهل مع هذا حرية؟ والناس يرون الحرب أزمة المدنية؟ ولكن هذا خطأ؛ فالحرب نتيجة سوء المدنية، ومظهر لحقيقة سوء الحال الاقتصادية والمادية، لا أن الحرب نفسها هي الأزمة؛ فالحرب هي عقرب الساعة التي نراها، ولكن العقارب نفسها ليست إلا مظهرًا للآلات الدقيقة المستورة تحت العقارب، وإذا رفعت العقارب لم يتغير سير الآلات في شيء، وكل ما فقدناه هو المظهر والعلامة.
لقد أعْلَت المدنية الحديثة شأن العقل وغالت في تقديره، وآمن رجالها بأنه وحده هو الأساس الصالح للحياة، فكان من نتيجة ذلك ازدهار العلم إلى حد بعيد، وزادهم تحمسًا له ما كان من نتائجه الباهرة في المخترعات والآلات؛ ولكنهم بعد سيرهم الطويل، ونجاحهم الباهر في هذه السبيل، اصطدموا بحقيقة مؤكدة، وهي أن العلم وحده وما تبعه لم يكن السبيل لإسعاد الإنسان.
وأظن أن قد ظهرت موجة علت نفوس الناس تشعرهم بأنهم لم يكونوا بعد العلم أسعد مما كانوا قبل العلم، وتشعرهم بأن المدنية ينقصها شيء كبير.
ما هو هذا الشيء؟
هذا هو الجانب الروحي الذي أشرت إليه؛ ولست أنكر مزية العلم، ولكني أعتقد أنه وحده لا يكفي. إني أفهم من المدنية معنى خاصًّا، هو أنها «التقدم الذي يقوم به الناس في كل جانب من جوانب الحياة، وفي كل وجهة من وجهات النظر المختلفة»؛ فإذا انحصر التقدم في المادة وحدها والعلم وحده، كانت المدنية ناقصة، كما إذا انحصر التقدم في الروحانية وحدها.
لقد رجحت في المدنية الحديثة كفة المادية، فيجب أن نضع في الكفة الخفيفة روحانية كثيرة حتى تتوازن؛ ولكن ما هذه الروحانية التي نريد وضعها؟
هي أن يخفق القلب بحب الإنسانية كلها؛ فليس هناك أمة مستعمِرة وأمة مستعمَرة، وليس هناك أسود وأبيض، وليس هناك أصحاب رءوس أموال يتخذون الملايين خَدَمًا وعبيدًا. هي أن يتجه من بيدهم زمام الأمور إلى الخير العام لا الخير الخاص.
هي أن تلغى الحدود الجغرافية، والحدود الجنسية، والحدود الوطنية، والحدود المالية ونحوها من حدود، ثم يكون المبدأ العام «الإنسان أخو الإنسان يكد ويعمل لخيره».
هي أن يكون مبدأ الإنسانية دينًا يُبَشر به ويعمل من أجله، وتحور مناهج التعليم وقواعد الأخلاق على حسبه.
لو فعلنا ذلك لزالت أكثر شرور المدنية الحديثة من حروب وعطلة وتناحر بين العمال وأرباب الأموال، ولتعاون الشرق والغرب، وتعاون أهل الأديان المختلفة، ولشعر الإنسان بأن أفق تفكيره اتسع، وأفق شعوره اتسع، وشعر أن الأرض كلها وطنه، والناس كلهم إخوانه، ولشاع الحب في جو الأرض، وأصبحنا نستنشقه مع الهواء.
وما لم نصل إلى هذا الحد فالمدنية مجموعة أكاذيب.