المصالحةُ
من الواضح أن اللغة الحية تتبع الحياة الواقعية للأمة التي تتكلم بها؛ فإذا استعملت الأمة آلة من الآلات أوجدوا لها اسمًا للتعبير عنها، وإذا اخترعوا مخترعًا أو استكشفوا عنصرًا أو ركبوا تركيبًا جاءت اللغة مباشرة فكملت نقصها بوضع اسم لذلك الشيء الجديد، فتمشت اللغة مع العلم والفن والصناعة؛ وكذلك الشأن في المعاني، فإذا استكشفوا ظاهرة في علم النفس وضعوا لها اسمها، وإذا شعروا بمعنى من المعاني فكذلك. ويكثر استعمال الألفاظ في اللغة ويقل بقدر وقوع الشيء في الحياة العملية وأهميته؛ على حين أن أمة أخرى لا تستعمل هذا اللفظ في لغتها ولا ما يرادفه ويقابله؛ لأنها لم تشعر بهذا المعنى ولم تستعمله.
سقنا هذه المقدمة لمناسبة أننا رأينا في اللغة الإنجليزية كلمة تدور على ألسنتهم كثيرًا، ويستعملونها في كتبهم كثيرًا، ثم لا نجد لها مقابلًا يستعمل في لغتنا العربية؛ وهذه الكلمة وأمثالها في اللغة الإنجليزية يصقلها الاستعمال، ويتحور مدلولها على مَر الأزمان، تبعًا لما يجري عليه العمل.
وهذه الكلمة بهذا المعنى تدور في الكتب وعلى الألسنة دورانًا كبيرًا؛ لأن حياة الإنجليز الأخلاقية والسياسية تخضع لهذا المعنى كثيرًا، فهو مسلكهم في فض النزاع بين الأفراد في المعاملات اليومية، وفي الخلاف بين أفراد الأسرة، وفي الأحزاب السياسية، وفي المفاوضات بين الدول، وهكذا؛ وعلى الجملة فقد استعملوا هذا المعنى كثيرًا في حياتهم فكثر استعماله في لغتهم.
ولكنا لا نستعمله كثيرًا في حياتنا فلم نشعر بما يلجئنا إلى استعماله في لغتنا؛ فإنا إذا تنازع فردان منا أو حزبان صمم كل منهما على وجهة نظره إلى النهاية غالبًا مهما كانت نتيجة ذلك من الخراب، واعتقدَ الاعتقاد الجازم أن رأيه كله صواب لا محالة، ورأي مخالفه كله خطأ لا محالة؛ ولأجل هذا لا يسمح أن يدخل في صوابه شيء من خطأ مخالفه. أما هذا الخلق الذي تدل عليه هذه الكلمة الإنجليزية فيتطلب أن يحترم ذو الرأي رأي مخالفه، ثم يجيز في باطن نفسه أن يكون رأيه خطأ ورأي مخالفَه صوابًا، أو على الأقل يجوز أن يكون في رأيه بعض الصواب وبعض الخطأ، وفي رأي مخالفه بعض الصواب وبعض الخطأ، فيحملهما ذلك على أن يتقاربا ويتفقا على حل وسط.
وبعد، فما الدائرة التي يستعمل فيها هذا اللفظ، وأي مناحي الحياة يستخدم فيها؟
إني أرى أن الحياة العملية في جميع مناحيها مضطرة إلى استخدام المصالحة أو التصالح، وهذا من أهم القروق بين المنطق النظري والحياة العملية؛ فالمنطق بنظرياته يحكم أحكامًا صارمةً، فهذا أبيض وهذا أسود ولا شيء من الأبيض بأسود، وهذه القضية صحيحة أو خطأ ولا شيء بينهما، وهذا الرأي حق أو باطل لا محالة؛ أما الحياة العملية فليس فيها هذه الأحكام القاطعة الحاسمة، ولكن فيها المصالحة سواء كان ذلك في النواحي الأخلاقية أو القانونية أو السياسية، فكل — إنسان إن دققت النظر فيه — مسرح صغير تلعب فيه الفضيلة والرذيلة وتتحاربان، ثم تتصالحان على أن تتنازل الفضيلة عن بعض تشدداتها، وتتنازل الرذيلة عن بعض استهتارها. وما الفضيلة في الحقيقة إلا الرذائل معدلة أو منقحة.
فالإنسان المتوحش كان يعيش بغرائزه، فلما تمدن عدلت هذه الغرائز المتوحشة وسميت فضائل. فالفضائل بالنسبة للرذائل كالزهرة في البستان والزهرة في الوادي، أو كالقط المستأنس بالنسبة إلى القط المتوحش. فالرغبة الجنسية الفطرية عند المتوحش تحولت إلى حب لطيف في المدنية، والقتل والغارة والانتقام عند المتوحشين دخل فيها العقل والنظام فصارت قانونًا وسياسة وعدلًا عند المتمدنين. والأنانية عدلت فصارت الثقة بالنفس واحترام النفس ونحو ذلك مما يعد فضائل؛ والحرب بين الأفراد والجماعات دخلها التعديل فسميت منافسة مشروعة كالمنافسة بين التجار والعلماء والأدباء، والمنافسة بين الأمم.
وما لنا نذهب بعيدًا، ونظرية أرسطو في الأوساط وهي أن كل فضيلة وسط بين رذيلتين، ليست في الحقيقة إلا من هذا القبيل؛ أي أن هناك رذيلتين تعادلتا وتصالحتا فكان منهما الفضيلة، فالجبن والتهور تصالحا فكانت الشجاعة، والبخل والسرف تصالحا فكان الكرم، والفجور والخمود تصالحا فكانت العفة.
بل لعل هذا هو الشأن في العلم والأدب. فالخرافات وأوهام المتوحشين صارت خيالًا خصبًا عند المتمدنين ينتج الشعر والقصص، والتنجيم عند الأولين صار علم الفلك عند الآخرين، والسحر والكهانة في الجاهلية أصبحا علم النفس في العصور الحديثة، وتحويل المعادن إلى ذهب في القرون الوسطى أصبح الكيمياء في القرون القريبة، ووصفات العجائز والمعالجة بالتجارب أصبحت على مر الزمان علم الطب بعد أن دخلها كلها التعديل والمصالحة.
وهذا هو الشان في القضاء؛ ففي القضية يتولى محامون جانبًا من جوانب القضية يبذلون علمهم وفصاحتهم ومهارتهم الخطابية والقانونية في أحقية جانبهم، ويفعل مثل ذلك محامو الجانب الآخر؛ ثم يقف القاضي موقف الناظر إلى الجانبين ويفاضل بين وجهتي النظرين، فقد يقتنع بجانب منهما ويقضي به، ولكن في كثير من الأحيان يلجأ إلى المصالحة؛ ولست أعني أن يصلح بين الخصمين، ولكن أعني أن يرى لكل خصم جانبًا من الحق وجانبًا من الباطل فيصالح بين وجهتي النظر ويشتق منهما معًا حكمه، فهذا هو التصالح.
فإن نحن جئنا إلى السياسة فمجال القول ذو سعة؛ فالأحزاب السياسية البرلمانية تقوم في قضايا الأمة العامة مقام المحامين في القضايا الشخصية في المحاكم، كل يؤيد رأي حزبه ويدعمه بالحجج، ويبين الخطأ في وجهة نظر خصمه، ثم يقوم الاقتراع على الرأي مقام القاضي في المحاكم؛ وفي كثير من الأحيان تكون المصالحة أيضًا، أعني أن يتنازل كل حزب عن بعض رأيه ويأخذ ببعض رأي الآخر وهكذا، نزولًا على قاعدة أن كل حزب يجب أن تسيره مصلحة الأمة لا مصلحة حزبه الخاص.
فمعنى الحزب السياسي جماعة لهم مبادئ معينة يرون أن الحكومة يجب أن تسير عليها لتحقيق مصلحة الأمة، ولهم وسائل معينة في تحقيق هذه المبادئ، ولهم خطة معينة في ترقية الأمة من ناحية يرون أنها أهم النواحي، وهم يعملون للوصول إلى الحكم لتحقيق هذه الأغراض النافعة للأمة.
والحكم في صلاحية حزبهم — أو بعبارة أخرى في صلاحية مبادئهم أو عدم صلاحيتها — هو رأي الأمة في الانتخاب.
ولكن مبادئ كل حزب إذا نزلت من سماء نظريتها إلى حياتها الواقعية تبين أنها في حاجة إلى تعديل وإصلاح، وأن مبادئ الأحزب الأخرى قد يكون فيها من الخير ما ليس عند غيرها، فتتصالح المبادئ.
هنا النظر يلطف حدة كل من المتخاصمين، ويحمل كل خصم على احترام خصمه كما يحترم نفسه، وألا يعتقد أنه هو وحده العاقل الأمين وأن خصمه هو الجاهل الخائن، بل يعتقد أن له وجهة نظر جديرة بالاحترام، ولخصمه وجهة نظر أخرى جديرة بالاحترام كذلك.
وبعد، فلعل ما يصيب الشرق الآن من اضطراب سياسي سببه أنهم لم يعرفوا هذا الخلق ولم يفهموا سره؛ ولذلك لا يجدون أنفسهم في حاجة إلى البحث عن كلمة تدل عليه.
أعتقد أن الخصومات الفردية تتلطف كثيرًا بهذا الخلق، وأن الخلافات الحزبية تفقد حدتها إذا سارت عليه.
فهذا الخلق يجعل الأحزاب السياسية المتنازعة تحترم وجهة نظر خصومها. وتنظر إليهم كأشراف لا مجرمين، وتعاملهم الند لا معاملة المتهم، وترى أن الحزب إذا تولى الحكم فليس يحكم حزبه، ولكنه يحكم الأمة على اختلاف أحزابها، فهو مطالب أن يعدل في خصمه كما يعدل في مؤيده؛ وهذا الخلق يجعل صاحبه ينظر إلى خصمه كما تنظر كل فرقة في لعب الكرة إلى الفرقة الأخرى كلهم يتسابقون ويتراكضون، وكل فريق يود الغلبة، ولكن قانونهم جميعًا في اللعب هو قانون الشرف؛ فإذا انتهى اللعب صافح كل خصم خصمه، ولا غل ولا ضغينة، وتبين لهم أن الخصومة كانت مصطنعة، وأن الغرض قد تحقق للغالب والمغلوب معًا، وهو الرياضة البدنية للجميع.
كم أتمنى أن ينتبه الناس لهذا الخلق «خلق المصلحة» وأن يكرروه وأن يستعملوه في لغتهم وفي معاملتهم، وأن يضعوه في أول ثبت الأخلاق بجانب الصدق والشجاعة والعدل.