المادةُ لا تنعدمُ
هكذا يقول علماء الكيمياء ويشرحون قولهم، ويبرهنون عليه، ويرون أن المادة تتغير وتتحول وتعود إلى عناصرها الأولى، ولكن لا تنعدم؛ والعالم كله كساقية جُحا، تغرف من البحر، وتصب في البحر؛ فقد يحترق هذا المكتب الذي أمامي، لا قدر الله، ولكنه لا ينعدم، بل يتحلل إلى عوامله الأولية، وسيتغذي منها النبات، ويتكون منها خشب جديد، قد يكون مكتب المستقبل.
قال الكيميائيون ذلك، وقصروا قولهم على المادة؛ لأنها مادة عملهم، وموضوع تجاربهم.
ولو عَرَض لهذا فيلسوف واسع النظر، غير محدد البحث، لقال: «لا شيء ينعدم».
إن الأعمال من خير وشر لا تنعدم، بل تنمو وتتحول، وتؤثر وتتأثر، ولكن على كل حال لا تنعدم. إن كذبة واحدة تكذبها على أولادك في بيتك — من غير أن تعيرها اهتمامًا — لا تنعدم، فسوف تبيض وتفرخ وتنتج كثيرًا من أمثالها، وسوف يكذب أولادك، وستخرج الكذبة من حجرتك إلى سائر بيتك، وستخرج من بيتك إلى المدرسة، وستخرج من المدرسة إلى مصالح الناس ومعاملتهم، فكيف تنعدم؟
قد يدق العمل ويصغر حتى لا تراه أعيننا، ولا تسمعه آذاننا، ولا تشعر به نفوسنا؛ ولكنه موجود، يعمل عمله في هذا الوجود، ويفعل وينفعل، ويتسع نطاقه، ويعمل في دوائر مختلفة قد لا تخطر بالبال؛ وما أظنك تجهل أن حصاة ترميها في البحر الأبيض المتوسط لا بد وأن يتأثر بها المحيط الأطلنطي، وإن لم تر ذلك عيوننا؛ والدليل على ذلك بديهي، فلو كبرت هذه الحصاة ملايين المرات، أفلا تؤمن بهذا الأثر؟ إذًا فآمن بأن هذه من تلك، وعلى نسبتها ومقدار حجمها. وجزء من ألف من الشعرة له ظل حقيقي، وإن لم تره عيوننا، ولولا ذلك لما كان لألف ألف شعرة ظل، ولما كان لثوبك الذي تلبسه ظل.
وعملك الخير مهما صغر، له أثره في أمتك مهما صغر، أعلنته أو أسررته، نجحت فيه أو فشلت، علم الناس أنك مصدره أو لم يعلموا؛ وهل مقياس رقي الأمة وانحطاطها إلا عبارة عن عملية حسابية مركبة من جمع وطرح، جمع لما صدر منها من حسنات، وطرح لما صدر من سيئات؟ لتكن هذه العملية أشد ما تكون من صعوبة، ولتحتج إلى ما شئت من آلات دقيقة للجمع والطرح، فإن طريقة الحل لهذه المسألة في منتهى البداهة.
وليس الأمر مقصورًا على الأعمال؛ فإذا قلنا: «الأعمال لا تنعدم» فهو تكرير لقول الطبيعيين «المادة لا تنعدم»، وهل الأعمال إلا نوع من المادة؟
بل الأفكار والآراء من هذا القبيل، فالفكرة لا تنعدم، والرأي لا ينعدم؛ فإذا دعوت إلى فكرة، أو جهرت برأي، فقد أخرجت إلى الوجود خلقًا جديدًا ينطبق عليه القانون العام؛ قد ينجح الرأي وتعتنقه الأمة، بل يعتنقه العالم، وتظهر آثاره في أعمال الناس وحياتهم ونظامهم فتسلم معي بأنه لم ينعدم ولكنه قد يفشل؛ وقد يستعمل الناس في اضطهاده وحربه كل أنواع الأسلحة المشروعة وغير المشروعة، والرفيعة والوضعية، حتى يختفي ولا يظهر في الوجود، فتظن إذ ذاك أنه انعدم، وهو ظن غير موفق؛ فقد يخفى ليعود إن كان صالحًا، وقد يحدث قبل أوانه، فيستتر وينكمش، ويبقى حيًّا يتغذى في الخفاء، وتنميه الأحداث، حتى إذا تم نموه، وتهيأ الناس له، برز إلى العيون ثانية أو ثالثة، وهو أصبر على مقاومة الحرب، وأقوى على مصارعة الباطل، حتى يكتب له النجاح — وحتى إذا كان الرأي فاسدًا سيئًا لا يصلح لحال ولا لمستقبل فليس مما ينعدم، إنما هو يتحول ويتحور، كلوح خشب لا يصلح بحالته أن يكون شُباكًا فينجر، أو لوح زجاج ليس بالحجم الذي تريده فيصغر، أو حديدة لا ينساب شكلها وحجمها فتوضع في قالب جديد بعد أن تصهر؛ وهكذا في الرأي يغير ويعدل، ويطعم بآراء أخرى حتى يخرج خَلقًا آخر، ولكنه في كل ذلك لا ينعدم. وفرق كبير بين أن نقول: فشل الرأي وفشل المشروع، وأن تقول: انعدم الرأي وانعدم المشروع. فالفاشل موجود والمعدوم معدوم، وشتان بين الموجود والمعدوم. فالرأي الفاشل أو المشروع الفاشل شيء حي قد تلقى درسًا من الفشل ليصبح بعدُ رأيًا قويمًا ومشروعًا ناجحًا، وهذا لا ينطبق على المعدوم.
بل أذهب إلى أبعد من ذلك، وأرى أن العارض يمر على النفس، أو الخاطر يخطر بالذهن، لا يضيع ولا يذهب سدى ولا ينعدم، وإنما هو دخان قد يكون بعدُ سديما، ثم قد يكون السديم كوكبًا يلمع أو نجما يتألق، وقد يكون على العكس من ذلك صاعقة تحرق، أو وميضًا خلبًا يبرق؛ وعلى الحالين فسيكون مولودًا جديدًا، شقيًّا أو سعيدًا. أليس كثير مما يعترينا — من حزن يسبب الكسل والخمول والَملَل، أو فرح يدعو إلى العمل — سببه طائف مجهول طاف بالنفس، وخطرة متنكرة خطرت لها، فغيرت حالها وكيَّفتها تكييفا خاصًّا في هذا الوجود؟ أوليس كثير من الآراء التي أسبغت على هذا العالم نعمًا، وكثير من المشروعات التي عم الناس خيرها وشرها، بدأت خطرة ثم كانت فكرة، ثم أصبحت بعدُ عملًا؟ أليس مما يكون الإنسان خطراته، فهو خير أو شرير بخطراته، وهو بائس أو منعم بخطراته؟ ولو كشف عنا الحجاب لقرأنا في صفحات الإنسان خطًّا عميقًا خطته في نفس الإنسان خطراته وآراؤه، وهو أدل على الإنسان من مظاهره الكاذبة، ومناظره الخارجية الخادعة.
وعلى الجملة فإن قال علماء الكيمياء: إن المادة لا تنعدم، فكل ما في الوجود يقرر أن «لا شيء ينعدم». إن كان هذا حقًّا فويل للخير يقصده عن الخير أنه لم ير بعينه آثار عمله، وويل للخير صرفه عن خيره نكران الجميل وجحد المعروف، وويل للمجد عدل به عن جده أن لم يسبح الناس باسمه، ويشيدوا بذكره، ومرحى لمن كان مبدؤه «الخير للخير، ولا شيء ينعدم».