عاطف بركات
عزيز علينا أن نقف بالأمس بكرمه ونقف اليوم نؤبنه.
ولكنها الدنيا خط في ماء، أو أثر في بيداء. وما الحياة إلا مهزلة. عمليات حسابية مختلفة الأعداد نتيجتها صفر دائمًا، يرينا الموت هذه الحقيقة، ولكنها لمعة كلمة البرق، ثم يعود الناس إلى ضلالهم القديم.
تتلمذت للفقيد أربعة عشر عامًا، أيام كنت طالبًا في مدرسة القضاء وأيام كنت مدرسًا مساعدًا له في دروس الأخلاق، فطالعت بإمعان وإعجاب صحيفة من حياته غاية في الشرف والنبل والمجد. بل قرأت منه كتابًا في التربية والتهذيب ملئ حكمة وروحًا وحياة.
درس لنا الأخلاق فابتدع في المادة وفي الأسلوب جميعًا، أما في المادة فقد هجر ما كان متعارفًا من تدريس الأخلاق على شكل مواعظ تسرد سردًا، وانتحى النحو الفلسفي في بحثه بحثًا عقليًّا علميًّا، فكان يترجم خير ما يقرأ ويُمَصر ما يترجم، وأحيانًا وبالمناسبة ينحي البحث ناحية، ويقص علينا من تجاربه في الحياة ومن مشاهداته في العالم ما يكون خير تطبيق على نظريات العلم.
أما في الأسلوب فكان يرمي إلى أن يعودنا الاستقلال في الفكر والعمل، فكان يلقي الدرس ويشرح نظريته ثم يترك كل طالب يحمل عبء نفسه في كتابة ما سمع وربط الأفكار بعضها ببعض، فكان ذلك من أشق الدروس علينا أولًا، وأعودها بالفائدة أخيرًا — حتى شعر كل طالب أن درس الأخلاق منحه عينين أخريين نظر بهما للحياة من جديد، وأكسبه قوة على الحكم لم تكن له من قبل، ومنحه قدرة على تقويم الأشياء قيمًا جديدة.
كان للفقيد دروس أخرى قيمة، ولكن لا بالمعنى المتعارف من الدروس. طريقته فيها أشبه بطريقة سقراط، يظهر في الطلبة أوقات فراغهم فيلتف حوله الكثير منهم، فيتكلم معهم في موضوع تخلقه المناسبة، فيرد عليه الطلبة ويرد عليهم، ويدفع الحجة بالحجة حتى يصل في النهاية إلى تكوين فكرة واضحة عند الطلبة في الموضوع الذي يبحث فيه، فكان ذلك درسًا في المنطق العملى من ألذ الدروس.
رأينا منه كيف كانت تعرض الفكرة فيحللها تحليلًا في منتهى الدقة ويسلط عليها من أشعة ذهنه ما يضيئها من كل جانب. وكانت آراؤه تدوي بين الطلبة وتعارَض وتحاكَى وترن في الآذان حتى يأتي موضوع جديد يحل محل القديم.
كذلك كان شأنه مع الأساتذة، يتحين فرصة اجتماعهم فيجلس معهم يستمع لحديثهم، ثم يستمد من قولهم فكرة أو مبدأ يشرحه ويدلل عليه؛ وكثيرًا ما يستطرد لنقد فكرة شائعة، أو أسلوب في التربية أو نحو ذلك، وهو فيما يقول شجاع لا يبالي أكان سامعوه على رأيه أو غير رأيه، هشوا له أو امتعضوا منه.
قد كان في المدرسة أساتذة من خيرة المحافظين، وآخرون من خيرة الأحرار؛ وكان عاطف حرًّا في تفكيره، تحرر عقله من كثير من التقاليد. ليست عادتنا عنده خير العادات ولا آراؤنا خير الآراء، ولا كتبنا المؤلفة خير الكتب؛ فكان يهاجم المحافظين مع الأدب التام في نقده. ينزل إلى ميدان البحث وهو واثق بالظفر، لإمعانه في الفكرة قبل أن يعتنقها، ولوضوح الحقائق في ذهنه وضوحًا تامًّا، وتميز كل حقيقة عن أختها، فلا يختلط بها ما يشابهها، وأخيرًا لشعوره بقوة إقناعه؛ ومن ثم كان كبير الثقة برأيه، يندر أن يعدل عنه. وقد أدته هذه الثقة إلى قوته وصلابته في تنفيذ ما يرى؛ فليس يرجع في منتصف الطريق، ولا يبالي بالعقبات العظيمة تعترضه وتقف في سبيله؛ كما لا يعبأ بغضب الغاضبين وسخط الساخطين، ثقة منه بأن الناس سوف يتطعمون الحق، فينقلب غضبهم رضًا وكراهتهم حبًّا. سمعته قبيل وفاته يصف حفلة أقيمت في مدرسة الأمريكيين للبنات فيقول: إن خير ما سمعته في هذه الحفلة قول فتاة في وصف رجل: «إنه يضحي شهرته وجاهه في سبيل نصرة الحق»، فكان إعجابه بهذه الجملة معبرًا عما عرفناه عنه من تغلغل هذه الفكرة في نفسه ومصادفتها هوى في فؤاده.
تراه مع شدة وثوقه برأيه واسع الصدر جدًّا للرأي المخالف، فهو يصغي لكل ناقد، وأحيانًا يشتد الناقد في نقده، ويشوب نقده بشيء كثير من الحدة أو التعريض، فيقابل ذلك باطمئنان، ويستخرج الحدة أو التعريض وحده ويضعه جانبًا، ثم يستخلص ما في قول الخصم من رأي فيرد عليه.
ومع تمام حريته في التفكير لم يكن تام الحرية في العمل؛ فكان عند وضع الرأي موضع التنفيذ يراعي كل ما يحيط به من ظروف، ويرى الإصلاح تدريجيًّا لا طفرة؛ فكان يمزج فكرته الحرة بشيء غير قليل من تقاليد المحافظين عند العمل.
ودرس آخر أعظم من هذا كله وهو إدارة المدرسة، فإنها الجو الأخلاقي الذي يتنفس منه طلبة المدرسة وأساتذتها، وفي الحق كانت به مدرسة القضاء مـ تنبت فيه الأخلاق الفاضلة. أساس الإدارة عنده مصلحة المدرسة لا مصلحة شخصه. فخير أساتذة المدرسة أنفعهم لها ولو كان فيه جفاء، أكسد بضاعة عنده الملق والنفاق، إن دخلًا في تقدير العامل فسلبًا لا إيجابًا.
جدٌّ لا يعرف دعة ولا يستوطئ راحة؛ ألم تره قبيل وفاته قد خذلته قواه ولم يسعفه نشاطه، يمشي متطرحًا ويكاد يتساقط من الإعياء، وهو مع ذلك يتحامل على نفسه ويتطلب ما يأباه القدر عليه؟
رجل بين الرجولة، يكره السفاسف ولا يتدنى إلى الصغائر؛ لا تسمع له حديثًا في تافه من القول ولا سخيف من الهذر؛ إذا تدنى محدثه رفعه هو إلى مستواه فهو مملوء الهيبة موفور الكرامة.
طُبِعَ على أن يعشق العمل يسند إليه، فهو يعطيه كل قلبه وكل تفكيره وكل حديثه، وإن شئت فقل: وكل أحلامه؛ أسندت إليه المدرسة فكانت شغله الشاغل: هي أغنيته وهي أحدوثته وهي شكواه وهي مفخرته.
من أجل هذا تراه يستقصي دقائق عمله ويستشف بواطنه ويدير بيده دقيقه وعظيمه، ولا يطمئن لشيء لم يشرف هو بنفسه عليه؛ فالناس منه في راحة وهو من نفسه في عناء.
كان في المدرسة نحو أربعمائة طالب؛ ولست أكذبك إذا قلت: إن كل طالب كان يشعر أن ناظره يعرفه ويقدره ويزن كفاياته العلمية والخلقية، وأن نظره ينفذ إلى أعماق نفسه فيعرف بواطنه. قد أعد للطلبة دفترًا وجعل لكل طالب صفحة يقيد فيها بخطه ما يصدر عنه.
ظهرة يشف ظاهره عن باطنه ويتمثل قلبه في لسانه. عمله في النور دائمًا، ليس للدس ولا للجاسوسية رواج عنده.
صدق في القول حتى لم يأخذ عنه أستاذ ولا طالب كذبة، وإرادة جبارة تستهين بالشهرة والمنصب والمرض، وعدل دقيق مضمن مع من يحب ومن يكره، مع ذي الحول ومن لا حول له، لا يبالي من يعادي متى صادق الحق. من طلب منه غير الحق رده في أناة، فإن أعاد عليه الرجاء رده في جفاء.
هذا إلى صراحة في القول نادرة شعرنا بمرارتها لِمَا شاع عندنا من نعومة في المعاملة وغلو في المجاملة — لا يجد التردد إلى نفسه منفذًا، إن قال: لا فلا إلى الأبد أو نعم فنعم لا إلى حين.
وهو في سياسته سيكولوجي ماهر، يشتد ويلين، ويوعد ويعد، ويعبس ويبسم بميزان دقيق، يعالج فلا يخطئ في العلاج، تارة بالسم وطورًا بالترياق. شعر طلبته بأنه كبير العقل كبير النفس دقيق النظر دقيق العدل، فهابوه، وشعروا بأنه يستر وراء ظاهره غير الناعم قلبًا رحيمًا فأحبوه، فكان من ذلك هيبة وحب قل أن يجتمعا لرئيس.
هل رأيت مثله كثيرًا ناظرًا يرى كل طالب أن علم ناظره بجريمته أكبر من كل عقوبة، ويتمنى أن يعاقب على يد غيره ضعف العقوبة على يده؟ أو رأيت ناظرًا فزع طلبته لخروجه من بينهم كما فزعوا يوم خروجه حتى كاد يقضى عليهم من الغم؟ أو رأيت جزعًا يفتك بالصبر وحزنًا يقلقل الأحشاء كالذي كان عند وفاته؟
•••
ولم يكن ما يعانيه من شئون المدرسة في الخارج بأقل مما يعانيه في شئونها الداخلية؛ فما السفينة لعبت بها الأمواج وأشرفت على الغرق يحاول ربانها النجاة بها، ولا البيت تلتهم النيران ما حوله ويعمل صاحبه على الحيطة له، يعادل ما كانت تعاني مدرسة القضاء من أغراض عديدة وسلطات قوية تريد القضاء عليها، ومع ذلك ظلت المدرسة زهرة المدارس ما بقيت في حماه.
تسلمها نواة صغيرة وسلمها شجرة يانعة.
ومن غريب أمره أنه مع كل ما يعمل ويعاني لا تكاد تسمع له حديثًا عن نفسه! تكون المدرسة في أحرج أوقاتها وهو يعمل بجد، ويهرب بها من المعارف إلى المجلس الأعلى للأزهر، ومن المجلس الأعلى إلى الحقانية، ويعاني في ذلك الأمرين؛ فإذا جلست إليه سمعت كل شيء إلا أنه عمل أو عانى، وإذا ظفر بطلبته لم تظفر منه أنت بكلمة يحدثك بها عن نفسه.
هذا عاطف لمن يعرفه، وهذا عاطف الذي غاب عن مدرسة القضاء ليطلع في أفق المعارف فغاب في مشرقه.
فاللهم كما قدرت علينا عظيم الرزء فقدر لنا جميل الصبر، وكما سلبت الأمة عظيمًا فعوضها عظيمًا، وأحسن إليه كما أحسن إلى أمته.