أدبنَا لا يمثلنا
في رأيي أن الأدب العربي — بحالته التي هو عليها الآن — لا يصلح أن يكون غذاءً كافيًا للجيل الحاضر، سواء في ذلك الأدب القديم والأدب الحديث والأدبان معًا.
قد يكون الأدب الإنجليزي قديمه وحديثه صالحًا للإنجليز في الوقت الحاضر، وقد يكون الأدب الفرنسي والألماني كذلك. أما الأدب العربي فليس صالحًا للأمم العربية.
ذلك لأن الأدب إنما يعد صالحًا للأمة إذا كان مظهرًا تامًّا شاملًا صادقًا لحياتها الاجتماعية على اختلاف أشكالها، في جدها وهزلها، في صِبا أفرادها وكهولتهم وشيخوختهم، في آلامهم وآمالهم، في حياتهم اليومية، في البيت والمصنع ودور اللهو والتمثيل، في حياتهم السياسية وحياتهم الاقتصادية؛ فإذا استطاع أدب الأمة أم يملأ كل هذا الفراغ عُد أدبًا صالحًا كافيًا، وإلا لم يكف وحده.
فلننظر في ضوء هذه النظرية إلى الأدب العربي، فماذا نجد؟
نجد أن الأمم العربية — من مصريين وشاميين وعراقيين وغيرهم — بين أدبين: أدب عربي قديم، وأدب عربي حديث.
وكذلك قل في العصر العباسي وأدبه؛ لقد كان العصر العباسي لا يتحرج من ذكر أفحش الألفاظ وأفحش العبارات، فكان الأدب صورة من ذلك، وهذا لا يتفق وذوقنا؛ وكان الأدب يستمد حياته من حياة القصور ووقوف الشعراء بأبوابها يمدحون، وليست حياتنا في شيء من ذلك؛ وكان الشعراء يتغزلون في الغلمان، ونحن نستهجن هذا الضرب؛ وكانوا يتهاجون بأفحش الهجاء، ونحن لا نستسيغه؛ وكانوا ينقسمون سياسيًّا إلى من يؤيد البيت العباسي ومن يؤيد البيت العلوي، وقد ذهب ذلك كله.
وعلى هذا النمط يصح أن يقال في العصور التي جاءت بعد العصر العباسي إلى قبيل عصرنا.
هذا النوع من الأدب العربي القديم لا يصلح أن يمثلنا، ولا يسمى أدبًا لنا بالمعنى الدقيق للكلمة.
ولست أحب أن يفهم من هذا القول أني أنكر فائدة الأدب القديم وقيمته، فإن هذا القول لا يقول به عاقل، ولكني أريد أن أقرر أن فائدته كفائدة كل أدب «كلاسيكي»، هو أدب أرستقراطي يُعْنَى به الخاصة من أهل الأدب لا العامة، هو أدب لدراسة المتخصصين لا أدب للشعب عامة، يعنى به من يدرس تاريخ الأدب كما يعنى المؤرخون بدراسة التاريخ.
ولست أشك أن قسمًا منه صالح لكل زمان ومكان كالحِكَم والمواعظ، وما يمثل العواطف العامة المشتركة بين الناس كلهم كالسرور والحزن والوفاء والغدر؛ ولكن حتى هذا القسم إن كان عامًّا وصالحًا للناس كلهم بحسب موضوعه، فأكثره غير صالح لأهل زماننا من حيث أسلوبه وطريقة عرضه ونحو ذلك. ومن أجل هذا يستعين الجيل الجديد على تفهمه وتذوقه بشرحه وتفسيره، وهذا الشرح والتفسير يضعف من قيمته؛ إذ فرق كبير بين أن تكون مستعدًّا لتذوق الشيء مباشرة من غير شرح، وأن تتذوقه بعد عناء الشرح والاستعانة بلفظ على لفظ وجملة على جملة، وقل أن يسد الشرح مسد الأصل.
والنتيجة لهذا كله أن الأدب القديم ثقافة الخاصة لا ثقافة العامة، وثقافة العدد القليل لا الجم الغفير. وليس يكفي ذلك وحده في أداء رسالة الأدب العامة، إذ هو لا يؤدي رسالته حتى يجد الناس فيه — عامتهم وخاصتهم — التعبير الفني عن مشاعرهم، والصور الفنية التي تصور عواطفهم، وميولهم وأمانيهم، وأحزانهم وأفراحهم؛ وليس يستطيع الأدب القديم أن يحقق هذا الغرض إلا إذا عرض عرضًا فنيًّا جديدًا.
•••
إنما نبتهج بالأدب الحديث يوم نرى الطفل يجد فيه غذاء صالحًا متنوعًا، ورجل الشارع يجد فيه ما يناسبه، وتلميذ المدرسة وخريج المدرسة يجدان الأدب وافرًا حسب استعداهما، ومن يريد أن ينشد نشيدًا أو يغني أغنية يجد مجال الأدب أمامه فسيحًا، ومن يجد الأدب في الجد والأدب في الهزل، ويجده في دور السينما والتمثيل، ويجده في كل شيء وفي كل ظرف وفي كل أسلوب.
وإذًا فما أبعدنا عن نيل هذا المثل!
والواقع أن أدب كل أمة يجب أن يساير نهضتها، وأدبنا الآن لا يمثلنا، وهو وراء نهضتنا، ويجب أن يكون أمامها، وهو كالثوب القصير للرجل الطويل، أو كالثوب المرقع للرجل الغني، أو كالثوب البدوي للمرأة المتحضرة.
•••
وأهم علاج لهذا النقص عناية العالم العربي بتكوين طائفة من الأدباء تكوينًا عربيًّا غربيًّا، وإمدادهم إلى أقصى حد بالأدبين معًا ليتولوا الإنتاج بعد.
فالأدب العربي فيه الأسلوب وفيه ثروة دفينة قيمة، ولكنها حبات من اللآلئ وسط أكوام من التبن، وحتى هذه اللآلئ لا يحبها الجمهور ولا يعرف قيمتها إلا إذا جليت وعرضت عرضًا جديدًا.
والأدب الغربي مملوء بالجواهر القيمة وبالموضعات المفيدة، ولكنه نتاج مدنية غير مدنيتنا، ويمثل أنواعًا من الحياة غير حياتنا. إن شئت فانظر إلى أكثر الرويات المترجمة تجد أسماء لا توافق ذوقنا، وتجد وقائع في البيوت لا يحدث مثلها في بيوتنا، وتجد أنواعًا من الحوار لا يمكن أن تقع بيننا، وهكذا الشأن في كل أنواع الأدب من نثر وشعر؛ وشأن الأدب الغربي شأن الموسيقى الغربية، هي نتيجة أذواق الغربيين وبيئتهم، وليس يستطيع العربي أن يتذوقها إلا بكثير من المران وكثير من تحوير الذوق.
هذه الطائفة التي أدعو إليها تستطيع أن تخدم الأدب العربي، لا من ناحية الترجمة، فالترجمة في الأدب وسيلة لا غاية، والترجمة في الأدب أصعب شأنًا وأقل تذوقًا من الترجمة في العلم؛ لأن العلم يخدم العقل، والعقل قدر مشترك بين الناس جميعًا، أما الأدب فليس قدرًا مشتركًا. وأدب كل أمة غير أدب الأخرى؛ لأنه يرجع إلى الذوق والعاطفة وهما مختلفان في الأمم؛ ولأن الأدب ظل الحياة فإذا اختلفت الحياة اختلف ظلها لا محالة.
ومن أجل هذا عُنِي العرب في أيام نهضتهم الأولى بترجمة العلوم، ولم يعنوا بترجمة الأدب، وترجموا بعض الشيء من أدب الفرس؛ لأنه كان قريبًا لذوقهم، ولم يترجموا الأدب اليوناني والروماني؛ لأنه كان بعيدًا عن ذوقهم.
فترجمة الأدب الغربي إلى الأدب العربي يجب أن تعد وسيلة لا غاية، إنما الغاية أن ننتج أدبًا لنا أدبًا يمثلنا، أدبًا يعبر عن عواطفنا. فدراسة الأدب الغربي تعين أكبر إعانة من ناحيتين: من ناحية أن دارسها يستطيع أن يتعلم منها كيف أدى الأدب الغربي عمله، وكيف استطاع أن يملأ فراغ أمته، وكيف نجح الأديب الغربي في أن يغذي شعبه، وكيف تفرعت أنواع الأدب فروعًا مختلفة أدى كل فرع منها وظيفته؛ ومن ناحية أخرى هناك نوع من الأدب هو قدر مشترك بين الأمم كلها لا خلاف بينهم إلا في أدائه، كالحكم والأمثال، وكالقصص التي تمثل أخلاق الناس، وكشعر الطبيعة ونحو ذلك؛ فهذا النوع صالح كل الصلاحية لأن ينقل إلى الأدب العربي، ولا يحتاج في تذوقه من القارئ العربي إلا إلى تحوير بسيط.
لست أعتقد أن الأدب العربي يرقى إلا بالجد في تكوين هذه الفرقة، وإمدادها بكل الوسائل، وتشجيعها بكل أنواع التشجيع.