ولودٌ وعقيمٌ
رَكِبَتْ من أول محطة لترام مصر القديمة، وهي كهلال الشك، جِلْد على عظم، وعلى يديها طفل قد جُلل بالبياض، وعصبت عيناه، وغطي رأسه ووجهه بشاشة زرقاء.
وركب في المحطة التالية سيدة نَصَف، أطيب شطريها الذي ذهب، ممتلئة البدن، سمينة الضواحي، فحيت الأولى، وتحادثتا.
والنساء سريعات التعارف، تراهُن في طرفة عين يتحدثن إلى من لم يعرفن قبلُ في أدق الأمور، وأعمق الأسرار، حتى كأنهن صديقات العمر، ورفيقات الصبا؛ فهن يتحدثن بعد دقيقة في السعادة والشقاء، وأوصاف الأزواج، وعيوبهم، والحَمَوَات ومصائبهن ومضايقتهن، والدخل والخرج؛ وقد ينتقلن إلى ما هو أدق من ذلك وأصعب، مما لا يستطيع الرجال أن يتكلموا في بعضه إلا بعد عمر طويل، وصداقة متينة، ومشاركة في السراء والضراء.
وبعد لحظة صرخ الطفل وأمعن في الصراخ؛ تحاول أن ترضعه ليسكت فلا يسكت، وتُنِيمُه فلا ينام، وتتبع معه كل الأساليب التي تعلمَتْها في إسكات الطفال فلا تنجح، وأخيرًا تدعو عليه بالموت فلا يستجاب لها!
– أمعك أولاد أُخر؟
– نعم، معي خمسة وهذا سادسهم، وقد حاولت بكل الوسائل أن أمنع الحمل بعد أول ولد ففشلت وفشلت؛ ومرة حاولت أن أخلص من جنين فكدت أخلص من نفسي وبقي الجنين؛ ومرة أُصِبْت بنزيف شديد فعرضت نفسي على طبيب، فقال: إنه إجهاض، وليس من أمل كبير في بقاء الجنين، ثم أمرني أن ألتزم سريري ولا أتحرك، وأنام على ظهري دائمًا، وكتب لي دواء يمنع النزيف؛ فامتنعت من شرب الدواء، وأكثرت الحركة، وعملت كل شيء عكس ما نصح الطبيب رغبة في الإجهاض، ثم مع هذا كله انقطع الدم وثبت الجنين، وهذا هو الذي على يدي.
– و«اسم الله عليهم» كلهم ذكور؟
– لا والله! أربعة ذكور وبنتان، وكلهم في الهم سواء، وكل يوم نوع جديد من أنواع العذاب؛ ففي آخر السنة نضع يدنا على قلبنا عند الامتحان، وتظهر النتيجة، فهذا نجح، وهذا سقط بلا ملحق، وهذا له ملحق؛ ونمضي الإجازة في عناء! وتبتدئ السنة، فمن نجح في الشهادة الابتدائية ظهر متأخر الترتيب، فلا نجد له مدرسة أميرية تقبله، والشهادة في يد، والمصاريف في يد، والمدرسة في رفض! ثم هذا صحيح وهذا مريض، وهذا ذاكَرَ وهذا لم يذاكر. ولا تسألي عن وقت ذهابهم إلى المدرسة! هذا يبحث عن جزمته فلا يجدها، وهذا عن طربوشه فلا يجده، ونرى فرد جورب في حجرة وفردًا آخر في حجرة أخرى، فلا يكادون يذهبون إلا وقد بلغت الروح الحلقوم؛ وعند مجيئهم من المدرسة، هذا يغضب على الأكل وهذا يرضى، وهذا ينازع ذاك، ولا ينقذنا من كل هذا إلا نومهم؛ ثم هذا الشهر شهر أقساط المصاريف، وهذا الصيف كسوة الصيف، وهذا الشهر كسوة الشتاء؛ وماهية الزوج لا تكفي هذا وذاك، والعيش كله عناء في عناء. وأنت؟ اليس عندك أولاد؟
كان منظرًا غريبًا، فقد طفرت الدمعة فجأة من عين السيدة الثانية، فلما أخرجت منديلها ومسحت دمعتها، قالت: أبى الله أن يرزقني في حياتي ولدًا، وطالما دعوته وسألته! وحججت مرة، وكان أكبر همي من حجي أن أقف في أشرف بقعة وأسأل الله أن يهبني ابنًا أو بنتًا! وليكن الابن ذكيًّا أو غبيًّا، ولتكن البنت جميلة أو دميمة، فأنا راضية بكل مولود على كل حال، ولكنه — سبحانه وتعالى — لم يفعل. لتمنيت أن يكون لي أولاد، وأتحمل فيهم أضعاف ما ذكرت من عناء، ثم أراهنك أني أكون سعيدة مغتبطة لا أشكو ولا أتألم. لقد طرقت كل الأبواب لذلك فلم أنجح، ذهبت إلى الأطباء فعملوا لي عملية، واحتملت في سبيلها كل الآلام، وذهبت إلى المشايخ فرَقَوا وعزموا، وذهبت إلى الشيخات «فحضرن» وبحزن و«وصفن»، وقالوا: تخافين، فخفت ونزلت القبر، وركبت وابور «لوتابارك». وقالوا وقالو، وفعلت وفعلت، فذهب ذلك كله هباءً. ورزقني الله مالًا كثيرًا استطعت أن أفعل به كل ما وصفوا حتى السفر إلى أوربا واستشارة أطبائها، ولكن إذا أبى الله فماذا يفعل العبد؟
لم يبق لي من ذلك كله إلا التلهف على الولد والحسرة الدائمة؛ وكل شيء حولي يذكرني بالأولاد فيثير أشجاني وأحزاني. لقد رأيت في حديقتى أشجار البرتقال والليمون تحمل كل عام أثمارها فقلت: يا الله! أتسبغ نعمك على الأشجار فتحمل كل عام أثمارها وتضن على فلا أحمل مرة ثمرة؟ وعندي قطة تحمل دائمًا وتضع ما لا يعد من الأولاد، وكلما حملت ذكرتُ حملي، وكلما ولدت بكيت أولادي الذين لم يوجدوا بعدُ؛ وأرى الفقيرات البائسات العاريات في الشارع كل واحدة منهن تحمل في بطنها ولدًا، وترضع ولدًا، وتجر ولدًا، فيجتمع الحزن في قلبي، وتنفجر منه عيني؛ وأسمع «معارفي» وصواحبي، هذه ولدت، ثم هذه ولدت، ثم هذه ولدت، فأقول: لم يبق عقيمًا إلا أنا، ولم يتخصص للشقاء غيري! رزقني الله مالًا ولم يرزقني ولدًا، وليته رزقني ولدًا، ولو كان الولد يشرى بكل ما أملك لاشتريته وكنت سعيدة؛ بل لو كان يشرى بعينَي لاشتريته وكنت رابحة في صفقتي، وما الدنيا وما المال، وما الحياة بغير الولد؟
لقد كنت في أول أمري أطلب الولد خشية أن يتزوج زوجي غيري، فلما أمنت جانبه، واطمأننت من ناحيته طلبت الولد؛ لأنه طبيعتي؛ ولأنه حياتي بعدي؛ ولأنه موطن انتساخ روحي؛ ولأني امرأة قد خلقت للأمومة. لقد أحسست بهذه الأمومة في صغري فعملت العرائس إرهاصًا لأمومتي، ثم تزوجت تهيؤًا لهذه الأمومة؛ فلما تقدمت في السن ولم أجد الأمومة رأيتني فقدت طبيعتي، ورأيتني في الحياة مقدمة بلا نتيجة، أو قبة بلا شيخ، أو لوزة فارغة، وأنا والعروس من الحلوى والعروس من القطن سواء، كلنا لا يلد. ليس لي أمل في السلوة إلا بالموت فهو وحده بلسم الهموم، ومقبرة الأحزان!
وهنا ختمت حديثها — كما بدأته — بالدموع.
قالت الأولى: والله لو ذقتِ مرارة الأولاد ما تمنيتِهم، ولو جربت سهر الليالي ما اشتقتهم، ولكن أحب شيء إلى الإنسان ما منع، والقصر من بعد أجمل منظرًا من سكناه، والخيال دائمًا ألذ من الحقيقة. لقد كان مرة أكبر أولادي يبكي وهو رضيع ولا نعلم سببًا لبكائه، ويبكي ويشتد في البكاء حتى بلغ منا الهم مبلغه؛ وإذا بزفة عريس تمر من تحت بيتنا، فأضحكني زوجي أبو الطفل إذ قال للعريس: «غُر» غدًا تخلف «وترى» — ولو تمنيت الآن شيئًا لتمنيت أني لم أكن تزوجت، وإن تزوجت فلم أكن «خلفت». أتبادلنني؟ وضحكت.
قالت الثانية وتأوهَتْ: وكيف يمكن البدل؟ إنما أريد أولادًا مني لا منك، أريد كبدي تمشي على الأرض أربيها، ولا أريد كبدك أنميها وأغذيها — وأنت أيضًا لا تعبرين عما في نفسك تعبيرًا صادقًا، فمن تهون عليه أولاده؟ إنما ينفع البدل إن كان قدر الله أن أكون ولودًا وأن تكوني عقيمًا.
قالت الأولى: أتريدين الحق يا أختي؟ الدنيا كلها تعب، فلا ولود في راحة، ولا عقيم في راحة، ولا متزوجة سعيدة، ولا عزبة سعيدة.
ووصل الترام إلى العتبة فنزلنا، هذه إلى طبيب ابنها وتلك لبعض شئونها.
قال صاحبي: ولكن كيف أمكنك أن تسمع هذا الحوار؟
قلت: هذا سر الصنعة.