مقياسُ الرقيِّ
سألني أديب سوري: بم تعد أمة أرقى من أمة، وما العوامل التي نحسبها ونقيس بها الرقي؟ وفي الأمة الواحدة — إذا سئلنا أكانت بالأمس خيرًا منها اليوم، أم هي اليوم خير منها أمس — فأي النواحي نرعاها عند النظر؟
والحق أنها أسئلة في منتهى الصعوبة، يحار المجيب عنها: أي العوامل يحسب وأيها يترك، وأيها لها قيمة كبيرة الأثر، وأيها ضعيف الأثر؟
قد يجيب مجيب إجابة سهلة من طرف اللسان فيقول: «مقياس الرقي في الأمم الأخلاق»، فأرقى الأمم أحسنها خلقًا؛ ولكن هذه الإجابة لا تقنع، فالأخلاق متغيرة، وكل عصر له أخلاق يتطلبها وواجبات ينشدها، وما علينا الآن من واجبات أضعاف ما كان على أجدادنا منها — أصبح واجبًا علينا أن نعلم أولادنا في المدارس، وما كان ذلك واجبًا من قبل، إنما كان تبرعًا من الأب؛ وأصبح واجبًا علينا ترقية الوطن من جهات متعددة، وما كان ذلك واجبًا من قبل، وإن كان واجبًا فواجب غامض ليس محدود المعنى ولا معين الاتجاه؛ وكان آباؤنا يعدون من أرقى الأخلاق في الأمة حجاب نسائها وبناء سور متين بين الرجل والمرأة، فأصبحنا نرى الواجب أن تتعلم المرأة كما يتعلم الرجل، ومن حقها أن تسمع المحاضرات مع الرجل، وأن تتمتع بالحياة البريئة كما يتمتع الرجل؛ فإذا قلنا: مقياس الرقي الأخلاق كانت كلمة عامة تدل على كل شيء ولا تدل على شيء.
وقم يقيسون الرقي بالدين، وهي كذلك كلمة عامة يختلف مدلولها باختلاف أنظار الناس؛ فيضيق عند بعض الناس حتى لا يسع إلا الصلاة والصوم والزكاة والحج، ويتسع عند بعض الناس حتى يشمل كل شيء.
وفي الحق أن هناك مناحي للحياة مختلفة متعددة يجب أن يُنْظَر إليها كلها لتقويم الرقي؛ ففي كل أمة مجموعة من المرافق، يعد كل مرفق منها كالخلية في الجسم الحي: من حكومة وتعليم ولغة ودين وأسرة ونظام اقتصادي ونحو ذلك؛ كلها تتغير، وكلها ترقى أو تنحط، وكلها في حركة مستمرة دائمًا إما إلى الأمام وإما إلى الخلف؛ وكلها تتفاعل تفاعلًا قويًّا، ويؤثر قويها في ضعيفها، وضعيفها في قويها؛ وهذا التغير الدائم في كل هذه المرافق هو مقياس الرقي والانحطاط، فإن كان تغيرًا إلى سمو فرقي، وإن كان تغيرًا إلى تدهور فانحطاط.
وحسبان هذا ليس بالأمر اليسير؛ فقد تتدهور بعض المرافق لأسباب خاصة، وتسمو بعض المرافق لأسباب كذلك، ثم تتفاعل عوامل الضعف والقوة، فينشأ من ذلك عملية حسابية من أصعب المسائل حلًّا. والمثل الأعلى للأمة أن يكون كل مرفق من مرافقها الاجتماعية يؤدي عمله خير أداء، ويتنقل في سمو أبدًا، وأن يكون سيره ورقيه في حالة ملائمة ومناسبة لسائر المرافق الاجتماعية، لا يطفر عنها ولا يقعد بها. فالأمة التي تختار أحسن النظم في التربية والتعليم، ولا تساعدها اللغة على المصطلحات الحديثة، لا ترقى في التربية والتعليم حتى تحل مشكلتها اللغوية؛ والأمة التي تختار أحسن النظريات الفقهية وخير النظم القضائية، ثم لا يعنيها بعد ذلك حالة الأسر الأخلاقية، وحالة المعاملات بين الأفراد، لا يمكن أن ترقى بنظرياتها الفقهية من الناحية القضائية؛ والأمة التي تسن أرقى أنواع الإصلاحات الاجتماعية، ثم لا تعنيها الناحية الاقتصادية، تصبح وإصلاحاتها تسر القارئ، ولا تسر الناظر، وهكذا.
•••
وهناك دلائل قوية تدل الباحث على رقي الأمة وتدهورها وسيرهم إلى الأمام أو إلى الخلف، إما بمقارنتها بغيرها من الأمم في نواح معينة، أو بمقارنتها بنفسها في عصرها الحاضر وعصرها السابق؛ والمقارنة الأولى تدلنا على الدرجة التي تقف عليها الأمة في سلم الرقي العام؛ والمقارنة الثانية تدلنا على اتجاه سيرها إلى الأمام أو إلى الخلف.
ومن أهم هذه الدلائل تعرفُ موقف الأمة إزاء ما يحيط بها من ظروف طبيعية واجتماعية: هل هذا الجيل أحسن استخدامًا لبيئته وما يحيط به؟ هل استطاع أن يوجد منابع لثروته وسعادته أكثر مما استطاع أسلافه؟ هل استخدم المنابع القديمة خيرًا مما استخدمها آباؤه؟ هل كان في حله لما يعرض له من المشكلات الاجتماعية والطبيعية أكثر توفيقًا؟ لما عَرَضت هذه المشكلات أو أمثالها لنا ولآبائنا كيف حلوها وكيف حللناها؟ وما منهجهم في الحل وما منهجنا؟ ما مقدار تضافر الأفراد يومذاك في التغلب عليها؟ وما مقدار تضامننا اليوم؟ لكل أمة مقدار من الثروة، فهل زادت، وهل استطاعت اليوم أن تسعد بثروتها أكثر مما كانت تسعد بها من قبل؟ هل استخدمت العلم أحسن مما استخدمه آباؤها فقلت الوَفَيات وتحسنت صحتها، وجمل منظرها، ونظفت عيشتها، وأصبح نيل القوت أسهل وأيسر حتى تفرغ كثير من أبنائها وبناتها للعلم والفن والأدب؟ أظن أن هذه الأسئلة متى حددت بهذا الشكل لم تكن الإجابة عليها عسيرة، وبذلك نستعين على تعيين الاتجاه ومقدار الرقي، إن كان.
•••
ومن ناحية أخرى، ربما عد من أكبر دلائل الرقي في الأمة «تذليل العقبات أمام الكفايات». فخير الأمم من أفسحت السبيل أمام أفرادها ليرقوا كما يشاءون حسب استعدادهم وجِدهم، في التعلم، في الوظائف، في النواحي السياسية والاجتماعية. وقد قطعت الأمم المتمدنة في ذلك خطوات واسعة، فأزالت احتكار الأرستقراطية للمناصب العليا، وسهلت وسائل التعلم لمن شاء، واعتمدت في تقدير الأشخاص على مزاياهم لا على بيئتهم — إلى درجة كبيرة — وحاربت «المحسوبية» والنزاعات الأرستقراطية، وقضت على النظام الإقطاعى الذي يميز بين الطبقات، ويضع حدًّا فاصلًا بينهما لا يمكن تخطيه، ووضعت النظم الاقتصادية الحديثة، وفيها يمكن كل فرد بذكائه ومواهبه أن يصل إلى ما يستطيع من رقي ─ وإن كانوا هم أنفسهم يصرحون بأنهم لم يبلغوا الغاية في ذلك، وأن أمامهم عقبات شاقة ومسافات طويلة يجب أن يقطعوها حتى يسهل على كل فرد تحقيق غايته وبلوغ شأوه.
•••
وربما كان كذلك من أهم دلائل الرقي النظر إلى ثروة الأمة، ومقدار ما يُنفَق منها على «الصالح العام» من مدارس ومصانع ومساجد ومتنزهات وحدائق وماء وإنارة ونحو ذلك. ولست أعني النظر إلى كمية ما يصرف فحسب، ولكني أعني أيضًا كيفية الإنفاق، وهل أنفق هذا القدر في أحسن السبل، وهل هناك وجه آخر خير منه؟ كذلك لستُ أعني ما ينفق في ذلك من ميزانية الحكومة فقط، ولكني أعني أيضًا مقدار شعور الأفراد في هذا الباب. ومقدار ما يتبرعون به من أموالهم لهذا الصالح العام؛ فليست ثروة الأمة مقصورة على ميزانية الحكومة، ولكنها تشمل ثمرة الأفراد؛ فالأمة التي لا يشعر أغنياؤها بواجب في أموالهم لفقرائها، أو يشعرون شعورًا ضعيفًا لا يقوى على استخراج المال من جيوبهم، أمة منحطة إذا قيست بغيرها من الأمم التي كثرت فيها المدارس والأندية والمستشفيات والجمعيات الخيرية من مال أغنيائها.
ومما يتصل بهذا الأمر، النظر في ميزانية الأسَر في الأمة وكيف تنفق، فأمة خير من أمة إذا عرفت أُسَرُها كيف توازن بين دخلها وخرجها، وكيف تفرق بين الضروري والكمالي، وما ليس بضروري ولا كمالي، ولم تسمح لنفسها أن تنفق في الكمالي حتى تستوفي الضروري، فذلك — من غير شك — يجعل الأسر أسعد جالًا، وأهدأ بالًا، وأكثر استعدادًا للرقي؛ وهل الأمة إلا مجموعة من الأسر؟ وهل رقي الأمة إلا حاصل جمع رقي الأسر؟ وكما أن أسرة قد تكون أسعد من أسرة، مع أن دخلها أقل وثروتها أضعف، ولكن عقلها أكبر، وتصريفها لمالِها أدق، فكذلك الأمم؛ ليس خيرها أغناها، ولكن خيرها من عرفت كيف تستخدم مالها وأحاطت ما تملك بنُظُم راقية، وكمية كبيرة من الإصلاح تجعل مالها يتضاعف في القيمة وإن لم يتضاعف في العدد؛ فكم من أمة لها ثروة كبيرة طبيعية، ولكن لم تعرف كيف تستخدمها ولا جزءًا منها، ولو حلت محلها أمة أخرى لصيرت صحراءها بستانًا، وجبالها جنانًا، ولجعلت ترابها ذهبًا، وأرضها عجبًا.
ومن أجل هذا لم يخطئ كثيرًا من حصر مقياس رقي الأمة في مقدار تغلبها على طبيعة بلادها، وتعديل نفسها حسب ما يحيط بها؛ لأنها لا تصل إلى ذلك إلا بمقدار كبير من العلوم الطبيعية يمكنها من الانتفاع بأرضها وجوهًا، وبقدر وافر من العلوم الاقتصادية يبين لها كيف تستغل منابعها، وبمقدار صالح من النظم السياسية والاجتماعية والأخلاقية يهيئ للأفراد سبل الانتفاع بما حولهم، ويعُهم خير إعداد للنظر في مصالحهم.
فليتساءل الشرقي في ضوء هذا: أين هو نفسه، وأين هو في أمته، وأين أمته في العالم؟