كتابةُ المقالاتِ
هنالك أنواع من المقالات يصح أن نسميها مقالات علميةً بالمعنى الواسع، فتشمل المقالات الاجتماعية كما تشمل بحث مسألة أدبية بحثًا علميًّا؛ وهذا النوع سهل على الكاتب متى تيسرت له أدوات البحث من كتب ومراجع ونحوها، وتوفر له حسن الاستعداد من معرفة بمناهج البحث وأساليبه؛ فكل وقت صالح لكتابة مثل هذه المقالات وإعدادها ما لم يكن الكاتب في حالة استثنائية من مرض ونحوه.
وهناك نوع من المقالات هي المقالات الأدبية بالمعنى الخاص، وأعني بها الأدبية أدبًا إنشائيًّا صرفًا لا أدب بحثٍ ودرس؛ وهذه أصعب من الأولى من حيث إنها تتطلب — فوق حسن الاستعداد — «المزاج الملائم»؛ فليس الكاتب في كل وقت صالحًا لها، بل لا بد أن يكون مزاجه ملائمًا للموضوع الذي يريد أن يكتب فيه؛ فإن كان الموضوع فَكهًا مرحًا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب كذلك فكهًا مرحًا، وإن كان الموضوع عابسًا حزينًا فلا بد أن يكون مزاج الكاتب من هذا القبيل؛ ولذلك قد يمر على الكاتب الأديب أوقات وخلع ضرسه أهون عليه من كتابة مقال، وإذا هو حاول ذلك فكأنما يمنح من بئر أو ينحت في صخر؛ ذلك لأن هذه المقالة الأدبية لا بد أن تنبع من عاطفة فياضة، وشعور قوي؛ فإذا لم يتوفر هذا عند الكاتب خرجت المقالة فاترة باردة لا يشعر منها القارىء بروح، ولا يحس منها حرارة وقوة. ولا يكفي ـ عند الكاتب ـ وجود عاطفة قوية، بل لا بد أن تكون هذه العاطفة من جنس الموضوع الذي يريد معالجته. فويل له إن أراد رثاء وقلبه ضاحك مرح، أو أراد فكاهه وقلبه بائس حزين. ومن أجل هذا يحاول الكتَّاب أن يؤقلموا نفوسهم للموضوع أولًا، فيستلهموا كتابًا أو قصيدة أو منظرًا طبيعيًّا أو نحو ذلك من الوسائل الصناعية — إن عدموا الوسائل الطبيعية — حتى تهيج مشاعرهم من جنس الموضوع، ثم يأخذوا في الكتابة، فتتدفق معانيهم، وتغزر أفكارهم ومشاعرهم.
وشأنهم في ذلك شأن كل فنان من موسيقي ومصور ومثال، فهؤلاء لا يحسنون الإخراج إلا في ساعات خاصة هي ساعات هياج مشاعرهم من جنس موضوعهم.
•••
أما موضوع «المقالات الأدبية» فكل شيء في الحياة صالح لأن يكون موضوعًا، من الذرة الصغيرة إلى الشمس الكبيرة، ومن الرذيلة إلى الفضيلة، ومن كوخ الفلاح إلى قصر الملك، ومن الماضي إلى الحاضر إلى المستقبل، ومن أقبح قبيح إلى أجمل جميل، ومن الحياة إلى الموت، ومن الزهرة الناضرة إلى الزهرة الذابلة، ومن كل شيء إلى كل شيء.
والكاتب الفني من استطاع أن يجد من كل شيء موضوعًا يجيد فيه ويستخرج إعجاب القارىء، ومن استطاع أن يجد من كل شيء نواة يؤلف حولها ما يصلح لها حتى يخرج موضوعه منسقًا تنسيقًا يبهر السامع والقارىء؛ وهو في تأليفه قد يضم الشيء إلى إلفه، وقد يضمه إلى نقيضه، وقد يصل به الكلام في الذرَّة إلى الكلام في الشمس، وقد يصل به الكلام في النملة إلى الكلام في الله، ولكن القارىء لا يشعر بمفارقات ولا يشعر بهوة بين أجزاء الكلام، ويسير مع الكاتب كأنه في حلم لذيذ أو قصة محبوكة.
والفرق بين كاتب وكاتب في شيئين: التلقي والإذاعة؛ فالفرق في التلقى هو أن الكاتب قد يكون دقيق الحس، يسمع حفيف الأشجار ودبيب النمال، ويرى دقيق الأشياء في الظلماء، ويرى قلوب الناس في أعينهم، ودخائلهم في صفحات وجوههم؛ وقد يرى بأذنه ويسمع بعينه، وقد يرى ما لا يرى الناس، ويسمع ما لا يسمع الناس، وقد يدرك الجمال بتفاصيله، ويدرك القبح بتفاصيله، حتى كأنه قد منح من الحواس ما لا يمنحه الناس، وكأن حواسه ليست خمسًا وإنما هي خمسون أو خمسمائة أو ما شئت؛ على حين أن أخاه الكاتب الآخر لم يمنح هذا القدر من الحس، ولم يبلغ هذا المبلغ من الذوق، قد فاق المألوف من الناس، ولكن إلى حد، وتسامى ولكن بمقدار.
ويفضل الكاتب الكاتب أيضًا في التلقي من ناحية أن كاتبًا قد تعدد مناحي إدراكه تعددًا متشعبًا؛ فالطبيعة توحي إليه بأسرارها، والمجتمع يملي عليه بواطنه، والحياة كلها لا تضن عليه بخفاياها، والمُلَح والفكاهات تدخر له أحسن ما لديها، والجد لا يضن عليه بخير ما عنده؛ فهو مستودع الأسرار، وملتقى البحار والأنهار، ومن يأمنه كلٌّ على سره، ويفضي إليه بما يضن به على غيره؛ على حين أن أخاه الكاتب قد يصل إلى بعض الأسرار، ويدرك بعض الاتجاهات ويعجز عن إدراك البعض؛ قد يجيد فهم الطبيعة ولا يفهم للمجتمع سرًّا، وقد يجيد فهم الجد ولا يفهم الدعابة، ذكي في أمر وغبي في آخر، منير في جانب مظلم في جانب.
وأما اختلاف الكُتّاب في «الإذاعة» فعلى هذا النحو أيضًا: منهم من يجيدها إلى أقصى حد، فصوته صاف جميل يأخذ بالألباب، ويستخرج منك العجب والإعجاب، وهو في كل ما يغني معجب مطرب، سواء أحزن أو أسر، وأضحك أو أبكى، وسواء غنى على عود أو كمان أو البيان، وسواء غنى عاليًا أو واطئًا؛ ومنهم من يجيد نوعًا دون نوع، هو في أحد الأنواع ممدوح الصنيع حميد الأثر، وفي الآخر معيب مستهجن، يحسن العود ولا يحسن الكمان، يبني في ناحية ويقوض في أخرى، يواتيه الطبع في باب، فيأتي بالعجب العجاب، ولا يواتيه في آخر، فمهما اصطنع وتكلف فلا يأتي إلا بما تستك منه الأسماع.
•••
ومن اختلاف الكُتّاب في التلقي والإذاعة يختلفون في «القيمة»، ومع هذا فقد يختلفون في التلقي والإذاعة معًا ويتحدون في «القيمة» كالمغنيَِِيْن يختلفان في الصوت «الصوت» الذي يغنيانه وفي الآلات التي يوقعان عليها، ولكن لا تستطيع أن تميز أحدهما عن الآخر في درجة الرقي.
فهذا كاتب يجيد في ناحية من النواحي، وذاك يجيد في ناحية أخرى، وهما في درجة الإجادة سواء — هذا كاتب يعني كل العناية بشكل المقالة ومظهرها، فتخرج من يده مرتدية بالملاحة، موسومة بالظرف، لها بهاء مونق، ورونق معجب، قد قيست كل جملة منها بالمسطرة حتى تكون وفق قرينتها، إن كان في إحدى أذنيها قرط كان في الأذن الأخرى قرط مثله، يوافقه في الحجم والشكل والطول، وإن كحلت إحدى عينيها، فلا بد أن تكتحل الأخرى على نمط الأولى في دقة وضبط، حتى تبرز كأنها دمية عاج، ثم هي بعدُ خفيفة المعنى، فاترة الروح، تشغل الأفكار بالنظر إلى شكلها عن النظر إلى روحها — وهذا كاتب آخر لا يعني في مقالته بزي ولا شكل، فتخرج نظيفة في غير جمال، لا يقف عليها الطرف، ولا تأخذ بالأبصار، ولكنها عميقة المعنى، رائعة الفكر، جميلة الروح، هي كالغانية تستغني بحسن ذاتها عن زينتها، حُسْنها كما قال أبو الطيب (حسن غير مجلوب) وجمالها غير مصنوع.
ومع الاختلاف بين هذا وذاك فلكلّ جماله ولكلّ قيمته الأدبية، هذا يرضي الخاصة، وذاك يرضي العامة، ولا بد في الحياة الأدبية من النغمتين معًا.
•••
وليس يشترط في إجادة الكاتب أن يطرق موضوعًا جديدًا لم يسبق إليه، بل كل موضوع صالح لأن يَكْتُب فيه ولو تداولته أقلام الكُتّاب من قبل، فمن مبدإ خلق الإنسان وهو يحب، ومن مبدإ خلق الأدب والحب موضوع للأدب، ومع هذا لم تنفذ مادته، ولا يزال الشعر والنثر والغناء والتصوير تستقى من منابعه، وتكرر أناشيده؛ ولكن لا يُعَد الكاتب في الموضوع المعاد مجيدًا إلا إذا أتى بجديد غاية الأمر أنه لا يشترط جدة الفكر، بل يكفي في ذلك جدة العرض. وأكثر الأدب من هذا القبيل أفكار مألوفة وآراء معروفة؛ ولكن الأديب يستطيع أن يصوغها صياغة جديدة حتى يخيل للقارىء من جودة الصياغة أنها جديدة الفكرة؛ بل إن الكاتب إذا كثرت آراؤه الجديدة خرج عن أن يعد أديبًا شعبيًّا أو أديب أمة، وصار أديبًا للخاصة لا يقوّم إلا في أوساط قليلة. فالوردة الجميلة تعجب الناظر ولو سبق للحديقة أن أنبتت من قبل أمثالها، و«الدور» يغنيه المغني الحديث يطرب ولو سبقه أحد بغنائه.
وكل ما يطلب من الفنان أن يجيد العرض، وأن يكون عرضه ملائمًا لشخصيته. انظر في ذلك إلى الرويات الجيدة تجد معانيها في أغلب الأحيان معروفة ينطق بها العامة والخاصة، وتجري على ألسنة الجهلاء والعلماء، ومع ذلك استطاع الأديب الفنان أن يجعل منها رواية رائعة أو قصة بديعة أو مقالة شائقة، وليس له في ذلك إلا الصياغة وحسن العرض، قد أخذ الفكرة التي يراها كل الناس، ولكنه عرف كيف يلعب بها ويجيد اللعب، ويقلبها على وجوهها المختلفة ويلبسها لباسًا جديدًا، فقد أسبغ على الفكرة من عواطفه وشعوره ما جعلها جذابة أخاذة، وهذا هو الجديد في الموضوع، فإن لكل أديب نفسَه وعواطفه وأسلوبه وشخصيته؛ فإذا مزج الفكرة بذلك كله كان في الناتج جدّة، وفي الموضوع طرافة، كحروف الهجاء، كل الناس ينطقون بها، ولكن اختلفت مناطقهم وأصواتهم وحناجرهم، فكانت كأن كل إنسان ينطق بها نطقًا جديدًا، وكأن الحروف لم تخلق بشكلها الخاص إلا له. والقطعة من الذهب إنما يتفاوت الصائغون بالمهارة في صياغتها والذهب هو الذهب في أيديهم جميعًا.
•••
وأخيرًا خير الكُتّاب من استطاع أن يفهم نفسه ويعرف استعداداته، في أي النواحي يجيد وفي أيها يضعف، ومتى يرقى ومتى يُسِفّ، قد جرب نفسه أوّلًا في ضروب الأدب المختلفة من قصة وشعر وكتابة اجتماعية وكتابة أدبية ونقد وإنشاء، وقلّب نفسه على وجوهها المختلفة، ولاحظ ذلك في دقة وعمق، وعالج مواضع الضعف منها، ثم استقر بعد السياحة الطويلة الشاقة إلى شيء اطمأن إليه، وهو أن ملكاته واستعداداته يوافقها شيء ولا يوافقها آخر، وتنبع في مواضع وتجمد في أخرى.
فإن هو آنس من نفسه ذلك اكتفى بما منحه القدر، وغَنَّى فقط نوع الأناشيد التي يحسنها، وطلب السموّ في النواحي التي تواتيه فيها ملكاته، وإلا أضاع نفسه من كثرة ما يحاول فيما يعجز عنه ويقصر فيه؛ فالفلاسفة إلى الآن لم يعثرو على الإكسير الذي يجعل الفضة ذهبًا أو الحديد فضة؛ فخير لنا أن نبذل جهدنا في إظهار الفضة بخير مظاهرها من أن نحاول — مع الفشل الدائم — أن نقلبها ذهبًا.