فى رأْسِ البر
يعجبني في رأس البر بساطة العيش والقرب من الديمقراطية؛ يعيش الناس — كما كان يعيش آباؤهم الأولون — في أكواخ من الحُصُر، لا فرق بين كبيرهم وصغيرهم، وغنيهم وفقيرهم، ويلبسون لباسًا ساذجًا، قريب الشبه بما كان يلبس آباؤهم، ويسبحون في البحر عراه، ويمشون على البر حُفاه؛ ملُّوا المدنية وزخارفها، والحضارة وبهرجها، وهربوا من المدن وضوضائها، والأرستقراطية وأوضاعها وتقاليدها وتعقيداتها، وارتموا في أحضان الطبيعة، فأفسحت لهم صدرها ينزلون إلى البحر فينفضون عنهم هموم الحياة، وينبطحون على الرمل، ويذكرون قوله تعالى: مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَىٰ.
ليس فيها قصور شامخة بجانب أكواخ وضيعة، وليس فيها ثريات كهربائية بجانب أضواء زيتية أو غازية، ولا ملابس أنيقة بجانب أثواب مهلهلة؛ يصعب عليك التمييز فيها بين الغني والفقير، والعالم والجاهل، إلا في الآنسات والسيدات، فهن يأبين إلا الظهور، والتمسك بالفروق، وإلا في أمثالهن ممن حليتهن لباسهم، وقيمتهم مظهرهم.
خلف فيها الناس وراءهم المخترعات الحديثة بجلبتها ورذائلها؛ فلا سيارات تصم الآذان بأبواقها، وتأنف الأنوف من روائحها، وتربك السائرين لسرعتها وكثرتها واضطراب حركاتها؛ ولا «تليفون» يرن في الهجير وفي منتصف الليل، فيوقظك من نومك الهادىء، ويحمِّلك رجاءَ تنوء بحمله، أو يصلك بثقيل ينغص عليك الحياة بحديثه؛ ولا «راديو» يسمعك اللطيف والسخيف، ويأبى عليك النوم أحوج ما تكون إليه، وأشد ما تكون الرغبة فيه؛ لأن جيرانك يأبون إلا أن ينتفعوا به كاملًا من بدء يمين — شمال، إلى سلام الختام؟
•••
حياة حرة طليقة، وجو مفتوح، وهواء جديد دائمًا، لم تفسده الحضارة بدخانها وغازاتها، ولم تحبسه الأبنية الشامخة، ولم تحجزه الحيطان الأربعة؛ تتجدد النفس بتجدده، وتمتلىء نشاطًا من نشاطه؛ يغذي كل خلية غذاءً حلوًا طيبًا، ويخلع على الجسم لونًا نجاشيًّا ظريفًا، وينعش العواطف والروح، فهي قوية حادة، شديدة التنبه، شديدة الإحساس؛ حتى عاطفة الدين، فهي أقوى ما تكون، وأطهرها ما تكون، وأصفى ما تكون، حينما تتجلى الطبيعة في ثوبها النظري الجميل، في السماء والماء والمزارع والحقول؛ فليس الإلحاد والزندقة، والتعصب الذميم، وضيق النظر، إلا وليد الحضارة المعقدة، والجو الخانق، والفكر الراكد، ودوران الفكر حول نفسه لا حول الطبيعة.
في جو المدن لا يشعر الإنسان بالسماء إلا عند المطر، ولا بجمال الشمس، ولا جمال القمر؛ ولا يلمس الطبيعة إلا إذا ساءت من شدة الحر أو شدة البرد! كل ما حوله من جمال جمالٌ صناعي؛ قد استغنى بجمال طاقات الزهور عن الزهور في منابتها، وجمال الطبيعة، وجمال الخلقة؛ وهيهات أن يتساوى منتحَل وغير منتحَل، فليس التكحل في العينين كالكحل!
إنما يشعر الإنسان بجمال الطبيعة يوم يخرج من المدينة إلى الريف ويَفر من الحضر إلى البدو، فينكشف له الخَلْق بجماله القشيب، وتأخذ بلبه السماء في لا نهائيتها، والبحار في أبديتها؛ ويشعر شعورًا قويًّا بأنه ذرة من ذرات العالم، وجزء صغير من أجزائه، ضعيف بنفسه، قوي بكله، وأنه لا شيء يوم ينفصل عنه، وأنه نغمة من نغماته يوم يتصل به.
•••
لوددت أني خلعت نفسي في المدينة يوم فارقتها، فقد سئمتُ نفسي وسئمتني ومللتها وملتني، وتمنيت أن تكون النفس كالثوب تخلعه حينًا، وتلبسه حينًا، ويبلى فتجدده، وتكرهه فتغيره؛ إذا لاستبدلت بنفسي — ولو إلى حين — نفسًا مرحة، تستغرق في الضحك من الشيء التافه، ومن لا شيء، ولا تبكي على ما فات، ولا تحمل همًّا لما هو آت.
بل لتمنيت أن اكون كدودة القز تكون دودة حينًا، ثم تكون فراشة حينًا، أرشف من هذه الزهرة رشفة، ومن هذه رشفة، وأنشر جناحي في الشمس، أعيش في جمال وأغيب في جمال، كما تغيب الشمس الجميلة في الشفق الجميل، أو كما تفنى النغمة الحلوة في رنات الآلات، أو كما تنداح الابتسامة العذبة في الوجه الصبوح، أو كما تندمج الموجة العظيمة في البحر العظيم! ولكن أنَّى لي هذا؟ ولو كان لشكوت وبكيت، فأنا كما خُلق المتنبي:
•••
وخرجت مبكرًا والناس نيام، أمشي على الشاطئ، وأرقب الشمس في طلوعها؛ والشمس على الساحل أجمل من الشمس على غيره، فليس لها تلك القوة العاتية، ولا الحرارة القاسية، ولا الأضواء المعشية؛ فيها شيء من الوداعة واللطف والحنان!
ها هي ذي قد طلعت، فأخذت الحياة تدب في النفوس، تلقي أشعتها على البحر فينعقد منه سحاب فمطر فأنهار، فجميع ما لذلك من أعمال باهرة، وقوى ساحرة، وأفعال عجيبة؟ أنظر يمينًا فأرى النيل، وأنظر يسارًا فأرى البحر وقد عاد النيل إلى البحر بعد أن أتم دورته، وأدى مهمته؛ قد خرج هذا العذب الفرات من هذا الملح الأجاج، كما يخرج اللبن من بين الفَرْث والدم. قد سلسلوا النيل فعدا عليه البحر فاغتصب مجراه، وأملح ماءه، ثم فكوا قيوده فاسترد حقوقه، وأراد أن ينتقم من أبيه، فحاول أن يحتل شاطئه، ويحلي ماءه، ويعكر صفاءه، ثم ندم على العقوق فتاب وأنام، وإذا هما مؤتلفان، بينهما بَرْزَخٌ لا يَبْغيان.
ثم تسطع الشمس، وودت أن تكون مذكرة في اللغة العربية، كما هي مذكرة فيما أعرف في اللغة الأوربية؛ لأنها تتزوج الأرض فتولدها ما شئت من أشكال وألوان وذكور وإناث، وكأن أشعة الشمس خمر معتقة تشربها الأرض فتنتشي وتبتهج، وتمتلىء قوة ونشاطًا وحركة.
وتقع أشعتها على الطير فيسرح ويمرح ويتغنى، وتحل في قلب الإنسان فيهدأ رَوعُه، ويذهب فزعه ويطمئن إلى حياته، وتتحرك إرادته، وتنتعش آماله.
دعني أتعَرَّ، فالعراء على الساحل مباح، فأملأ جسمي بأشعتها، وأملأ شعوري ودمي بقوتها، وأملأ نفسي بعظمتها وسحرها.
ومشيت إلى قلعة في رأس البر كنت آنس بها قديمًا، وكان في كل حَجَر من أحجارها صفحة من العزة القومية، والحميَّة الوطنية؛ أقامتها الأمة يوم كانت تشعر بنفسها، وتدافع بنفسها عن كيانها، وتحس بتبعاتها، وتدبر شئونها، وتدير أموالها كما يتراءى لها — فرأيتها وقد عدا عليها الزمان، وعلاها البِلى ونقض أحجارها، وليس من يعتز بها فيقيم أنقاضها؛ ورأيت بها «مدفعًا» قد هزأ به الرمل فغطاه، وسخر به الصدأ فعلاه. دفن كما يدفن عزيز أرداه الزمان بسهامه، وذل كما يذل السيد الكريم توالى عليه الدهر بأحداثه! ورأيتهم أقاموا في وسطها صهريجًا يخزن الماء لرأس البر، فقلت: سبحانك ربي، جعلت من مستودع النار ماءً، كما جعلت من الشجر نارًا! لقد كان مكانك رمز القوة فأصبح رمز الرقة، وكان بك جن يقذفون بالنار فبُدِّلت بهم ملائكة يوزعون الرحمة، وكان بك دم يغلي، فأحاله الزمان القاهر زُلالًا باردًا، وما أدري ماذا جاش بنفسي فدمعت عيني!
ثم صحوت فقلت: أتندُب كل طلل مررت به، وتبكي كل شيء رأيته، وتحزن في معاهد الفرح، وتنقبض في مغاني المرح؟ من أجل هذا تمنيت — قبلُ — أن أخلع نفسي، ووالله لو أمكنتني الفرصة ثانية ما ترددت، ولسمحت وما حَرَصْت، فقد برمت بها وعجزت عن حملها.
هيا إلى البحر! فهناك الفرح والمرح، وهناك يضحك الناس له ويضحك لهم، ويداعبون أمواجه وتداعبهم، وأحيانًا ينسَون جلاله فيصفعهم! فيه الحياة، وفيه القوة، وفيه العظمة، وفيه أكبر مظهر لطاحون العالم، تطحن دائمًا، وتطحن ناعمًا!