إلى أخي الزيات١
سعيت أمس لعزائك، في «رجائي» و«رجائك»، فرأيتك واجمًا ساهمًا، والهًا مدُلَّها، فانعقد لساني، وتخلف ذهني، وفاض دمعي.
وكيف أستطيع عزاءك وما استطعت أن أعزي نفسي؛ أو كيف أستطيع أن أخفف ما بك وما استطعت أن أخفف حزني؟
رأيت بك كمدًا باطنًا، وحزنًا مكتمنًا، فعلمت أنك تتجرع غصص الهم، وتختزن برَحاء الكرب، فتمنيت أن تخفف عنك بصرخة، وتنفس عن نفسك بدمعة، ولكن عز الصبر وعز الدمع، فما هي إلا زفرات تذيب لفائف القلوب وتنفطر لها المراثر.
وا رحمتاه لك! لقد كان «رجاء» قبلة رجائك، ومعقد آمالك، وحديث أحلامك، وملء سمعك وبصرك، تَشَوّفْته حياتك، وترقبته مطلع شبابك، حتى جاد به الزمان البخيل، فربطت أسبابك بأسبابه، وتطقت بأهدابه، فلما شِمْت مخايله، ورقبت منه النُّجح، عدا عليه الدهر الذي لا يرعى ميثاقًا، ولا يثبت على عهد، فأخلف ظلك، ونقض أملك، فإذا الدنيا أضْغاث أحلام، ووساوس أطماع.
ولكن يا أخي — ما الجزع مما لا بد منه، وما الهلع مما قدر، ومثلك من يعرف مقدار الحياة وهونها؟ أفليست إلا مرسحًا تمثل عليه أدوار مختلفة، مرة مهزلة، ومرة مأساة، ونحن في حين ممثلون، وفي حين ناظرون. وليس لنا أن نبالغ في الألم، ونغلو في الجزع؛ فقد كان يكون لذلك وجه من الحق لو ذهب من ذهب أبدًا، وعشنا بعده أبدًا، وإنما الأمر دور يعقب دورًا، ولا حق منا إثر سابق، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
وأي سعادة نجدها في هذه الحياة حتى نحزن على الراحل، ونبكي على الميت ونود أن لو بقي ليستمتع بها، ويتذوق طيباتها؟ إنما هي سلسلة عناء، وضروب شقاء، تنوعت ألوانها، واتحدت حقيقتها. ولو أنصفنا لغبطنا من مات، وأشفقنا على من بقي، ومن مات في صباه فقد اختصر الحياة واختصر همومها وأحزانها، ووفر على نفسه عبثًا ثقيلًا ينتهي مختصره بما ينتهي به مطوَّله، وخير للزهرة أن تذهب وهي ناضرة تعجب الناس، من أن تذهب، وهي ذابلة يعافها الناس.
فخذ الحياة كما هي، ليل ينقضي في إثر ليل، وقوم في إثر قوم، وحادث يستذرف الدمع، يعقبه حادث يخفف الهم، وقل كما قالت الخنساء:
وليس الوفاء للميت بالإفراط في الحزن، والإمعان في البكاء، إنما الوفاء بمقابلة دواعي الحزن بدواعي الصبر. وليست الحكمة في إضعاف الحي من أجل الميت، إنما هي في إحياء الحي من أجل الحي والميت.
وقد أخطأ الناس فغلوا في استفظاع الموت والاحتفاء به، وهولوا في الاستكثار من مظاهره؛ ولو عقلوا لقابلوا كما يقابل كل قانون طبيعي في هذا العالم، زهرة تنضر وتبذل، وشمس تطلع وتغرب، ونجم يتألق ويأفل، وسماء تصحو وتغيم؛ ولو عقلوا أيضًا لرددوا هذا المعنى في نفوسهم، واطمأنت له عقولهم، فإذا كان فهو ما تخيلوه، وإذا حدث فهو ما توقعوه، وإذًا لخف الألم وانقطع الجزع.
أي أخي — ليكن ما أراده الله، ولنلوّن حياتنا بلون من ألوان التصوف، رضاءً بالقدر، واستخفاف بالعالم وما فيه، وطمأنينة إلى قوانينه، وإيمان بعظمة الله وسلطانه، والتجاء إليه أن يتولاك برحمته ويظلك بإحسانه.
أي أخي — لقد أصبحت منسرِق القوة، ضعيف البنية، مُرْهف الحس، رقيق الصحة. ولئن كان الانتحار جريمة لا تغتفر، وبأسًا لا يرضاه الله، فليس هو — فحسب — في إطلاق عيار ناري، أو إلقاء النفس في اليم، أو ما عهدت من ضروب إزهاق الروح؛ ولكن من ضروبه أيضًا الاستسلام للحزن، والتسمم بالغم، والاسترسال في أسباب الكرب، فهو انتحار بطيء ولكنه شر من الانتحار العاجل؛ أعيذك بالله منه، وأربأ بنفسك عنه.
فهوّن على نفسك، وإن خاب رجاؤك في «رجاء» فحقق الله أملك في «علاء»، وعش له ولنفسك وللناس.
أحسن الله عزاءك، وأجمل صبرك، وأجزل أجرك.