امتيازاتٌ من نوع آخر
هل لاحظت أنك إذا استعرضت مقاهي مصر وفنادقها، رأيت أن أعظمها بناءً، وأحسنها نظامًا، وأغناها رُوّادًا، وأجملها موقعًا، وأشدها إتقانًا للخدمة، وأكثرها تفننًا في إدخال الراحة والسرور على زوارها، وأمهرها في استدرار مال الجمهور عن رضى واختيار، إنما هي لسادتنا الأجانب؟
وأن أحقرها مكانًا — وأفقرها سكانًا، وشرها موقعًا، وأسوأها خدمة، وأرخصها سعرًا وأكثرها تفننا في إقلاق راحة زوارها، لا يغشاها إلا من هزل جيبه، أو فسد ذوقه، أو اضطرته حاجة ملحة، أو ضحَّى براحته ولذته وسعادته لفكرته الوطنية، ونزعته القومية، إنما هي لإخواننا المصريين؟
ثم هل لاحظت أن المقاهي والفنادق الأرستقراطية، وما يشبهها وما يقرب منها، صاحبها أجنبي، ومديرها أجنبي، والمشرف على ماليتها أجنبي، والذي يقدم إليك الخدمات الرفيعة أجنبي، ومن يقبض ثمن ما قدم، ويأخذ منك «البقشيش» أجنبي، ثم من يمسح الأرض مصري، ومن يتولى أحقر الأعمال مصري، ومن يمسح لك حذاءك في المقهى أو الفندق مصري، ومن يجمع أعقاب السجاير مصري؛ وأن الأجنبي له الخيار في الأعمال فما استنظفه عمله بنفسه، وما استقذره كلف به مصريًّا؛ ثم أنت لا تجد العكس أبدًا في المقاهي المصرية والفنادق المصرية، فلا تجد رئيسًا مصريًّا ومرءوسًا أجنبيًّا، ولا تجد الأعمال الرفيعة لمصري، والأعمال الوطنية لأجنبي؛ وإذا كان لكل قاعدة استثناء كما يقولون، فقد ظفرنا في هذه الحال بقاعدة لا استثناء فيها؟
•••
وهل تتبعت الصناعات في مصر، فرأيت أن كل صناعة رأسها أجنبي وقدماها مصريتان؟ فخير ميكانيكي في مصر أجنبي، والحثالة مصريون، وقل مثل ذلك في أعمال الكهرباء والنجارة والحدادة والخياطة، وما شئت من صناعة؛ حتى لقد زاحمونا في مصنوعاتنا الوطنية، ونشأت فرقة من الأجانب تجيد عمل «الطعمية» و«الفول المدمس» وبزت فيهما المصريين، وأصبحت الطبقة المصرية الأرستقراطية تشتهيهما من يد الأجنبي أيضًا، وتفضل ما يصنعه على منتجات «أبي ظريفة» و«الحلوجي» ومن إليهما؟
فالصناعات في مصر — على العموم — تتخذ شكل هرم، قاعدته التي تلامس الأرض للمصريين، وقمته التي تناطح السحاب للأجانب.
•••
وهل بلغك أن في بورسعيد — المدينة المصرية — حيين، يسمى أحدهما «حي الفرنج»، ويسمى الآخر «حي العرب»؟ فأما البناء الجميل، والنظافة والأناقة والعناية بالوسائل الصحية، ومظهر الغنى والنعمة، ومظهر المدنية والحضارة، فلحي الفرنج. وأما مظهر الفوضى والإهمال والبؤس والفقر وسوء الحالة الصحية ومأوى الفقراء ومسكن التواضع والرضا بما قسم الله فلحي العرب؟
وهل سمعت أيضًا أن «مصر الجديدة» — وهي ضاحية من ضواحي القاهرة — يسكنها كثير من الأجانب فينعمون بشوارعها الفسيحة، وبيوتها الضخمة الأنيقة؛ ثم في ركن متواضع من أركانها ناحية تسميها الشركة «عزبة المسلمين» فيها كل ما لا يخطر على البال من تكدس السكان في حجرة واحدة، ومن إهمال ومن أمراض، ومن فقر وبؤس، يفر منها من يسكنون بجوارها هربًا بأنفسهم وبصحتهم، وهربًا بعيونهم عن مناظر القبح، وبآذانهم عن ألفاظ الهجر، وبأنوفهم عن كربة الريح؟
أوليس مما يثير عجبك، ويبعث دَهَشك، أن كلمة «الأحياء الوطنية» في مصر تحمل من المعاني كل أنواع السوء والفوضى والإهمال، وكان يجب أن تحمل كل معاني العناية والنظافة والنظام؟
•••
ثم هل رأيت الأجنبي في وسط الفلاحين في العزبة، هو وحده النظيف في ملبسه ومسكنه ومأكله، وهو الذي له عقل يدبر ماله ويعرف كيف يستغله، وهم المغفلون الذين لا يعرفون كيف يحسبون دخلهم وخرْجهم، ولا يعرفون حساب أموالهم، ولا يعرفون كيف يديرون شئون حياتهم، فخضع هذا وهؤلاء لقانون الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح؟
•••
ثم هل علمت أن هناك امتيازات أخرى بجانب هذه الامتيازات المادية، هي امتيازات عقلية أو نفسية؟
فإن غلبة الأجنبي في الصراع بينه وبين المصري في مرافق الحياة المادية أوجدت حالة نفسية شرًّا من الحالة المادية، مظهرها قلة وثوق المصري بنفسه وقوة وثوقه بالأجنبي. فإذا تعسرت حالة مرَضية اتجه أهل المريض إلى الطبيب الأجنبي، وإذا أراد رب مال أن ينجح في إدارته قصد إلى مدير أجنبي، وإذا تعقدت مسألة حكومية أو أهلية اخْتِير لها خبير أجنبي، وإذا اختلف الباحثون في مسألة علمية كان الحكم الفَصْل قول المؤلف الأجنبي، وهكذا في كل شأن من شئون حياتنا؟
واستتبع هذا تقويمنا للأجنبي قيمة غالية، ودخل في التقويم أجنبيته أكثر مما دخل في التقويم فنه أو علمه.
ألم يبلغك الحادث الطريف الذي حدث بالأمس من مدرس ثانوي للغة الفرنسية يتقاضى أمثاله في وزارة المعارف فوق ثلاثين جنيهًا، فكان من سوء حظ هذا المدرس أن تجنس بالجنسية المصرية قبل أن يبت في مرتبه، فلما طبقت عليه القوانين المصرية واللوائح المصرية، كانت نتيجة ذلك أنه لم يمنح إلا اثني عشر جنيهًا؟ أولم يبلغك خبر المصري الذي اخترع بالأمس نوعًا من الآجُرّ فعرضه على الجهات المصرية فخاب أمله، ثم عرضه في إنجلترا فأقرت قيمة اختراعه، ثم تأسست شركة إنجليزية برأس مال إنجليزي لاستغلال هذا المخترع المصري؟
والأمثلة على ذلك كثيرة تحدث كل يوم، فيكاد يكون مغروسًا على أعماق نفوسنا أن القبعة لا توضع على رأس سخيف، وأن الطربوش لا يمكن أن يلف رأس نابغ.
•••
إن كان في مصر دائن ومدين، فالدائن الأجنبي والمدين المصري.
وإن كان في مصر غِنًى وفقر، فالغنى للأجنبي والفقر للمصري.
وإن كان في مصر ذكاء وغباوة، فالذكاء للأجنبي والغباوة للمصري.
وإن كان في مصر نعيم وبؤس، فالنعيم للأجنبي والبؤس للمصري.
•••
هذه الامتيازات في المادة والعقل والنفس شر مما اصطلحنا على تسميته بالامتيازات الأجنبية.
ومن الأسف أنها لا تحل بمؤتمر مثل مؤتمر مونترو، ولا باشتراك الدول ومفاوضتها، ولا بمعاهدة، ولا بقانون.
إن حلها أصعب من ذلك كله.
إنها تحتاج إلى عقول جبارة، وإرادات من نار، وحميَّة لا حدّ لها، ووطنية قوية وثابة.
إنها تحتاج إلى مؤتمرات لا من جنس مؤتمر مونترو، إلى مؤتمر يتكون من فطاحل في التربية، يعرفون كيف فشا فينا مرض العبودية حتى حبب إلينا العمل الدنيء وبغض إلينا العمل الرفيع، فرضينا من المقهى والفندق بمسح البلاط ولَمِّ أعقاب السجاير، ورضينا دائمًا بفتات الموائد، ولم نستطع أن نكوِّن العمل الرفيع ونجلس في صدر المائدة؛ ويعرفون كيف يقضون على أخلاق العبيد من ذل ومكر وخنوع واحتيال ودسائس، ويحلون محلها أخلاق السادة، من عظمة، وصراحة، وحب للعمل، وطلب للمجد، وعشق للصدارة؛ ويعرفون طبيعة المصري وتاريخة وبيئته، وأنواع الأسلحة العلمية والعقلية والخلقية التي يحتاج إليها ليستطيع الكفاح في الحياة والسير مع الأجنبي على قدم المساواة.
فهذا خير ألف مرة من لجان تؤلف وتؤلف لزيادة حصة في الحساب ونقص حصة في الجغرافيا.
ونحتاج لمؤتمر من القادة تكون مهمته العظمى إبادة روح المذلة الفاشية، وبذر روح الغَيرة النادرة، وتعهدها بالتقاليد الجديدة التي ترعاها وتضمن نموها.
نحتاج إلى مؤتمرات عديدة من هذا القبيل تغير وجه الحياة المصرية، وتخلق قلب المصري خلقًا جديدًا، فلا يخاف مرءوس رئيسًا، ولا يخاف مصري أجنبيًّا، ولا يخاف محكوم حاكمًا.
نحتاج إلى مؤتمرات تبيد الخوف إلا الخوف من الذل والعار، وتبيد السيطرة إلا احترامًا لخُلق أو قانون.
•••
ما أصعب هذه المؤتمرات، وما أشقها، وما أحوجنا إليها! إنها تتكون من رجال من أمة واحدة، ولكنها أصعب من مؤتمر مثلث فيه كل الدول؛ لأنها مؤتمرات لا تلغي قانونًا موضوعًا، ولكنها تلغي أخلاقًا موروثة، وتقاليد سمَّرها الزمان، وتحطم أوتادًا سَهِرَ عليها الحاكم الظالم المستبد حتى صلبت الأرض عليها.
•••
لست أومن بنظرية العمال العاطلين حتى يصعب على الأجنبي والمصري الحصول على العيش الرغد على السواء. فأما وقد سهل تحصيل العيش الأجنبي وصعب على المصري، فليست النظرية — إذًا — نظرية عمال عاطلين، ولكنها نظرية فقر في الأخلاق، وجهل بفن الحياة.
•••
فهل لنا وقد نجحنا في مؤتمر الامتيازات الأجنبية أن نوجه هممنا لمعالجة أختها الامتيازات التي هي من نوع آخر علنا ننجح أيضًا؟