الشَّمسُ
أي شيء أحب إلى النفس، من المتعة هذه الأيام بالشمس، والحديث عن الشمس؟
فقد أقرسَنا البرد حتى اصطَكَّت منه أسناننا، وانكمش جلدنا، ويبست أطرافنا، وحتى وددنا — إذا رأينا النار — أن نحتضنها، وإذا رأينا الجمرة أن نلتهمها. ولوددت في هذه الأيام أن أكون فرانًا، أو طباخًا، أو سائق قطار، حتى لا أفارق النار.
•••
كل شيء في الطبيعة جميل، وأجمل ما فيها شمسها.
وهي في شتائنا أجمل منها في صيفنا، ولها في كلّ جمال.
فلها — صيفًا — جمال القوة، وجمال القهر، وجمال السفور الدائم، نُعْظِمُها ونجلها؛ ونهرُب منها ولكن نحبها؛ تقسو أحيانًا ولكنا نرى الخير في قسوتها، فهي كالمربي الحكيم، تقسو وترحم، وتشتد وتلين، تلفحنا بنارها، ولكنها نار كنار الحب يكتوي بها قلب العاشق، ثم هو يرجو بقاءها ويخشى زوالها، ترسل علينا شُواظًا من نار، فتسفع جلودنا، وتكوي جباهنا، حتى إذا غلى جوفنا، ووغر صدرنا، غابت عنا، وأرسلت رسولها اللطيف الوديع (القمر) فخفف من حدتنا، ولطف من سورتنا، وأصلح ما أفسدَت، وضمَّد ما جرحت؛ فإذا خشيَتْ أن نطمئن إليه، أدركتها الغيرة منه فغيبته، وطلعت علينا ببهائها وجمالها وجلالها، وهكذا دواليك.
•••
وهي — شتاء — تطلع علينا بوجه آخر، ترينا فيه جمال الحنو، وجمال الدعة، وجمال الرحمة والعطف، وجمال الغادة اللعوب، تشاغلك فتظهر وتختفي، وتسفر وتتحجب، وتخرج من قناعها ثم تتقنع.
وتنتقم من رسولها الذي غارت منه صيفًا، فتطلعه علينا في جو بارد لا نطيقه، حتى لا نفكر إلا في دفئها ونعمتها، ولا نشتاق لشيء شوقنا لرؤيتها.
فما أجملها قاسية وراحمة! وما أجملها واصلة وهاجرة!
تتلون بشتى الألوان فتسحر العقول، وتبهر العيون؛ فهي تارة بيضاء، وتارة صفراء، وتارة حمراء؛ ثم لا تستطيع أن تحكم هي في أيها أبهى وأجمل، فهي تُزِين ثيابها بأكثر مما تزينها ثيابها.
فتحْتُ النافذة قبل أن أكتب مقالتي؛ فتَدَفقَتْ في حجرتي أشعتها الفضية اللامعة، وملأتها روحًا وحياة، وملأتني دفئًا، وملأتني معاني، وكانت حياتي في حجرتي قبل زيارتها حياة مظلمة باردة جامدة، لا معنى فيها ولا روح.
•••
خلعْتِ من جمالك على الزهر، فكان فتنة للناظرين؛ فجماله من جمالك، ولونه قَبَس من ألوانك، وحياته مدد من حياتك؛ فأبيضه وأحمره، وأصفره وأزرقه، ليس إلا نعمة من نعمك، وأثرًا من فيضك.
فالوردة الحمراء ليست إلا نقطة من دمك، والياسمين الأبيض ليس إلا لمحة من نورك، والنرجس الأصفر ليس إلا تبرًا ذائبًا من شعاعك.
لقد أبَيْتِ على الناس أن يديموا النظر على جمالك، فألهيتهم بالنظر إلى بعض آثارك، ولوّنت الأزهار بألوانك، وأريتهم قدرة على إبداعك، فشغل الجاهلون به عنك، وشغف به العارفون على أنه قبس منك، يطالعون جمالك فيه، ويقرءون معانيك في معانيه.
•••
ثم شأنك في البحر عجب أي عجب! تضربينه بشعاعك، وتلفحينه بنارك، فيتحول ماؤه بخارًا، يصعد إليك ليستجير منك، ويَمثُل بين يديك لتمنحيه عفوك، وتنيليه عطفك، حتى إذا شعر برضاك، وأمن من غضبك، دمع دمعة السرور، ففارقته ملوحته، وعاد إليه صفاؤه وعذوبته، واكتسب منك الحياة فكان ماءً جاريًا، بعد أن كان ماءً راكدًا، فجرى جداول وأنهارًا، فأرسلته إلى خدمك في الأرض من أزهار وأشجار يحيي ذابلها، ويستخرج دفينها، وينضج ثمارها.
•••
ثم تحركت فملأت الحياة حولك حركة؛ فكم من نجوم لا يعلمها إلا الله تسير حولك وتحذو حذوك؛ ثم تلعبين بالهواء من سخونة وبرودة، فيتحرك ويتعلم منك اللعب فيلعب بالبحار والأنهار والأشجار، وبكل شيء يمر به، فإذا الدنيا كلها لعبة في يده.
ثم أنت أنت حرقت الأشجار والنبات، وطمرتها تحت صفحة الأرض آلافًا من السنين بعد آلاف، حتى إذا تنبه الناس آخر الزمان فطنوا إلى أنه مستودع من مستودعاتك، فاستغلوه في كل ما نرى الآن من حركة، فهو سر حركة المصانع والبواخر، وسر حركة القطارات والآلات، فلو قلنا: إن كل حركة في الأرض أنت مصدرها لم نبعد.
•••
تلعبين بالناس فتنيمينهم وتوقظينهم، ترسلين أشعتك الجميلة على العالم فينتبه، وتغيبين عنه فينام؛ ثم تتداولين العالم فتنبهين قومًا وتنيمين قومًا، ويراك قوم شروقًا وقوم غروبًا، وقوم ليلًا وقوم نهارًا، وقوم صيفًا وقوم شتاءً.
وأنتِ أنتِ في عليائك، لا تَملِّين الحركة، ولا تشعرين بنوم أو يقظة، ولا بليل أو نهار.
•••
بل بك يجري الدم في عروقنا، فدمنا من غذائنا، وغذاؤنا من حرارتك، تسلطينها على الأرض فتخرجين منها حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا؛ بل ما أفكارنا إلا منك، أليست أفكارنا من دمائنا، أوليست دماؤنا منك؟
بل لقد كنت حينًا من الأحيان إله الناس ومعبودهم، فكنت مصدر وحيهم، ومصدر إلهامهم، ووجهة عبادتهم، رأوك مصدر الحياة فعبدوك، ورأوك مصدر النعم فمجدوك، ورأوك يحيط بك كثير من الغموض على جلائك ووضوحك فألّهوك، ورأوك أكبر النجوم فرَبَّبُوكِ.
ثم أتى الأنبياء، فرأوك تأفلين فسلبوك ألوهيتك، ورأوك تتغيرين فحولوا عبادتهم عنك.
ولكن إن سلبوك ألوهيتك فلم يسلبوك عظمتك وجمالك وجلالك، وكفاك ذلك فخرًا.
•••
لست أدري أأصاب العرب إذ أنّثوها، أم أصاب الإنجليز إذ ذكّروها! لعل الإنجليز رأوا القمر وادعًا جميلًا هادئًا رقيقًا فأنّثوه، ورأوا الشمس قوية قاهرة قاسية فذكّروها؛ ولكن لعل واضعي اللغة من الإنجليز لو عاشوا في عصرنا، ورأوا ما نرى من قوة المرأة وضعف الرجل، وجبروت المرأة واستكانة الرجل، لرجَعوا إلى رأي العرب، وآمنوا ببعد نظرهم، وقلبوا المذكر مؤنثًا، والمؤنث مذكرًا.
ولعل العرب أيضًا رأوا الشمس أمّ الأرض وأم القمر وأم الزرع فأنثوها، إذ لا يلد إلا امرأة؛ ورأوا القمر طفلًا يدور حول أمه فذكَّروه، واحتاط العرب أن يدرك الشمس شيء مما يلحق الأنوثة، فقال شاعرهم: «وما التأنيث لاسم الشمس عيب».
أما الشمس نفسها، فلم تعبأ بتأنيث ولا تذكير، كما لم تعبأ بمن أنَّثَها وبمن ذكَّرها.
فهي في سمائها تؤدي رسالتها، وتسير سيرتها، وتبهرنا بجمالها، وتوحي إلينا بأسرارها.
فما أعظمك! وأعظمُ منك مَنْ خَلَقَك!