لحظاتُ التجلِّي
لكثير من الناس — وخاصة العقليين والروحانيين — لحظات تضيء فيها نفوسهم، حتى كأنها المرأة الصافية، أو الشعلة الملتهبة، كل جانب فيها مضيء، وكل العالم منعكس عليها، يراه فيها كما يرى السماء في الماء.
يحس بهذا الأديب، فتراه حينًا وقد غزرت معانيه، وتدفقت عليه من كل جانب، حتى ليحار في الاختيار، ماذا يأخذ وماذا يذر، وبم يفضل بعضها على بعض، وحتى كأنه يغترف من بحر، أو يملي عن حفظ، ويصدر عنه إذ ذاك القول السلس والمعاني الغزيرة، والشعر المتدفق؛ هذه اللحظات هي «لحظات التجلي». وتأتي عليه أوقات وقد جمدت قريحته، وأجدب فكره، يعاني في البحث ما يعاني، ثم لا يأتي إلا بحمأة وقليل ماء، ويصعب عليه القول كأنه يمتَح من بئر، أو يستنبط من صخر.
ويحس بهذا الفيلسوف، فيشعر بلحظات تنكشف فيها جوانب من حقيقة هذا العالم فيراها، ويستلذها، ويود أن تدوم، بل يود أن تعاوده الفينة بعد الفينة، ويتمنى أن يشتري عودتها بكل ما ملك، وينفق في ساعة منها كل متع الحياة الدنيا؛ يشعر في هذه اللحظات بذكاء في الفهم، وصفاء في النفس، ولطافة في الحس؛ تكفيه في فهم هذا العالم الإشارة، وتجزئه الإيماءة، يستشف العالم من وراء مظهره، ويلمحه من رموزه، ويشعر إذ ذاك بسمو في العقل، ورقي في الروح، لا يعدل لذتها شيء في الحياة.
ثم تذهب عنه لحظات التجلي على الرغم عنه، فإذا به في بعض أوقاته مظلم الحس، متخلف الذهن، بليد البصيرة، لا يتنبه للحن، ولا يفطن لمغزى، تستعجم عليه المدارك الظاهرة، وتَخفى عليه الأشباح الماثلة.
وتختلف لحظات التجلي عند الفلاسفة والصوفية كثرة وقلة، كما يختلف مدى التجلي بعدًا وقربًا، حتى ليحكى عن «أفلوطين» الفيلسوف الروحاني المشهور أنه حظى بهذه اللحظات بضع مرات في حياته، وحظي بها تلميذه «فورفوريوس» مرة واحدة.
وتعرض للفنان فيلهم معنى يصوره بريشته أو يوقع به على قيثارته، فثمَّ الإبداع والجمال الرائع، والحسن البارع، ذاك يملأ العين حسنًا بصورته، وهذا يملأ السمع والقلب عذوبة بنغمته، ثم تأتي على هذا وذاك أوقات ينضب فيها معينهما، ويفتر عنهما وحيهما.
وترى العلماء من رياضي وطبيعي وكيمياوي، يرزق أحدهم الحظوة بلمحة من هذه اللحظات، يلهم فيها فكرة يكون من ورائها مختَرَعٌ عجيب، أو استكشاف خطير، عرض له أثناء بحثه، وقد لا تكون هناك علاقة ما بين ما يبحث فيه وبين ما أُلهم، بل قد لا تكون هناك مقدمات مطلقًا لما ألهم؛ ويقف العلم حائرًا لا يستطيع أن يعلل كيف نشأت في ذهن هذا العالم تلك الفكرة، وكيف فطن لها، بل يحار المستكشف نفسه كيف عرضت له وكيف ألهم بها.
وبعدُ: فهل يمكن أن نضع قوانين لهذه اللحظات؟ وهل هناك عوامل معروفة إذا استوفيت أمكننا اقتناؤها والحظوة بها؟ وهل يمكن أن نجمَع هذه الشروط في زر كهربائي أو زر روحاني نفتحه فتفتح علينا لحظات التجلي إن شئنا؟
لو استطعنا هذا لتضاعف الإنتاج الأدبي والعلمي في هذا العالم أضعافًا مضاعفة، ولسهل على الأديب أن يستوفي الشروط، فما هو إلا أن يمسك بقلمه فيغزر ماؤه، ويسيل أتِيُّه، وتنثال عليه الألفاظ والمعاني انثيالًا.
لقد حاولوا من قديم أن يستكشفوا قوانين «التجلي» فقالوا: إن مما يعين عليه جودة الغذاء، وفراغ البال من هموم الحياة، وصحة البدن، وطمأنينة النفس، واستعانوا على نيل لحظات التجلي بمختلف الألوان، فقد قيل لكثيِّر عزَّة: يا أبا صخر، كيف تصنع إذا عسر عليك قول الشعر؟ قال: أطوف في الربَاع المُخْلية، والرياض المعشبة، فيسهل عليّ أرصنه، ويسرع إليّ أحسنه. وقال الأحوص:
ولجأ الأدباء من قديم إلى الأزهار والرياض، والمياة الجارية والمناظر الجميلة، كما لجأ بعضهم إلى الخمر يستلهمها ويستوحيها؛ وتكاد تكون لكل أديب عادة يرى أنها علة غزارته، ومفتاح إنتاجه، وأنه يستنزل بها العُصْم من الأفكار، ويستسمح بها الأبي من المعاني؛ ولكن هل نجحت كل هذه المحاولات في استكشاف قوانين التجلي؟ أظن أن نظرة بسيطة تكفي للقول بأنها لم تنجح؛ فقد تستوفي كل الشروط التي قالوها، فالصحة في أجود حالاتها، والغذاء خير غذاء، والكاتب أو الشاعر مطمئن النفس، هادىء البال، بين الرياض المزهرة والمياه الجارية والوجوه الناضرة، وهو مع هذا أجدب ما يكون قريحة، وأنضب ما يكون مَعينًا؛ ثم هو يكون على العكس من ذلك كله فيواتيه شيطانه، وتتزاحم في صدره المعاني، وتتبارى على قلمه الآراء والأفكار والألفاظ.
ثم هذا أديب أو شاعر يجود قوله وتتجلى نفسه، في الأماكن الخالية والسكون العميق، وذاك لا يتأتى له هذا الموقف إلا في الأوساط الصاخبة والحركة المائجة. وأديب لا ينتج إلا إذا امتلأ جيبه واطمانت نفسه لحاجات الحياة، على حين أن الآخر لا يجيد إلا إذا فرغ وِطابه، وعضه الفقر بنابه، وتكاثرت عليه الهموم.
فأين قوانين التجلي إذا كان يحدث في البيئة وضدها والظروف وعكسها؟ قد تكون كل المظاهر وكل ما يحيط بالنفس يؤذن بحال انقباض وجمود، وإذا النفس مع ذلك فياضة جياشة متجلية، وقد تكون المظاهر كلها تدل على نفس متفتحة للعمل، مليئة بالفكر، فإذا هي مجدية منقبضة. وترى الآراء القيمة والمعاني السامية قد تنبع من بيئة قاتمة، ونفس مظلمة، كما تخرج الزهرة من طين، أو كما يخرج الذهب من الرغام، والحرير من الدود.
أخشى أن يكون الذين قد وضعوا هذه القوانين وأمثالها للحظات التجلي قد تسرعوا في وضعها؛ فالإنسان معقد كل التعقيد، ولئن كان جسمه معقدًا مرة فنفسه وروحانيته وعقله معقدة ألف مرة بل آلافًا؛ وإن العوامل التي تؤثر في نفسه وروحانيته ليست الحالة البدنية، ولا الغذاء الصالح، ولا المناظر الجميلة، ولا الغنى والفقر وحدها، بل هناك عوامل أدق وأعمق وأغمض. إن الإنسان لا يعيش في بدنه وحده، ولا في محيطه فقط، بل إنه ليعيش في أصدقائه الأقربين والأبعدين، وإنه ليعيش في آبائه الذين كانوا وماتوا، وإنه ليعيش في ذريته الذين كانوا وسيكونون، وإنه ليعيش في أحلامه وآلامه وآماله، ويعيش في شبكات من تموجات نفسية دونها بمراحل شبكات التلغرافات والتليفونات، وتتسلط عليه أنواع من الأشعة لا عداد لها.
لعلنا لا نستطيع أن نستكشف قوانين التجلي إلا إذا عرفنا نوع النفس التي تتلقى هذه الأشعة، وعلمنا كل هذه المؤثرات، وهيهات!!