اللون الأصفر
لفت نظري — وأنا أدرس الحياة الاجتماعية في العصر العباسي — ما رأيت من كثرة ما كتب عن اللون الأصفر في هذا العصر، وحلوله محلًّا كبيرًا غطى على كل الألوان الأخرى، وكثرة ما قيل فيه من أدب، فرأيت أن أعرض على القراء شيئًا منه وأترك لعلماء الجمال ما يدل عليه انتشار اللون الأصفر في الشعوب من تحديد درجة الذوق في الرقي، وعلاقته بانتشار الخلاعة، ودلالته على مقدار ما وصلت إليه الأمة من حضارة.
•••
رأيت العراقيين هاموا باللون الأصفر وتغزلوا بالوجوه الصُّفر، وصبغوا ثيابهم بالصفرة، وافتتنوا بالزهور الصفر، وأكثروا من اتخاذ الطعوم الصفر، ومدحوا الجواهر الصفر، وهكذا.
روى الجاحظ أنَّ من الأمثله المشهورة قولهم: «أهلك النساءَ الأصفران: الذهب والزعفران»، وهذا يدل على غرام النساء باللون الأصفر، وظهور هذا الغرام بحبهن للذهب والزعفران. أما حبهن للذهب فللونه؛ ولأنه خير أنواع المال. وأما الزعفران فقد كان له سلطان في بغداد أي سلطان، حتى لو سميْت بغداد في ذلك العصر مدينة الزعفران لم تُبعد؛ وقد جعلوا له قوة سحرية فقالوا: «إنه إذا كان في بيت لا يدخله سام أبرص»، وإذا حسن في عينهم شيء أصفر شبهوه بلون الزعفران كما قال آدم بن عبد العزيز:
وأكثروا من تلوين الطعام به. قال بديع الزمان في إحدى مقاماته: «ومعنا على الطعام رجل تسافر يده على الخوان، وتأخذ وجوه الزعفران».
وكان البغداديون يلوّنون الطعام ويكرهون أن يقدموه بلا تلوين، ويسمون الطعوم الغير ملونة «الطعوم المعتدَّة» تشبيهًا بالمرأة في العِدّة؛ لأنهم يكرهون منها أن تلبس الثياب المُلونة، فكانوا يلونون الطعام بالزعفران وبالعصفر وهو أصفر أيضًا.
وصبغوا بالزعفران ملابسهم. حكي أن الرشيد دخل على أخته عليّة بنت المهدي في يوم قائظ، فوجدها قد صبغت ثيابًا بزعفران وصندل وجعلتها على الحبال لتجف، فجعلت الرياح تمر على الثياب فتحمل منها ريحًا بليلة عطرة، فوجد لذلك راحة من الحر.
وكتبت جارية على قباء معصفر:
- التَّخْمَةَ: الثياب المخططة بالصفرة.
- والرَّداعة: القميص لُمّع بالزعفران والطيب.
- والسبنيَّة: نسبة إلى سَبَن قرية بنواحي بغداد، وهي ثياب من حرير فيها أمثال الأترجّ (الأصفر).
- والثياب المحرَّضة: وهي المصبوغة بالإحريض وهو العصفر.
- والثوم المُمصّر: قيل هو المصبوغ بصفرة خفيفة.
- والثوب الموَرَّس: المصبوغ بالوَرْس وهو نبت أصفر يصبغ به.
وأكثر ما كانت العصائب التي تتزين بها النساء عصائب مصبوغة بالزعفران وشَيتْ بخيوط من الحرير وطرزت بسلوك من ذهب.
وقالوا: أجمل شيء غلالة معصفرة على جارية.
ونسبوا إلى أفلاطون أنه قال: إن رائحة الزعفران تسكن الغضب، وإذا قرن اللون الأحمر بالأصفر تحركت القوة العشقية.
ولإعجابهم باللباس المعصفر أو المزعفر شبهوا به الخمر، فقال ابن الوكيع:
وقال ابن المعتز:
وقال ابن الرومي في وصف شواء:
وأكثروا من مدح المرأة الصفراء واستحسنوها، ففي الأغاني أن مُتَيَّم الهاشمية، ومحبوب المتوكلية، ودنانير البرمكية، كن صفرًا مولدات، وسميت دنانير بذلك لصفرتها.
ومدحوا الزهور الصفر والثمار الصفر.
فمدحوا الآذَرْيُون وهو زهر أصفر وفي وسطه خمل أسود، قال فيه ابن المعتز:
كما مدحو «الخِيرِي» وهو المنثور الأصفر.
وكان عندهم نوع من الياسمين أصفر قال فيه الشاعر:
ومدحوا التفاح الأصفر والخوخ الأصفر.
وتغزلوا بصفرة الخمر فقال أبو نواس:
ويقول آدم بن عبد العزيز:
وبالغوا في حب الصفرة حتى كانت القَينة أحيانًا تلبس الثياب المعصفرة أو المزعفرة، وتطلي ما ظهر من يديها ومن عنقها بالورْس.
روى بعضهم قال: «رأيت جارية ببغداد وقد طلت يديها بالورس وفي عنقها طبل وهي تنشد:
وكثيرًا ما قرنوا هذا اللون بالدلالة على الميل إلى الشهوات والفجور، ورمزوا للخليع بقولهم: إنه «يلبس الموَرَّس».
هذه ظاهرة غريبة تستحق الدرس، وأحق الناس بالفتوى فيها علماء الجمال الاجتماعي.