اللَّيلُ
في ليلة حالكة السواد، بعدْتُ عن ضوضاء المدينة إلى مكان قصيّ على شاطئ البحر، أهرب بنفسي من جراثيم المدنية ووباء الحضارة، وأغسلها من أدران التقاليد والمواضعات، وأطهرها بالانغماس في عالم اللانهاية: في السماء والماء والجو الفسيح الذي لا يحده حد ولا ينتهي إلى غاية.
غاب فيها القمر فلعبت النجوم، ولو طلع لكسفها وهي أكبر منه حجمًا، وأعظم قدرًا، وألمع ضوءًا، ولكن دنيانا هذه يسود فيها التهويش حتى في القمر والنجوم.
كان سواد هذه الليلة أحب إلى نفسي من ضوء الشمس ونور القمر، فللنفس حالات تنبسط فيها، فيعجبها البحر الهائج، والوسط المائج، واللون الأبيض والأحمر، والنكتة اللاذعة، وتنقبض فتأنس إلى الليل الساكن، والوحدة المريحة، والسكون العميق، واللون القاتم.
•••
لك الله أيها الليل! فما زلت بالفن حتى ملكته واحتويته، فجعل يشيد بذكرك، ويرفع من شأنك، حتى لم تجعل لأخيك النهار نصيبًا يقاس بنصيبك، فاقتسمتما الزمان عادلة، واقتسمتما الفن قسمة جائرة!
فالمغني يقصر مناداته عليك، ولا يلتفت في هتافه إلا إليك، فإذا غنى بالليل نادى الليل، وإذا غنى بالنهار لم يخجل فنادى الليل أيضًا، والآلات كلها تتبعه فتردد على أوتارها ما ردده المغني بكلماته؛ ثم كان اسمك على قلته وضئولته أداة طيعة في صوت المغني يوقع عليه ما شاء من نغمات: مرحة وحزينة، ومديدة وقصيرة، وعالية وهادئة، وباعثة للقوة والبأس والأمل، وداعية إلى الضعف والخمول والكسل.
وحتى المصور! لماذا شغف برسم غروب الشمس أكثر مما شغف بطلوعها؟ ما ذلك إلا لأن غروبها إيذان بقدومك وارتقاب لزورتك.
أما الأدب فله فيه الباع الطويل والقول الذي لا ينتهي. تداولت عليه الأدباء، فنقموا منه حينًا، وتذللوا له حينًا، من عهد الأستاذ امرىء القيس إذ يقول:
إلى عهد الأستاذ محمد عبد الوهاب إذ يقول:
شكوا طوله وتفننوا في ذلك ما شاءوا، فتخيلوا أن نجومه شدت بالحبال، وربطت في الجبال، أو أن النهار ضل طريقه فظل الليل لا يبرح ولا يتزحزح، أو أن النجوم حارت لا تدري أتتيامن أم تتياسر فوقفت فوقف الليل بجانبها. وشكوا قصره فأبدعوا في ذلك أيما إبداع، فشبهوه بعارض البرق، وأنكروا من قصره وجوده.
كان هؤلاء الذين يشكون طوله ويشكون قصره يتحدثون بعواطفهم، ويترجمون عن مشاعرهم؛ فجاء قوم على أثرهم يتحدثون بعقولهم، فيقول الفرزدق:
ويقول ابن بسام:
•••
أيها الليل! كما لففت ثوبك على متناقضات: حزن على الميت، وسرور لميلاد، ومحب مهجور يشكو طولك، ومحب واصل يشكو قصرك، وعابد متهجد يناجي ربه، وداعي فاجر يبغي حظه، ودمعة حرَّى تسبلها أمْ ولْهَى بجانب سرير مريض، وضحكة صارخة تخرج من فم سكير عربيد؛ ومجلس أنس تتجاوب فيه الأقداح والأوتار، ويلبس فيه الليل ثوب النهار، بين بدور، وكاسات تدور، كأنه مسرح صغير تمثل فيه الجنة بصنوف نعيمها، أو معرض تعرض فيه الملاهي بشتى ألوانها؛ ومجلس بؤس تتجاوب فيه الزفرات والحسرات، وتتساقط فيه النفوس، قد شرقوا فيه بدموعهم، وتلظى الهم في ضلوعهم، فهم بين كاسف بال، وساهم طرف، ومنقبض صدر، ولهيف قلب.
يترقب السارق ليحتمي بسوادك في سرقته، والعاشق ليفر في سكونك بعشيقته، والناسك ليبتهل إلى الله في صلواته، ويتحد معه في مناجاته، والشاعر لينظم شجونه في قصيدته، والملحن ليوقع لحنه على قيثارته، والسياسي ليدبر مؤامراته، والعالم ليفكر في نظرياته.
•••
ولكن لماذا استأثرت بكل هذا والنهار قسيمك في الخدمات، وعديلك في الحياة، بل هو أشد منك حياة وأكثر قوة، فسلطانه الشمس وسلطانك القمر، وسلاحه الضوء وسلاحك الظلام، وشعاره البياض وشعارك السواد، وهو مبصر وأنت أعمى، وطبيعته الحركة وطبيعتك السكون، وهو يدعو إلى النشاط والعمل، وأنت تدعو إلى الخمول والكسل؟ ولكن شاء الله أن يمن على اللذين استُضعفوا في الأرض ويجعلهم أئمة ويجعلهم الوارثين، فجعل من قوة النهار ضعفًا، ومن ضعفك قوة.
انتهزْتَ فرصة السكون الذي منحك الله، فجعلت منه حركة دونها حركة النهار، فحركتُه حركة جسم وآلات، وحركتك حركة عوطف وانفعالات، وشتان ما بينهما! لقد أطاق الناس مصائبه ولم يطيقوا مصائبك، فقال الشاعر:
واستعنت بسلطان الحب فجعلته من أعوانك، وأسرت العواطف فاتخذتها من خدامك، فلما اجتمع لك الحب والعواطف نازلت بها الزمان، وغلبت بها كل سلطان؛ فالوصل لا يلذ إلا في ظلك، والهجر لا يلذع إلا في كنفك، والسرور لا يشع إلا في حضرتك، والألم لا يضني إلا في هدءتك.
من تعب في النهار وجد فيك راحته، ومن أتعبته الحركة نَعِم فيك بسكونك، ولكن من تعب فيك لم يجد في النهار عوضًا عنك، ولم يرض به بديلًا منك.
•••
جالت هذه المعاني في فكري، وامتلأت بعظم الليل نفسي، فمنَّ علي بنومة لذيذة هادئة عميقة، فقابل جميل ثنائي بجميل صنعه، وأدى فريضة شكري بجزيل فضله.