في الحرِّ
اشتد الحر وشُغل الناس بالتفكير فيه، وبطرق التغلب عليه، وبالتأفف منه؛ فهذا يدبر المال للإقامة في مصيف فيوفق ويرحل، وهذا لا يواتيه المال فيقيم على مَضَض، وهذا نزاع عائلي بين ميزة الاصطياف في أوروبا والاصطياف في الإسكندرية، وهذا غني أفلس يأتي عليه الحر فيذكره بأيام هنيئة قضاها في أجود المصايف وأنزه الأماكن، فتجتمع عليه لذعة الحر ولذعة الذكرى — وهذا بائع مرطبات والمبردات يسأل الله أن يزيد في الحر حتى يكثر من بيعه، ويزيد ربحه، وهذا يرقب درجة الحرارة من حين لآخر ليعلم أتحسن الجو أم ساء، وهو يتبع المقياس في رضاه وسخطه، وهذا يقرأ نشرات مصلحة الطبيعيات ليقارن بين القاهرة والإسكندرية، والقاهرة وبورسعيد، فإن كان في الإسكندرية رثى لمن في القاهرة، وإن كان في القاهرة حسد من كان في الإسكندرية؛ وإن كان في أسيوط عزى نفسه بقلة الرطوبة وجفاف الهواء؛ ومن كان في مصر كلها حَمِدَ الله على أنه ليس في أمريكا حيث يختنق الناس — وهذه شغلها التفكير في المقارنة بين حمام ستانلي وسيدي بشر: أيهما أكثر ناسًا، وأنظف مرتادًا، وأحسن للعرض وأمتع للنفس. وهذا يرتقب غروب الشمس التي تكويه بنارها ليخرج إلى الجزر والأنهار والمقاهي المفتوحة والملاهي في الجو الطلق، فينتقم في ليله من نهاره — وهذا وهذا وهذه وتلك، مما لا يعد ولا يستقصى؛ ولكن لا بد من «هذه» أخرى أنسيتها، فهذا كاتب وشاعر شغله الحر من ناحية أخرى، فهو يريد تشبيهًا جميلًا للحر أو تعبيرًا بليغًا، فيقول: هذا الجو أحر من الرمضاء وأحر من دمع الصب، وأحر من قلب العاشق، ومن فؤاد الثاكل؛ ثم لا تعجبه هذه كلها فيريد تشبيهًا مخترعًا، أو عبارة مبتكرة، أو استعارة بديعة، فيسبح في الخيال، وينسى الحر، وهي حيله لطيفة للتخلص منه!
أما أنا فقد ضايقني الحر وحرت بين مصر والإسكندرية، تؤلمني الأول بحرها القاسي، وتؤلمني الثانية برطوبتها الثقيلة، ووددت أن لو كان لي من المال ما يمكنني من أن أطير صباحًا فأقضي النهار في الإسكندرية، وأطير مساء فأقضي الليل في القاهرة.
وأخيرًا رأيت أن أهرب من الحر حينًا بالتفكير في الكتابة فيه، وقلت: إنها فرصة جميلة أن أكتب في الحر، فإن خرج المقال قيما ممتلئًا حرارة وقوة ربحت ربح المحسن في عمله — وليس لي كبير أمل في ذلك — وإن خرج المقال باردًا أكون قد أحسنت إلى الناس فرفهت عليهم، وانتقمت من الحر، وأعنتهم عليه؛ وأي فرصة للكاتب خير من هذه؟ يحسن إذا أحسن، ويحسن إذا أساء، وللإنصاف لا بد أن أعلن أني لست مبتكرًا لهذا المعنى، إنما أخذته من نادرة لها اتصال بالحر، فقد أنشد بعضهم بيتًا من الشعر فقال سامعه: إن هذا البيت لو طوح في نار المتنبي لأطفأها، ويريد ببيت المتنبي قوله:
فكذلك أردت أن أثأر لنفسي وللناس من حر هذا العام بكتابة مقالة تطفئه، وأخشى ما أخشاه أن تخرج فاترة، لا بالحارة فتعجب، ولا بالباردة فتطفىء.
•••
أول ما خطر لي في الحر أني الآن لابس ثوبًا أبيض واسعًا فضفاضًا، مكشوفُ الرأس عاري القدمين، جالس في حديقة، وأشجار عن يميني وأشجار عن يساري، وحوض زاهر أمامي، وقد رشت الأرض من حولي، وبجانبي إناء مما يحفظ فيه الماء مثلوجًا، لا أدري ما اسمه بالعربية؛ وكل شيء حولي يرطب الجو ويلطفه ويعدله، وأنا مع هذا كله برم بالحر، ضيق الصدر، مغيظ محنق، أتلمس أقل سبب، لأعلن الغضب — وعلى البعد مني أصوات ترتفع بالنداء، هذه تحمل قفصًا مملوءًا بالفراخ، وهذا يجر عربة ملئت بأصناف الخضر، وهذا ثالث يحمل على رأسه سفطًا كبيرًا قد ملىء بالتين أو العنب، وهو سائر طول نهاره في هذا القيظ ينادي، ولا يعبأ بشمس ولا حر، ولا يضجر كما أضجر، ولا يألم كما آلم، ولا يفكر في الحر كما أفكر — أليس في الأرض عدل؟ أليس الشقاء قد أكسبه مناعة وقوة؟ أوليست الرفاهية والمدنية والنعيم قد حرمتني الجلَد والاحتمال؟ إنه ليسعد بما أشقى به، إنه ليسعد بشربة ماء من كوز من حنفية، ويسعد بالارتماء في ظل بيت في الشارع بعد أن أعياه التعب وأضناه السير، ويسعد بقرش يكسبه ليشتري به خبزًا جافًّا يأكله فينعم به. إن كانت السعادة في اللذة والطمأنينة وهدوء البال، فمما لا شك فيه أن هناك مجالًا للتفكير العميق «أينا أسعد». وتَبًّا للعيش الناعم، والمدنية المعقدة، والرفاهية المترفة، التي أرهفت حواسنا وإحساساتنا، وأفقدتنا الصبر واحتمال المكاره، وجعلتنا نفر من نعيم إلى نعيم أدق منه نظن فيه السعادة، وما السعادة إلا في العيش البسيط والمران على الجلَد، واحتمال ألوان الحياة وصنوف التعب، وأقلها الحر والبرد. إن تحتمل الحر فلا حر، وإن تحتمل البرد فلا برد، وإن تعتد بساطة العيش تكره نفاق المدنية. وإن السعادة لخير ما يحقق مذهب «أنشتين» في النسبية، فكل شيء في الحياة من لذة وألم نسبي؛ وليست اللذة والألم يعتمدان على الشيء الخارجي فحسب، بل هما نتيجة تفاعل بين الشيء الخارجي والنفس، ويختلف هذا التفاعل اختلافًا كبيرًا باختلاف النفوس؛ فليس الألم من الحر والبرد يعتمد على درجة الحرارة وحدها، إن صلح الترمومتر أن يكون مقياسًا لحرارة الجو، فلا يصلح أن يكون مقياسًا لألم النفس من الحر، وليس لهذه الحال ترمومتر مشترك يتساوى فيه الناس، إنما لكل إنسان في الألم من الحر والبرد ترمومتره الخاص، وكذلك ترى من يموت من الحر، ومن يموت من الضحك على الحر. ومن الغريب أن يتوجه كل الناس بكل مجهودهم للتخلص من الحر بالاصطياف وسكنى الشواطىء والمراوح والمرطبات، ولا يبذلون أي جهد في الناحية الأخرى وهي الناحية النفسية بترويضها وتمرينها على الاحتمال، وتعويدها الصلابة! وهذا في نظري ليس أقل شأنًا ولا أصغر قيمة من العلاج الأول.
•••
وخطر لي أن علماء الجريمة يذكرون أن هناك أنواعًا من الإجرام تكثر في الصيف كالإجرام الجنسي، وأنواعًا تكثر في الشتاء كإجرام السلب والنهب، فقلت: لعل ذلك أيضًا في الأدب، فالأدباء يَهيج بعضهم على بعض صيفًا أكثر مما يهيجون شتاءً، ويهيجون في القاهرة أكثر مما يهيجون في الإسكندرية؛ إن شئت مصداق ذلك فانظر ما كان بين من يسمونهم أدباء الشيوخ وأدباء الشباب، وانظر ما كان بين أدباء الشيوخ بعضهم وبعض، وأدباء الشباب بعضهم وبعض، أليس هذا كله فعل الحر؟ أوليس من كان في الإسكندرية على شاطئ البحر كان يعجب من فعل الحر في أدباء القاهرة؟ ولئن كان الحر يؤاخَذ على ما جنى من تعريض العلاقات بين بعض الأدباء لخطر، فإنه يشكر على أنه استطاع أن يستخرج من الأدباء قطعًا فنية بديعة أكملت أبواب الأدب، فإن القدماء قد عدوا من أبوابه باب الهجاء كما عدوا باب المديح — كما أنه يشكر إذ لم يسلط ناره الحامية على الأدباء طويلًا، فقد حوَّل عدسته إلى غيرهم ليتنازعوا، فنجا الأدباء من ثورته، وهدأت عواطفهم وتصافت نفوسهم.
•••
وأخيرًا خطرت لي مَحْمدة جليلة للحر القائظ، والبرد القارس، وقلت: إن هذه المحمدة تفوق كل ما كان للحر والبرد من سوء، ولولاها ما تقدمت الإنسانية. وما رقي النوع البشري هذا الرقي، ولظل هائمًا على وجهه كالوحوش؛ ذلك أن الشمس بنارها اللافحة، والحر بشدته اللاذعة، والبرد بحدته القاسية، وأمطاره المنهمرة، وببَرده وثلوجه، والطبيعة العنيفة بعواصفها ورياحها، كل ذلك هو الذي ألجأ الإنسان قديمًا إلى أن يبحث له عن ملجأ يأوي إليه من الحر والبرد، فسكن الكهوف في نشأته الأولى، وظل يرتقي في ضروب من الارتقاء حتى أسس البيت، وأسس الأسرة، وكونت الأسر القبائل والمدن، وكونت هذه القبائل الأمم؛ ثم تعاونت الأمم على ترقية النوع الإنساني، فلولا الحر والبرد ما أظن أن قد كان بيت، ولولا البيت ما كانت الأسرة، ولولا الأسر ما كانت أمم. أليس الحر والبرد إذًا كان أفعل في ترقية النوع الإنساني من كل مظاهر الحياة وظواهر الكون؟ فإذا قلنا: إن تقدم النوع البشري مدين في تقدمه لرداءة الجو، وشدة الحر والبرد، لم نُبْعِد.
•••
خطر لي كل هذا حينما حاولت أن أكتب في الحر فبدأ الضجر يقل، والألم يحتمل، والنفس تهدأ، والعاصفة تسكن، والاحتمال يقوى. فهل هذا يستمر؟ سأجرب.
على كل حال قد هزئت بالحر ونسيته — ولو إلى حين — بكتابة مقال فيه.