الشَّخصيةُ
أعجب ما في الإنسان شخصيته، وقد تنوعت الشخصيات بعدد ما على الأرض من أشخاص، فترى الشبه الكبير بين الحجر والحجر، حتى يصعب عليك أن ترى بينهما فرقًا، وترى المطبعة تخرج آلافًا من الكتب تتشابه وتتماثل، لا تميز بين أحدهما والآخر، وترى الشبه كبير بين الوردة والوردة في رائحتها ولونها وكل شيء فيها، وترى الحيوانات من فصيلة واحدة تتشابه وتتقارب حتى ليلتبس بعضها ببعض. أما الإنسان والإنسان فلا، حتى ليكاد يكون كل إنسان فصيلة وحده؛ فإن كان علماء «الأثنولوجيا» استطاعوا أن يقسموا الإنسان إلى أنواع، وأن يضعوا لكل نوع خصائصه ومميزاته، فذلك عمل تقريبي محض؛ أما إن أرادوا الدقة التامة فلا بد لهم أن يضعوا كل فرد في قائمة وحده، له مميزاته الخاصة في جسمه وعقله، وروحه وخُلقه؛ فإذا أردنا أن نحصي الشخصيات في هذا العالم فعلينا أن نحصي عدد الناس فنضع ما يساويه من عدد الشخصيات — وكانت اللغة عاجزة كل العجز عن أن تضع لكل شخصية اسمًا خاصًّا، فاكتفت في الجسم بأن تقول: طويل أو قصير، وسمين أو نحيف، وأبيض أو أسمر؛ مع أن كل كلمة من هذه تحتها أنواع لا عداد لها، فهناك آلاف من أنواع الطول، وآلاف من أنواع القصر، وآلاف من الألوان؛ ولكنها عجزت فقاربت، ولو حاولت أن تضع اسمًا خاصًّا لكل نوع من الأنواع العيون وحدها، على اختلافها في الألوان، واختلافها في النظرات، واختلافها في السِّحر، واختلافها في السعة والضيق لوضعت في ذلك معجمًا خاصًّا، وهيهات أن يغنيها.
وعجز علماء الجمال فاكتفوا بقولهم: جميل وقبيح، مع أن هناك آلافًا من درجات الجمال، وآلافًا من درجات القبح، بل إنك لا تستطيع أن تُنْزل إنسانين في منزلة واحدة من الجمال والقبح، فلما أعياهم الأمر قنعوا بقبيح وجميل، واكتفوا بالإجمال عن التفصيل.
وعجز علماء الأخلاق فوقفوا في ذلك مثل موقف إخوانهم علماء الجمال، فقسموا الأعمال إلى خير وشر، وقسموا الصفات إلى فضيلة ورذيلة، وسموا الإنسان خيِّرًا أو شرّيرًا، وهيهات أن يكون ذلك مقنعًا، فالخير والشر يتنوع بتنوع الأفراد، ولو كان للأخلاق ميزان دقيق لاحتاج إلى نسج بعدد ما في العالم من إنسان.
الحق أن علماء كل علم عجزوا عجزًا تامًّا عن أن يجاروا الشخصيات في كل مناحيها، وأن يسيروا وراء تحديدها تفصيلًا، ووجدوا العمر لا يتسع لهذا ولا لبعضه، فعُنُوا بوجوه الشبه أكثر مما عنوا بوجوه الخلاف، وعنوا بالموافقات أكثر مما عنوا بالفروق، وفضلوا أن يضعوا مسميات شاملة، وإن شملها الخطأ، وأن يضعوا قواعد عامة، وإن عمها الغموض والإبهام، وقالوا: ليس في الإمكان أبدع مما كان.
•••
هذه الشخصية لكل فرد هي التي ميزته عن غيره من الأفراد، وجعلتني أنا أنا، وأنت أنت، وهو هو؛ ولولا هذه الشخصية لكان أنا وأنت وهو شيئًا واحدًا. هذه الشخصية هي مجموع صفاتك الجسمية والعقلية والخُلقية والروحية، تتكون من شكلك ونظراتك ونبراتك، وطريقة حديثك، ودرجة صوتك من الحسن أو القبح، وإيمانك وإشارتك، كما تتكون من عقليتك وكيفية قبولك للأشياء، وحكمك عليها ومقدار ثقافتك — كما تتكون من تصرفاتك، وموقفك نحو المال، ودرجة حبك له، وعلى الجملة كل علاقتك بالحياة، وكل علاقة الحياة بك. وإذ كان الناس مختلفين في هذا كله اختلافًا يسيرًا أو كثيرًا كانت الشخصيات كذلك مختلفة، وبين بعضها وبعض وجوهُ شبه في بعض الأشياء، ووجوه خلاف في بعضها، وكانت بعض الشخصيات تتجاذب وتتحاب وتتباغض وتتنافر. وفي الواقع أن معنى أحبك أو أبغضك، وأعْرِفك أو أُنكِرُك، أن شخصيتي تحب شخصيتك أو تكرهها، وتعرفها أو تنكرها، وصَدَق الحديث: «الأرواح جنود مُجنَّدة، ما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف». وليس معنى حُب الشخصية لشخصية أخرى أن الشخصيتين من جنس واحد، وأن ميولها متقاربة، بل إن ذلك يرجع إلى قانون أكثر تعقيدًا مما نظن؛ فقد يتحاب الشخصان؛ لأن ميلهما العلمي في اتجاه واحد، أو ميلهما إلى كيفِ من الكيوف متحد، وقد يتحاب الشخصان؛ لأنهما مختلفان ويكمل نقصُ أحدهما الآخر، كما يحب أحيانًا كثيرُ الكلام قليلَ الكلام، وكما يحب الساكنُ الهادىء المتحفظُ المرحَ النشيطَ المتحرك، وكما تتعاشق الكهربائية السالبة والموجبة.
على كل حال ليس قانون تجاذب الشخصيات وتنافرها قانونًا بسيطًا سهلًا يمكن الفصل فيه بكلمة.
•••
هذه الشخصيات الإنسانية تختلف قوة وضعفًا اختلافًا أكثر مما بين الآلات الميكانيكية والمصابيح الكهربائية، فهذه شخصية عاجزة ضعيفة ذليلة، لا يكاد يتبينها الإنسان إلا بعسر، ولا يكاد يراها إلا بمنظار، ولا يكاد يحسها إلا بمجهود، هي «كاللمبة» قوتها شمعة واحدة، بل هي فوق ذلك مغبشة لتضعف قوتها، هي من جنس ما يستعمل في حجر النوم، نور كلا نور؛ ووجود كعدم؛ لا تتعب نظر النائم لأنه لا يشعر لها بوجود، ولا تستهلك مقدارًا يذكر من التيار؛ لأنها كامنة الحياة، مسكينة في فعلها وانفعالها، ضعيفة في تأثيرها، وهذه شخصية أخرى قوتها ألف شمعة أو ألفان أو ما شئت من قوة، تضيء فتملأ البيت نورًا، بل هي أكبر من أن تضاء في بيت، إنما تضاء في شارع كبير أو ساحة عامة، إذا وضعت في البيت أقلقت راحة أهله بقوتها، وأعشت الناظر بضوئها، وعدّ وضعها غير ملائم لجوّها، وكان مَثل ذلك مَثل من وضع «فنارًا» في بيت أو أشعل أكبر وابورًا ليصنع عليه فنجان قهوة — وبين اللمبة الأولى الضعيفة الخافتة، والثانية القوية الباهرة درجات لا تحصى، فكذلك الشخصيات بل أكثر من ذلك. ولكن هناك فروقًا بين الشخصيات واللمبات، أهمها أن اللمبة الكهربائية لا يمكنك أن تنقلها من قوة إلى قوة، فاللمبة التي قوتها شمعة واحدة هي كذلك أبدًا، والتي قوتها مائة أو مائتان هي كذلك أبدًا، وكل ما تستطيع أن تفعله أن تنظف اللمبة وتجلوها حتى لا يضعف غبش من قوتها، ولا يقلل غبار من ضوئها. أما الشخصية الإنسانية فقابلة للتحول، بل هي قابلة للطفرة صعودًا وهبوطًا، علوًّا وانحطاطًا؛ فبينا هي خاملة ضعيفة إذ اتصل بها تيار قوي أشعلها وقوها حتى كأنها خلقت خلقًا آخر، وكأنه لا اتصال بين يومها وأمسها، هي اليوم مخلوق قوي فعّال يلقي أشعته إلى أبعد مدى، وكانت بالأمس لا يؤبه بها، ولا يحس بضوئها. كذلك ترى شخصيات أخرى يخبو ضوؤها، فإذا هي مُظلمة بعد نور، وضعيفة بعد قوة، ليس لها من حاضرها إلا ماضيها. وكذلك شاء الله: يُخرج الحي من الميت، ويخرج الميت من الحي، ويخلق الإنسان في أحسن تقويم، ثم يرده أسفل سافلين. وتاريخ الإنسان مملوء بالأمثال، فكم من نابغ بعد خمول، وخامل بعد نبوغ، وميّت في الحياة الأدبية والاجتماعية حي، وحي مات؛ وهكذا شخصيات الناس في مد وجزر دائمًا.
وهذا التغير المستمر في الشخصيات هو الذي أبقى على أمل المصلحين في إصلاح الناس، وباعد بينهم وبين اليأس.
•••
وكل شيء يواجه الإنسان في حياته يؤثر في شخصيته أثرًا صالحًا أو سيئًا؛ فالغنى بعد الفقر، والفقر بعد الغنى، واليأس بعد الأمل، والأمل بعد اليأس، وما يعتريه من شدائد وكوارث، وما يبذله في صراع الحوادث، وما يلاقيه من رخاء ونعيم، وما يبعثه ذلك من هدوء واطمئنان — كل هذا وأمثاله له أثرًا في تكوين الشخصية يختلف ضعفًا وقوة. وأهم غرض للتربية الصحيحة في نظري أن تجعل ممن تربيهم شخصيات هي أقوى ما يمكن أن يكون الأشخاص من حيث استعدادهم وأهليتهم؛ فأنجح مربي هو الذي يستطيع أن يصل بطلبته إلى أقصى ما في استعدادهم من رقي، ويبلغ بشخصياتهم إلى آخر حدودها الممكنة؛ ولكن بجانب هذا التأثير العادي اليومي تحت حوادث بارزة في تاريخ الإنسان وخاصة العظماء، يكون لها الأثر البالغ والتغيير الخطير؛ وهذه الحوادث يصعب ضبطها وتعليلها وحصرها؛ فقد تنقلب شخصيات الأفراد فجأة على أثر عقيدة دينية تملأ نفوسهم حماسة وقوة وعظمة، كما رأينا في فعل الإسلام في رجاله أمثال عمر بن الخطاب وخالد بن الوليد؛ فلولا الإسلام ما كانت لهم هذه الشخصيات البارزة، ولكانت عظمتهم محدودة محصورة، ولو سبقوا زمنهم سنين لماتوا كأمثالهم من عظماء الجاهلية. وقد يكون بروز الشخصية وظهور النبوغ في الإنسان على أثر مقابلته عظيمًا، فيحس بعدها كأن عود ثقاب أشعل في نفسه فألهبها، وأضاء ما بين جوانبه وحفزه للعمل، وهون عليه الأخطار؛ بل قد تكون العظمة نتيجة لشيء أتفه من ذلك، فقد يقرأ جملة في كتاب، أو يسمع عبارة من خطيب، فكأنها كانت مفتاح عظمته، وكاشف حيرته؛ بل قد تكون العظمة لم تأت من شيء خارجي، وإنما أتت من تفكير الشخص في نفسه وتحليلها وتبين موقفها في العالَم، وموقف العالم منه، وتساؤله لها: ما رسالتها إلى العالم وكيف تؤديها — فإذا هو يشعر بعد طول تفكير كأن قبسًا من نور إلهي ألهب نفسه، وأضاء العالم أمامه، فهو يسير على هدى، ويؤدي رسالته كما بُلّغ، إلى كثير من أمثال هذا مما لا يستطاع حصره.
ويظهر أن النفوس إذا نضجت تلمست الوسائل المختلفة لبروزها، وظهور عظمتها. والصوفية يقولون: «صاحب الخصوصية لا بد أن يظهر يومًا ما». ولكن كم في العالم من شخصيات كامنة، لو هيىء لها عود ثقاب لاشتعلت، ولو أتيح لها القبس لأنارت! وكم من بذرة صالحة قوية لم تجد تربتها اللائقة بها، فغلبتها على الحياة بذرة فاسدة! وكم من زهرة بدأت تتفتح فأصابتها ريح هوجاء عصفت بها. وعمل المصلحين والشخصيات القوية في كل أمة أن يستكشفوا هذه الكوامن فيقدموا لها الغذاء، ويتعهدوها بالنماء.