قيمة دائمة
بينما يبدو القدر الأكبر من قلقنا المعاصر بشأن الخصوصية نابعًا من القدرات الضارة للتكنولوجيا، فإن التوق إلى عالم خاص يسبق بزمن طويل العالم الجديد الشجاع الخاص بالبت والبايت، والمراقبة الإلكترونية، وكاميرات المراقبة التليفزيونية، وبالفعل، أثبت علماء الأنثروبولوجيا أن هناك رغبة شبه عالمية في الخصوصية الفردية والجماعية في المجتمعات البدائية، وأن هذه الرغبة تنعكس على المعايير الاجتماعية اللائقة، علاوة على ذلك، فنحن لسنا الوحيدين الذين يلتمسون مأوى من بقية الحشد أو الجماعة؛ فالحيوانات أيضًا تحتاج إلى الخصوصية.
ما الخصوصية؟
الخصوصية والحيوانات
يحب الإنسان أن يعتقد أن رغبته في الخصوصية هي رغبة بشرية مميزة، جزء من احتياجاته الأخلاقية والفكرية والفنية الفريدة، ومع ذلك فالدراسات الخاصة بالسلوك الحيواني والمؤسسات الاجتماعية تشير إلى أن حاجة الإنسان إلى الخصوصية ربما تكون متأصلة في أصوله الحيوانية، وأن البشر والحيوانات يتشاركون آليات أساسية متعددة للمطالبة بالخصوصية بين أقرانهم … بل إن الدراسات الخاصة بالإقليمية قد حطمت الفكرة الرومانسية التي تقول إنه عندما تغني طيور أبو الحناء أو تزعق القرود، فإن مدعاة ذلك هو فقط «الابتهاج الحيواني بالحياة»، في الواقع، عادة ما يكون ذلك صرخة متحدية من أجل الخصوصية … وأحد الاكتشافات الأساسية للدراسات الحيوانية يتمثل في أن جميع الحيوانات تقريبًا تلتمس فترات من الانعزال الفردي أو الحميمية وسط مجموعة صغيرة … وكفاح الحيوان من أجل تحقيق التوازن بين الخصوصية والمشاركة يعبر عن واحدة من العمليات الأساسية لحياة الحيوان، ومن هذا المنطلق، فإن السعي وراء الخصوصية غير مقصور على الإنسان فقط، ولكنه ينشأ في العمليات البيولوجية والاجتماعية للحياة بأكملها.
على أي حال، يبدو واضحًا أنه في جوهر اهتمامنا بحماية الخصوصية يكمن تصور عن علاقة الفرد بالمجتمع، وما إن نقر بالفصل بين النطاق العام والخاص، فإننا نتخيل مجتمعًا لا يكون فيه هذا التقسيم منطقيًّا وحسب، وإنما يكون بمنزلة هيكل مؤسسي يجعل من الممكن خلق قيمة لنطاق من هذا النوع، بعبارة أخرى، إن التسليم بوجود النطاق «الخاص»، يقتضي ضمنًا وجود النطاق «العام».
خلال القرن الماضي أو نحو ذلك تعرضت المشاركة في النطاق العام — في المجتمع — لعملية تآكل منتظمة، فنحن الآن أكثر تمركزًا حول الذات من ذي قبل، وكما يشرح عالم الاجتماع ريتشارد سينيت باستفاضة، فإن انشغالنا النفسي ما بعد الحداثة بأن نكون «متواصلين مع» مشاعرنا يقوض احتمالات ظهور مجتمع سياسي أصيل، والمفارقة هي أن الحميمية المفرطة قد دمرت تلك الإمكانية: «كلما اقترب الناس بعضهم من بعض، أصبحت علاقاتهم أقل اجتماعية، وأكثر إيلامًا، وأكثر عنفًا.»
في الشعور القديم، كانت السمة الخاصة للخصوصية، كما تشير الكلمة ذاتها، في غاية الأهمية؛ فالكلمة كانت تعني حرفيًّا حالة يكون فيها المرء محرومًا من شيء ما، بل حتى من قدراته الأكثر سموًّا وإنسانية، فالإنسان الذي يعيش حياة خاصة فقط، والذي هو أشبه بعبد ليس مسموحًا له بدخول المجال العام، أو أشبه بشخص همجي اختار ألا ينشئ مثل هذا المجال، لم يكن إنسانًا كاملًا.
ولا يستطيع المرء أن يتبين المراحل الأولية للاعتراف بالخصوصية كنطاق من نطاقات الحميمية إلا في أواخر عصر الإمبراطورية الرومانية.
وكما هو متوقع، فإن المجتمعات القديمة والبدائية تظهر مواقف متباينة تجاه الخصوصية، ففي دراسته الرائدة «حقوق الخصوصية: الأسس الأخلاقية والقانونية»، بحث بارينجتون مور وضع الخصوصية في عدد من المجتمعات الأولية، بما فيها اليونان القديمة، والمجتمع اليهودي كما ظهر في العهد القديم، والصين القديمة، في حالة الصين، يوضح مور كيف أن التمييز الكونفوشيوسي بين المجالات المنفصلة للدولة (المجال العام) والعائلة (المجال الخاص)، إلى جانب النصوص المبكرة عن الغزل، والعائلة، والصداقة، قد تمخضت عن حقوق ضعيفة في الخصوصية، وعلى الجانب الآخر، وفرت أثينا بالقرن الرابع قبل الميلاد حماية أقوى لحقوق الخصوصية، وخلص مور في النهاية إلى أن خصوصية الاتصالات لا يمكن تحقيقها إلا في مجتمع معقد يتسم بتقاليد ليبرالية قوية.
ظهر فصلنا الحديث بين النطاقين العام والخاص نتيجة لحركتين توءمين في الفكر السياسي والقانوني، فظهور الدولة القومية ونظريات سيادة الدولة في القرنين السادس عشر والسابع عشر قد تولد عنه مفهوم المجال العام الواضح، وعلى الجانب الآخر، فإن تمييز نطاق خاص متحرر من انتهاكات الدولة قد ظهر كنوع من الاستجابة لادعاءات النظم الملكية، ومن بعدها البرلمانات، بهدف امتلاك القوى المطلقة على إصدار القوانين، بعبارة أخرى، يعتبر ظهور الدولة العصرية، والقوانين المنظمة للأنشطة الاجتماعية والاقتصادية، والتعرف على المجال الخاص، متطلبات أساسية طبيعية لهذا الفصل بين المجالين.
ومع ذلك فالأدلة التاريخية تخبرنا فقط بجانب واحد من القصة، أما النماذج الاجتماعية فهي تعبر بقوة عن القيم الاجتماعية التي تستوعب هذا التحول، وإحدى التفرعات الاجتماعية الثنائية المفيدة هو التمييز بين الجيمنشافت والجيسلشافت: فالأول، بشكل عام، هو مجتمع قائم على المعايير والتقاليد المقبولة ضمنيًّا، ومنظم وفقًا للمنزلة الاجتماعية ولكن يمسك بأوصاله الحب، والواجب، والفهم المشترك والتوحد في الهدف، أما الجيسلشافت، على الجانب الآخر، فهو مجتمع يتنافس فيه أفراد ذوو مصالح شخصية من أجل الحصول على فائدة مادية شخصية داخل ما يسمى بالسوق الحرة.
وعادة ما يعبَّر عن هذا التمييز بالفرق بين الجماعة والمجتمع، فالجماعة تكاد لا تظهر أي تقسيم بين العام والخاص، في حين يظهر التقسيم في المجتمع جليًّا؛ فالقانون ينظم رسميًّا كل ما يمكن اعتباره شيئًا عامًّا، وهذا التفريق يوضح أيضًا النظام السياسي والاقتصادي.
كذلك يعد الفصل بين المجال العام والخاص معتقدًا محوريًّا من معتقدات الليبرالية، وبالفعل، «ربما يمكن القول إن الليبرالية، بصورة عامة، لطالما كانت جدالًا بخصوص أين تقع حدود المجال الخاص، وما المبادئ التي يجب أن ترسم تلك الحدود وفقًا لها، ومن أين ينشأ التداخل وكيف يمكن إيقافه.» ويعد المدى الذي قد يصل إليه القانون في التطفل الشرعي على المجال «الخاص» موضوعًا متكررًا، وخاصة في المذهب الليبرالي بالقرن التاسع عشر: «أحد الأهداف الرئيسية للفكر القانوني بالقرن التاسع عشر كان يتمثل في خلق فصل واضح بين القانون الدستوري، والجنائي، والتنظيمي — القانون العام — وقانون المعاملات الخاصة، والأضرار، والعقود، والملكية، والقانون التجاري.» ويظل السؤال الخاص بحدود القانون الجنائي في فرض «أخلاقيات خاصة» مربكًا لفلاسفة القانون والأخلاق.
السبب الوحيد الذي يجيز للبشر، بشكل فردي أو جماعي، أن يتدخلوا في حرية التصرف لأي عدد من أقرانهم هو حماية الذات، وذلك لأن الهدف الوحيد الذي من أجله يمكن استعمال القوة باستحقاق مع أي عضو من مجتمع متحضر، وضد إرادته الخاصة، هو منع وقوع ضرر على الآخرين، فمصلحته الشخصية، مادية كانت أو أخلاقية، ليست مبررًا كافيًا.
قيمة الخصوصية
لا يمكن أن نتصور أن تكون حياة بدون خصوصية، ولكن ما الأهداف التي تخدمها الخصوصية بالفعل؟ بالإضافة إلى أهميتها في نظرية الليبرالية الديمقراطية، فإن الخصوصية تدعم مجالًا للإبداع، والصحة النفسية، وقدرتنا على الحب، وتكوين العلاقات الاجتماعية، وتعزيز الثقة والحميمية والصداقة.
في أي يوم من الأيام، قد يتنقل المرء بين أدوار الأب الصارم، والزوج المحب، ومهرج حافلة الشركة، وفني مخرطة ماهر، ومندوب نقابة، وموظف متسكع عند مبرد المياه، ورئيس لجنة بمنظمة أمريكان ليجين، وكلها أدوار مختلفة من الناحية النفسية يتبناها المرء وهو ينتقل من مشهد لمشهد على خشبة مسرح الفردية … والخصوصية … تعطي الأفراد، بداية من عمال المصانع وانتهاءً بالرؤساء، فرصة لكي يضعوا أقنعتهم على الرف من أجل أن يستريحوا، فالاستمرار في وضعية «العمل» على الدوام قد يدمر الكائن البشري.
زلات خاصة بين المرء ونفسه
تتكون لغة ما وراء الكواليس من رفع الكلفة المتبادل، واتخاذ القرارات تعاونيًّا، والكلمات النابية، والتعليقات الجنسية الصريحة، والتصرفات العفوية، والتدخين، والملابس غير الرسمية الفجة، ووضعيات الجلوس والوقوف المتراخية، واستخدام اللهجات أو الكلمات العامية، والغمغمة والصياح، والدعابات البدنية و«المزاح»، وعدم مراعاة شعور الآخرين في أفعال بسيطة ولكن ذات مدلول، والاندماج مع الذات في أفعال بدنية صغيرة مثل الدندنة، والصفير، والمضغ، وقضم الأظافر، والتجشؤ، وإطلاق الريح والغازات.
معضلة الخصوصية
الخصوصية واضطهاد المرأة
عندما يقيد قانون الخصوصية التدخلات في الحميمية، فإنه يقيم حاجزًا أمام تغيير كيفية التحكم في هذه الحميمية … ولعله ليس من قبيل المصادفة أن الأشياء ذاتها التي تعتبرها الحركة الأنثوية ركيزة لإخضاع النساء — الموضع، والجسم؛ والعلاقات، والارتباط بالجنس الآخر؛ والأنشطة، والجماع والإنجاب؛ والمشاعر، والحميمية — تشكل جوهر ما يندرج تحت مظلة مذهب الخصوصية، ومن هذا المنظور، فإن المفهوم القانوني للخصوصية بإمكانه أن يحمي — بل قد حمى بالفعل — المكان الذي يمارس فيه الاعتداء البدني، واغتصاب الزوجات، وتسخير النساء في الأعمال المنزلية.
ثالثًا: اعتبار الخصوصية ملاذًا مقدسًا قد يضعف فرص اكتشاف المجرمين والإرهابيين والقبض عليهم، فاليوم تحتل التهديدات الأمنية موضع الصدارة في اهتمامات الناس، البعض يخشى أن الإفراط في الدفاع الحماسي عن الخصوصية قد يعيق سلطات تطبيق القانون عن القيام بمسئولياتها، رابعًا: قد تعرقل الخصوصية التدفق الحر للمعلومات، وتمنع الشفافية والصراحة، خامسًا: الخصوصية قد تعوق الكفاءة التجارية وتزيد من التكاليف، فالانشغال غير المستحق بالخصوصية قد يفسد عملية جمع المعلومات الشخصية الضرورية، ويؤخر اتخاذ القرارات التجارية، ومن ثم يقلل الإنتاجية.
سادسًا: بعض النقاد المجتمعيين يعتبرون الخصوصية حقًّا فرديًّا غير ملائم ولا يجب أن يسمح له بالتعدي على الحقوق الأخرى أو قيم المجتمع، وأخيرًا: هناك قضية قوية مثارة ضد الخصوصية من قبل أشخاص مثل القاضي والفقيه القانوني الأمريكي ريتشارد بوزنر الذي يحتج — من وجهة نظر اقتصادية — بأن امتناع أي فرد عن تقديم معلومات شخصية صادقة غير مداهنة قد يمثل نوعًا من الخداع، وهذا الانتقاد المهم يستحق فحصًا أكثر تدقيقًا.
عندما يصل الأمر لقيام الناس بإخفاء المعلومات الشخصية من أجل التضليل، فإن الحالة الاقتصادية لمنح الحماية القانونية لمثل هذه المعلومات ليست أفضل من الحالة الاقتصادية للسماح بالتحايل في عملية بيع السلع والبضائع.
لكن حتى لو استطاع المرء أن يدرك المنظور الاقتصادي، فلن يترتب على ذلك أنه سوف يقبل تقدير القيمة الاقتصادية لحجب المعلومات الشخصية، فالأفراد قد يكونون على استعداد لأن يقايضوا مصلحتهم في تقييد تداول تلك المعلومات في مقابل مصلحتهم المجتمعية في التدفق الحر لها، بعبارة أخرى، لم يظهر بوزنر، وربما يكون غير قادر على أن يظهر، أن حساباته للمصالح «المتنافسة» هي بالضرورة الحسابات الصحيحة، أو حتى الأكثر ترجيحًا.
يدعي بوزنر أيضًا أن الاعتبارات المتعلقة بكلفة العملية ربما تكون في غير مصلحة توفير الحماية القانونية للمعلومات الشخصية، فحينما تكون المعلومات مخزية ودقيقة، يكون هناك دافع اجتماعي لجعلها متاحة بشكل عام: فالمعلومات الصحيحة تسهل الاعتماد على الفرد الذي تخصه تلك المعلومات، وبناءً على ذلك يصبح من المفيد اجتماعيًّا أن نمنح المجتمع الحق في الاطلاع على تلك المعلومات بدلًا من السماح للفرد بإخفائها، وفي حالة المعلومات غير المخزية أو الكاذبة، فإن القيمة التي يجنيها الفرد من إخفائها تتخطى القيمة التي قد يجنيها المجتمع من الاطلاع عليها، فالمعلومات غير الصحيحة لا تدفع عملية اتخاذ القرار العقلانية إلى الأمام، ولهذا السبب فهي عديمة الفائدة.
معنى الخصوصية
حتى الآن، كنت أستخدم كلمة «الخصوصية» دون تمييز واضح لمعناها، وقد استخدمتها لوصف مجموعة متنوعة من الظروف أو الاهتمامات؛ من التماس ملاذ أو ملتجأ إلى حميمية علاقات القرابة المباشرة، ومن غير المستغرب مطلقًا أن فكرة الخصوصية ذاتها ليست متماسكة أو واضحة المعالم، وبينما هناك إجماع عام على أن حرمة خصوصيتنا تتعرض للانتهاك بفعل الهجمات الضارية على النطاق الخاص، التي تأخذ شكل المراقبة، واعتراض اتصالاتنا، وأنشطة مصوري المشاهير (الباباراتزي)، فإن الصورة تصبح أكثر ضبابية عندما تتزاحم شكاوى إضافية متنوعة تحت مظلة الخصوصية.
عدم الاكتراث بالخصوصية
تتطور تكنولوجيا المراقبة وتستمر عمليات التجسس اليومية في أغلب الأحيان دون ملاحظة، فقد مضى وقت طويل منذ أن تعود الناس على كاميرات الفيديو، وبطاقات الخصم، والرسائل الدعائية … وبالرغم من أن الأمر يزعج المواطن أحيانًا، فإنه يقدر كم أصبحت الحياة أكثر سهولة في عصر الكمبيوتر، فهو، بلا تردد، يتخلى عن أن يكون غير مراقب، وغير معروف، وغير متاح، وليس لديه إحساس بأن حريته الشخصية قد تقلصت، وحتى لا يرى أن هناك أمرًا يستحق أن يدافع عنه، وهو لا يعير لنطاقه الخاص إلا قدرًا قليلًا من الأهمية لا يجعله يرغب في الدفاع عنه على حساب الميزات الأخرى بحياته، إن الخصوصية ليست برنامجًا سياسيًّا يمكنه أن يكسب أصوات الناخبين … والناس يتركون خلفهم آثارًا أكثر مما يدركون، ولم يعد مسموحًا للمرء بأن ينسحب من المجتمع ويحيا دون إزعاج … ولا يستطيع الفرد أن يبدل أقنعته بشكل سري ويصبح شخصًا آخر، وليس باستطاعته أن يتنكر في هيئة أخرى أو أن يختفي عن الأنظار، فجسده يفحص بشكل دوري بأشعة إكس، ورحلته عبر دروب الحياة تُسجل، وتغيرات حياته تُوثق … لا شيء يُتغاضى عنه، أو يتجاهل، أو يُتخلص منه … وعندما يُسجل كل تصرف طائش، وكل خطأ، وكل أمر تافه، لا يوجد مجال للفعل العفوي، فكل شيء يفعله المرء يقيم ويحكم عليه، ولا شيء يهرب من أعين المراقبة، والماضي يخنق الحاضر … فإذا لم تُمحَ البيانات على فترات دورية، فإن الناس سيظلون قابعين داخل زنازين تاريخهم الخاص، ولكن يبدو أن هذه النظرة تخيف الجميع بشدة.
قيمة الخصوصية كقيمة عامة، أخلاقية، أو سياسية، أو اجتماعية، لا يمكن إنكارها، ولكن كلما اتسعت الفكرة ازداد غموضها، وسعيًا وراء الوضوح، هناك رأي جدلي بأنه في لب الخصوصية تكمن رغبة، بل ربما حاجة، إلى منع المعلومات التي تتعلق بنا من أن تكون معروفة للآخرين بدون رضانا، ولكن كما ذكرنا منذ قليل، ثمة قضايا أخرى دخلت بشكل متزايد إلى ساحة الخصوصية، وهذه المسألة واضحة على وجه الخصوص في الولايات المتحدة الأمريكية، فتعبير المحكمة العليا عن «الحقوق غير المحددة» كالخصوصية، الذي تستخدمه منذ أحكامها التاريخية في قضيتي «جريزولد» ضد «ولاية كونيتيكت» و«رو» ضد «وايد» (اللتين دعمتا الحق الدستوري في الخصوصية فيما يتعلق بوسائل منع الحمل، والإجهاض، على الترتيب) نتج عنه مساواة الخصوصية مع حرية اتخاذ القرارات الشخصية: الحرية في السعي وراء أنشطة متعددة، وإن كانت عادة تتم في مكان خاص، وبعبارة أخرى، صار مفهوم الخصوصية يشتمل على الحق في التحكم في الوصول إلى الأجساد واستخدامها، علاوة على ذلك، ما دامت القوانين المنظمة للإجهاض ولبعض الأفعال الجنسية المحددة تؤثر بعمق على الخصوصية الشخصية والسلطة الحكومية، فقد يكون من المفيد أن نميز الفئة التي تندمج بداخلها القدرة على اتخاذ قرارات شخصية، باسم «الخصوصية القراراتية».
كذلك فقد نتج عن اختراقات المنازل، أو المكاتب، أو «الأماكن الخاصة» فكرة «خصوصية الموقع» — وهي عبارة فجة — تصور هذه الخصيصة المتعلقة بالخصوصية التي تجتاحها التعديات، العلنية أو الخفية، على النطاق الشخصي.
هل من تعريف للخصوصية؟
يبقى التعريف المقبول للخصوصية أمرًا شديد المراوغة، وفكرة البروفيسور آلان ويستن الشاملة والمؤثرة عن الخصوصية تصورها على أنها مطالبة بحق: «مطالبة من أفراد، أو مجموعات، أو مؤسسات، بحق أن يقرروا بأنفسهم متى، وكيف، وإلى أي مدى يتم توصيل المعلومات المتعلقة بهم إلى الآخرين.» واعتبار الخصوصية مطالبة بحق (أو بالأحرى حق أصيل) لا يسلم جدلًا بقيمة الخصوصية وحسب، بل إنه يفشل في تحديد محتواها، وفضلًا عن ذلك، سوف يتضمن هذا التعريف استخدام أو كتمان أي معلومة بخصوص أحد الأفراد، ومن الممكن أن يوجه نقد مشابه إلى التصورات التي تعتبر الخصوصية «مجالًا من الحياة» أو حالة نفسية.
مع ذلك تعريف ويستن للخصوصية كان أكثر تأثيرًا فيما يتعلق بوصفه للخصوصية من حيث مدى «التحكم» الذي يتمتع به الفرد في المعلومات المتعلقة بشخصه، ولكي يتساوى التحكم في المعلومات بالخصوصية، فلا بد أن يقال إن الفرد قد خسر خصوصيته إذا مُنع من ممارسة هذا التحكم، حتى لو كان هذا الفرد غير قادر على كشف المعلومات الشخصية، وهذا معناه أنه يوجد افتراض مسبق لقيمة الخصوصية.
وبالمثل لو أنني كشفت، طواعية وبإدراك كامل، عن معلومات شخصية، فإنني بهذا الشكل لا أفقد الخصوصية لأنني أمارس — ولست أتنازل عن — ذلك التحكم، ولكن هذا الإحساس بالتحكم لا يصف الخصوصية بدقة؛ لأنه على الرغم من أنه قد يكون لديَّ تحكم فيما إذا كنت سأكشف تلك المعلومات أم لا، فربما يمكن للآخرين الحصول عليها بطرق أخرى، وإذا كان المقصود هنا هو المعنى الأقوى من التحكم (أي إن الكشف عن المعلومات، ولو طواعية، يشكل فقدانًا للتحكم؛ لأنني لم أعد قادرًا على منع نشر تلك المعلومات من قبل الآخرين)، فإنه يصف الفقد «المحتمل»، وليس الفعلي، للخصوصية.
ومن ثم فأنا قد لا أجذب أي اهتمام من الآخرين، وهكذا فإن خصوصيتي سوف تتلقى حماية، سواء رغبت في ذلك أم لا! ثمة فارق بين تحكمي في تدفق المعلومات الخاصة بي، وبين علم الآخرين بي في واقع الأمر، ومن أجل أن أحدد هل هذا التحكم يحمي في الواقع خصوصيتي، وفقًا لهذه الفرضية، فمن الضروري أن أعلم أيضًا، على سبيل المثال، هل متلقي هذه المعلومة محكوم بمعايير مقيدة أم لا.
علاوة على ذلك، إذا اعْتُبرت الخصوصية جانبًا من تحكم واسع الطيف (أو حكم ذاتي)، فمن المفترض أن الأمر الذي يمثل موضوعًا للمناقشة هو حريتي في اختيار الخصوصية، ولكن كما أوضحنا منذ قليل، فإن التعريف المبني على التحكم يصبح من هذا المنطلق متعلقًا بسؤال أي الخيارات تتخذ وليس الطريقة التي تمارس من خلالها تلك الخيارات، بعبارة أخرى، إنه تعريف يضع افتراضًا مسبقًا لقيمة الخصوصية.
وعلى ضوء هذه الإشكاليات، لعل الإجابة تكمن في محاولة وصف السمات المميزة للخصوصية، ولكن هنا أيضًا تظهر اختلافات جديرة بالاعتبار، يوجد وجهة نظر تقول إن الخصوصية تتكون من «إمكانية الوصول المحدودة»، وهي تجمع من ثلاثة عناصر متصلة ولكن مستقلة بذاتها؛ «السرية»: المعلومات المعروفة عن فرد ما؛ «الغفلية»: الاهتمام الموجه إلى فرد ما؛ «العزلة»: الوصول المادي إلى فرد ما.
ووفقًا لهذا الرأي، فإن فقدان الخصوصية — كحالة متمايزة عن انتهاك حق الخصوصية — تحدث عندما يحصل الآخرون على معلومات عن الفرد، أو يبدون اهتمامًا بذلك الفرد، أو يكتسبون وصولًا ماديًّا إليه، والمزايا المزعومة لهذه المقاربة هي؛ أولًا: أنها محايدة، وتسهل تعريفًا موضوعيًّا لفقدان الخصوصية، وثانيًا: أنها تظهر بوضوح تماسك الخصوصية كقيمة من القيم، وثالثًا: أنها تشير إلى فائدة مفهوم الخصوصية في السياق القانوني (إذ إنها تحدد الحوادث التي تستدعي الحماية القانونية)، ورابعًا: أنها تتضمن الاختراقات «التقليدية» للخصوصية، وتستبعد تلك المسائل المذكورة بالأعلى، التي على الرغم من أنه كثيرًا ما يفترض الناس أنها مسائل تتعلق بالخصوصية، يكون من الأفضل اعتبارها قضايا أخلاقية أو قانونية في جوهرها، (الضوضاء، والروائح، وحظر الإجهاض ووسائل منع الحمل، والشذوذ، وهكذا …)
لكن حتى هذا التحليل ينطوي على صعوبات، على وجه الخصوص، لكي يتحاشى هذا التحليل وضع افتراض مسبق لقيمة الخصوصية، فإنه يرفض التعريفات التي تقيد نفسها ﺑ «جودة» المعلومات التي تُفشى، وبهذا فإن هذا التحليل يستبعد الرأي القائل إنه لكي تشكل جانبًا من الخصوصية، لا بد أن تكون المعلومات المعرضة للإفشاء «خاصة»؛ أي أن تكون شخصية للغاية أو مرتبطة بهوية الفرد، ولو أن فقدان الخصوصية يقع حينما تصبح أي معلومة بخصوص فرد ما معروفة (عنصر السرية)، لصار مفهوم الخصوصية هشًّا للغاية.
إنه لنوع من التشويه أن توصف كل حالة من حالات نشر معلومات تخص أحد الأفراد بأنها فقدان للخصوصية، ومع ذلك بقدر ما تكون الخصوصية مرتبطة بالمعلومات أو المعرفة بشأن الفرد، فإن هذا التحليل يبدو حتميًّا، بعبارة أخرى، عندما يتعلق الأمر بمسألة المعلومات الخاصة بفرد ما، لا بد من وجود عامل تقييد أو تحكم، ويقال إن العامل الأكثر قبولًا هو أن تكون المعلومات «شخصية».
والادعاء بأنه متى كان الفرد موضعًا للاهتمام أو متى اكتسب أحدهم إمكانية الوصول إليه فإنه بالضرورة يفقد خصوصيته هو مجددًا تجريدٌ لاهتمامنا بالخصوصية لقدر كبير من معناه، فتركيز الانتباه عليك أو كونك عرضة لاختراقات تطفلية على عزلتك هي أشياء مستهجنة في حد ذاتها، ولكن اهتمامنا بخصوصية الفرد في هذه الظروف يكون أقوى عندما يكون الفرد منخرطًا في أنشطة عادة ما نعتبرها خاصة، فالشخص المتلصص من المرجح أن يتحدى تصورنا لما هو «خاص» أكثر من شخص يتبعنا علانية.
أحيانًا يجادل البعض بأنه من خلال حماية القيم التي تشكل الدعامة الأساسية للخصوصية (حقوق الملكية، الكرامة الإنسانية، منع إيقاع الإجهاد العاطفي أو تعويض آثاره، إلى آخره)، فربما يكون بإمكاننا التخلي عن الحوار الأخلاقي والقانوني المرتبط بالخصوصية، ولو صح ذلك، فإنه سيضعف التمييز المفاهيمي للخصوصية، ثانيًا، حتى بين هؤلاء الذين ينكرون الطبيعة الاشتقاقية للخصوصية، هناك قدر محدود من الاتفاق فيما يتعلق بالسمات الرئيسية المحددة لها.
والأسوأ من ذلك هو أن الحجج بشأن معنى الخصوصية كثيرًا ما تُبنى على معطيات مختلفة من الأساس، ومن ثم حيثما توصف الخصوصية بأنها «حق» أصيل، لا ينضم لقضيتها كثير ممن يتعاملون مع الخصوصية على أنها «حالة»، فالحجة الأولى عادة ما تكون تصريحًا معياريًّا بخصوص الحاجة إلى الخصوصية (أيًّا كان تعريفها)، أما الحجة الثانية فهي فقط تصوغ تصريحًا وصفيًّا بشأن «الخصوصية»، علاوة على ذلك، تميل الادعاءات بشأن مرغوبية الخصوصية إلى الخلط بين قيمتها الوسيلية والمتأصلة؛ فالبعض يعتبر الخصوصية هدفًا في حد ذاتها، ويعتبرها آخرون وسيلة يمكن بواسطتها ضمان أهداف اجتماعية أخرى مثل الإبداع، أو الحب، أو التحرر العاطفي.
الخصوصية والمعلومات الشخصية
هل هناك طريقة أخرى؟ بدون تقويض لأهمية الخصوصية كقيمة أساسية، هل يمكن أن تكمن الإجابة في عزل القضايا التي تعطي مساحة لظهور الادعاءات الفردية؟ ليس هناك شك يذكر في أن الشكاوى الأصلية في مجال الخصوصية ارتبطت بما يسميه القانون الأمريكي «الإفصاح العام عن حقائق خاصة»، و«تطفل على عزلة الفرد، أو خلوته، أو شئونه الخاصة»، وحديثًا، أصبح جمع واستخدام البيانات الشخصية المحوسبة، والقضايا الأخرى المرتبطة بالمجتمع الإلكتروني، من الهموم الرئيسية للخصوصية.
يبدو من الواضح أن هذه الأسئلة — في جوهرها — تتشارك اهتمامًا بتقييد المدى الذي يتيح نشر الحقائق الخاصة بأحد الأفراد، أو التطفل عليها، أو إساءة استخدامها على التوالي، ولا يعد هذا إشارة إلى أن حالات محددة (على سبيل المثال، وجود المرء بمفرده) أو أنشطة معينة (مثل مراقبة الهواتف) لا يجب أن تصنف كخصوصية أو انتهاك للخصوصية، على التوالي.
بيع الخصوصية وشراؤها
أنت لا تعقد صفقة بخصوص معلومات شخصية أو خاصة، القانون لا يمنحك حق احتكار مقابل قيامك بنشر هذه الحقائق، هذا هو ما يميز الخصوصية: يجب أن يكون الأفراد قادرين على التحكم في المعلومات المتعلقة بهم، ويجب أن نكون متلهفين إلى مساعدتهم في حماية هذه المعلومات من خلال منحهم النظم والحقوق في أن يفعلوا ذلك، إننا نقدر أو نريد أمننا؛ ولذا فإن نظام الحكم الذي يمنحنا ذلك الأمن من خلال منحنا التحكم في المعلومات الخاصة هو نظام منسجم مع القيم العامة، وهو نظام يجب أن تسانده السلطات العامة … ولا شيء في نظامي يمكن أن يمنح الأفراد التحكم الكامل أو النهائي في أنواع البيانات التي يستطيعون بيعها، أو أنواع الخصوصية التي يستطيعون شراءها، ونظام «بي ٣ بي» سوف يُمكِّن من حيث المبدأ من التحكم في التدفق الصاعد لحقوق الخصوصية وكذلك التحكم الفردي … ولا يوجد سبب يجعل هذا النظام مضطرًّا لحماية كل أنواع البيانات الخاصة … فقد يكون هناك حقائق تتعلق بك ولا يسمح لك بإخفائها، والأكثر أهمية أنه قد يكون هناك ادعاءات بخصوص ذاتك لا يسمح لك بترديدها («أنا محامٍ»، أو «اتصل بي، أنا طبيب»)، لا يجب أن يسمح لك بالانخراط في التحايل أو أن تسبب الضرر للآخرين.
لحظات مناهضة للخصوصية
يبدو أن العقد الأخير قد ولَّد أكثر من نصيبه الطبيعي مما يمكن أن نطلق عليه «لحظات مناهضة للخصوصية»، وهي حالات مزاجية في الرأي العام تتسم بالاستعداد لترك المزيد والمزيد من البيانات الشخصية تنسل خلسة من قبضة التحكم الفردي، وقد كانت صدمة الإرهاب الجماعي في أوروبا والولايات المتحدة إحدى القوى الدافعة لتلك اللحظات المزاجية، ولكنها ليست الوحيدة، ولا يبدو أن السنوات العشر الأخيرة تمخضت عن المزيد من اللحظات مثل فضيحة ووترجيت أو الثورة ضد المطالب المفرطة لإحصاءات تعداد السكان في ألمانيا، وهي مواقف درامية شحذت ردود الأفعال العامة القوية ضد انتهاك الخصوصية، وعززت المؤسسات والممارسات المبنية على ردود الأفعال هذه.
بطبيعة الحال، قد تكون جان أكثر ميلًا لإفشاء معلومات خاصة إلى محللها النفسي أو إلى صديق مقرب منها أو إلى صاحب عملها أو شريكها، واعتراضها على كشف هذه المعلومات بواسطة إحدى الصحف من المتوقع أن يكون أكثر قوة، ولكن المعلومات تظل «شخصية» في السياقات الثلاثة، وما يتغير هو مدى استعدادها للسماح بأن تصبح هذه المعلومات معروفة أو أن تستخدم، وقد يكون منافيًا للمنطق أن نصف المعلومات في السياق الأول (المحلل النفسي) بأنها «ليست خاصة على الإطلاق» أو حتى «ليست خاصة للغاية»، ومن المؤكد أننا نرغب في أن نقول إن الطبيب النفسي ينصت إلى حقائق «شخصية» تناقش، وإذا حدث وسُجلت المحادثة بطريقة سرية أو إذا استدعي الطبيب النفسي لكي يشهد في المحكمة على شذوذ مريضه أو ارتكابه للخيانة الزوجية، حينها يجب أن نقول إن «معلومات شخصية» سُجلت أو كشفت، لقد تغير السياق تغيرًا واضحًا، ولكنه يؤثر على الدرجة التي يصبح من المعقول عندها أن نتوقع اعتراض الفرد على المعلومات التي تستخدم أو تنشر، وليس «جودة» المعلومات نفسها.
لذا لا بد لأي تعريف ﻟ «المعلومات الشخصية» أن يتضمن كلا العنصرين، فلا بد أن يشير إلى «جودة» المعلومات وإلى «التوقعات المعقولة من الفرد فيما يتعلق باستخدام تلك المعلومات»، فالعنصر الأول يرتبط ارتباطًا وثيقًا بالعنصر الثاني، بعبارة أخرى، مفهوم «المعلومات الشخصية» في هذا السياق مفهوم وصفي ومعياري في الوقت ذاته.
تتضمن المعلومات الشخصية تلك الحقائق، أو الاتصالات، أو الآراء التي تتعلق بالفرد التي سيكون من المعقول أن نتوقع منه أن يعتبرها حميمية أو حساسة، ولذا يرغب في الاحتفاظ بها، أو على الأقل يقيد جمعها، واستخدامها، أو تداولها، و«الحقائق» ليست بالطبع مقصورة على البيانات النصية، ولكنها تتضمن أيضًا نطاقًا واسعًا من المعلومات، بما فيها الصور؛ صورة الحمض النووي، وبقية البيانات الجينية والمقاييس الحيوية، مثل بصمات الأصابع، والتعرف على الهوية بواسطة الوجه والقزحية، والأنواع المتزايدة دومًا من المعلومات المتعلقة بنا التي تستطيع التكنولوجيا كشفها واستغلالها.
وضوح أكبر؟
ربما يصير هناك اعتراض فوري بأنه من خلال تأسيس فكرة المعلومات الشخصية على التحديد «الموضوعي» لتوقعات فرد ما، يصبح التعريف في الواقع معياريًّا على وجه الحصر، وبذلك يمنع التساؤلات المتعلقة بالمرغوبية — أو عدم المرغوبية — في حماية «المعلومات الشخصية»، ولكن أي محاولة لتصنيف المعلومات على أنها «شخصية»، أو «حساسة»، أو «حميمية» تنطوي على افتراض بأن تلك المعلومات تستحق معاملة خاصة.
وبقدر ضرورة تحديد المعلومات بالاستناد إلى معيار موضوعي، يكون من المحتم أن يعتمد التصنيف على ما يمكن أن ندعي شرعيًّا أنه أمر «شخصي»، والمعلومات التي من المعقول أن نرغب في الاحتفاظ بها هي فقط التي من المرجح — تحت أي اختبار — أن تكون محور تركيزنا، وخاصة إذا كنا نسعى إلى توفير الحماية الفعالة لها، والفرد الذي يعتبر المعلومات المتعلقة — لنقل مثلًا، بسيارته — معلومات شخصية، ولذا يسعى لإخفاء التفاصيل الخاصة بسعة محركها، سوف يجد صعوبة في إقناع أي شخص بأن وثائق تسجيل سيارته تشكل كشفًا ﻟ «معلومات شخصية»، وأي اختبار موضوعي لما هو «خاص» سوف يعمل بشكل طبيعي على استبعاد تلك الفئة من المعلومات.
ولكن الأمر يصبح أكثر صعوبة عندما يكون ادعاء الفرد مرتبطًا بمعلومات تؤثر على حياته الخاصة، فعلى سبيل المثال، لن يكون من غير المعقول أن يرغب فرد ما في منع كشف الحقائق المتعلقة بمحاكمته وإدانته بتهمة السرقة، وتطبيق التعريف المقترح للمعلومات الشخصية كاختبار من الدرجة الأولى لتحديد هل تلك المعلومات شخصية قد يشير إلى أن الادعاء شرعي، ولكن من المرجح أن يُبطل على أرضية أن تطبيق العدالة عملية مفتوحة وعامة، ومع ذلك فمرور الوقت قد يغير من طبيعة تلك الأحداث، وما كان يعتبر في وقت ما مسألة «عامة» قد يصبح من المعقول، بعد عدة سنوات، أن يعامل كمسألة خاصة.
وبالمثل نشر ما كان يمثل يومًا معلومات عامة جمعت من الصحف القديمة ربما يعتبر بعد عدة سنوات كشفًا عدوانيًّا لمعلومات شخصية، ولذا فلا يمكن التسليم بأن الاختبار الموضوعي يقطع الطريق على إحداث موازنة بين حق الفرد في — أو مطالبته ﺑ — الاحتفاظ بمعلوماته الشخصية لنفسه من ناحية، وبين المصلحة المتعارضة للمجتمع في حرية التعبير مثلًا من ناحية أخرى، فمن خلال الكشف الطوعي للمعلومات الشخصية أو الموافقة على استخدامها أو نشرها، فإن الفرد لا يتخلى عن مطالبته بأن يحتفظ بتحكم محدد في تلك المعلومات، فعلى سبيل المثال، ربما يسمح الفرد باستخدام المعلومات لغرض ما (مثل التشخيص الطبي)، ولكنه سيعترض عندما تستخدم في غرض آخر (كالتوظيف مثلًا).
وفيما يتعلق بالآراء التي تخص الفرد ويعبر عنها طرف ثالث — والتي يكون الفرد مدركًا لوجودها (مثل الإحالات المطلوبة لطلب توظيف) — سيكون من المعقول أن نتوقع أن يسمح الفرد بالوصول إلى تلك المواد فقط لهؤلاء المهتمين اهتمامًا مباشرًا بقرار توظيفه أو عدم توظيفه، وحينما لا يعلم الفرد بأن تقييمات قد أجريت بشأنه (كأن يوصف في قاعدة بيانات وكالة تصنيف ائتماني بأنه يمثل «مخاطرة سيئة») أو أن اتصالاته قد اعترضت أو سُجلت، فقد يكون من المعقول توقع اعتراضه على استخدام المعلومات أو كشفها (والاستحواذ الفعلي عليها، في حالة المراقبة الخفية)، وخاصة إذا كانت تلك المعلومات — فعليًّا أو احتماليًّا — مضللة أو غير دقيقة لو أنه أدرك وجودها.
صحيح أن أي معلومة قد تكون في حد ذاتها غير ضارة على الإطلاق، ولكن عندما تدمج مع معلومة أخرى غير ضارة بنفس القدر، فإن المعلومة تتحول إلى شيء خاص فعليًّا، إذن فعنوان الآنسة وونج متاح بشكل عام، وهو — في حد ذاته — لا يكاد يمثل معلومة «خاصة»، اربط بين ذلك العنوان وبين وظيفتها، على سبيل المثال، وسوف يحول ذلك الدمج البيانات إلى تفاصيل عرضة للاستغلال مما يولد لدى الفرد اهتمامًا شرعيًّا بإخفائها.
الفكرة الموضوعية للمعلومات الشخصية لا تهمل الحاجة إلى التفكير في السياق الكامل الذي تقع فيه تلك البيانات، وعند تقييم هل المعلومات المشار إليها تلبي المتطلبات الأولية «للخصوصية»، فإن الحقائق التي هي موضوع شكوى الفرد سوف تحتاج إلى أن تفحص «من كل جوانبها»، ومن غير المعقول للضحايا أن يعتبروا البيانات المتاحة بشكل علني (كأرقام الهواتف، والعناوين، وأرقام لوحات السيارات … إلخ) معلومات يرغبون في التحكم فيها أو الحيلولة دون كشفها أو تداولها، وبشكل عام، إذا أصبحت هذه البيانات حساسة — على سبيل المثال، من خلال ارتباطها ببيانات أخرى — عندها فقط قد تتجسد شكوى مبررة من جراء ذلك.
إن المعقولية لا تستبعد كلية قوة السمات والميول الفردية عندما يكون تأثيرها مرتبطًا بظروف الحالة، وكذلك لا يمكن لاختبار موضوعي أن ينكر أهمية تلك العناصر في تحديد هل من المعقول للفرد أن يعتبر المعلومات شخصية، فالبريطانيون، على سبيل المثال، مشهورون بخجلهم الشديد من الكشف عن قيمة رواتبهم، في حين أن الاسكندينافيين أقل منهم خجلًا بمراحل، ومن المحتم أن تؤثر العوامل الثقافية على الحكم بما إذا كان من المعقول أن نعتبر المعلومات شخصية أم لا، وهذا الأمر ينطبق بنفس القدر داخل أي مجتمع بعينه.
وفي جميع الأحوال، لا توجد معلومة — في حد ذاتها — شخصية، فالملف الطبي مجهول الاسم، وكشف الحساب البنكي، والكشف المثير عن علاقة جنسية، كلها أشياء غير ضارة حتى تُربط بأحد الأفراد، وعندما يُكشف عن هوية صاحب المعلومة عندها فقط تصبح المعلومة شخصية، وهذا الأمر ينطبق أيضًا عندما نعبر هذا الحد؛ فما يعد الآن معلومة شخصية لن يحظى بالحماية إلا عندما يفي بشروط اختبار موضوعي، ولكن هذا الأمر لا يحدث في فراغ مفاهيمي أو اجتماعي، وإنما لا بد أن يقيم من خلال الاستناد إلى شروط محددة.
على الرغم من الاختلاف على معنى، ونطاق، وحدود الخصوصية، لا يوجد إلا نزر من الشك فيما يخص أهميتها والتهديدات المتعلقة بالمحافظة عليها، فقليل هم من يشكون في ضرورة إيقاف تآكل تلك القيمة الأساسية، والفصل التالي يتأمل الإقرار بالخصوصية كحق قانوني.