اليوم الأول (الجمعة ١٢ أبريل سنة ١٩٠٠)
– هل للقلم أن ينبري ويباري ويجري في ميادين القرطاس ويجاري؟
– لست أدري ولا المنجّم يدري.
– إذن دعني وشأني وكن طوع أمري، فإن أَمْلَى عليك الفؤاد، وحدَّثك الضمير وناجاك الوجدان، فسر بالبركة الربّانية على صفحات الطروس، واجْرِ باسم الله مجراك ومرساك حتى پاريس، وقبل أن تصل إلى وصف پاريز لا بأس أن تسير قليلًا في الدهليز وتمّثل الخاطر، وتنقل للقرّاء ما عندي من المشاعر، ولو أن الفائدة فيها قليلة، ولكن ما الحيلة وليس أمامك ما تصف غير الهواء والماء، ليس أمامك أرض حتى أقول الأرض والسماء.
بينما أنا أشاغل القلم وهو يشاغلني أثناء خروج السفينة من المينا؛ إذ لاحت مني التفاتة فرأيت ثلاثة من الطير، قد ظهرت من الصخر واقتفت أثرنا: نحن في الماء، وهي في الهواء.
حقَّقْت النظر وأرجعتُ إليها البصر، فإذا هي ثلاثة نوارس قد شغلتني عن نفسي … وعن القلم.
– أتدرى ما هي النوارس؟
– ؟؟؟
– اعلم — وفقك الله — أن النوارس جمع تكسير واحدُه «نَوْرس»، وهو طائر بحري: له صوت كريه ولحم كريه ومنظر كريه، والله أعلم.
رأيت النوارس الثلاثة تحلق في الجو ولا تستعلي، تتقارب من الباخرة ولا تستدني، تنشر أجنحتها في الهواء وتلبث ساكنة بلا حراك، كأنها معلقة في القبَّة الزرقاء بأسلاك يا لها من أسلاك: أسلاك تحملها الأملاك، فلا تراها العيون ولا تحوم حولها الظنون، والطير مع هذا السكون — الظاهر — تتبع الباخرة في سرعتها بحركة خفيفة تصدر من رأسها، فيا لهذا الطائر الصغير يتابع الباخرة في المسير. لعمري إن اثنين منها عبارة عن عائلة قائمة بنفسها؛ لاقتراب أحدهما من الآخر، وتحاورهما مع تجاورهما، واصطحابهما مع اقترابهما.
أما الثالث فلا أدري وجه اقترابه منهما! أهو رابطة القرابة أو حق من حقوق الارتفاق؟ ربما كان دخيلًا أو خليلًا، وعلى كل حال، فإن الطيور على أشكالها تقع.
ذلك لأنه كان يطير بعيدًا عنهما بمسافة لا تزيد ولا تنقص حتى إذا رآهما انقضَّا على غنيمة في جوف الماء، وقف متربصًا في مكانه وبقي لهما بالمرصاد، فإذا قضيا لبانتهما في الماء وعادا للأبصار حام حولهما: كأنه متحكك أو متجسس متلصص، أما إذا سنحت له الفرصة في سمكة فقلَّ أن ينتهزها: كأنما هو يسعى لغاية لست أدركها.
ومهما كان الأمر، فقد بقيت النوارس تتلاعب في الهواء، وما أعجب منظر الواحد منها: يحلق في الجو ويحملق بالعين، وإذا مال بجناحه قليلًا هوى جسمه إلى الماء، فيطوف عليه طافيًا حتى يقضي وطره، ثم يعود إلى طبقات العلاء فيتهادى ذات اليمين وذات الشمال، ولكنه مع كل ذلك ملازم للأدب والكمال، فلا يعلو عن «الصواري» والأدقال في أي حال.
بَقِيتُ ألاحظ النوارس وهي كأنها تلحظني حتى تجسَّم وهمي وظني: فتخيلت أنها حمام الزاجل قد أتت لي ببعض الرسائل، فتلهَّيْت بالنظر إليها عن انقباض كنت أجده في نفسي وضيق استولى على صدري واضطراب لَازَمَ فكري.
وأعلم من نفسي ويشهد الله أن هذا الاكتئاب لم يكن مصدره فراق الأوطان والأصحاب؛ بل كنت بعيدًا عن معاناة هذه اللوعة؛ لأن هذه المرة ليست أول غربة، فقد بارحت مصر في سنة ١٨٩٢ ثم في سنة ١٨٩٤ وهذه هي الثالثة.
أما الشوق والفراق والبحر والماءُ، فقد كتبت عنها بعض الشيء في المرة الأولى حينما كنت أبعث من أوروبا بالرسائل المعروفة ﺑ «السفر إلى المؤتمر». فلم أجد في نفسي اليوم حاجة للضرب على هذه النغمة؛ إذ قد طالما نقَّر عليها أرباب الأقلام، وانشَحَذتْ في تنويعها وتجنيسها القرائح والأفهام.
وقد طبع الباري هذا المخلوق الضعيف القويّ، على حب الأَثَرَة والميل للأنانية، ولذلك لم أتعدَّ الناموس العام؛ فخصصت سفرتي الثانية لنفسي ولشخصي.
أما اليوم فقد قضى عليَّ واجب الجنسية والوطنية أن أخدم الناطقين بالضاد في هذه الرحلة الثالثة، ومن حسن الحظ حصولها في أثناء المعرض العام، وهكذا يكون العهد بيني وبينهم: عام لي وعام لهم، فمرّةً أُتعبهم وأُتعب نفسي، ومرّةً أروح بشرط أن أريح وأستريح.
أخذت الآن أسائل نفسي عن سبب الكآبة وموجب الانقباض، لعل السبب أن السفر هو في يوم الجمعة، وزيادة على ذلك في يوم ١٣.
سحقًا لهذا التشاؤم المزدوج وتعسًا لهذا النحس المثنَّى.
نعم إن المشارقة يعتبرون يوم الجمعة من أيام النحس فيمتنعون فيه عن أعمال كثيرة: أخصها السفر … فما الذي اضطرني لمبارحة القاهرة إلى الإسكندرية ومغادرة هذه إلى مارسيليا (أعني ركوب باخرة البر، وماخرة البحر) وكل ذلك في يوم الجمعة …؟! الله أكبر من هذه الجرأة!!!
ألم يلح عليّ كثيرون من ذوي ودِّي وقُربايَ بتأخير السفر ليوم السبت أو أي يوم آخر؟ فلما علموا بأن الباخرة ليست مثل وابور البر في القيام كل يوم وأنها لا تنتظرني، أشاروا باختيار باخرة أخرى، فكان جوابي: أن شركة الميساچيرى ماريتيم أرادت أن تعاكس العكوس وتعاند النحوس، وقررت سفر بواخرها في أيام الجمعة دون سواها، فأشاروا عليَّ بالتوجه عن طريق آخر إلى مينا أخرى على باخرة شركة ثانية، ولكن ماذا ينفع الحذر من القدر؟ وقد سبق السيف العذل؛ إذ كنت قطعت التذكرة ونَقَدْتُ الثمن …
أما نحس العدد ١٣ عند الإفرنج فأشهر من أن يذكر، ولا حاجة لبيانه سوى أن عقلاءهم مهما تعالوا، وفضلاءهم مهما ارتَقَوْا، لا يزالون يتوجسون شرًّا منه، ويتوقعون السوء فيه، ولذلك تراهم يتوقَّوْنه بكل الوسائط، فما ظنك بالسوقة والأوساط؟!
ما هذا الإقدام أيُجمع الشرق والغرب على التشاؤم من السفر في مثل هذه الظروف وأنا لست مضطرًّا، فما بالي أتجشّم هذا المركب الخشن؟
وبينما أنا غارق في بحر هذا الفكر المختلط، والباخرة ماخرة في البحر الأبيض المتوسط، وإذا بتسابيح من السماء، ونغمات في الفضاء، وزفرات من صميم الماء، وخفقان على أجنحة الهواء، تقول كلها بلسان واحد: «لا تثريب عليك اليوم دعْها سماوية تجري على قدر، إن الشؤم عند التشاؤم.» فسرّبت عني هذه الأفكار، وتركت المقادير تجري في أعِنَّتها.