اليوم الثاني (السبت ١٤ إبريل)
صفاء في البال وفي البحر، وراحة في الجسم وفي الفكر، منظر جميل ينشرح له الصدر.
هذه حالتي في اليوم الثاني.
تيقظتُ عند أذان الفجر. بل والحق يقال، عند صياح الديك؛ إذ أصبحتُ شتان شتان، وقد حيل بيني وبين الأذان لا بين العير والنزوان. أما سيد الدجاج، فها هو أراه بعيني، وهو أيضًا ينظرني. صعدت على سطح السفينة فلم أبصر سوى النوتية والملَّاحين، فرميت بالنظر إلى الجهات الخمس فما رأيت سوى ماء في ماء، وفوق رأسي سحاب يتبعه سحاب، حتى كأني (ولا تشبيه) مظلل بالغمام، وكانت الشمس قد أخذت في الإشراق، فأرسلت طلائعها في الآفاق، فخشيت من عبوس الجو، وزمجرة الريح، ووميض البرق، ودمدمة الرعد، ولذلك رضيت من الغنيمة بالإياب، وعدت أتعثَّر في أذيالي طالبًا النجاة من هول هذا الموقف.
غير أني في ساعة النزول لم أتمالك من إرسال نظرة خلفي، كأني أريد التحقق من نجاتي، فإذا بالنوارس الثلاث تخفق حول السفينة، كأن لها فيها نصيبًا أو غريمًا؛ فنزلت إلى مخدعي، وقلت في نفسي: «لا بد أن أشكوها إلى شركة البواخر في مارسيليا بالأصالة عن نفسي وبالنيابة عن سائر الركاب، فإن أنصفت. وإلا استأنفت الدعوى في پاريس، وعرضت الأمر على المعرض العام؛ لأنها لا بد أن تكون قضت ليلتها على أدقال الباخرة، بغير أجرة، ولو بنصف تذكرة.»
ولبثت في مضجعي حتى نادى لسان الحال: «ألا أيها النوام ويحكمو هبُّوا».
فأهرعوا كلهم، وهرولتُ خلفهم، ميمِّمين شطر قاعة الطعام، ثم صعدت إلى ظهر الوابور، ومعي بعض الأصحاب، من إفرنج وأعراب، كي نستنشق نسيم الصبا والصباح، وإذا بالنوارس كأنها تطلبنا بتركة أبيها، فنظرت إليها وأخذت أتوعدها وهي لا تبالي بتهديدي ولا بمقالي، حتى أرسل علينا المتفرد بالعدل سحابًا فيه طل بل وبل، فبقيت أتحمّله على أم رأسي حتى عرتني رِعدة وهِزة، فأصبحت كالعصفور بلله القطر، وأما الطيور فكانت في حرز حريز، كأنها تقول: «اللهم حوالينا ولا علينا.»
فعند ذلك لزمتُ الصمت والأدب، وقلت لنفسي: «دع الخلق للخالق.»