اليوم الرابع والعشرون (الاثنين ٢١ مايو سنة ١٩٠٠)
رجعت إلى باريس.
وأول شيء توجهتُ إليه هو المعرض. بالطبع! وإني أحمد الله إذ وجدته الآن قد قارب الكمال، وإن كانت الاحتفالات لا تزال تتوالى فيه بمناسبة افتتاح هذا القسم أو ذلك السرادق أو غيرهما من المعروضات.
وهل أنا في حاجة لتنبيه القارئ اللبيب إلى أنني أكتب هذه الرسائل بصفة سائح صادق يسطّر ما يرى ويخبر بما يشعر. لا دخل له في الدين ولا السياسة، ولا يد له في الأميال الخصوصية أو العمومية، إن رأى حسنة سجلها وبالغ في إظهارها والتنبيه إليها، حتى يترتب عليها في بلاده الأثر المحمود، وينتج عنها الغرض المطلوب، وإذا مرَّ على سيئة تشبَّه بالكرام فأغضى عنها وأغفل ذكرها، فإذا أشار إليها فإنما يكون بطرف خفي، وبعبارة قصيرة عسى أن يكون من ورائها مُزْدَجَر.
منظر عموم المعرض
صعد أبو مرة (إبليس اللعين) في بعض الأيام على جبل عالٍ، وكان يحمل زكيبة كبيرة أودع فيها منازل كثيرة، ودورًا متعددة. فبينما هو في الطريق انخرقت الزكيبة من نقل المباني التي فيها، والشيطان لا يدري، فصارت المنازل تتناثر منها وتتساقط في الطريق خلفه، حتى وصل إلى قمة الجبل، فاستشعر هنالك بما حصل فداخله غيظ شديد، فألقى بالزكيبة وبما فيها من المنزل فاستقرت في مكانها إلى الآن.
نعم، فإن الناظر إلى هذا المعرض يندهش وينذهل — ويحق له الاندهاش والانذهال — من مجموع هذا العمل واتساع نطاقه، ومن كثرة هاتيك العمائر وتنوّع أساليبها وطرازاتها. فقد اشتغلت فيه أمم الأرض كلها، وجمعوا تحائفهم وعجائبهم في هذه القصور الفخيمة، وتلك الجواسق التي تتجلى أمام العيون كأجمل ما يكون. وقد تسابقت الشعوب في إظهار مقدرتها وعظمتها، فقامت بينها الحرب العوان، ولكنها حرب أمان وسلام؛ إذ هي حرب التقدم والارتقاء.
وكأنما طافَ على هذه البقعة في پاريس طائف من السعالي أو مردة الجان، أو ملك من الملائكة الكرام، فضرب الأرض بأقدامه؛ فخرجت منها هذه المدينة المسحورة فتنة للعقول وعجبًا للأبصار؛ بل هي مدائن عجيبة أبرزها الإنسان الذي فاقت أعماله الآن خرافات أهل الطلاسم والأرصاد. كل واحدة تختال في أبهى حلل الجمال، وتمثل لنا عجائب خاصة بها، منفردة فيها مجتمعة بداخلها. وقد اجتهد أهل كل قرية في مجاراة الجيران، وإحراز قصب السبق في هذا المضمار، فأبدعوا وأغربوا في إنشاء العمائر وإقامة الآثار، ورفع العمدان ونحت الأنصاب، وزخرفة النقوش بباهي الأصباغ، وتزويق الجدران، بما لا يكاد يخطر على البال، كل ذلك مع العناية التامة بتنسيق الأزهار والأشجار، والإكثار من الرياحين في البساتين؛ ليجعلوها قرة للناظرين.
أول مرة قصدتُ المعرض، يَمّمت شطر الجهة التي فيها القسم المصري بالطبع.
ومن وراء هذا البرج قصر الماء، وعلى يمينه سراي الصنائع الكيماوية، وعلى يساره سراي الميكانيكا، وخلفه سراي الكهرباء، وعلى يمينها ويسارها سرادقات وجواسق عرضت فيها الأمم الأجنبية «القزانات» والمراجل وكل ما يتعلق بالوقود. وخلف هذه السراي بهو المهرجانات والاحتفالات الرسمية، وعلى يمين البهو ويساره، معروضات الأجانب في الزراعة والمواد الغذائية.
ويرى الإنسان على يمين البرج ويساره سلسلتين من العمائر الفخيمة والآثار الجليلة، وكلها تقضي بالدهشة والإعجاب.
وهذا خلاف العدد الكثير من الملاهي والمتفرجات، والتياترات التي لا تكاد تُحصى مثل البندقية في پاريس، سراي البصريات، مناظر البر، مناظر البحر، الطواف حول العالم، الجوسق السويسري، القصر المتلألئ بالأنوار وغير ذلك، ويرى في هذه الجهة «القبة السماوية» خارجة عن دائرة المعرض، وقد اشتهرت بانهيار قنطرتها المعلقة المشؤومة.
ويرى في نهاية الأفق وخارجًا عن حومة المعرض: تلك الأرجوحة الهائلة التي يسمونها «عجلة پاريس الكبرى»، ثم القرية المنقولة من بلاد سويسرا.
وبعد أن أمتعتُ النظر، وأطلت التفكير في هذه المشاهد التفتُّ خلفي.
رأيت منظرًا لا يقل عن السابق في البهاء والرواء والأخذ بالألباب، وإن كان يخالف في الأشكال والطرازات والأنواع.
رأيت قصر التروكاديرو في أجمل صورة وأبدع مثال، يحف به من اليمين واليسار، سلسلتان من العمائر والمباني، وكلها تخالف بعضها مخالفة تامة من حيث الهيئة والشكل والترتيب؛ لأنها عبارة عن دُورٍ متنوعة أقامتها أمم متعددة، قد دخلت من عهد قريب في ميدان الحضارة الحاضرة.
في هذا القسم مناظر يرتاح لها الخاطر، وفيه ما يدل على ابتداء مفارقة البداوة، وفيه ما يدل على حالة البقاء في طور السذاجة والبساطة؛ لأن هذه البقعة مخصَّصَة للمستعمرات وبعض الأمم الأجنبية الثانوية.
فالقسم الذي على اليسار مخصَّص للمستعمرات الفرنساوية، مثل الجزائر وتونس والسودان الفرنساوي والكونغو والسنكال والدهمي وساحل العاج والهند الصينية وغيرها، وفي هذا القسم ملاهٍ وملاعب وتياترات ومتفرّجات متعددة، مثل: الأندلس في أيام العرب، وتياترو القمبوج، والديوراما وغير ذلك.
وفي النهاية، حسن الختام؛ إذ يرى الناظر درة بديعة تزدان بها هذه البقعة، وهي محطّ الرِّحال وكعبة الزُّوَّار.
– أتدري ما هي هذه الدرة الجميلة الثمينة؟
– أظنك تشير بها إلى القسم المصري، فهذا الوصف لا يكاد يصدُق إلا عليه.
– نعم، «فهذا هو الرأي الصواب، والأمر الذي لا يعاب» إن شاء الله.
أقول الحق؛ إنني وقفت نحو ساعة كاملة فوق قنظرة يانا، وأنا أنظر إلى الأمام ثم إلى الخلف. وبعدها أحيل الطرف إلى اليمين ثم إلى اليسار، ثم أعيد الكَرَّة فأجد المكرّر أحلى، وبقيت هكذا باهتًا ساكتًا متحركًا ساكنًا، دائرًا واقفًا، حتى تولَّاني التعب وأنا لا أدري لمن أمنح إكليل الجمال، ولا على من أنعم بتاج الفخار، ولا لمن أحكم بقصبات السبق في هذا المضمار، وفي آخر الأمر أرحت نفسي، وقلت: الحكم لله الواحد القهار.