قنطرة إسكندر الثالث
نهر السين يشق پاريس نصفين، ولزيادة العمار وكثرة الاتصال قد وضع القوم عليه قناطر كثيرة، في أماكن عديدة بحيث يكاد يكون بين القنطرة والثانية مائة متر بالأكثر في المتوسط. وقد بلغ عددها إلى الآن ٢٥، ولا يُستبعد أنه يجيء يوم تتقارب فيه القناطر من بعضها حتى لا يبقى للنهر والملاحة، إلا منافس قليلة فيما بينها. وهذه القناطر مقامة في عصور مختلفة وبطرازات متنوعة.
•••
ولكن أحسنها وأمتنها هي القنطرة الجديدة المعروفة باسم قيصر الروس السالف، وذلك أن المهندسين تقدموا في فن سبك الحديد، ولذلك حاولوا كثيرًا تقليل عيون القناطر حتى لا تكون «بغالها» عقبة في طريق الملاحة، ولا مجلبةً للضرر والتّلف في أيام الفيضان، بسبب مقاومتها للتيار، وقد توصَّلوا لهذين الغرضين في هذه الأيام بأمريكا ثم بأوروبا، ولكنْ بقيت القناطر عبارة عن أقفاص هائلة من الحديد لا تحتوي على شيء من محاسن العمارة والبناء، ولا ترتاح لرؤيتها العيون. حتى جاءَت هذه القنطرة جامعةً بين المنفعة والجمال: إذ توفرت فيها المزايا المذكورة مع حسن المنظر وجمال المخبر ولطافة العمارة، فإنها ملقاة على النهر بلا سند ولا عمَد إلا على ضفتيه مباشرة، ولذلك فليس لها إلا «عين» واحدة، ولكنها كالعين التي تكرم من أجلها ألف عين.
وهذه القنطرة عريضة جدًّا (٤٠ مترًا) بحيث أصبحت تسمح بسهولة المرور من فوقها ومن تحتها. وقد تعب في صنعها المهندسون الميكانيكيون والمعماريون، ولكنهما فازا فوزًا عظيمًا بجعلها متناهية في الفخامة والضخامة والجلال، مع الرشاقة واللطافة والجمال، فجاء منظرها موافقًا لما حولها من العمائر والقصور.
نعم، توصّل المهندسون لاصطناعها من الحديد مع رونقته وزخرفته حتى أصبحت أعجوبة من أعاجيب المعرض، وستبقى كذلك إلى ما شاء الله. فإنها والحق يقال تخلب الأنظار، سواءٌ مَرَّ الإنسان في الزوارق من تحتها أو وقف عليها أو أرسل إليها رائد الطرف وهو بعيد عنها، فإنه يرى في هذه الحالة الأخيرة قوسًا هائلًا من الحدائد مُلقًّى على جانبي النهر بانحناء خفيف لا يكاد يذكر بالنسبة لطوله العظيم. ولذلك جاءت «طبلية» القنطر محاذية لمستوى السكَّتين المتواصلتين بواسطتها. ومع ذلك فقد توصّلوا لجعل هذا الانحناء الخفيف كافيًا لمرور البواخر في النهر كعادتها، فانظر إلى هذه الدقة وهذا الضبط في حساب «وتصميم» المهندسين. فقد خططوا كل ذلك بالقلم الرصاص على سطح القرطاس، ثم حفروا الأساس ووضعوا الجدران وسبكوا الحديد وركبوه مع بعضه فوق النهر، فجاء كما وصفوا أو كما رسموا من غير أن يختل بشعرة واحدة. ولذلك فالمسافة بين «مفتاح عقد» القنطرة وبين سطح الماء هي ٨ أمتار و٨ مليمترات في الأيام المعتادة، فإذا ارتفع سطح الماء في منتهى الفيضان كانت المسافة عبارة عن ٦٫٣٨ أمتار.
و«بغال» القنطرة معقودة من جانبي النهر، فيسير من تحتها طريقان بل قبوان تمر في أحدهما الآن عربات الأومنيبوس والترامواي التي تجرها الخيول أو البخار أو الكهرباء؛ لأن جادّتها المعتادة، قد دخلت في حومة المعرض العام، ومتى انتهى هذا السوق الكبير رجعت العربات لخطتها المعتادة، وبقي الطريقان تحت القنطرة لمرور الناس على الأقدام أو في عربات الركوب.
وأمام القنطرة رحبتان مستديرتان، إحداهما على اليمين والأخرى على اليسار. وأول ما يلاقيه الإنسان على الجانبين عند اقترابه من القنطرة من الضفتين هو هرم صغير من الصوان الوردي المصقول، فوقه أربعة مصابيح كبيرة. وهو قائم على نقطة الاتصال بين الرصيف والقنطرة، وبعده بقليل أسد متَّشح بوشاح من الأزهار والأثمار، وبجانبه طفل صغير يلاعبه ويداعبه، وكأنه واقف لحراسة السلّم الصاعد من حافة النهر إلى هذه القنطرة، وبعده قصار وزهريات من المرمر الناصع، منقوشة نقشًا بديعًا ويتلوها الصرح الهائل. فتكون الصروح أربعة مثل كل الزخارف التي أشرنا إليها. وفوق هذه الصروح أربعة تماثيل كبيرة من البرونز مموّهة بالذهب، وكلها رمزية تشير إلى شهرة الفنون وشهرة العلوم وشهرة الصناعة وشهرة التجارة.
وهذه الصروح عبارة عن عمدان مربعة السطوح، وزواياها مؤلّفة بانحناء لطيف يصعد من أسفلها إلى تيجانها، وعند قواعدها تماثيل كبيرة من الحجر تشير إلى فرنسا في عصور مجدها الأربعة.
أما درابزونات القنطرة فهي منقسمة بكتل كبيرة من الصخور الملساء تعلوها تماثيل صغيرة من البرونز على هيئة أطفال راكبين فوق وحوش البحر، وبينهم ثريّات بديعة ومصابيح أنيقة من البرونز المموّه بالذهب، تحيط بهما أطفال تمرح وتلعب مع الأسماك، أو ترقص حول الأنوار؛ تجمعهم مع بعضهم حبال من الأغصان قد تألّفت من أزهار البحار. وما أعجب منظر هذه القنطرة في النهار، فإذا أقبل الظلام كانت كشعلة من النار أو مشاعل من الأنوار.
وفي وسط القنطرة «خرطوش» مكتوب عليه هذه العبارة: قنطرة إسكندر الثالث. وهذه الجملة منقوشة أيضًا على الصروح الأربعة. وذلك تخليدًا لاسم القيصر السابق، واختاروا هذا الاسم إكرامًا لابنه نقولا الثاني قيصر الروسيا الحالي أثناء زيارته لپاريس على أثر التحالف الروسي الفرنساوي، وكان هو الواضع للحجر الأول فيها بقدوم من الذهب الخالص في حفلة جليلة بلغت النفقة عليها ٦٤ ألف فرنك. وكان ذلك في ٧ أكتوبر سنة ١٨٩٦.
أما القنطرة فقد بلغت أكلافها كلها ٧ مليونات فرنك منها مليون واحد لزخرفتها وزينتها.