ليالي الزينة والوقود
بعد أن فرغ الانتظار في انتظام الأنوار، تجلّت الكهرباء بين كتائب الظلماء، فخجلت كواكب السماء مما رأينا من بهاء السناء. فمن ذا الذي يتاح له وصف هاتيك المشاهد أو التعبير عما خالج الضمير، أمام هذه المناظر؟
العين ترى عجبًا، والقلب يزدهي طربًا، واللسان يتلعثم عيًّا، والبنان يضطرب عجزًا، والعقل يندهش، والفكر يحار، والإنسان كله انذهال في انذهال.
فلو بعث إسماعيل لوادي النيل، وعاد السعد لخدمته، والمجد لدولته، فازدانت له القاهرة بالأنوار والأضواء، وخفقت على نواصيها رايات العظمة والكبرياء، وتجلت بأجمل مجاليها في أحلى لياليها، ما كانت أمام العيون إلا كالنقطة في النون؛ بل جزء من مليون، مما حارت فيه الأنظار والأفهام، حينما انتظمت الزينة في هذا المعرض العام.
بل تصور بغداد وما كانت عليه بغداد في أيام بني العباس وخصوصًا واسطة عقدهم الفريد، هارون الرشيد. وافرض أن الشرق صافاه الزمان، فرجعت له سطوته وبهجته وأعاد الله دوره كما هي سنته، فاحتفلت أممه في دار السلام بهذا العصر الجديد، وهذا اليوم السعيد، احتفالًا لا يعادله احتفال، ولا يكاد يخطر على البال. فتأنقت في الاختراع، وتفنّنت في الإبداع، وكان لها مظهر أكبر ومنظر أفخر، يفوقان هواجس النفس وأضغاث الأحلام.
ثم ضاعفت هذا المنظر الموهوم مئات وآلاف من المرات، ثم كرر النظر بعين الخيال وضاعفه أيضًا إلى ما شاء الله: تتكوَّن أمام بصيرتك صورة طفيفة من منظر المعرض في ليالي الأنوار.
•••
الكهرباء: تتدفق كأنها سيول من الأنوار في المجاري والأنهار، في المسالك والشوارع بين المباني وفوق الأشجار، على صفحات الماء وفي كبد السماء. فتتعدد الأشباح في المجيء (و) الرواح.
ازدانت نحور القصور، بقلائد من النور: وأشرقت القباب والأبواب، وتمايست المآذن والأنصاب، واشتعلت المنائر في كبد الفضاء، واحترقت القناظر على وجه الماء: وكل ذلك نور في نور، بل نور على نور.
كنت في النهار أرى الفساقي والنوافير، والمساقط والبحرات، والجداول والأنهار، يتلاعب فيها الماء بين أبسطة الأعشاب ووقفت خمائل الأزهار: فإذا هي كلها الآن نار في نار، فيا لله من الكهرباء، جمعت بين الأضداد الأعداء!
وقفت على قنطرة بين نيران مستعرة، فإذا بضفتي النهر أسلاك متوازية من النضار، بل سلاسل متوالية من الضياء، وكلها تتعاكس وتتلاعب على صفحات الماء، فيتضاعف البهاء بلا انتهاء، ويمسي النهر عبارة عن تيار من النار، يراه الإنسان فيداخله الفَرَق والانبهار، حتى كأن زوارق البخار قد اعتراها ما اعتراها فخافت واختفت وخفت صفيرها ونعيرها؛ فلست تبصر لها ظلًّا، ولست تسمع لها ركزًا!!! وكنت أينما أرسلت الأنظار أرى النار تلتهم النور والنور يلتحم بالنار، ونظرت فوق الصروح والبروج فإذا الأعلام والبنود تمور كلها بالنور، بلا خفقان في متألق الفضاء.
كان دخولي إلى المعرض في هذه الليلة البيضاء من البوابة الفخيمة فرأَيت ما رأيت، حتى لقد خطر على بالي أن هذا هو الغاية والنهاية. وقلت في نفسي: ليس في الإمكان أبدع مما كان إلى أن وصلت إلى قنطرة يانا، فوقفت عليها، وقد تضاءلت في نظري تلك المشاهد التي رأيتها كأكبر وأجمل ما يكون. رأيت عَلَمًا في رأسه نار، أستغفر الله وأستسمح طيف الخنساء. بل رأيت عَلَمًا كله نار في نار … رأيت برج إيفل عبارة عن أقواس هائلة من الضياء، ترتفع فوقها خطوط مستطيلة من الضياء، تعلوها حبال وأسلاك تكاد تخترق السماء وتصل إلى الملأ الأعلى، بل إلى أعلا العلاء. رأيته كسلسلة (دلاية) هائلة من النضار. قد ازدان بها نحر الأرض وصدرها، لتفاخر السماء وزُهرها، وتباهي السيارات بأسرها.
أما الحديد فلا يراه ذو البصر الحديد، وكأنما الأنوار معلقة (في) الفضاء بيد القدرة، فسبحان من خلق الإنسان ضعيفًا قويًّا، ومنحه ذلك الجوهر اللطيف الغير المحسوس، الذي يدرك كل شيء ولا يدرك نفسه، أليس العقل في الإنسان مثل الكهرباء في الوجود؟
نظرت خلفي إلى جهة التروكاديرو، فرأيت الفساقي ترسل رشاش الماء، بل ذرات الهباء، ممزوجة بأشعة الأنوار على أشكال أنيقة وألوان بديعة تسرُّ الناظرين. وهذه الأشكال والألوان تتغير من ثانية إلى أخرى، وتتسرّب على درجات طويلة عريضة، صاعدة في الهواء وهابطة إلى الأحواض، والناس أمامها صامتون باهتون، لا يدرون بماذا يعبرون عن هذا العجب العجاب، فلا تسمع من الواقفين والواقفات، إلا آه! تتبعها آهات!!!
عدت بالنظر إلى قصر الماء والكهرباء، فرأيت (في هذه الدنيا) ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر.
صعدت فوق برج إيڤل، فكنت كأني فوق سارية من النور، على سفينة من النور، سارية في بحر من النور، وأحسست في نفسي بالقصور عن وصف هذا المنظور.
هذا الذي رأيته صورته لك بقدر الإمكان، وقدر ما وسعه المقام، وقد شاهد المعرض غيري، من فرسان الأقلام، وأهل التصرف بمليح الكلام فحبَّذا لو جالوا وصالوا في هذا الميدان، وتفضلوا بزيادة التصوير والبيان، ففوق كل ذي علم عليم.