وليمة مشايخ البلاد
قال أحد فلاسفة اليونان: «الناس صنفان: فالأكثرون يأكلون ليعيشوا، والأقلون يعيشون ليأكلوا.» وعلى كل حال، فالطّعام هو قوام الأجسام. فلذلك ترى كافة أحوال ابن آدم تنتهي بالولائم.
وبمناسبة هذا المعرض دعت الحكومة الفرنساوية عُمَد البلاد ومشايخ القرى لولمية كبيرة في ٢٢ سبتمبر سنة ١٩٠٠، واختارت هذه اليوم لقيام أوّل جمهورية فيه لفرنسا، منذ مائة عام وثمانية أعوام. وكانت قد دعت في مثل هذا اليوم من سنة ١٨٨٩ في أثناء المعرض الماضي ١٥٠٠٠ رجل منهم. ولكن عددهم وصل في هذه السنة إلى ٢٢٩٩٥ شيخًا، مُدت لهم الموائد والأسمطة والخوانات، في خيام وصواوين وفسطاطات، ضربتها في ساحة بستان التويلري.
ولكي يتصور القارئ مقدار هذه الموائد نقول له: إنها لو صُفَّتْ متلاصقة بجانب بعضها لبلغ طولها سبعة كيلومترات، أي مثل المسافة بين محطة القاهرة ومحطة شبرا، بحيث اضطر القائمون بنظام الموائد لاستخدام التلفون والدراجات والسيارات (أي عربات الأتوموبيل المتحركة بقوة الكهرباء) في نقل الأوامر «وتشهيل» الطلبات، واستخدمت مائة وخمسين رجلًا مدة يومين كاملين … فقط في ترتيب «السُّفَر» ووضع لوازمها من الفوط والشوك والملاعق والسكاكين والصحون ونحوها. وبلغ عدد الطهاة ٣٠٠ رجل في ١٢ مطبخًا. وإذا أضفنا إلى الطباخين الأنفار المستخدمين بصفة «مرمتون» وخادمي الموائد وساقي الشراب؛ لتضاعف العدد عشر مرات، وصار ٣٠٠٠ إنسان.
فلا غرابة إذن في نزول هؤلاء المشائخ المتقبعين على الموائد، حتى لم يدعوا مجالًا لجائل ولا مأكلًا لآكل، وهذا بيان بعض ما استهلكه حضراتهم من الأصناف.
وقد يبالغ الإفرنج وكثير من المتفرنجين منا بتعيير الفلاحين وأهل الأرياف في بلادنا، ونحن نذكر ما أتاه هؤلاء المشائخ في بلاد المدنية والرّقة من أساليب التنطع. وإنما نسرد حادثة واحدة؛ وذلك أنهم كانوا يجلسون على الموائد بحسب المقاطعات والمديريات، ولكي لا يضلّوا السبيل في وقت البطون، ولا تضيع منهم العقول أمام المشروب والمأكول، وضعت على الموائد قواعد رشيقة من النحاس وفوقها بطاقة باسم المديرية أو المقاطعة؛ ليهتدوا بها في هذا الزحام الشديد؛ فلما أكلوا هنيئًا، وخصوصًا لَمَّا شربوا مريئًا، ودارت الخندريس بالرؤوس، ولعبت الشمول بالعقول، أخذوا هذه القواعد ببطاقاتها، ثم ثبتوها فوق قبعاتهم (برانيطهم)، وساروا صفوفًا في الشوارع يصيحون ويصخبون، ويتغنَّون ويترنمون، ويتمايلون ويترنحون، حتى دخلوا المعرض على هذا الأسلوب، وكان في مقدمة كل طائفة المديرون والمحافظون، بملابس التشريفة الكبرى، تزدان صدورهم بكل وسام ونشان، يحيط بها الوشاح المثلّث الألوان؛ فكانوا أعجوبة بل أضحوكة في المعرض العام.
•••
تمام!