اليوم الخامس (الثلاثاء ١٧ أبريل)
من ذا الذي قال: إن البحر له أمان؟ ومن ذا الذي غرَّه منه ظاهر الصفاء؟
ألا رحم الله صاحب نفح الطيب! حينما هاجر ديار الأندلس العزيزة قاصدًا ربوع مصر المحروسة، فقد أملى هذا البحر عليه:
بل أليس البحر كالدهر في الغدر؟ حبذا اليوم السعيد نستغني فيه عن هذا البحر وأهويته، بل أهوائه؛ إذ يعمّ العمران شمال إفريقية فنذهب أو أبناؤنا أو أحفادنا، أو أعقابنا بطريق السكة الحديدية من الإسكندرية إلى رأس السلوم، إلى برقة، إلى طرابلس، فتونس، فالجزائر، حتى نقف عند طنجة بالمغرب الأقصى. ومن هنالك نجتاز البوغاز مثل طارق بن زياد فتستقرُّ أقدامنا في أوروبا!!!
بيني وبين البحر الأبيض المتوسط قصة واقعية، بل قضية يا لها من قضية!
في اليوم الأول عند خروجنا من المينا، صفق لنا الهواء فرحًا واستبشارًا ولعب الماء، اختيالًا واستكبارًا. فتهادت بينهما السفين ترقص ذات الشمال وذات اليمين، وبعد قليل انتهى التشخيص والتمثيل، فعاد السكون إلى الكون، والسكينة إلى النفوس، والانشراح إلى الصدور.
وكان الأمر كذلك في اليوم الثاني والثالث، وأما اليوم الرابع فعليه منّي ألف تحية وسلام، استأنسنا في بكرته برؤية شواطئ إيطاليا عن يميننا وشواطئ صقلّية العزيزة عن يسارنا. وكانت الجزائر تتلو بعضها وتجلو نفسها، وقد تخللتها صخور جسام، دفعت بها قوة البركان إلى أعماق الماء، فبقيت قدمها في القاع ورأسها في الهواء.
أما البحر فكان سكونه لا يكاد يخطر على الأحلام، ولا في الأحلام … ما رأيت في عمري فسقية، في قاعة حرمية أكثر منه صفاءً واستواءً؛ بل كان مصقولًا كأنه المرآة، أو على التحقيق إن الصانع رآه فاحتذاه في صقل المرآة.
لا غرو أن برزت القافلة من أوكارها وسراديبها، واحتشدت كلها على سطح الباخرة تعجب من هذا الصفاء وذلك البهاء، وبلغ السرور فينا منتهاه، حتى قال بعضنا لبعض: هكذا يكون السفر يوم الجمعة ويوم ١٣ فحسَدَنا الدهر وحقق قول الشعر:
وما المانع من انتقال كهرباء الإصابة بالعين من السكان إلى المكان، وحدوث تأثيرها من أرضهم على مركبنا وبحرنا؟
قمت في فجر اليوم كعادتي لمشاهدة الشروق، فإذا في الجو سحائب متراكمة متتابعة متلاحمة، وكلما حاولت الشمس التخلص منها والظهور للأعين من ثلمة بينها انضمت صفوفها والتصقت ببعضها فتغيب الغزالة عن الأبصار، وعندئذ أرسل ملك الرياح بلاغه الأخير إلى ملك المياه فقامت الحرب على قدم وساق.
فنظرت إلى أقصى الأفق من جهة الغرب وإذا بالرشاش يتطاير من الماء والرذاذ يتساقط من السماء. ثم انجلى البخار، وبان عن جيوش من الهواء انقضت من السماء، فرأيت الماء فغر لها فاه وأسكنها إياه وأدخلها في معاه، ثم اضطرب اضطرابًا شديدًا، وأرغى وأزبد لاشتعال نار الحرب في جوفه، ولذلك لم نشاهد شيئًا سوى أن السفينة صارت تعلو على جبال فوق جبال، ثم تهبط إلى هاوية ليس لها قرار، ثم يصدمها الماءُ والهواءُ فتكاد الجبال تنطبق عليها، فيجأر أهلها بالدعاء إلى رب العلاء فيتداركهم بلطفه الخفي، ثم تصطف الأمواج، وتخفق رايات الرياح فتعود الحرب بشدة تكاد تكون فيها الطامة الكبرى، وانقضاء الحياة الدنيا.
مسكينة الباخرة ومسكين من فيها! كأنها قفص تلاعبت به الزعازع وفيه أطيار لا تستطيع إلى النجاة سبيلًا، فنحن محبوسون فيها وهي رهن الماء والهواء، ثم تعالى الموج حتى بلغ الأوج ووثب على السفينة فتعدّاها من جانب إلى جانب. ثم لطمها الهواء على وجهها، وأجرى الماء من مقدمها إلى مؤخرها، فكانت في بحر وقد صار فيها بحر.
عندئذ استعددنا لملاقاة خالقنا والمحاسبة على ما قدمت أيدينا في حياتنا، وأعرف رجلًا من تجار الشوام المتوطنين بالمنصورة صار يتضرع إلى النوتية بأن يرموه في البحر، حتى ينتهي من عذاب الزوبعة وإنه لشديد. فلم يلتفت إليه أحد منهم؛ لأنهم التهوا عنه وعن طلبه بأخذ أهبتهم الكبرى.
فتركناهم وشأنهم يتصرفون في مركبهم كما يشاؤون، ونزلنا بكل صعوبة إلى أوكارنا في بطن الباخرة ونحن نهتف بذكر اللطيف الخبير، وما هو إلا أن شممتُ رائحتها من الداخل، حتى اعتراني غثيان فاضطراب في الرأس والأمعاء، وكان ما خفتُ أن يكون.
وما زلنا بين الموت والحياة، حتى مالت الشمس للغروب، فإذا بالسحب تبددت والمياه ركدت وشواطئ فرنسا بدت. فعاد إلينا الأمل تتبعه القوة والنشاط، ونسينا كلنا التسبيح والتهليل؛ لأن خطر الغرق قد فات.
قُتِلَ الْإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ.