اليوم السادس (الأربعاء ١٨ أبريل)
الحمد لله أنزل السكينة على السفينة حتى دخلت المينا بالهينة، فما هو إلا أن لاح الفجر
الكاذب، وظهر النبأ الصادق من المنار والأنوار بأنها استوت على جودي السلامة،
والسلام!
فما صدَّقْتُ بوصولي إلى الفندق حتى طلبت الحمَّام، وبعد أن انتهيت منه طفت بمارسيليا
وما
العهد بيننا ببعيد، وهي ككل المدائن البحرية المتجرية، مكوَّنة من خليط عظيم من كافة
الأمم
والشعوب، وأول شيء وجهت إليه همي وهمتي التوجه إلى مطعم مشهور بصناعة البويَّابيس
(La Bouillabaisse) وهي عندهم كالملوخية مثلًا عندنا
وكالكبيبة عند الشوام، ولكن الحق يقال شتان بين الذي اخترناه واختاره جيراننا، وبين الذي
اشتهرت مارسيليا وأهلها به، فإن طعامهم هذا فاخر لذيذ مغذٍّ خفيف سريع الهضم، وهو عبارة
عن
ثريد في شوربة السمك وعن أسماك متنوعة مطبوخة بطريقة مخصوصة، وكان بودِّي أن أصف ذلك
أيها
القارئ العزيز حتى تتلذّذ وتتشهى و«يجري منك الريق ويسيل»، ولكنني بكل أسف غير ماهر في
هذا
النوع من الوصف، وقد اقتصرت مهارتي في هذا الموضوع على الإجادة في أكل هذا الصنف من الطعام،
فلك بل عليك أن تقلِّدني فهذا الضرب من التقليد ممدوح.
أما المدينة وأحوالها وشوارعها ومنازلها ونحو ذلك، فقد ذكرت بعض الشيء عنها في السفر
إلى
المؤتمر، كما أن كثيرًا من إخواننا الذين يقولون إنهم كتبوا رحلتهم ووصفوا ما لاقوا فيها
وما تأثر به وجدانهم وشعورهم، قد ترجموا عن كتب الإرشاد (Les
Guides) المخصصة للأغراب، وعن بعض التواريخ وغيرها كل ما تهم معرفته
عنها ويقدر الإنسان على تبيانه، والعلم به وهو في بلده من غير اغتراب ولا فراق، وحينئذٍ
«فالإعادة ليس فيها إفادة».
والأحسن عندي لمن يحضر هذه المدينة في بكرة النهار أن يرحل عنها بعد أن يطوف فيها
قليلًا،
ولكنْ لي عليه شرط واحد وهو: أن يبذل قصارى جهده في أكل البويَّابيس. وفيما عدا ذلك،
فإنه
يوفر درهمه ووقته، ويعلم أنني له من الناصحين. أما أنا فقد لبثت فيها يومًا واحدًا وليلة
واحدة على نية الرحلة منها.