اليوم السابع (الخميس ١٩ أبريل)
مهما أوتى الإنسان من الإقدام وكان في عزيمته من المضاء وفي فؤاده واسمه من الذكاء، فلا شك أنه يكون عرضة للتردد في بعض الأحيان، وذلك ينشأ عن اضطراب الجسم أو الفكر، وكان هذا الاضطراب بنوعيه متوفرًا عندي حينما أصبحت قاصدًا پاريس.
– لماذا؟
– لأنني كنت لا أزال منهوك الجسم من تأثير البحر، فما أردت أن أصل پاريس وبي ضعف على ضعف، ولأنني ما شئت أن أدخل مدينة الأنوار في غير النهار، ولكن لكي لا أقضي الليل في القطار فتفوتني بعض المناظر الشائقة المعجبة، عقدت النية على قسمة الطريق حتى يكون مسيري في هذه المرة بأوروبا بغير إدلاج.
فتتمتع العين وينشرح الخاطر برؤية الخلوات والمزارع، وما فيها من الخضرة اليانعة مفرّشة على بسيط الدأماء، أو واصلة إلى عنان السماء.
رأيت على يميني الجبال قد اعتدى عليها الإنسان (كعادته) حتى «جاب الصخر بالواد»، فمهَّد منها مربعات تكاد تقاس بالأشبار وحرث بعضها للزراعة وغرس أكثرها بالأشجار، وكلها أشجار فاكهة متناسقة على مثال واحد وطول واحد وبُعد واحدٍ. نعم، إن الأرض مستوية ممهّدة مطمئنّة، وخطوط المحراث منتظمة معتدلة مستقيمة، ولكن وجهها كله حصباء وأحجار صغيرة متفتّتة منتشرة بين رمل غليظ أصفر فتتكون من هذا الخليط قشرة الأرض الظاهرية، وأما الذي تحتها فأدهى وأمرّ؛ إذ هو عبارة عن طبقات متراكبة من الصخر والحجر! أليس هذا يناقض على خط مستقيم ما نعهده في وادي النيل السعيد؟ أليس إن الإنسان يسير من مصبّ المحمودية عند الإسكندرية أو من ملتقى النهر بالبحر عند رشيد ودمياط حتى يضل إلى الشلال بالقرب من أسوان فلا يجد حجرًا صغيرًا يضرب به حدأة أو غرابًا؟
لله ما أسرع هذا الخاطر خصوصًا إذا كانت الأرض تُطوى أمام الإنسان والجبال تُأوّبُ معه والأشجار لا تلبث أن تبدو حتى تختفي فكيف لا يطير الفؤاد إلى البلاد، ويطوف في وديان الخيال، ويقف السائح بلا حراك، يقارن بين ما هنا وبين ما هناك؟