اليوم الثامن (الجمعة ٢٠ أبريل)
يقتصر أغلب المصريين والشرقيين عند حضورهم إلى ديار أوروبا على زيارة العواصم الكبيرة
والمدائن الجامعة، فيفوتهم، ولا شك، شيء كثير من معرفة الحياة البسيطة الساذجة المعتادة
في
الأرياف والخلوات؛ لذلك أرجوهم أن يحذوا حذوي ويزيدوا عني، فقد وجدت في هذا البندر الريفي
المعروف بڤيلفرانش (Villefranche) راحة في الجسم وارتياحًا
في النفس، خصوصًا وأن المأكل فيها (كما هي في الأرياف كلها) خالية من معالجات الكيمياء
مجردة من تدبير الصناعة؛ فالزبدة فيها زبدة، والجبن جبن، والنبيذ نبيذ، واللحم غضّ (طازجه)
وهكذا الباقي من الأصناف، بخلاف الحال في المدائن الكبيرة؛ إذ لا يكذب القائل أن لعلماء
الكيمياء ولأهل المعامل فضلًا كبيرًا عليها في تكوين الزبدة والجبن والنبيذ، وأما اللحوم
فالغش فيها معلوم، (وقد وصلت طلائع هذا التمدن والحمد لله! إلى القاهرة والإسكندرية!
… أليس
كذلك؟) بل ألم تسمع أيها القارئ بأنهم قد توصَّلوا في أمريكا لاصطناع بيض يشابه بيض الدجاج
بالتمام؟ إذا كنت لا تعرف ذلك فاعلمه، وإذا كان بلغ مسامعك فتحقق مني صحته، وإني أجيز
لك
رواية ذلك.
قمت مبكرًا فإذا كأني في أحد بنادر الأرياف بمصر: من صياح الديكة واضطراب الدجاج،
وخوار
البقر، وتغريد الأطيار فوق الأشجار، أما سلطان الطبعية فتركنا في الانتظار. نعم، فإن
الحياة
الآدمية بقيت مستكنّة حتى انتصفت الساعة السابعة من الصباح. فابتدأ القوم في النشور من
الدور، وفي مقدمتهم صعاليكهم من الرجال والنساء مبكِّرين لأعمالهم والسعي على
أرزاقهم.
ومما استوقف نظري واستغرق فكري، أن ذوي المتربة منهم يحتذون بجزم كلها أو نعالها فقط
من
الخشب، فترى بل تسمع الواحد منهم كأنه يمشي في موكب حافل، ومع ما هو فيه من الأطمار
والأسمال تراه يسعى بين الطنين والرنين، كأنه ملك عظيم أو ملك كريم: يرفع رأسه اختيالًا
واستكبارًا، ويهزّ كتفيه فرحًا واستبشارًا مرحًا وافتخارًا.
لمَ لا يكون كذلك؟
أليس أن كل واحد منهم يعتقد أن له حصة في ملك فرنسا؟ أليس أنه فوق ذلك، قد تصوّر
له
الأماني والأوهام، أنه ربما ساعده الزمان على الارتقاء إلى هذا الملك فصار رئيس الجمهورية
في يوم من الأيام؟ كيف لا والشاهد أمام عينيه قريب؟ فها هو المرحوم فلكس فور رئيس الجمهورية
السابق قد ارتقى هذه المنصة العالية، وتربَّع في هذا الدست الفخيم، مع أنه كان في أول
أمره
عاملًا عند الجلّادين والدبّاغين، وها هو الموسيو دومر
(Doumer) الوالي الحالي للمستعمرة الفرنساوية الكبرى
المعروفة بالهند الصينية، دخل قبل الآن في سلك الوزارة ناظرًا للمالية، وقد حجز أحد
المحضرين — قبل ذلك ببضع أيام — على منقولاته؛ لتسديد ما عليه للمتعهد له بتوريد الخبز
في
كل صباح، فأمدَّه صديق حميم ورفع الحجز عنه، وقد نال فيما بعد وسام الافتخار؛ لأن هذا
الصديق من أهل الجدارة والاستحقاق، ولكن لم يكن أحد يدري به لولا هذه اليد التي اصطنعها
والمأثرة التي قدَّمها. فلما وُلِّيَ الرجل ناظرًا للمالية أوصت زوجته على فستان لتحضر
به
الحفلات الرسمية.
فلما أحضرته الخياطة إليها طالبتها بنقد الثمن أولًا، وإلا رجعت ببضاعتها من حيث أتت،
ويقولون: إن هذا أكبر برهان لحد الآن على عفة الرجل ونزاهته واستقامته، وعلى كل حال فالأمر
الذي لا ريب فيه أنه إنما وصل إلى هذه المراكز السامية بهمته وجدّه وفضله.
فكيف تتصور بعد ذلك أن قصة الغسالة من الأساطير الموضوعة أو الحكايات الملفقة؟ إن
كنت
تعرفها فقد كفى، وإلا فاسأل عنها، أو أرح نفسك منها، أو انتظر عودتي وكل آتٍ قريب.
قلت: إنني أصبحت في هذا اليوم مبكرًا، فبعد أن شاهدت ما ذكرت، رأيت أن أسير في البندر
وأطوف شوارعه على الأقدام، فأوصيت صاحبة الفندق بإرسال أمتعتي إلى المحطة مع عربة الفندق.
غير أني لم أجد في هذا البندر شيئًا يستحق الالتفات، فقصدت المحطة وركبت الإكسبريس في
الساعة الثامنة من الصباح، فلما مضى على الظهر ساعتان نزلت إلى مدينة سنس
(Sens) وهي مشهورة بكنيستها الجامعة شهرة طبقت الآفاق،
فتركت أمتعتي بالمحطة وهرولت إلى الكنيسة، فإذا هي فخيمة شاهقة من الطراز القوطي، كغالب
أو
كل الكنائس في بلاد الأندلس، ومن الغريب في تفشي الكفر بفرنسا أو ثوار الكومون
(La Commune) أو (Les
Communnards) قد تشفوا من الدين وأهله، فنزلوا بالمعاول على تماثيل
القديسين التي على باب الكنيسة، وفي أسفل جدرانها فقطعوا رؤوسها كلها، انظر إلى أين وصلت
الحماقة والغفلة!
ومن الغريب أيضًا في تفشي الكفر بفرنسا الآن أن رجال الحكومة مهما كان مشربهم أو صبغتهم،
يعملون على معاكسة الدين وأهل الدين بكل ما في وسعهم، وقد اتفق مؤخرًا أن مجلس البلدية
في
إحدى القرى راعى أميال الأهالي، فقرر إنشاء مدرسة يديرها رجال من الإكليروس فدخلها ٦٠
تلميذًا. فلما علمت الحكومة بهذا القرار أصدرت أمرها بإبطاله حالًا، ولكيلا تكون عقبة
في
طريق التعليم، أنشأت مدرسة أهلية غير دينية فانتظم في سلكها تلميذان اثنان!
نرجع إلى الكنيسة. فقد رأيت في مخزن تحفها وكنوزها أشياء كثيرة ليس لها كبير قيمة،
ومما
استوقف نظري علبة أسطوانية من العاج مخروطة في قطعة واحدة من سن الفيل وعليها نقوش بديعة
وأبيات عربية جميلة، لم أتمكن من نقلها، وإنما وقفت على ترجمة العلامة ده ساسي لها باللغة
الفرنساوية، وهي من صنع البغاددة ولا شك أن أحد الصليبيين أحضرها من المشرق إلى هذه البلد،
ورأيت أيضًا صليبيين يقولون: إنهما من خشب الصليب، وقد رأيت قبل الآن صلبانًا كثيرة من
هذه
القبيل في كنائس متعددة أثناء أسفاري، وعلمت بوجود أكثر منها في مدائن أخرى، لم يتيسر
لي
زيارتها.
ثم خرجت من الكنيسة، وطفت المدينة، وصعدت إلى أعاليها، فإذا هي في نظام كبير ولها
رونق
جميل.
حتى إذا حان الميعاد ذهبت إلى المحطة، وركبت القطار فوصلت پاريس في آخر النهار.