اليوم التاسع (السبت ٢١ أبريل)
أصبحتُ في هذه اليوم بمدينة پاريس.
أكثرت من وصف پاريس في رسائل «السفر إلى المؤتمر» بما أرى فيه الكفاية. فليراجعها من أراد فقد يجد فيها حاجته وزيادة.
نعم، لست أُنكر أن هذه المدينة يُستغرق وصفها الدفاتر والمجلدات، وتقف دون استيعاب ما فيها القرائح والأفهام، ولكني قد أدَّيت إتاوتي فيحق لي إذن ترك هذا المجال لغيري عساه يزيد ويُجيد ويفيد، فيصدق المثل السائر: «كم ترك الأول للآخر.»
وإنما أتحفك الآن أيها القارئ ببناء مستغرب، بل مستنكَر، بل مستكره، ومن باب الإخلاص أتقدم إليك بإنذار ودادي لتكون على بصيرة: إن كنت من الذين يتقززون فاترك السطور التالية وشأنها، ولك أن تمرّ عليها مرَّ السحاب أو مرَّ الكرام، ولك أيضًا أن تمر عليها بإسفنجة، ولك أن تمزق هذه الورقة، أو تحرقها أو تلاشيها بأية طريقة أخرى، وتتركني وحدي أعاني همي في يومي، وإن كان هذا يناقض العهد المعنوي الذي بينك وبيني، وهو أنك تتبعني حيثما وضعت قدمي، غير أني أجعلك الآن في حل من العهد شفقة عليك وحنانًا بك، وإياك ومخالفتي!
توجهت في ظهر هذا اليوم إلى أحد المطاعم الكبيرة في شارع الأوبرا.
(لا يزال باب الخلاص مفتوحًا، ولا يزال للقارئ مندوحة في ترك التلاوة، وإلا فإن أصرَّ على مخالفتي واتِّباعي في خطواتي، كان ذلك بمثابة تجديد العهد الوثيق في استيعاب الحكاية لآخرها).
طلبت قائمة المأكولات فرأيت اسم صنف من الألوان، فاشمأزَّت نفسي حتى وقعت القائمة من يدي، ثم تشجّعت وتغلبت على طبعي، وعاودت النظر إلى القائمة فعاودني التقزز والنفور، فخادعت نفسي وأدخلت عليها المحال وقلت لها: «لعل الباصرة أخطأت»، فأرجعت البصر أُولى وأخرى فارتدّت العين حسرى، وحينئذ قطعت جهيزة قول كل خطيب، وعرفت أن الصنف الذي في القائمة هو طعام مطبوخ من: «أبو هبيرَة أو أمّ هبيرَة».
لأنه يجوز أن يكون من الذكور كما يجوز أن يكون من الإناث، أظن القارئ لم يفهم مرادي بهذه الكناية، ويطالبني بتسمية الشيء باسمه المعلوم، فهو: «الخندع أو العلجوم».
«إني أسمع وأنا هنا همسًا يجيش في صدر القارئ: ما زاد البيان إلا إشكالًا بذكر الذكر فهلا وجبت التثنية بالمؤنث؛ ليستوي كافة القراء في الإدراك»، وهو كذلك فهي: القرة أو اللقاقة.
•••
حقًّا! لم يبقَ بعد ذلك مجال للشك والارتياب، وقد فهم الناس أجمعون مرادي بل مراد القائمة بالتمام، والحمد لله على كل حال.
فوسوس لي إبليس بالتجربة، وانضمَّت إليه النفس الخبيثة (وهي أمّارة بالسوء). ولكن طبعي بقي مُصِرًّا على العناد والنفور، فاشتبكت المحاورة والمناظرة بين الطرفين، واشتد الجدال واللجاج بين الفريقين، وأنت تعلم أن «ضعيفين يغلبان قويًّا» فما بالك إذا كانا من القوة والبأس، بمكان إبليس والنفس، وكان خصمهما من الضعف بدرجة الطبع، وإن كان غلابًا فها هو قد أصبح مغلوبًا.
الخلاصة: أنني طلبت الخادم وأمرته بإحضار هذا الطعام. نعم نعم، طلبت هذا اللون، وأعني به أبا هبيرة أو العلجوم، فأحضر لي طبقًا في وسطه شيء مشتبك مرتبك، يشبه العقرب، سوى أنه أبيض. عظام دقيقة صغيرة تكسو أطرافها لحوم خفيفة مستديرة، وكلها على شكل مختلط مختبط، يزيد في الكراهة والنفور، فاصطكت أسناني، وانطبقت أجفاني، وحولت وجهي برعدة في رأسي، فجاء أبو مرة وقال لي: «جرب هذه المرة، ولك بعدها الخيار في الترك أو معاودة الكرة.» وتآمرت معه نفسي، فجاءت من الجهة الأخرى تدفعني وتصيح في أذني: «قد وجب عليك الثمن» فما بالك لا تمتحن، وأنت تعلم أنه عند الامتحان يكرم الضفدع أو يهان»، وما زالا ينقَّان على هذا المنوال، حتى أعدتُ صفحة وجهي بالتدريج إلى جهة الصحفة، ثم أغمضت عيني ومددت يدي وأخذت قطعة منها، وأنا أفكر في الألوان الشهية التي أسمع عنها. ثم رميت بالقطعة من الضفدعة في فمي، وصرت آكل قليلًا قليلًا وأنا أفكر في أصناف لذيذة قرأت أسماءها في الكتب. صرت أكل من الضفدعة بصفتها ضفدعة حتى أتيت على كل ما في الطبق، والحمد لله أولًا وآخرًا.
فصل فلسفي
قد اعتاد القراء على أني أكاتبهم أولًا فأولًا بكل ما يتأثر به الخاطر في وقته، وأقول لهم: إنني بالخصوص في وقت أكل الضفدع كنت أجهز اللقمة وأخطُّ الكلمة، وهكذا حتى انتهيت من الازدراد والتحرير.
أما الآن وقد استقرَّ هذا الطعام في جوفي وفي جوف … من جازف بنفسه وقرأ هذه السطور، فقد خطرت عليّ هذه الأسئلة:
فلماذا لا يأكلون كلهم الضفدع أيضًا؟
ومهما كان الأمر فإنني أكلت منه. نعم نعم، أكلت الضفدع، فإن سمعت نصيحتي وأسعدك الزمان بالحضور لپاريس فتطلبه أو تطلب على الأقل مرقته (حتى إذا فاتك التوت لم يفتك شرابه)، وحينئذ يصح لك أن تقول: إنك تلذَّذت مثلي بنعيم الدنيا كما يقولون هنا.
غير أني مع كل ذلك، أجد ضميري ينبهني إلى التمثُّل أمام القارئ بقول ابن الفارض: