مقدمة

مع ازدياد الإحساس العام بأن أحوال التعليم تمضي من سيئ إلى أسوأ منذ أوائل السبعينيات، ترتفع الأصوات بضرورة إصلاح التعليم. وربما يتَّفق معظمنا على مظاهر الأزمة التي يجتازها التعليم العام والجامعي في مصر، لكننا بالقطع سوف نختلف على روشتة الإصلاح، وهذا في رأيي أمر طبيعي؛ لأننا ننظر إلى قضية الإصلاح من مواقعنا الاجتماعية المختلفة في هذا المجتمع.

فبينما يرى البعض أنه لا حلَّ لأزمة التعليم إلا بالعودة إلى نظام المصروفات، تتمسَّك الأغلبية بمبدأ تكافؤ الفرص الذي ينص عليه الدستور، وترى أن هذا المبدأ قد أُهدِر في السنوات الخمس عشرة الأخيرة، وتحوَّل إلى مهزلة بانتشار وباء الدروس الخصوصية، وما يُفرَض من رسومٍ تحت مُسمَّيات مختلفة، وبعودة المدارس التجريبية الرسمية للُّغات في المرحلة الابتدائية بمصروفاتها الباهظة؛ مع أنها مدارس حكومية.

وقضية إصلاح التعليم في حاجةٍ في رأيي إلى نظرة منهجية؛ لأن التعليم ليس مثل الكباري العلوية أو سنترال التليفون؛ إذ إنه جزء من النسيج الاجتماعي للوطن؛ وبالتالي لا يُتصور إصلاح جدِّي للتعليم في ظل إطارٍ اجتماعي اقتصادي سياسي فاسد!

إن التعليم نسق جزئي ضمن نسقٍ عام هو النسق الاقتصادي الاجتماعي، وهذا النسق الجزئي يتأثر بشكلٍ حاسم بما يجري في النسق العام، كما أنه يعود ويؤثر فيه؛ فالفساد الذي ينخر سوسه في نسق التعليم سواء على المستوى الأدنى، أعني المدرسين والدروس الخصوصية، أو على المستوى الأعلى في المناصب الكبيرة داخل وزارة التربية والتعليم؛ لا يمكن عزله عن جوِّ الانفتاح العام في البلاد، وما أدى إليه من فسادٍ عام.

ونستطيع أن نُعطي مئات الأمثلة على ذلك مما تنشُره صحف الحكومة قبل صحف المعارضة، لكن المجال لا يتَّسِع لذلك؛ ولذا سوف أكتفي بالإشارة إلى ثلاث «وقائع» نُشِرَت جميعها في الصحف الحكومية؛ أُولاها واقعة ناظر مدرسة ابتدائية في سوهاج يقود عصابةً للسطو على السيارات ليلًا، وثانيتُها حالة ناظر مدرسة إعدادية في شمال القاهرة يُدير منزله للدِّعارة، ثم أخيرًا واقعة كِبار مُوظفي وزارة التعليم الذين اتُّهموا بتقاضي عشرات الألوف من الجنيهات باسم ترجمة كتب الوزارة إلى الإنجليزية، والذين أحالهم الوزير إلى النيابة الإدارية مؤخرًا.

وإليكم مثالًا آخر على مدى تأثر هذا النسق الجزئي (التعليم) بأحداث وقيود النسَق العام. إنَّ مِن المعروف في ظلِّ أوضاعنا الاقتصادية السيِّئة أنَّ حكومتنا قد رضخت لشروط صندوق النقد الدولي، وهذا الرضوخ كان الشرط الأول للدول الدائنة حتى تقبل إعادة جدولة ديونها. وصندوق النقد الدولي يضع في مُقدمة روشتته المعروفة خفض إنفاق الدولة على الخدمات، أي على التعليم والصحة وما شابَهَ ذلك. وهناك الألوف من المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية — خصوصًا في الريف — الآيلة للسقوط أو لم تعُد صالحة، أو التي ليس بها مرافق صحية أو مياه صالحة للشرب. ومن بديهيات الإصلاح مواجهة مشكلة بهذا الحجم بخطةِ تمويل جاد وبالاستثمارات اللازمة. فكيف يتم ذلك بينما تُطالبنا الجهات الدولية الآمِرة والناهية في اقتصادنا بخفض الإنفاق على الخدمات، ويرفض النظام الحالي في مصر فرض ضرائب على القادرين لصالح صندوق التعليم؟ وهل تقدِر الدولة مثلًا على رفع رواتب المدرسين رفعًا جدِّيًّا لتخلق مناخًا مُواتيًا لمحاربة الدروس الخصوصية؟

وهكذا؛ نستطيع أن نُعطي عشرات الأمثلة لتوضيح أن الإصلاح الجاد للتعليم يستلزم قبل ذلك الإصلاح الجاد للنسَق الاجتماعي الاقتصادي السياسي العام، وأن تصوُّر غير ذلك عن أيِّ طريقٍ هو بمثابة الجري وراء الأوهام.

إن هذه هي نقطة الخلاف الأولى بيننا وبين وزير التعليم الحالي د. فتحي سرور. فمع احترامنا لرغبته في عمل شيءٍ من أجل التعليم، ومع إدراكنا أنه يبذل جهدًا كبيرًا، فإنه محصور في «القفص الحديدي» إيَّاه، أعني مجموعة القيود والضغوط المُحيطة بالنسَق العام، والتي هي المُحدِّد الأول لقرارات السلطة السياسية في مصر اليوم، والتي يتأثر بها التعليم تأثرًا حاسمًا ومباشرًا، كما أن المناخ العام للانفتاح هو بالضرورة مناخ معادٍ للإصلاح التعليمي، ويكفي أن نُشير هنا إلى منظومة القيم السائدة الآن حول مفهوم النجاح، وكيف تنخر كالسوس في نسيج المجتمع بأسره.

والحاصل هو أن وزير التعليم كثيرًا ما يُدلي بتصريحاتٍ جيدة، بينما تدفعه الظروف إلى اتخاذ قراراتٍ مناقضة لهذه التصريحات؛ إنه مثلًا كثير الحديث عن مبدأ تكافؤ الفرَص، وهو يعترف في تقرير الاستراتيجية، الذي قدَّمه إلى مؤتمر التعليم في يوليو سنة ۱۹۸۷م، بأن المدارس التجريبية الرسمية للُّغات في حاجةٍ إلى إعادة تقييمٍ؛ حتى لا تكون بابًا خلفيًّا للقفز فوق مبدأ تكافؤ الفرَص، بينما تُعلن الخطة الخمسية الجديدة عن التعليم عن الامتداد بهذا النوع من المدارس إلى المرحلة الثانوية!

وبينما يؤكد الوزير كثيرًا في تصريحاته أنه لا مساس بمجانيَّة التعليم، نجِده يُعلن عن إنشاء معاهد عُليا تكنولوجية تابعة للقطاع الخاص، وهي ذات مصروفاتٍ باهظة بطبيعة الحال. والمأزق الذي يجد الوزير نفسه فيه مع نوادي هيئات التدريس في الجامعات حول حصانة الأساتذة ولائحة الطلاب … إلخ، ليس إلا مثالًا على هذا التناقُض بين التصريحات والأفعال.

ومن مُفارقات هذا التناقض؛ تلك الدعاية الضخمة لتعليم الكمبيوتر في المدارس التي يقوم بها الوزير، بينما تفتقد الألوف من المدارس في الريف المرافق الصحية ومياه الشرب النقية، كما تفتقِد المقاعد التي يجلس عليها التلاميذ.

وربما كان من المآخِذ التي تتردَّد كثيرًا في الأوساط التربوية وأوساط الرأي العام على الوزير سرور هو كثرة تصريحاته في الصحف والمجلَّات التي كثيرًا ما تتضارب بعضها مع بعض ومع تقرير الاستراتيجية الذي أصدرَه في يوليو سنة ۱۹۸۷م. ويبدو أن هذه الهواية — هواية التصريحات — قد وصلت به إلى أوهامٍ من قبيل أنه له «نظرية» في التعليم، وأن هذه «النظرية» تُدرَّس في جامعة هارفارد بالولايات المتحدة كما ورد في تصريحاته الأخيرة بمجلة «آخر ساعة» القاهرة!

وإذا كان الوزير قد نسِي نفسه بأمثال هذه الأقوال التي تُلقى على عواهِنها، فمِن واجب مُستشاريه بالوزارة أن يُذكِّروه بأنَّ من مصلحته أن يتواضع، وأن يُوضِّحوا له أن كثيرًا من قراراته الخطيرة الأخيرة تتناقَض تمامًا مع تقرير الاستراتيجية الذي سبق ذِكره.

ففضلًا عن أن قراره بخفض سنوات التعليم الابتدائي إلى خمس سنوات بدلًا من ست — وهو القرار الذي تفوح منه رائحة صندوق النقد الدولي — لم يرِد له أي ذِكر في تقرير الاستراتيجية، فإنه ضربةٌ أخرى موجهة لمُستوى التحصيل في التعليم الابتدائي، ومن شأنه أن يُحدِث ارتباكًا شديدًا في التعليم الإعدادي خصوصًا في سنواته الأولى، فضلًا عن المُفارقات التي ستحدُث لأبناء المصريين العامِلين في بلدانٍ عربية، حيث نظام السنوات الست للتعليم الابتدائي مُستقر هناك.

ولقد فشل الكثيرون — وأنا منهم — في أن يفهموا كيف أنَّ مشروع الوزير بإلغاء مكتب التنسيق في دخول الجامعات، يتَّسق مع مبدأ تكافؤ الفرَص الذي يكثر الحديث عنه في تقرير الاستراتيجية. ومع أن الوزير كثير الإشارة إلى نظام التعليم في بريطانيا فإنه فيما يبدو لا يعرف أن التربويين البريطانيين في معظمهم ساخطون على أوضاع التعليم في بريطانيا، في ظلِّ حكومة تاتشر ذات التوجُّهات اليمينية المعادية للطبقات العاملة. ومع ذلك فنظام الالتحاق بالجامعات في بريطانيا مُلتزم بشكلٍ من أشكال التنسيق. وهناك مخاوف مشروعة لدى الرأي العام في مصر بأن إلغاء مكاتب التنسيق في مصر، واللجوء إلى امتحانات القبول في كلِّ كلية سوف يفتح الباب واسعًا أمام سياسة «الكوسة» في القبول، وسيفتح الباب واسعًا في الجامعات أمام عددٍ من الأساتذة للفساد المالي والعلمي وتأليف كتب «المختصرات» لامتحانات القبول، فضلًا عن إرهاق الجامعة — أكثر مما هي مرهقة — في أعمال امتحانات وتصحيح لألوف من الطلَّاب أول كل عامٍ دراسي، وهو أمر ليست الجامعات مُستعدَّةً له إداريًّا وتنظيميًّا على الإطلاق.

إن سياسات الوزير الحالية تصبُّ بشكلٍ واضح — بصرف النظر عما ورد في تقرير الاستراتيجية — في الحدِّ من دخول الجامعات، مع أنَّ نسبة مَن هم من الجامعات إلى عدد من هم في شريحة العمر ١٨–٢٢ سنة أقل في مصر منها في العديد من دول العالم، بما في ذلك بعض دول العالم الثالث. وسياسات الحدِّ من القبول في الجامعات في ظلِّ معطيات الوضع الحالي للتعليم والمُجتمع تمثِّل انحيازًا بشدة ضد أبناء الفقراء، كما توضح مقالات هذا الكتاب (انظر الصفحات التالية) وهي بذلك شكل من أشكال الإخلال بمبدأ تكافؤ الفرَص.

ومع ذلك فأين هي المعاهد التكنولوجية الحقيقية الجادة التي يمكن أن تستوعِب بعض من رفضتهم الجامعة؟ وهل هناك أي فرصة حقيقية للذين سوف يعملون بالثانوية العامة أن يُعيدوا تأهيل أنفسهم جامعيًّا في مرحلةٍ أخرى مِن العمر بينما هم يعملون؟

إن العديد من دول العالم المُتقدِّم وبعض دول العالم الثالث تفتح الأبواب لما يُسمى بالجامعات المفتوحة والتعليم الجامعي الليلي للنساء والعمال، والذين فاتهم دخول الجامعات في سنِّ الشباب لإعادة تأهيل أنفسهم والحصول على مؤهلٍ عالٍ يتَّسق مع طبيعة أعمالهم، وبعض هؤلاء وصل إلى سنِّ الأربعين أو الخمسين، ومع ذلك لا يستنكفون أن يدرسوا من جديدٍ بعد أن وصلوا إلى سنِّ النضج والمسئولية.

فهل فكَّرنا في هذا؛ بحيث يُدرك الذين لا يدخلون الجامعة أو المعاهد العُليا اليوم أن لدَيهم فرصًا في مُستقبل العمر لاستكمال دراستهم، وأن الباب لم يُغلَق نهائيًّا أمامهم؟

•••

لقد تناولت صحف المعارضة كل هذه القضايا كثيرًا، وكنتُ واحدًا ممَّن كتبوا كثيرًا في قضايا التعليم سواء العام أو الجامعي، واختلفوا مع وزراء التربية والتعليم المُتعاقِبين، على الرغم من الصداقة الشخصية التي تربطني ببعضهم. ولقد وصلنا اليوم إلى حالة تقتضي وضع وثيقةٍ دائمة عن هذا الموضوع في يدِ الرأي العام وكل المُهتمين بقضايا التعليم.

وكبدايةٍ لهذا الجهد رأيتُ أن أجمع في هذا الكتاب الصغير بعض دراسات لي عن التعليم، أُولاها نُشِرت في صحيفة الأهالي عام ١٩٨٤م بعنوان «هل تضيق أبواب الجامعات أمام الفقراء» وهي تتعلق بالتعليم العام أكثر مما تتعلق بالتعليم الجامعي، وثانيتها محاضرة ألقيتُها عام ١٩٨٦م بدعوةٍ من لجنة الدفاع عن الثقافة القومية، بعنوان «أزمة الجامعات في مصر».

أما الدراسة الثالثة — وهي لم تُنشَر من قبل — فتتناول بالتعليق المُفصَّل ما ورد في الخطة الخمسية الجديدة (والتي وافق عليها مجلس الشعب) عن التعليم، وهي جزء من تقرير أعددتُه بتكليفٍ من قيادة حزب التجمُّع.

وكُلي أمل في أن يُمثل هذا الكتاب الصغير مساهمةً متواضعة في رفع الوعي الصحيح بقضايا التعليم، وأن يكون بمثابة مقدمةٍ لي ولغيري لإصدار كتبٍ أكثر تفصيلًا في هذا المجال.

عبد العظيم أنيس
أكتوبر سنة ١٩٨٨م

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥