أزمة الجامعات في مصر
أولًا: ما المقصود من الأزمة؟
وثمة اتفاق غالب في أوساط الجامعات وفي المجتمع، على أنَّ هناك أزمة فيما يتعلق بالجامعة وعلى توصيف كثيرٍ من مظاهرها، وإن اختلف التشخيص لأسبابها وبالتالي كيفية الخروج منها.
فجامعاتنا الأساسية هي جامعات الأعداد الكبيرة (١٥٠٠٠٠ طالب في جامعة القاهرة من بينهم حوالي ٢٥ ألفًا في الدراسات العليا، ٣٠ ألفًا في كلية التجارة وحدَها، عشرة آلاف في كلية الطب وهكذا). هذه الأعداد هي ما ذكَره نائب رئيس الجامعة في ندوة عن التعليم الجامعي، نُشِرت في المصور في نوفمبر سنة ١٩٨٣م — وهذه الأعداد كبيرة جدًّا بالنسبة للإمكانيات المتاحة من مُدرجات ومعامل ومبانٍ وأساتذة. فمثلًا نسبة الأساتذة إلى الطلاب هي ١: ٤٥ بينما في الدول المُتقدمة هي ۱ : ۱۰، وهذه النسبة (١ /٤٥) مبالغ فيها لأننا أدخلنا المُعيدين ومساعدي المدرسين في حسابها.
ولقد ترتَّب على هذا الوضع انعدام الصلة بين الطالب والأستاذ في مرحلة البكالوريوس والليسانس.
فالمَفروض أن تكون الجامعة قيادة فكرية وتكنولوجية للمجتمع في سعيهِ الدائم من أجل التقدم، أي صناعة ثقيلة في تكوين الكوادر الفكرية القادرة على التفكير المُستقل وقيادة العمل الاجتماعي الوطني، وعنصرًا أساسيًّا في هذا التكوين يتمثَّل في الاحتكاك المباشر بين الأستاذ والتلميذ وفي الحوار الدائم بينهما. وهذا غير مُتحقق في الغالب الأعم. وبالتالي تتحول عملية إكساب المعرفة من عملية حوارٍ إلى عملية تلقين معلومات (سرعان ما تتبخَّر) بالاعتماد على كتب جامعية (أو مذكرات) ألَّفها الأساتذة على عجَل فهي لا تغني ولا تشبع جوعًا، وبعضها منقول من كُتب أجنبية كما هو.
والطريق إلى مكتبة الجامعة أو الكلية تسدُّه عقبات عديدة من بينها نقص المراجع من كُتب ودوريات وانعدام التوجيه، والحالة التي عليها عديد مِن هذه المكتبات من فوضى وانعدام التنظيم؛ ولذلك يكتفي الطالب في الغالب الأعم بكتاب الأستاذ أو بمذكراته المطبوعة.
فإذا تحوَّلنا إلى معامل الكليات العملية مثل العلوم والهندسة والطب والزراعة فسوف نجد أنه مع هذه الأعداد الكبيرة بالمقارنة مع الإمكانيات المُتوفرة لا يُمارس الطلاب في هذه الكليات تدريبًا عمليًّا كافيًا أحيانًا أو لا يمارسون تدريبًا عمليًّا على الإطلاق أحيانًا أخرى. في عديد من كليات الهندسة يكتفي الطلاب بالفُرجة على الأجهزة فلا يدخلون ورشًا للتدريب على الآلات والأجهزة كما كان الحال في الماضي، وفي كليات الطب يحفظ الطلبة أعراض الأمراض دون أن يُتاح لهم أن يرَوا بأعيُنهم مرضى أو حتى أجزاءً من جسم الإنسان. وعندما يُتاح لهم ذلك يكون هذا في الدروس الخصوصية حيث يحفظ مُعيد أو مُدرس في منزله جثةً أو أجزاءً ليشرح عليها مقابل المال الذي يدفعه الطلاب وهم صاغرون.
إن هذا الذي أقوله عن نقص الإمكانيات وانعدام الصِّلة بين الأستاذ والتلميذ يتعلق في الحقيقة بالجامعات القديمة (القاهرة وعين شمس والإسكندرية وأسيوط). أما الجامعات الإقليمية فلن أتحدَّث عنها بالمرة لأنها على حالة من السوء وانعدام الإمكانيات؛ بحيث يصعب أن نُسمِّيها جامعات أصلًا.
إن مسألة الأعداد الكبيرة هذه في حاجة إلى تعمُّق. صحيح أنَّ جامعاتٍ مثل القاهرة وعين شمس جامعات أعداد كبيرة بالنسبة للإمكانيات المُتاحة. ولكن لا ينبغي أن يُستنتَج من ذلك ما يريد البعض أن يُسوِّدوه من وعيٍ زائف بادِّعاء أن أعداد الطلاب في الجامعات هي أكثر من اللازم. هناك معياران للرد على هذا الكلام ولاكتشاف جوانب الزَّيف في هذه المقولة؛ المعيار الأول هو نسبة أعداد الطلاب في الجامعات والتعليم العالي إلى أعداد من هُم في سنِّ التعليم الجامعي (۱۸–٢٣ سنة) هذه النسبة هي ٥٥٪ في الولايات المتحدة، وهي من ٢٥٪ إلى ٣٥٪ في أوروبا الغربية، وهي حوالي ٢٥٪ في الدول الاشتراكية، وهي أكثر من ٢٠٪ في الهند وبعض الدول النامية الأخرى، وهي في مصر ١٢٪ وفق ادِّعاء الأجهزة المسئولة عن التعليم، وفي رأيي أنها لا تزيد عن ١٠٪، وهي على نطاق الوطن العربي ١٫٥٪ وفق كتاب أنطوان زحلان (الوطن العربي عام ۲۰۰۰). فكيف إذن يُقال مع هذه الإحصائيات الواضحة إن أعداد طلاب الجامعة أكثر من اللازم؟
أما المعيار الثاني فهو أعداد الخريجين بالنسبة لاحتياجات المجتمع. هنا تثور قضية دراسة احتياجات مصر من القوى العاملة، وحتى اليوم ما زالت تقديرات هذا الموضوع تتضارب وتتناقض؛ فالحقيقة أنه لا تُوجَد دراسة علمية يُوثَق بها تتعلق بقضية توقُّعات احتياجاتنا من التخصُّصات المختلفة؛ إما لأننا لا نثِق ببيانات الماضي لاتخاذها أساسًا لإسقاطات عن المستقبل وأيضًا لأنَّنا لا نملك خطة وطنية حقيقية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية يمكن أن تصلُح مرشدًا لنا في هذا المجال. والذي حدث هو أننا خفضنا أعداد المقبولين في كليات الطب من ٧٠٠٠ سنة ١٩٨٣م إلى ٣٠٥٠ سنة ١٩٨٤م إلى ۲۸۰۰ سنة ١٩٨٥م بحجَّة أننا لم نعُد في حاجةٍ إلى أعداد كبيرة من الأطباء. والحقيقة أنه في بلدٍ كمصر حيث هناك طبيب واحد لكل ١٤٠٠ من السكان ما زالت حاجتنا شديدة إلى أطباء كثيرين ولكن على أن نبني مستشفيات ووحدات صحية ريفية جديدة وننشئ تخصُّصات طبية جديدة ونتوسَّع في أنواع مختلفة من الرعاية الصحية للشعب. ولا يُنكر إلَّا مكابر أنَّ الحالة الصحية للجمهرة الغالبة من هذا الشعب قد تدهورت في السنين العشر الأخيرة، فكيف إذن يُقال إن حاجتنا إلى الأطباء قد قلَّت. فإذا مدَدْنا البصر إلى الوطن العربي وحاجاته من الأطباء وجَدْنا الموقف أسوأ من هذا بكثير. ولو قيل صراحة: هذه هي إمكانياتنا وأننا قبلنا الأعداد المناسبة لإمكانيات كليات الطب من معامل ومدرجات، لكان هذا مفهومًا وبصرف النظر عما إذا كنَّا نُوافق عليه أم لا. أما أن يُدَّعى أن مصر لم تعُد في حاجةٍ إلى أعدادٍ كبيرة من الأطباء، فنقول إنه ادِّعاء لا صِلة له بالحقيقة، ومقصود به تجنُّب السؤال الحرج وهو: لماذا لا نُنفق أكثر على التعليم الطبي ونُزوِّد كلياتنا بإمكانيات أكبر، مالية وبشرية؟
وما قِيل عن الطب ينطبق على الهندسة.
بالطبع كل ما قلتُه هنا عن قضية الأعداد الكبيرة لا ينفي أنَّ هناك سوء توزيع للطلاب على الكليات والتخصُّصات المختلفة. بالجامعات المصرية حوالي نصف مليون طالب رُبعهم موجودون في كليات التجارة وحدَها (حوالي ١٢٥ ألف طالب) وحوالي الثُّلثَين في الكليات النظرية، فهل حقيقة أننا في حاجة إلى كل هذه الأعداد من التجاريِّين حتى مع وجود مناخ الانفتاح؟ أم أن الأساس في التوزيع داخل الجامعات هو التعليم الأرخص، تمامًا كما حدث في موضوع التعليم الثانوي الفني حيث ثُلُثا التلاميذ في المدارس التجارية؟
«المناخ الفكري الذي يعمل على نضج الأستاذ الجامعي هو بالدقَّة المناخ الذي يؤمِن بقضية العقل، بقضية المنهج. أما المناخ الذي نحياه الآن في الجامعة فيُوشك أن يكون مناخ الخرافة.»
«نحن نعيش في مجتمع استهلاكي ينظُر إلى الإنسان من خلال بدلته وسيارته. نحن لا نُعلِّم الطلاب الآن كيف يفكرون، ولكن ننقل لهم المعلومات فقط.»
وبالطبع ينبغي الإشارة إلى أن جزءًا أساسيًّا من تكوين شخصية الطالب الجامعي هو حقُّه في الاهتمام بالقضايا العامة، بمشاكل الشعب؛ وبالتالي بالعمل العام السياسي وغير السياسي. فإذا لم يكن هذا متاحًا للطلاب بفضل أوامر وتعليمات وتصريحات وزير التعليم العالي ورؤساء الجامعات، وبفضل القوانين التي وضعها السادات وما زالت قائمة، وبفضل نشاط الأجهزة الأمنية داخل الجامعة. كان معنى هذا أن ما نتحدَّث عنه وتتحدَّث عنه دول العالم ودوائر التربويين عن الجامعة كصناعة في تكوين الكوادر والقيادات الفكرية، ليس متاحًا في مصر. إن الوضع الذي كان موجودًا أيام السادات في هذا المجال كان مُتسقًا. بمعنى أنه لم يكن هناك حرية صحافة ولا حرية نقاش وحوار داخل الجامعة. أما الآن فالوضع غريب؛ هناك صحافة مُعارضة حرة تُناقش كافة القضايا، ومع ذلك لا يراد للجامعة أن تكون مركزًا من مراكز الحوار الوطني.
ننتقل الآن إلى توصيف حالة المُنتِج (بكسر التاء) الذي يقود الجامعة، أعني الأساتذة والإدارة. قديمًا قيل إن الجامعة أستاذ وأبحاث؛ بمعنى أن الجامعة تكون كبيرة بمقدار ما يكون أساتذتها كبارًا في إنتاجِهم المعرفي واتِّصالهم ومواكبتهم لثورة المعرفة في العالم، وبمقدار قُدرتهم على الإنتاج في هذه الصناعة الثقيلة، والكوادر والقيادات البشرية.
ولقد اعتاد الناس على أن يقولوا إن في الماضي كان لدَينا أمثال طه حسين وأحمد أمين وعلي مصطفى مشرفة، أما الآن فأين أساتذة الجامعة القابلون للمُقارنة؟ هنا يلزَم التوضيح:
في الماضي كانت الأعداد في الجامعة صغيرة، وكان هناك عدد كبير من الأساتذة الأجانب. كانت الجامعة مشروعًا وطنيًّا لم يكتمِل، وكان وجود الجامعة آنذاك في حدِّ ذاته مكسبًا وطنيًّا.
والآن حان أوان البحث عن مردود هذه الجامعة، عن صِلتها بالمجتمع ودورها فيه، عن حقيقة ووضع أساتذتها في ظلِّ سياسة الانفتاح، عن صِلة جامعاتنا بالمستويات الأكاديمية المُعترَف بها دوليًّا.
إن صورة أستاذ الجامعات اليوم (باستثناءاتٍ محدودة) هي صورة رجلٍ يجري من جامعة إلى أخرى بحثًا عن دخلٍ مادي إضافي، مشغول بتأليف وتوزيع كتُبه ومُذكراته على طلبة السنوات التي بها أعداد كبيرة حتى ولو كانت أول السُّلَّم الجامعي، حتى وصلنا اليوم في كلياتٍ عديدة إلى ظاهرةٍ غريبة؛ وهي أن يُركِّز الأساتذة على الاهتمام بالسنوات الأولى بينما يُترَك المدرسون للسنوات الأخيرة والدراسات العُليا!
وكُتُب الأساتذة أو مذكراتهم هذه تحتوي غالبًا على معلوماتٍ ركيكة، كُتِبت بعجلٍ وبعضها منقول من كتب ومذكرات الآخرين في الكليات النظرية أو مِن الكتب الأجنبية، كما هو الحال في الكليات العملية، فإذا تحوَّلنا إلى الرسائل التي يُشرف عليها الأستاذ في الدراسات العُليا من ماجستير أو دكتوراه، فسوف نجد غالبًا أنه ليس لدَيه الوقت للإشراف الدقيق على هذه الرسائل، وأنه مُستعجل في الانتهاء منها قبل أن ينضج البحث، وسوف نجد أن معظم هذه الرسائل هي تحصيل حاصل ليس بها جديد حقًّا، أو أن الجديد بها ليس في مستوى الماجستير أو الدكتوراه في الخارج.
طبعًا هناك استثناءات لهذه الأحكام العامة، فلا تزال لدَينا رسائل ممتازة يشرف عليها أساتذة أكاديميون حقًّا وبكلِّ معنى الكلمة، ولكن نسبة هذه الرسائل صغيرة ولا تزيد في تقديري عن ٥٪ من الرسائل التي تُنتَج.
ولقد دخل الأساتذة في السنوات الأخيرة في موضة جديدة، موضة وضع أسمائهم على رسائل في تخصُّصات ليست لهم بها أي صِلة؛ فأساتذة يضعون أسماءهم كمُشرفين على رسائل في الدراسات الإسلامية وهم لا يعرفون عنها شيئًا، وآخرون يضعون أسماءهم على رسائل في تخصُّصات علمية وهم لم يحضروا في حياتهم محاضرةً واحدة في هذه التخصُّصات حتى على مستوى البكالوريوس، وكل هذا يتم بحثًا عن المال!
وربما يظن البعض أني أُبالغ. حسنًا، لنقرأ ما قاله بعض أساتذة الجامعة في ندوة المُصور بتاريخ نوفمبر سنة ١٩٨٣م التي أشرتُ إليها من قبل.
«تُعَد الدراسات العُليا في كلية الطب عن طريقَين: أحدهما بحث (وقد يكون ماجستير أو دكتوراه) ويشرف على ذلك أستاذ خلال إعداد البحث ثم ينتهي باختبارٍ تحريري وشفوي. ونظرًا لكثرة أعداد البحوث المُقدَّمة أصبحت هذه البحوث ذات مستوًى منخفض؛ تحصيل حاصل في الأغلب؛ ولذلك يستسهِل المُعيدون الأستاذ الذي يُنهي البحث في عامٍ واحد بدلًا من أربع أو خمس سنوات، والنتيجة أن مستوى البحث وصل إلى درجةٍ مُتدنية في ٩٠٪ من هذه البحوث. وهناك أدلَّة رقمية تدلُّ على ذلك، منها أن الشهادة العُليا للأمراض الباطنة في كليتنا هي الدكتوراه، بينما الشهادة العُليا المساوية لها تقريبًا في إنجلترا هي عضوية كلية الأطباء الملكية. وقد حدث لأربع مرَّاتٍ مُتتالية في السبعينيات أن دخل امتحان كلية الطب الملَكية أطباء من مصر، تأتي لجنة من إنجلترا لامتحانهم في مصر، وتكون النتيجة إما أن يرسبوا جميعًا أو ينجح واحد أو اثنان، لدرجة أن رئيس كلية الطب الملكية أرسل إلى نقيب الأطباء د. حمدي السيد، يقول إنه حائر في هذا الوضع الغريب؛ إذ إن ثلث الراسِبين مستواهم رديء إلى درجة أنه لن يُسمَح لهم بدخول الامتحان إلى الأبد، والثلث الثاني ذو مستوًى رديء ويحتاج إلى إعدادٍ لمدة عامَين قبل دخول الامتحان ثانية، والثلث الثالث مستواهم أيضًا رديء ولكن يُمكنهم إذا شدُّوا حيلهم أن يدخلوا الامتحان القادم. ولقد فوجِئتُ أن بعض مَن قيل لهم لا تدخلوا الامتحان إلى الأبد حاصلون على ماجستير أو دكتوراه في الأمراض الباطنة في مصر، ويعملون كأساتذة في الجامعة.»
«في كلية الآداب نوعان من الأساتذة: نوع أخذ على عاتقه أن يُلاحق التقدُّم الذي يجري في العالم، ونوع آخَر انغلق على نفسه واكتفى بالخبرة المحلية، وهي خبرة تفتقر إلى الأدوات التي تُعطيه أي مستوًى من المستويات، سواء أكان ذلك في اللُّغات أو في العِلم الذي يدَّعي أنه أستاذ فيه.»
«هذا الأستاذ يجري وراء المحاضرات التي تصِل إلى عشرين محاضرة في الأسبوع، ويجري أيضًا إلى الجامعات الإقليمية. وكانت النتيجة أنه أصبح مدرسًا على مستوًى ضعيفٍ جدًّا. وفي نفس الوقت أصبحت لجان الترقيات الأكاديمية خاضعة للتهديد. هذه اللجان في خطر. وإن لم تكن هناك خطة على أعلى مستوًى للدراسات العُليا فستكون النتائج وخيمةً، خاصة أن حاملي الدكتوراه كثيرون ويكادون أن يكونوا أُمِّيِّين.»
«الدراسات العُليا في بلادنا في محنة».
فإذا انتقلنا إلى الأسلوب الذي يتمُّ به صعود مدرس الجامعة في السلَّم الجامعي إلى الأستاذية، فسوف نجد أن لجان المجلس الأعلى المسئولة عن ذلك قد تحوَّلت إلى لجان شكلية على نطاق «شيلني وأنا أشيلك». وفي بعض الأحيان تضرب الجامعة عرض الحائط بقراراتها؛ فهذه حالة أستاذ مساعد رفضت اللجنة الدائمة ترقيتَه إلى أستاذ في تربية طنطا، فما كان من الجامعة إلا أن شكَّلت لجنةً أخرى لترقيته. وإمعانًا في التحدِّي عُيِّن عميدًا لكلية التربية!
تبقى كلمة عن الإدارة العُليا للجامعة.
إن الظاهرة التي تلفت النظر في اختيار رؤساء الجامعات ووكلائها في المرحلة الساداتية، هي هذا الكم الهائل من الفساد الذي ارتبط بأسماء الكثيرين منهم بعدَ تعيينهم، أو حتى قبل التعيين. هناك قصة رئيس جامعة المنصورة السابق الذي حُوِّل مع الأمين العام وثلاثة من أساتذة كلية الهندسة إلى المحكمة بتُهمة الرشوة. وهناك قصة رئيس جامعة الإسكندرية السابق المُتهم صراحةً بالتَّلاعُب في نتائج الامتحانات وفي تعيين المُعيدين. ولقد قامت لجنة من المجلس الأعلى للجامعات بالتحقيق في هذه الاتهامات، فوجدَت بعضها صحيحًا ولم تجِد السجلَّات المُتعلقة ببعضها الآخر. ثم قصة رئيس الجامعة الذي كان معروفًا للجميع في الستينيات أنه يُعطي الدروس الخصوصية في الطب، مقابل السيارات أو العملة الصعبة، ورئيس جامعة سابق آخر كان يعمل لحساب أجهزة الأمن مُتَّهم أمام المحاكم من بعض الأساتذة بسرقة مادة كُتُبهم في مؤلَّفاته. ورئيس خامس كانت كفاءته الأساسية هي شهاداته أمام لِجان الاستماع في مجلس الشعب، فضلًا عن شهاداته في المحاكم ضد الطلاب الذين يُصدرون مجلَّات حائط.
إن هذه الأمثلة توضح كيف أن فساد الجامعة كان جزءًا أساسيًّا من فساد السلطة في مصر في عهد السادات. وفي ظلِّ هذا النوع من الإدارة العُليا انهارت هذه المؤسسة الوطنية، وما زلنا نُعاني من آثار هذا الانهيار.
نعم لقد بقِيَت المباني، وما زالت المحاضرات تُعطى بشكلٍ أو آخر، وهناك أبحاث شكلية في غالبها ما زالت مستمرة، ولكن الذي انهار في الحقيقة هو روح البحث والدراسة، والإخلاص للأمانة العلمية والمعرفة، والمواجهة لكل جديدٍ في عصرنا، والقيادة المُفترَضة من الجامعة في المجتمع. وساد بدلًا من ذلك التبلُّد والجمود الفكري وهزيمة العقل والمُثُل والأمية الفكرية والروح التجارية تحت قُبة الجامعة.
ثانيًا: التشخيص لأزمة الجامعة
بعد هذا الحديث الطويل عن مظاهر الأزمة، ما هي حقيقة المرَض؟ بمعنًى آخر، ما هي طبيعة الأزمة؟
هذا السؤال هامٌّ لأنه لا يُتصوَّر علاج جادٌّ لأوضاع الجامعة دون تحليلٍ صحيح لطبيعة الأزمة. والحاصل أن الغالبية من رجال الجامعة يتفقون على توصيف كثيرٍ من مظاهر الأزمة، لكنهم يختلفون حول طبيعتها؛ وبالتالي حول المَخرج. وهذا الاختلاف في الحقيقة طبيعي لأنهم ينظرون إلى الجامعة من مواقع اجتماعية وطبقية مُختلفة.
إن عددًا من أساتذة الجامعة يُبسِّطون الأمور، عندما يقولون إن مشكلة الجامعة أساسًا هي مشكلة الأعداد الكبيرة، ويُرتِّبون على هذا التشخيص المُناداة بأنَّ الحل هو إلغاء المجانية والعودة إلى نظام المصروفات. وهذه النغمة تجد صدًى لدى عديدٍ من المسئولين في ضوء ضغوط صندوق النقد الدولي، لخفض الإنفاق على الخدمات مما يمسُّ، بطبيعة الحال، التعليم العام والجامعي وإنفاق وزارة الصحَّة على المُستشفيات. وأحيانًا يترتَّب على هذا التشخيص المناداة بعمل جامعةٍ أهلية، أي جامعة قطاع خاص.
وكأنما لا يكفينا تحوُّل أجزاء واسعة من التعليم العام إلى القطاع الخاص المنزلي، وسيادة روح التحيُّز ضد الطبقات الشعبية على طول سُلَّم التعليم وفي دخول الجامعة، حتى نُحوِّل بعض التعليم الجامعي إلى القطاع الخاص!
إن إنكار أن مشكلة الجامعة أساسًا هي مشكلة الأعداد الكبيرة، لا يَعني أن الأعداد الكبيرة في الجامعة الواحدة لا تُمثل عائقًا أمام قيام الجامعة بمهامِّها الأكاديمية.
ولكن لو كانت مشكلة الجامعة الرئيسية هي مسألة الأعداد الكبيرة فربما كان الحلُّ مُيسرًا. في هذه الحالة يكون المطلوب هو تقسيم الجامعة الكبيرة العدد (مثل جامعة القاهرة) إلى عددٍ من الجامعات والوحدات الأصغر والقابلة للإدارة حقًّا (كما حدث في أوروبا وبريطانيا وفرنسا خصوصًا) والاستعانة بالأساليب الحديثة في التواصُل بين الأساتذة والطلبة كالدوائر التليفزيونية المُغلقة، وإنشاء المزيد من المُدرَّجات والمباني والمكتبات، وزيادة عدد أعضاء البعثات إلى الخارج … إلخ. أي يكون الحلُّ من شقَّين: مالي وتنظيمي، لكني أشكُّ كثيرًا في أن تُحَلَّ أزمة الجامعة حتى لو تم هذا. وهو لن يتمَّ على أي حالٍ لأنه يحتاج إلى إنفاقٍ واسع واستثمارات كبيرة، مما يتعارض مع توجيهات صندوق النقد الدولي في ضغط الإنفاق الحكومي.
وفي رأيي أن التشخيص الحقيقي لأزمة الجامعة في الحقبة الأخيرة هو أنها جزء من أزمة النظام السياسي في مصر بشكلٍ عام، أزمة الضياع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي العام المُنعكِس على الجامعة بشكلٍ حاد، أي أزمة المسار الاقتصادي والاجتماعي والسياسي الذي سارت فيه مصر في المرحلة الساداتية، وما زالت تسير فيه، مسار الاعتماد على الخارج في توجُّهاتنا التنموية والسياسية، ممَّا أدى إلى سيادة سياسة الباب المفتوح، والأنشطة الطفيلية، وضغط السلطة والتبعية للإمبريالية الأمريكية، وسيادة القِيَم الاستهلاكية، والارتفاع الجنوني في الأسعار، وذبول الثقافة الوطنية وازدهار ثقافة التبعية والكوزموبوليتانية؛ ففي مثل هذا المناخ العام تفقد الجامعة مُبررات وجودها الحقيقية كحافزٍ على التقدُّم الفكري والاجتماعي، ورافعة في حلِّ مشاكل الإنتاج في قطاعَي الزراعة والصناعة، وتتحوَّل في الأغلب إلى طابع المدرسة الثانوية، أو إلى جامعة تابعة على ضوء البحوث المشتركة، والمشروعات البحثية المشتركة مع الجامعات والمؤسَّسات الأم في الولايات المتحدة. ويُصبح مثال الأمانة العلمية، والإصرار على المعرفة والابتكار، والتفوُّق الأكاديمي والإبداعي أشياء غير مطلوبة، ما دُمنا نعتمد على الخارج في كلِّ شيءٍ من القمح إلى الصاروخ، وما دامت التعليمات تأتي إلينا من الخارج على صورة «نصائح».
هل يعني هذا أن أزمة الجامعات لم تبدأ إلَّا في المرحلة الساداتية؟
رأيي الشخصي في الإجابة على هذا السؤال: لا؛ فالحقيقة أن أزمة الجامعات بدأ تزايُد الإحساس بها في أواخِر الستينيَّات إبَّان المرحلة الناصرية، وإن كانت بطبيعة الحال لم تأخُذ هذه الأبعاد المُدمِّرة والبعيدة المَدى إلَّا في فترة الانفتاح والتبعية التي بدأت مع المرحلة الساداتية. وما زلتُ حتى اليوم أتذكَّر المؤتمرات والندوات التي عُقدت على نطاق واسع بالجامعات لمناقشة مشاكلها عام ١٩٦٦م، عندما كان د. عزت سلامة وزيرًا للتعليم العالي، وكنتُ عضوًا في عديدٍ من اللجان التي شكلها الوزير لمناقشة هذه القضايا.
وعندما ألقي نظرة اليوم على تلك المرحلة أجِدُ أن طبيعة الأزمة التي تَوفَّر الإحساس بها آنذاك تختلف عن طبيعة الأزمة الراهنة. فقد كانت الخطة الخمسية الأولى (٥٩ /٦٠–٦٤/ ٦٥) قد انتهت، وكان ثمة شعور بعد انتهاء هذه الخطة أن دور الجامعة في هذا الجهد الوطني كان أقلَّ جدًّا مما ينبغي، وكان الاتجاه إلى إعادة طرح قضية الجامعة ودورها هو واحدًا من الدروس المُستخلَصة من إيجابيات وسلبيات تلك الخطة الأولى، كما كانت هناك بقايا الجفاء التقليدي بين المُثقفين والثورة، بين أهل الخبرة وأهل الثِّقة، كما كان لهذا الجفاء التقليدي أسبابٌ عديدة في مُقدمتها قرارات فصل أساتذة الجامعة التي أصدرَها مجلس قيادة الثورة في سبتمبر سنة ١٩٥٤م، وأزمة الديمقراطية السياسية التي واكبت الثورة. وكل ذلك كان عائقًا لمواكبة الجامعة للمشروع الوطني للتنمية، لكن إحدى المشاكل الرئيسية التي واجهت تلك المناقشات حول إصلاح الجامعة آنذاك تمثَّلت في عدم وضوح توجُّهات الثورة، وحالة التردُّد التي أصابت القيادة السياسية بعد انتهاء الخطة الخمسية الأولى. ثم لم تلبَث أن وقعت هزيمة سنة ١٩٦٧م، فدُفِع بقضية الجامعة إلى الخلف أمام تحدِّيات عسكرية وسياسية أكثر إلحاحًا.