الخطة الخمسية الجديدة في ميدان التعليم

أصدرت وزارة التخطيط وثيقة الخطة الخمسية الثانية (٨٧ / ١٩٨٨م–۹۱ / ١٩٩٢م)، بعد أن انتهت الخطة الخمسية الأولى في عهد الرئيس مبارك في ٣٠ يونيو سنة ۱۹۸۷م. وهذه الوثيقة تتضمَّن، ضمن أشياء أخرى، قسمًا عن التعليم. وهذا القسم يتضمَّن جزءًا خاصًّا بإنجازات الخطة الخمسية الأولى، وجزءًا آخر يتعلق بمشروعات الخطة الخمسية الجديدة، أي الخطة الثانية.

ومن الصعب على أي مراقبٍ جادٍّ أن يُسمِّي ما جاء في وثيقة وزارة التخطيط عن التعليم بأنه خطة؛ إذ إنه في الغالب الأعم يحتوي على كثيرٍ من العموميَّات، فضلًا عن امتلائه بالمُغالطات التي تستهدف تحسين الصورة القائمة والحالية في ميدان التعليم، كما أن بيانات هذه الخطة، سواء التي انتهت أو التي بدأت، تتناقض تناقُضًا صارخًا مع البيانات التي وردت في تقرير الاستراتيجية الذي قدَّمه وزير التعليم في مؤتمر التعليم، الذي انعقد بجامعة القاهرة في يوليو سنة ١٩٨٧م.

ولقد قسَّمتُ ملاحظاتي على وثيقة وزارة التخطيط في ميدان التعليم إلى قسمَين، أحدُهما يتعلق بالإنجازات المُدَّعاة في الخطة الخمسية الأولى، والثاني يتعلق بملاحظاتي عن مشروع الخطة الخمسية الجديدة التي بدأت في ٣٠ يونيو سنة ١٩٨٧م. ثم ختمتُ كل هذا بمقترحاتٍ بديلة — بشكلٍ مُوجَز — تصلح في رأيي لتفكيرٍ جديد في أزمة التعليم التي تزداد سوءًا عامًا بعد عام.

  • أولًا: ملاحظات حول «إنجازات» الخطة الخمسية الأولى.

    نبدأ ملاحظاتنا في هذا المجال بِبحث قضية الاستيعاب في المدارس؛ فالظاهر من بيانات مُتابعة الخطة أن نِسبة استيعاب المُلزَمين قد زادت من ٨٥٫٢٪ في ٨١ / ١٩۸۲م إلى ٩٦٪ في عام ٨٦ / ١٩٨٧م. وفي تقديري أنَّ هذه الزيادة هي وهمية إلى حدٍّ كبير.

    وقبل أن نُوضح أسباب ذلك يجدُر أن نذكُر أنه لا يوجَد بالخطة تعريف لتعبير «المُلزَمين». ويبدو أنَّ المقصود هم من بلغوا سنَّ السادسة في أكتوبر، مع أن المُلزَمين في الحقيقة يكونون أقلَّ من السادسة بشهورٍ قليلة، ويمتدُّون إلى من يدخلون السنة الأولى الابتدائية وهم في سن السابعة. وبالطبع فإن المقصود من تضييق تعريف المُلزَمين إلى مَن يبلغون سن السادسة في أكتوبر هو تصغير أعداد المقام في نِسَب الاستيعاب، بهدف زيادة النسبة إلى ٨٥٪، ٩٦٪!

    ولعلَّ أبلَغ دليلٍ على ذلك ما ورد في تقرير وزير التعليم الحالي «استراتيجية تطوير التعليم في مصر» (يوليو سنة ١٩٨٧م) من أن أعداد المَقبولين في الصف الأوَّل الابتدائي لعام ١٩٨٦م، إذا أُضيف إليها عدد المقبولين في المعاهد الأزهرية الابتدائية لنفس العام، نجِد أن المجموع يتجاوز عدد المُلزَمين من نفس العام. ومعنى هذا أن نسبة القبول في الصف الأول فاقت المائة في المائة! وبالطبع فإن السبب في هذا كلِّه هو اللجوء إلى خفض أعداد المُلزَمين بقصرِهم على من بلغوا السادسة بالضبط في أكتوبر.

    ومع ذلك فحتى لو كانت هذه النسب عن قبول المُلزمين صحيحة، فمِن الواضح أنها ليست النِّسَب الأكثر أهميةً لأنها لا تعكس ظاهرة التسرُّب في التعليمَين الابتدائي والإعدادي. وإنما النسبة الأكثر أهميةً هي نسبة أعداد المُسجَّلين في التعليم الابتدائي إلى من يقعون في شريحة العمر (٦–١٢) ونسبة أعداد المُسجَّلين في التعليم الإعدادي إلى من يقعون في شريحة العمر (١٢–١٥)، أو نسبة المُسجَّلين في التعليم الأساسي (الابتدائي والإعدادي معًا) إلى مَن يقعون في الشريحة (٦–١٥).

    ووفق تقرير اللجنة المصرية الأمريكية الصادر عام ۱۹۸۰م، فإن نسبة المُسجَّلين في التعليم الابتدائي هي ٦٨٫٢٪، ونسبة المُسجَّلين في التعليم الإعدادي هي ٥٨٪ أي إن ٣٢٪ من شريحة العمر (٦–١٢)، ٤٢٪ من شريحة العمر (١٢–١٥) ليسوا أصلًا في المدارس. ومعنى هذا أنَّ هناك ٣ ملايين طفل ليسوا أصلًا في المدارس، «وهي نسبة ذات دلالةٍ في مجتمع تعدادُه ٤٠ مليونًا» وفق نصِّ التقرير.

    هذه بيانات ۱۹۸۰م. فإذا انتقَلنا إلى الوضع الحالي نجِد صورةً أسوأ للغاية؛ فتقرير وزير التعليم د. سرور عن الاستراتيجية يقول عن التسرُّب في مرحلة التعليم الأساسي إنه وفقًا للنشرة الإحصائية للجهاز المركزي للتنظيم والإدارة، حول نُظم التعليم والتوظيف في مصر (العدد ٥ أكتوبر ١٩٨٦م)، فإنَّ حجم التسرُّب من التعليم الأساسي لعام ٨٣ / ١٩٨٤م يصِل إلى أكثر من ٧ ملايين طفل من مجموع ١٥ مليون طفل، في سنِّ الالتزام للتعليم الأساسي (٦–١٥).

    ويُسجل تقرير إنجازات الخطة الخمسية الأولى التزايُد المُستمر في نسبة المقبولين بالتعليم الثانوي الفني؛ بحيث بلغت نسبة المُقيَّدين بالتعليم الثانوي الفني ٦٠٪ من جُملة المقيدين بالتعليم الثانوي عمومًا. ونلاحظ هنا أولًا أن التعليم الفني مُخصَّص كليةً لأبناء الفقراء من العمال والفلاحين؛ لأن هؤلاء هم الذين يحصلون على أدنى المجاميع في امتحان الإعدادية. ومعنى تزايُد نسبة الالتحاق بالتعليم الفني هو تناقُص نسبة أبناء الفقراء القادِرين على الالتحاق بالتعليم العالي.

    كما نُلاحظ ثانيًا أن التعليم الفني هو بالدرجة الأولى تعليم تجاري؛ إذ إن ثُلثَي المقبولين بالتعليم الفني يلتحقون بالتعليم التجاري، والنسبة الأكبر من المُلتحِقين بالتعليم التجاري هي مِن الإناث، مع عدم حاجة البلاد إلى كل هذه الأعداد من خريجي المعاهد التجارية.

    كما نُلاحظ ثالثًا أن التعليم الصناعي الثانوي في أوضاعٍ سيئة؛ فهو يشكو من قلة التخصُّصات ونُدرة المدرسين الأكفاء وعجز الورش والمعامل (انظر تقرير وزير التعليم د. سرور عن الاستراتيجية صفحات ٤٥–٤٧).

    وفضلًا عن ذلك يتحدَّث تقرير وزارة التخطيط عن كثافة الفصول، فيعترِف أن متوسط كثافة الفصل في المرحلة الابتدائية قد زاد خلال سنوات الخطة الأولى، ولم تنخفِض في المرحلة الإعدادية. وإن كانت قد هبطت قليلًا في المرحلة الثانوية. ويقول التقرير إن عدد الفصول المُضافة في التعليم الابتدائي قد بلغ ٢٤ ألف فصل. ومعنى تزايُد كثافة الفصل في المرحلة الابتدائية أن تزايُد تلاميذ المرحلة الابتدائية، وأعداد الفصول القديمة التي آلت للسقوط، قد فاق تزايُد الفصول الجديدة.

    غير أن الصورة الحقيقية أسوأ من هذا بكثير؛ فالكثافات المُشار إليها في تقرير الخطة هي كثافات متوسطة، وهي تتضمَّن التعليم الحكومي والتعليم الخاص كما تتضمَّن الريف والمُدن. والوضع في التعليم الحكومي أسوأ من هذا بكثيرٍ وخصوصًا في الريف؛ فتقرير الاستراتيجية الذي قدَّمه د. سرور إلى مؤتمر التعليم في يوليو ۱۹۸۷م يعترِف أنه في كثيرٍ من مدارس الحكومة الابتدائية ترتفع كثافة الفصول إلى أكثر من ٦٠ تلميذًا في الفصل الواحد. وعدد المدارس الابتدائية التي تعمل بنظام الفترتَين أو الثلاث يصِل إلى ۸۷۷۲ مدرسة بنسبة ٦٨٪ من مدارس الحكومة. والتقرير يعترِف صراحةً أن هناك ۲۷۸۹ مدرسة ابتدائية تحتاج إلى إصلاح، ٩٥٩ مدرسة آيلة للسقوط. وفي التعليم الإعدادي هناك ٦٤٤ مدرسة تحتاج إلى إصلاح، ۷۲ مدرسة آيلة للسقوط.

    كما يذكُر تقرير الاستراتيجية أن هناك ۷۲۱ مدرسة ابتدائية لا تصِلها مياه شُرب من مصادر صحية، ٦٩٢ مدرسة ليس بها مرافق صحية أصلًا أو أن مرافقها الصحية غير صالحة، وفي المرحلة الإعدادية هناك ٢٣٣ مدرسة ليس بها مرافق صحية، أو أن مرافقها الصحية ليست صالحة للاستعمال.

    والحقيقة أن ما بُنيَ من فصول خلال الخطة الخمسية الأولى هي دون المطلوب بكثيرٍ، متى راعَينا تزايُد أعداد التلاميذ بتزايد السكان وتزايد المدارس الآيلة للسقوط. والدليل على ذلك ما يقوله الوزير في تقرير الاستراتيجية وهو بالنص كما يلي:

    «أما بالنسبة لعدد الأبنية التعليمية، فإنه مع ازدياد السكان وازدياد عدد التلاميذ زاد الضغط على المباني المدرسية. وعلى الرغم من زيادة بناء المدارس فإن هذه الزيادة كانت دون المستوى المطلوب، ولم تنجح في تنفيذ الخطة التي رسمتها الوزارة لزيادة الأبنية التعليمية. وقد أسهم في ذلك بيروقراطية الجهاز الإداري وقلَّة الاعتمادات المالية المُخصَّصة من قِبَل الحكومة، وضعف الجهود الذاتية من قبل القادِرين.»

    هذه هي الصورة الحقيقية. ومع ذلك فحتى ادِّعاء تقرير الخطة بأنه قد أُضيف في جميع مراحل التعليم ٥٣ ألف فصل خلال الخطة الخمسية الأولى، أي بمعدل ۲۸ فصلًا يوميًّا، هو محلُّ تشكيك العديد من العامِلين في وزارة التربية والتعليم.

    وتقرير الخطة لا يذكُر شيئًا عن التحسُّن أو التدهور في تطبيق نظام الفترتَين أو الثلاث فترات في مرحلة التعليم الأساسي، ولا ماذا حدث في نظام اليوم المدرسي الكامل الذي أُعلِن في الماضي عن تنفيذه، ومن باب أولى ماذا حدث لمشروع تغذية التلاميذ بالمدارس، بعدما تخلَّت عنه هيئة المعونة الأمريكية.

  • ثانيًا: مشروع الخطة الجديدة (۸۷ / ۱۹۸۸م–۹۱ / ۱۹۹۲م).

    من الصعب على الإنسان أن يقبل المكتوب في تقرير وزارة التخطيط، كخطةٍ لقطاع التعليم خلال السنوات الخمس القادمة؛ فليس هناك أهداف مُحددة للتعليم في هذا التقرير باستثناء بعض العموميَّات مثل «بث القِيَم الروحية والسلوكية» أو «التكوين المُتكامِل للفرد» … إلخ. وليس في التقرير التزاماتٌ مُحددة من ناحية رفع نِسَب الاستيعاب في التعليم الابتدائي أو الإعدادي، أو من ناحية تجديد هياكل التعليم الفني الصناعي أو الزراعي، أو من ناحية الخطة لإعداد المُعلم في المجالات التي تشكو من نقص تخصُّصات تعليمية مُعينة، مثل اللغة العربية واللغات الأجنبية ومُعلمي المدارس الصناعية والزراعية حيث تصِل نسبة العجز في المُدرِّسين إلى ٦٨٪ في التعليم الصناعي، ٤٠٪ في التعليم الزراعي، وحيث يصِل العجز في مدرسي اللغة العربية في التعليم العام إلى ٨٥٦٢ مدرسًا، وفي اللغات الأجنبية إلى ۳۷۱۲ مدرسًا (انظر تقرير الاستراتيجية لوزير التعليم)، أو الالتزام بخفْض مُحدَّد في نسبة الأميين بالبلاد خلال الخطة الثانية، أو تطوير مناهج التعليم أو بحث إمكانيات بدء تنفيذ مشروع المدرسة الشاملة الثانوية التي تُتيح لنا الخلاص مستقبلًا من ازدواجية التعليم الثانوي.

    ومع ذلك فلا يمكن اعتبار هذا الوارد في تقرير وزارة التخطيط حتى بمثابة برنامج استثماري في ميدان التعليم، فليس بالتقرير كلمة واحدة عن استثمارات الخطة في قطاع التعليم ومصادر التمويل، مع العلم بأن مشكلة التمويل في التعليم من وجهة نظر رئيس الحكومة الحالي د. عاطف صدقي هي المشكلة الأساسية.

    لكن الخطة تُركز على الالتزام برفع نسبة المقبولين في التعليم الابتدائي من ٩٦٪ عام ٨٦ / ١٩٨٧م  إلى ٩٦٫٤٪ عام ۹۱ / ۱۹۹۲م!

    وهذا هزل ليس بعدَه هزل؛ فلو كنَّا حقًّا قد وصلنا إلى نسبة ٩٦٪ من استيعاب المُلزَمين، لما كانت هناك حاجة للتعرُّض لهذا الموضوع أصلًا في الخطة الخمسية الثانية، ولَما كانت هناك حاجة إلى زيادة نسبة الاستيعاب من ٩٦٪ إلى ٩٦٫٤٪ خلال خمس سنوات. سوف نُلاحظ أيضًا أن الحديث عن الخطة يتعلق بأعداد المقبولين في مرحلة مِن المراحل، أي بالمُدخلات إلى النظام التعليمي. أما ما يحدُث لهذه المُدخلات داخل النظام، وأعداد المُخرَجات فلا يتعرَّض لها التقرير بكلمة.

    إن هناك التزامًا بزيادة نسبة المقبولين بالتعليم الابتدائي بنسبة ١٣٫٢٪ خلال السنوات الخمس (وهي نسبة زيادة السكَّان خلال نفس الفترة)، ٣١٪ في التعليم الإعدادي، وهناك التزامٌ بإضافة ٤٦ ألف فصلٍ جديد في مرحلة التعليم الأساسي. ومع ذلك يعترِف التقرير أن كثافة الفصل في التعليم الابتدائي لن تتحسَّن بعد تنفيذ الخطة الخمسية الثانية، وأن ثمة تحسُّنًا طفيفًا مرجوًّا للمرحلة الإعدادية.

    كما يتحدَّث التقرير عن توجُّه الخطة لزيادة نسبة المقبولين في التعليم الثانوي الفني على حساب التعليم الثانوي العام؛ بحيث تصِل نسبة المقبولين في التعليم الفني إلى ٦٢٪، ومع ذلك نرى من الجدول «٦٢» بتقرير الخطة أن نِسبة المُسجَّلين في التعليم التجاري عام ٩١ / ۱۹۹۲م تظل تمثل نحو نصف تلاميذ التعليم الفني، وترتفع كثافة الفصل في التعليم الزراعي والتجاري في نهاية الخطة مقارنة بسنة الأساس ٨٦ / ١٩٨٧م.

    ومن العيوب الفاضحة في هذه الخطة أنه لا يوجَد بها أي تصوُّر عن خطة لتلافي العجز في أعداد المدرِّسين القائم حاليًّا في بعض تخصُّصات التعليم الأساسي أو الثانوي الفني أو الثانوي العام.

    أيضًا من مآسي التعليم الحالي موضوع المدارس التجريبية الرسمية للغات؛ فرغم أن جميع التربويين — وهيئات التربية الدولية مثل اليونسكو — يُجمعون على أن تعليم اللغات الأجنبية في المرحلة الابتدائية يؤدِّي بشكلٍ عامٍّ إلى تشويش الطفل ويتمُّ عادةً على حساب اللغة القومية، فإن وزارة التربية والتعليم تتعامى، في ظلِّ ضغوط الانفتاح، عن هذه القاعدة التربوية المُستقرة، وتمضي في التوسُّع في هذه المدارس الحكومية بمصاريفها الباهظة مع أنها تدَّعي الالتزام بمجانية التعليم!

    ومع أن د. فتحي سرور دعا في تقريره عن الاستراتيجية إلى إعادة النظر، وإعادة تقييم لتجربة هذه المدارس «حتى لا تكون بابًا خلفيًّا لتجاوز ديمقراطية التعليم من حيث تكافؤ الفرص» (انظر تقرير الوزير صفحة ١٢٤)، فإنَّنا نُفاجأ في تقرير الخطة الخمسية الثانية بأن الدولة تستهدف «التوسُّع في إنشاء المدارس التجريبية في اللغات ومد خدماتها لتشمل المرحلة الثانوية إلى جانب الحضانة والابتدائي والإعدادي اعتبارًا من ۸۸ / ۱۹۸۹م، وذلك رغبة في الاستجابة لإقبال المواطنين على تعليم أولادهم في هذا النوع من التعليم»!

    ومعنى هذا في الحقيقة الإمعان في خلق نمطَين من التعليم العام؛ نمَط أرستقراطي «غربي» بالمصروفات، ونمَط آخر من التعليم لأبناء الفقراء يتحوَّل تدريجيًّا إلى المدارس الإلزامية القديمة التي كانت قائمة إبَّان الملكية.

    إن هذه السياسة هي استمرار للسياسات العامة للدولة التي يجري تنفيذها حاليًّا لخلق نمَطين من الاستهلاك، ونمطَين من الخُبز، ونمَطَين من المواصلات، ونمطَين من العلاج والمستشفيات … إلخ.

    ثم نأتي إلى الشذرات السريعة عن التعليم الجامعي؛ حيث تزداد الخطة إمعانًا في خفض نِسَب المقبولين بالجامعات، وتعترِف أنها تستهدف الحدَّ من القبول بالجامعات؛ بحيث لا تتعدَّى الزيادة السنوية ١٪ التي هي أقل من نصف الزيادة السنوية للسكان، وبحيث ترتفع نسبة المَقبولين في المعاهد العُليا الفنية من ٤٣٪ من جملة المُلتحِقين بالتعليم العالي عام ٨٦/  ۱۹۸۷م إلى ٥٠٫٦٪ في ٩١ / ۱۹۹۲م، وتنخفِض نسبة المُلتحِقين بالجامعات من ٥٧٪ إلى ٤٩٫٤٪ عن نفس الفترة. وهذا الخفض في نسبة المُلتحِقين يمسُّ أبناء الفقراء أساسًا الذين يذهب معظمهم إلى الكليات النظرية. ويلاحظ أيضًا تثبيت نِسَب الالتحاق بالكليات العملية، مع أنه كان من المُفترَض أن خُطط التنمية وطلبات الدول العربية تستدعي بعض الزيادة في هذه النِّسَب.

    أيضًا من المُلاحَظ أنه لا يُوجَد أي شيءٍ في الخطة عن محاولة إصلاح أحوال هذه المعاهد العُليا، التي هي أقرب إلى معاهد شكلية لا يتوفر في مُعظمها الحدُّ الأدنى من الاستعدادات الفنية، أو هيئات التدريس المُتخصِّصة أو المُدرَّجات المناسبة … إلخ.

    ولا تُوجَد في الخطة أي تطلُّعات لمشروعات تُعالج الأوضاع المُتأزِّمة في جامعاتنا، من ناحية ازدحامها بالطلاب وقصور المُدرَّجات والمعامل وهيئات التدريس، عن مواجهة الأعداد الضخمة. ومِن هذه المشروعات الجديرة بالتفكير تقسيم الجامعة الواحدة الكبيرة إلى عددٍ من الجامعات الأصغر والأكثر تخصُّصًا، أو بحث إنشاء كليَّات دراساتٍ عُليا، أو غير ذلك من المشروعات التي سبق طرحُها ومناقشتها في أوساط الجامِعيِّين.

    وأخيرًا تُوجَد فقرة يتيمة عن الخطة الاستثمارية للتعليم العالي، وتُقدَّر استثمارات الخطة بنحو ۷۸۲ مليون جنيه، منها ٤٩ لاستكمال معاهد إعداد الفنيين، ١٥٠ مليون جنيه للبعثات، والباقي وقدرُه ٥٨٣ مليون جنيه موزَّعة بين الجامعات للمعامل والوِرَش والإسكان الطلابي والمُستشفيات الجامعية … هكذا دون أي تفصيل.

  • ثالثًا: هل هناك بديل لسياسات التعليم الحالية؟

    إن إجابتنا على هذا السؤال هي: نعم، هناك بديل، وقد لا يتَّسع المجال هنا لبحثٍ تفصيليٍّ لهذا البديل، غير أنَّنا نضع بعض المحاور العريضة التي تُعبر عن هذا البديل.

    وأول نقطة ينبغي مواجهتها بصراحةٍ هي قضية تمويل التعليم، وضرورة توفير موارد كافية لمواجهة أزمة تدهوُر التعليم، سواء من ناحية العجزِ المُستمرِّ في بناء المدارس بالقياس إلى مُتطلَّبات زيادة السكان، والإحلال للمدارس الآيلة للسقوط أو غير الصالحة، ولإلغاء نظام الفترات المُتعدِّدة في المدرسة الواحدة. وفي تقديرِنا أنه لا يُوجَد حل لمشكلة التمويل إلَّا بإنشاء «صندوق للتعليم» يُموَّل بفرض ضرائب على الأثرياء باسم التعليم، وتصبُّ فيه أيضًا أي تبرُّعات من أهل الخير؛ وبذا يمكن الارتفاع بنصيب التعليم من الميزانية السنوية. إن حلَّ مشكلة التمويل هو الشرط الضروري وغير الكافي لمواجهة مشاكل التعليم.

    أما الأمر الثاني فهو الالتزام برفع نسبة المُسجَّلين في التعليم الأساسي، من مستواها الحالي الذي لا يزيد عن ٧٥٪ إلى ما لا يقلُّ عن ٩٠٪ خلال السنوات الخمس القادمة. ويقتضي هذا وقفَ نزيف التسرُّب والعناية بتقديم وجبة لتلاميذ التعليم الأساسي خصوصًا في الريف، وتحديد نسبة سنوية من المدارس للعودة إلى نظام اليوم الكامل.

    وينبغي ثالثًا إعادة النظر في مدارس اللُّغات بالمرحلة الابتدائية، بهدف إلغائها تدريجيًّا باعتبارها بابًا خلفيًّا للقفز فوق قاعدة تكافؤ الفرص التي ينصُّ عليها الدستور، وباعتبار أن تدريس اللغة الأجنبية في المرحلة الابتدائية يتم على حساب اللُّغة القومية، ووقف التوجُّه نحو فتح مدارس ثانوية من هذا الطراز.

  • رابعًا: الالتزام بتوحيد المناهج والبرامج المشتركة بين التعليم الأزهري (المرحلة الابتدائية والإعدادية) والتعليم المدني الرسمي والتعليم الخاص الأجنبي، بهدف دعم الوحدة الوطنية مع التركيز على اللغة العربية والتاريخ القومي والحساب في المرحلة الأولى من التعليم الأساسي.
  • خامسًا: ربط التعليم الثانوي الفني بالمؤسسات المُنتجة لدى القطاع العام الصناعي والزراعي والإنشاءات والكهرباء والبترول؛ بحيث يكون لهذه الجِهات قدْر من الإشراف الإداري والتمويل لهذه المدارس، وبحيث يقضي التلميذ نصف العام في المدرسة والنصف الآخر في المصانع والمزارع ومؤسسات القطاع العام.
  • سادسًا: تطوير نظام الثانوية العامة؛ بحيث تتوفَّر توليفة مُتعددة بين المواد التعليمية، ويتَّسع الاختيار بما يتلاءم مع التطوُّرات العلمية في الجامعات، مع المحافظة على نظام القبول بالجامعات وإلغاء اعتماد شهادة الثانوية البريطانية للقبول بالجامعات.
  • سابعًا: بدء دراسة جديدة لفكرة المدرسة الشاملة في المرحلة الثانوية بحيث يُتاح بحث فكرة توحيد المدرسة الثانوية الفنية والمدرسة الثانوية النظرية في نظامٍ واحد في المستقبل.
  • ثامنًا: إعادة مؤسسة الأبنية التعليمية وتوفير موارد كافية لبناء المدارس؛ بحيث يتحقَّق إقلالٌ جادٌّ من كثافة الفصول خلال السنوات الخمس القادمة.
  • تاسعًا: البدء في تقسيم الجامعات الكبيرة (القاهرة وعين شمس والإسكندرية خصوصًا) إلى جامعات أصغر تخصُّصًا تقوم على الأقسام كوحدة الجامعة — لا الكليات — والبدء في تنفيذ كلية الدراسات العُليا في بعضها.
  • عاشرًا: رفع المستوى المادِّي لمُدرس التعليم العام ولهيئات التدريس في الجامعات، مع التأكيد على الاستقلالية الأكاديمية لها وإلغاء الحرس الجامعي والعودة إلى اللائحة الطلَّابية لعام ١٩٧٦م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٥