الفصل الأول

إلى مكانٍ بعيدٍ كباليرمو

تسيطر على المرء حاجة مُلحة إلى التَّرحال. والأكثر من ذلك، أن يرحل قاصدًا وجهةً بعينها. وهكذا تصبح الحاجة حاجتين: أن ترحل، وأن تعرف وجهتك التي سترحل إليها.

لماذا لا يمكن للإنسان أن يظل قابعًا في مكانه؟ هنا في صقلية الأجواء غاية في الجمال: البحر الأيوني المشمس، تلك الجوهرة المتلونة لإقليم كالابريا، الذي يشبه حجر أوبالٍ ناريٍّ تحرَّك تحت الضوء؛ إيطاليا والمشهد البانورامي لسُحُب ليلة عيد الميلاد، ليلة يلمع في سمائها كوكبة نجوم الكلب الأكبر التي تعكس خيطًا طويلًا من البريق المتلألئ عبر البحر، وتبدو كما لو كانت تنبح علينا، بينما تسير كوكبة الجوزاء فوقنا؛ كيف تتطلع كوكبة الكلب الأكبر إلى الرائي، كيف تتطلع إلى الرائي؟! إنه كلب صيد في السماء، أخضر، وساحر، وشرس! … وها هو نجم المساء العظيم، يلمع غربًا أعلى المنحدرات الشاهقة الحادة في صقلية؛ ثم جبل إتنا، الذي يبدو كساحرة شريرة، وهو يبسط ثلوجه الكثيفة البيضاء تحت السماء، ثم ينشر دخانه البرتقالي رويدًا رويدًا. أطلق عليه الإغريق عمود السماء. يبدو للوهلة الأولى أن تلك التسمية خاطئة؛ إذ إن الجبل يمتد لأعلى في مسارٍ طويلٍ وسحري وسلس، ابتداءً من حافة البحر وحتى قمته المخروطية المثلَّمة، لكنه لا يبدو شاهقًا. إنه يبدو منخفضًا بعض الشيء تحت السماء. ولكن بما أن المرء أكثر دراية به، فيا لَهيبته وقوَّته الساحرة! فهو بعيد تحت السماء، ومنعزل، وهو قريب للغاية، لكن ليس منَّا. عبثًا حاول الرسامون أن يرسموه، وعبثًا حاول المصوِّرون أن يلتقطوا صورًا له. فما السبب؟ السبب هو أن سلاسل الجبال القريبة، بما تضمه من أشجار الزيتون والمنازل البيضاء، تلك هي القريبة منَّا. لأن قاع النهر، ومستعمرة الناكسوس القابعة تحت أعماق بساتين الليمون، ومستعمرة الناكسوس الإغريقية أسفل بساتين الليمون المزهرة ذات الأوراق الداكنة، وأطراف جبل إتنا وسفوحه، هي التي لا تزال تنتمي إلى عالمنا، عالمنا نحن. حتى القرى العالية الكائنة بين أشجار البلوط على أرض إتنا. أما إتنا نفسه، إتنا ذو الرياح الثلجية المتقلبة والخفية، فيقبع وراء جدار بلوري. حين أنظر إلى هيئته البيضاء، القصيرة، الشبيهة بساحرة تحت السماء، تنشر دخانها البرتقالي رويدًا، وتنفث أحيانًا لهبًا أحمر ورديًّا، حينها أجد نفسي مرغمًا أن أُشيح بناظري عن الأرض، وأتطلع إلى السماء، إلى السماء الدنيا. هناك، في تلك المنطقة النائية، يقف إتنا وحده. إن كنت تريد أن تراه، فعليك أن تحلق بعينيك بعيدًا عن الدنيا وتذهب كعرَّافٍ عارٍ إلى الغرفة الغريبة بالسماء العليا. إلى عمود السماء! كان للإغريق حس مرهف بالحقيقة الساحرة للأشياء. حمدًا للرب أن المرء لا يزال يعرف ما يكفي عنهم ليكتشف نسبه أخيرًا. هناك الكثير من الصور الفوتوغرافية، وعدد لا حصر له من اللوحات بألوان مائية وأخرى زيتية تدَّعي أنها تصور جبل إتنا. ولكنه في الحقيقة عمود السماء! وعليك أن تجتاز ذلك الحاجز الخفي كي تراه على حقيقته. فبين المشهد أمامك، الذي هو مِلك لنا، وإتنا ملتقى الرياح في السماء الدنيا، ثمة خط فاصل. لا مفرَّ من أن تغير حالتك الروحية. أن تدخل في حالة من تناسخ الأرواح. فلا فائدة تُرجى من الظن أن بإمكانك أن ترى إتنا والمشهد الأمامي وتتأملهما في اللحظة نفسها. مستحيل. إما هذا أو ذاك. إما المشهد الأمامي وإتنا المستنسخة. أو إتنا، عمود السماء!

لماذا إذن ينبغي للإنسان أن يسافر؟ لماذا لا يبقى؟ يا لَعشقي لإتنا! برياحه الغريبة التي تطوف حوله كنمور الإلهة سيرس، التي كانت بعضها سوداء، وبعضها بيضاء. وبرسائله الغريبة والبعيدة وانبعاثاته الثائرة المخيفة. تُجنُّ جنون الرجال. بتلك الذبذبات الكهربائية اللعينة والأخاذة التي ينشرها حوله، كشبكة مميتة! كلا، بل في بعض الأحيان يشعر المرء، صدقًا، أن تيارًا جديدًا من جاذبيته الشيطانية يقبض على الأنسجة الحية في الإنسان ويبدد الحياة الهادئة لخلاياه النشطة. فيُحدِث زوبعةً في البلازما الحية ويُدخل تعديلًا جديدًا عليها. وأحيانًا يبدو التعديل وكأنه ضرب من الجنون.

إتنا تلك الحسناء الإغريقية الخالدة، في حُسنها الطاغي تحت السماء، جميلة إلى أبعد حد، في منتهى الجمال، كم تعذبنا بجمالها! لا يقوى كثيرٌ من الرجال على مقاومتها، من دون أن تُسلبهم أرواحهم. إنها تشبه الإلهة سيرس. ما لم يكن الرجل ذا قوةٍ عاتية، فإنها تَنتزع منه روحه وتتركه ليس مجرد حيوان شرير، بل كائن خرافي، ذو ذهنٍ متقد وبلا روح. تتركه كائنًا رائعًا متقد الذهن، لكنه بلا روح، مثله كمثل الصقليين في إتنا. هم آلهة ذهنها متقد، وعلى المستوى الإنساني، حسب معتقدنا، هم أغبى الناس على وجه الأرض. يا لَلرعب! كم من الرجال، والأجناس، أجبرتهم إتنا على الفرار؟ كانت هي من قضت على روح الإغريق المتوهجة. وبعد الإغريق، منحت الرومان، والنورمانديين، والعرب، والإسبان، والفرنسيين، والإيطاليين، وحتى الإنجليز، منحتهم جميعًا وقتها المُلهِم وأنهكت أرواحهم.

ربما هي التي لا بد للإنسان أن يهرب منها. على أي حال، لا مفرَّ من الرحيل، وفي الحال. فبعد العودة إليها في نهاية أكتوبر فقط، لا يجد الإنسان مفرًّا من أن يهرب مبتعدًا عنها. وها نحن لم نتجاوز الثالث من شهر يناير. ولا يحتمل المرء منَّا الرحيل. لكن ها أنت الآن، أمام أمر إتنا بالرحيل.

•••

إلى أين سوف تُشَد الرِّحال؟ هناك جِرجنت في الجنوب. وهناك تونس. إلى جرجنت، وينابيع الكِبريت ومعابد حراس الآلهة الإغريقية، ألِكَي يزداد الإنسان جنونًا؟ أبدًا. ولا مدينة سيراكيوز وجنون محاجرها الهائلة. إلى تونس إذن؟ إفريقية؟ ليس بعد، ليس بعد. ولا أي بلدٍ عربي، ليس الآن. إلى نابولي، روما، فلورنسا؟ ليست أفضل الخيارات على الإطلاق. إلى أين إذن؟

إلى أين إذن؟ إسبانيا أم سردينيا. إسبانيا أم سردينيا. سردينيا، التي لا يشبهها مكانٌ آخر. سردينيا، التي لا تاريخ لها، ولا عِرق، ولا إسهامات. فلتكن سردينيا إذن. يُقال إنه لا الرومان ولا الفينيقيون، ولا الإغريق ولا العرب قد تمكنوا من إخضاع سردينيا. فهي تقبع في الخارج؛ خارج دائرة الحضارة. كإقليم الباسك. لقد أصبحت مدينة إيطالية الآن بلا شك، بسككها الحديدية وحافلات نقل الركاب. لكن لا يزال في سردينيا جانب لم يُلتفت إليه. صحيح أنها واقعة في شِباك هذه الحضارة الأوروبية، لكن أحدًا لم يصطدها بعد. والشبكة تزداد قِدَمًا واهتراءً يومًا بعد يوم. وباتت أسماك كثيرة تتفلت من شبكة الحضارة الأوروبية القديمة. مثل ذلك الحوت الروسي الضخم. وربما سردينيا أيضًا. إلى سردينيا إذن. فلتكن الوجهة سردينيا.

•••

هناك باخرة تُبحر مرة كل أسبوعين من باليرمو، وستبحر الأربعاء القادم، أي بعد ثلاثة أيام. لننطلق إلى هناك، إذن. بعيدًا عن جبل إتنا المَقيت، والبحر الأيوني، وهذه النجوم الضخمة بضوئها المنعكس على المياه، وأشجار اللوز ببراعمها الناتئة، وأشجار البرتقال المثقلة بثمارها الحمراء، وعن كل هؤلاء الصقليين الذين لا يمكن احتمالهم ويثيرون الجنون والغضب، والذين لم يعرفوا الحقيقة قطُّ وفقدوا كل تصور لمعنى كلمة إنسان منذ زمن طويل. فهم أشبه بكائنات شيطانية. هيَّا بنا!

لكن، اسمحوا لي أن أقر، باعترافٍ هامشي، بأنني لست واثقًا على الإطلاق إن كنت حقًّا لا أفضِّل هؤلاء الشياطين على إنسانيتنا الطاهرة المقدسة.

لماذا يخلق الإنسان هذه المشقة لنفسه! أن يُضطر للاستيقاظ من نومه في منتصف الليل … في الساعة الواحدة والنصف … لينهض ويتفقد الساعة. بالطبع هذه خدعة من ساعة أمريكية قد توقفت، بوجهها الفسفوري الوقح. الواحدة والنصف! الواحدة والنصف، وفي ليلة مظلمة من ليالي يناير. همم، حسنًا! الواحدة والنصف! ونوم مضطرب حتى أصبحت الساعة الخامسة أخيرًا. فيضيء شمعة وينهض.

الصباح المعتم الكئيب، ضوء الشمعة، المنزل الموحش. لا بأس، إذن، يفعل الإنسان كل تلك الأشياء من أجل سعادته. فيشعل النار في الفحم ويضع عليه إبريق الشاي. وها هي ملكة النحل (الاسم الذي يطلقه لورانس على زوجته) تأتي مرتعدة مرتدية نصف ملابسها، مع شمعتها المتذبذبة البائسة.

تقول وهي ترتجف: «هذا ممتع.»

فأقول بتجهم شديد: «عظيم.»

أملأ الترمس بشاي ساخن في البداية. ثم أقلي شرائح اللحم المُقدَّد — لحم مقدد إنجليزي ذي مذاق طيب من مالطا، جاءنا من حيث لا ندري، في الواقع — ثم أجهز شطائر اللحم. وكذلك شطائر البيض المقلي. وأحضر الخبز والزبد أيضًا. وقليلًا من شرائح الخبز المحمَّص للإفطار، ومزيدًا من الشاي. لكن أفٍّ، من يشتهي الطعام في هذه الساعة العجيبة، خاصةً إذا كنت ستهرب من صقلية المسحورة.

أَبدأ في تعبئة حقيبة صغيرة نطلق عليها المطبخ المتنقل (كيتشنينو). فأضع بها كحولًا ميثيليًّا، وقِدرًا صغيرًا من الألومنيوم، ومَوقِدًا كحوليًّا، وملعقتين، وشوكتين، وسكينًا، وطبقين من الألومنيوم، وملحًا، وسكرًا، وشايًا … وماذا أيضًا؟ الترمس الحراري، ومجموعة الشطائر المتنوعة، وأربع تفاحات، وعلبة قصديرية صغيرة من الزبد. أشياء كثيرة على أن تتسع لها الحقيبة، وكثيرة علينا أنا وملكة النحل. ثم حقيبة الظهر الخاصة بي وحقيبة اليد لملكة النحل.

تحت غطاء السماء المظلمة التي ملأت نصفَها الغيوم، بعيدًا عند حافة البحر الأيوني، بزغ أول شعاع ضوء، مثل معدِن ينصهر. تناولنا فنجان الشاي مع قليل من الخبز المحمص. وأسرعنا بغسل الصحون، حتى نجد المنزل في وضع مقبول عند عودتنا إليه. وأغلقت نوافذ باب الشرفة بالطابق العلوي ونزلت. أوصدت الباب؛ إذ لم يستغرق مني النصف العلوي من المنزل وقتًا طويلًا.

كانت السماء والبحر ينفصلان كانفصال صدف المحار، ليتخذا شكل فمٍ فاغر أحمر. إن النظر من الشرفة إلى هذا المشهد يجعل جسدك يرتجف. ليس بسبب برودة الجو. فالصباح ليس باردًا على الإطلاق. ولكن لأنه نذير شؤمٍ؛ فذلك الفلَق الأحمر الممتد بين السماء المظلمة والبحر الأيوني المظلم، كمحار ذي صدفتين مفزعتين حمل الحياة بين شفتيه طويلًا. وها نحن هنا، في هذا المنزل، نستقر بقوة فوق مشهد الشروق، مكشوفَين له.

أغلقت نوافذ باب الشرفة في الطابق السفلي. لا يمكن لأحد أن يحكم غلقه تمامًا. فحرارة الصيف جعلته ملتويًا من ناحية، وسيول أمطار الخريف جعلته ملتويًا من الناحية الأخرى. لذلك وضعت كرسيًّا وراءه. أغلقت آخر باب وخبأت المفتاح. علقت الحقيبة على ظهري، وأخذت حقيبة المطبخ في يدٍ وتطلعت إلى المكان حولي. أخذَت حمرة الفجر تتسع، بين البحر الأرجواني والسماء المثقلة بالغيوم. ثمة ضوء هناك عند دَير الرهبان. والديكة تصيح، وفي الأصداء نهيق طويل وزاعق وحزين لحمار أصابه فُواق. «كل النساء مِتن، كل النساء متن … هيق ها! هيق ها! هيق ها! ولم تتبقَّ إلا واحدة.» وبهذا أنهى نهيقًا يُسليه في مصابه. هذا ما يخبرنا به العرب من أن الحمار عندما ينهق فهو يولول.

•••

الظلام حالك تحت شجرة الخروب الضخمة ونحن نهبط على درجات السُّلم. الحديقة لا تزال مظلمة. يفوح منها عبير شجرة المِيمُوزا، ثم رائحة الياسَمين. لكن شجرة الميموزا البهية لا يمكن أن تبصرها عينك. الطريق الصخري مظلم. والمعز يثغو من حظيرته. والمقبرة الرومانية المهدَّمة المتدلية على طريق الحديقة مباشرة لم تهوِ عليَّ وأنا أنسَلُّ أسفل جانبها الضخم المائل. أيتها الحديقة المظلمة، أيتها الحديقة المظلمة، بما بك من أشجار الزيتون والعنب الأحمر، وأشجار المشملة، والتوت، وأشجار اللوز الكثيرة، وبشرفاتك المنحدرة القابعة عاليًا فوق البحر، سأتركك، سأتسلل منكِ إلى الخارج. سأخرج بين أسياج إكليل الجبل، من البوابة العالية، على الطريق الحجري المنحدِر الشاق. سأتسلل تحت أشجار الكافور الداكنة الضخمة، ثم فوق مجرى الماء، ومنه أنطلق في اتجاه القرية. وعندئذٍ، أكون قد قطعت شوطًا كبيرًا.

•••

يحُلُّ الفجر الآن … الفجر، وليس الصبح، فالشمس لن تكون قد أشرقت بعد. القرية كلها شبه مظلمة في الضوء الأحمر، ولا تزال في سُباتها. لا أحد عند النافورة بجانب بوابة الدَّير؛ فلا يزال الظلام حالكًا. هناك رجلٌ يقود حصانه بالقرب من ناصية قصر كورفايا. وهناك رجل أو رجلان من ذوي البشرة السمراء يقفان عبر طريق كورسو. وكذلك على حافة المنحدر، وعبر الشارع المرصوف بين المنازل، وواجهة التل الجلية للأنظار. هكذا يبدو الساحل وقت الفجر في صقلية. بل الساحل في أوروبا. ساحل منحدرٌ، كمنحدر صخري ضخم، يغشاه مشهد الفجر. فجر مائل إلى الحُمرة، ممزوج بغيوم سوداء متكتلة، ولمسة ذهبية. لا بد أن الساعة السابعة. ها هي المحطة في الجنوب، بجانب البحر. وضجيج قطار. أجل، قطار. وما زلنا أعلى الدرب المنحدر، متجهَين إلى الأسفل في مسار متعرج. لكنه القطار المتجه من ميسينا إلى كاتانيا، الذي يسبق قطارنا بنصف ساعة، المتجه من كاتانيا إلى ميسينا.

•••

فليتحرك إذن، وينحدر، وينطلق سريعًا عبر الطريق القديم الذي ينعطف في مسار متعرج على الجُرف الصخري. وجبل إتنا عبر هذه الناحية مختنق، ومنخفض للغاية، وسط غطاء كثيف من السحب السوداء. لا بد أنه يُمارس أعمالًا شيطانية، بلا شك. اللون الأحمر القاني يطغى على الفجر، ويعلوه لون أصفر، بينما البحر يتلون بألوانٍ عجيبة. أكره المحطة، فهي ضيقة مختنقة، تمتد هناك إلى جانب البحر. عند واجهة هذا المنحدر، لا سيما في النواحي الهادئة، تجد أشجار اللوز قد أزهرت. تبرز في زهور منتفخة ومنمنَمة، ولامعة، لتبدو كرقائق الثلج التي ينثرها فصل الشتاء. قليل من الثلج، وقليل من الأزهار، وها هو اليوم الرابع من عام ١٩٢١. لا يوجد سوى الأزهار. وإتنا يتوارى ويتخفى على نحوٍ لا يوصف وراء سحبه الكثيفة السوداء. لقد لفها حوله بالكامل، عند نقطة منخفضة حول سفحه.

•••

أخيرًا وصلنا لأسفل. نمر بحُفرٍ يحرق فيها الرجال الجير … حفر متأججة باللهب، دائرية … ها نحن على الطريق السريع. لا شيء يمكن أن يصيبك بالإحباط أكثر من الطرق السريعة في إيطاليا. ولا يختلف الأمر تمامًا في الطريق من سيراكيوز حتى أيرولو؛ فحين تقصد قرية أو أي منطقة سكنية بشرية تجد الطرق السريعة مخيفة، وموحشة، وقذرة. هنا تنتشر رائحة عصير الليمون النفَّاذة. فثمة مصنع هنا لتصنيع حامض السِّتريك. المنازل تُصرِّف مخلفاتها في الطريق، أسفل واجهة التل الضخمة المؤلَّفة من الحجر الجيري، فتفتح أبوابها المتسخة، وتُلقي المياه القذرة وثُفْل القهوة. ونحن نسير على هذه المياه القذرة وثفل القهوة. والبغال تجر العربات. وأناس آخرون في طريقهم إلى المحطة. نجتاز دازيو وها نحن هناك.

•••

يتشابه البشر، ظاهريًّا، إلى حد بالغ. لكن في باطنهم اختلافات شاسعة لا يمكن التغلب عليها. لذا أجلس وأفكر، مراقبًا الناس في المحطة؛ يبدون وكأنهم صفٌّ من الرسوم الكاريكاتيرية الساخرة تفصل بيني وبين البحر المكشوف والفجر المضطرب المغطى بالسحب.

•••

سوف تبحث هذا الصباح عبثًا عن ذلك الشخص الجنوبي الرشيق ذي البشرة السمراء الذي يظهر في الروايات الرومانسية. ربما، فيما يتعلق بالملامح، كانوا حشدًا ينتظر في الصباح الباكر قدوم القطار في محطة بإحدى الضواحي الشمالية في لندن. هذا فيما يتعلق بالملامح. فبعضهم شُقر وبعضهم بلا لون ولا أحد يُعَد نَموذجًا لعِرقه. الشخص الوحيد الذي يبدو تمامًا مثل شخصيات الرسوم الكاريكاتيرية العِرقية هو رجل عجوز ضخم الجثة طويل القامة، يرتدي نظارات وله أنف قصير وشارب خَشِن، وهو نموذج الرجل الألماني في المَجلات الساخرة التي كانت توجد قبل عشرين عامًا. لكنه صقلي خالص.

أغلب هذا الحشد شباب يستقلون الخط المتجه إلى ميسينا للذَّهاب إلى أشغالهم؛ هم ليسوا حرفيين، لكنهم من الطبقة الوسطى الدنيا. وظاهريًّا، يبدون كأي من الموظفين أو الباعة الآخرين، لكن ملابسهم أكثر اهتراء إلى حد ما، فضلًا عن كونهم أقل خجلًا اجتماعيًّا. وهم مفعمون بالمرح والحيوية، فتجد أحدهم يطوِّق عنق الآخر بذراعيه، يكاد يقبِّله. وفتًى مسكين كان يعاني وجعًا في أذنه، لذلك ترى وجهه مربوطًا بوشاح أسود، وقبعته السوداء ملقاة على رأسه، فكان منظره كوميديًّا. بيد أن أحدًا لا يراه كوميديًّا فيما يبدو. أما مشهد وصولي حاملًا الحقيبة على ظهري فقوبل باستهجان فاتر؛ إذ يرونه غير لائق، كأنما وصلت ممتطيًا ظهر خنزير. كان من المفترض أن أستقل عربة، وحقيبة الظهر كان ينبغي أن تكون حقيبة سفر جديدة. أعرف ذلك، لكني مُتعنِّت بطبعي.

وهكذا هم. كل واحد منهم يظن أن له وسامة أدونيس، و«جاذبية» لا تقل عن جاذبية دون خوان. مذهل! في الوقت نفسه، كل شيء طبيعي، وإذا ضاعت بعض أزرار سروال أو إذا استقرت قبعة سوداء فوق قناع سميك يغطي وجهًا متجهمًا يبدو أنه يئن، فكلها أمور طبيعية ومعتادة. أما هم، فتجدهم يمسكون بذلك الرجل ذي القبعة السوداء من ذراعه، ويسألونه في تعاطفٍ شديد: «هل تتألم من شيء؟ هل تعاني شيئًا؟».

وهكذا هم أيضًا. يقترب بعضهم من بعض جسديًّا بشدة. فيلقون بأنفسهم الواحد فوق الآخر كزبد ذائب يُسكب بوفرة على جزَرٍ أبيض. يمسك أحدهم الآخر من أسفل الذقن، مع مداعبة رقيقة باليد، ويبتسم بعضهم في وجوه بعضٍ بحنان يذيب القلوب. لم أرَ في العالم قطُّ حنانًا مبهجًا كذلك الذي بين الصقليين المسترْخِين على أرصفة السكة الحديدية، سواء أكانوا صقليين شبانًا ذوي وجَنات نحيلة أم صقليين من ذوي البنية الممتلئة الضخمة.

لا بد أن ثمة شيئًا غريبًا يتعلق بالعيش على مقربة من بركان. إن نابولي وكاتانيا متشابهتان؛ فالرجال لهم بنية ممتلئة وضخمة، ببطون منتفخة، يتَّسمون بالصراحة وعدم التحفظ، ويفيضون بمشاعر الود والحب التلقائية. أما الصقليون، فهم أشد ضخامة وأكثر مرحًا، ويميلون إلى التقارب والمداعبات الجسدية على نحو يفوق النابوليين. ولا يكفُّون عن التودد بحبٍّ إلى الجميع تقريبًا، ويتعاملون جسديًّا بألفة لا تَفتُر لدرجة محيرة تمامًا بالنسبة لشخصٍ لم ينشأ بالقرب من أحد البراكين.

ينطبق هذا أكثر على الطبقات الوسطى منه على الطبقات الدنيا. فأفراد الطبقة العاملة أشد نحافة وأقل مرحًا وإقبالًا على الحياة بحكم الظروف. لكنهم يتجمعون في مجموعات لقضاء بعض الوقت معًا، ولا يقترب بعضهم من بعض جسديًّا بهذا القدْر أبدًا.

•••

المسافة إلى ميسينا لا تتجاوز ثلاثين ميلًا، لكن القطار يقطع هذه المسافة في ساعتين. ينطلق القطار ويسرع ثم يتوقف إلى جانب بحر الصباح ذي اللون الرمادي الخزامي. قطيعٌ من المعز يسير في تثاقل على الشاطئ بالقرب من حافة الأمواج المتلاطمة في حزنٍ. مساحات مهجورة شاسعة من مجاري النهر المليئة بالحجارة تمتد إلى البحر، ورجالٌ على بغالٍ يشقون طريقهم بحذرٍ عبرها، ونساء جاثيات بجانب مجرًى مائيٍّ صغير يغسلن الثياب. وثمار الليمون تتدلى باهتة وبأعداد لا حصر لها في بساتين الليمون الكثيفة. يبدو أن أشجار الليمون، شأنها في ذلك شأن الإيطاليين، تكون في أسعد حالاتها عندما تلامس إحداها الأخرى من كل الجهات. ثمة غابات ذات لونٍ واحد بها أشجار ليمون ليست مرتفعة تقع بين الجبال المنحدرة والبحر، على شريط السهل. والنساء يستظْلِلْن ببساتين الفاكهة، ويجمعن الليمون في غموض وكأنهن كائنات تعيش تحت سطح البحر. وتحت الأشجار تتراكم أكداس من الليمون بلونه الأصفر الشاحب. تبدو وكأنها ألسنة شاحبة متصاعدة من حرائق زهرة الربيع الكامنة. عجيب أن تشبه الحرائق أكوام الليمون، وهي تحت ظل أوراق الشجر، فتبدو كأنها تنشر ألسنة باهتة وسط الجذوع الغضة العارية المائلة إلى اللون الأخضر. وعندما تظهر مجموعات من شجر البرتقال، فتتألق ثمار البرتقال بلونٍ أحمر وسط أوراق الشجر الداكنة كجمَرات مشتعلة. لكن الليمون، ثمار الليمون، لا حصر لها، تتناثر في نقاط كنجوم صغيرة للغاية لا تُعَد ولا تُحصى في القبة السماوية الخضراء التي تشكلها أوراق الأشجار. كثير جدًّا من الليمون! فكر في بلورات عصير الليمون التي سيُختزل فيها كل هذا الليمون! فكر في أمريكا وهي تشربه في الصيف المقبل.

•••

أتساءل طَوال الوقت لماذا تتدفق مثل هذه المجاري النهرية الشاسعة ذات الجلاميد الشاحبة من بين أضلع الجبال الحجرية المهيبة المرتفعة جدًّا، على بُعد بضعة أميال من البحر. بضعة أميال فقط، ولا يتخللها سوى قليل من المسارات المائية الرفيعة التي تكاد تضاهي في اتساعها نهر الراين. لكنها هكذا. المشهد عتيق، وكلاسيكي … مشهد رومانسي، كما لو أنه شهد عصورًا سحيقة وأنهارًا أشد عنفًا وأراضيَ أكثر اخضرارًا. تتدرج الأرض المقفرة المنحدرة المليئة بالجروف، إلى أعلى عند حدودها وحوافها المنحدرة. لكن كل شيء مكدس بعضه فوق بعض. في المناظر الطبيعية العتيقة، كما هو الحال مع العجائز، يَهِن الجسد ويقل لحمه، وتصبح العظام بارزة. فالصخور تصبح ناتئة على نحو مذهل. هكذا هي الأدغال ذات القمم الجبلية العالية في صقلية القديمة.

•••

السماء كلها رَمادية. والمضايق رمادية. وها هي ريدجو، على الجانب الآخر من الماء، تبدو شاحبة تحت كالابريا الضخمة الحالكة، التي تُعَد إصبع قدم إيطاليا. وعلى جبال أسبرومونتي ينتشر سحاب رمادي. السماء ستمطر. بعد هذه الأيام الصافية الرائعة الصاخبة، ستمطر السماء. يا لَلحظ!

•••

أسبرومونتي! جاريبالدي! كان بإمكاني أن أخفي وجهي دائمًا عندما أراه، عندما أرى أسبرومونتي. أتمنى لو كان جاريبالدي أكثر شموخًا. لِمَ رحل ذليلًا هكذا، وهو يحمل كيسه الذي يحوي بذور الذرة، تصحبه كلمات التعنيف واللوم في الوقت الذي ظهر فيه فخامة الملك فيكتور إيمانويل بساقيه القصيرتين في المشهد؟ مسكين جاريبالدي! كان يطمح إلى أن يصبح بطلًا وديكتاتورًا لصقلية الحرة. حسنًا، لا يمكن للإنسان أن يكون ديكتاتورًا ومتواضعًا في الوقت نفسه. بل عليه أن يكون بطلًا، وكذلك كان جاريبالدي بالفعل، ومتفاخرًا، وهذا ما لم يكن فيه. زد على ذلك أن الناس في زمننا هذا لا يختارون الأبطال المتفاخرين ليكونوا حكامًا لهم. إنهم يختارون أي أحد غيرهم. إنهم يُؤْثِرون الحكام الذين جاء بهم الدستور، الذين هم خدمٌ مستأجَرون ويدركون هذا جيدًا. تلك هي الديمقراطية. الديمقراطية تمجِّد خادميها ولا شيء سوى ذلك. وليس بوسعك حتى أن تصنع خادمًا حقيقيًّا من جاريبالدي. يمكنك فقط أن تصنع خادمًا من فخامة الملك فيكتور إيمانويل. ولهذا السبب اختارت إيطاليا فيكتور إيمانويل، أما جاريبالدي فرحل بكيس ذرة وصفعةٍ موجعة كبغلٍ وضيع.

•••

السماء تمطر … تمطر للأسف، للأسف. وها هي ميسينا قادمة. ميسينا المريعة، التي حطمها الزلزال، وتجدد فيك الشباب كأنها مستوطنة تعدين شاسعة، بصفوفٍ من المنازل وشوارع وأميال ممتدة من الأكواخ الإسمنتية، وشارع ضخم يضم متاجر وأزقة وبيوتًا لا تزال خربة، تقبع خلف خطوط الترام تحديدًا، ومَرْفأ قذر موحش لا أمل فيه من بعد الزلزال. الناس لا ينسَون ولا يتعافَون مما حدث. فأهل ميسينا اليوم يبدون كما كانوا قبل قرابة عشرين عامًا، بعد الزلزال؛ أناس أصابتهم صدمة مفجعة، وصارت مقومات الحياة بالنسبة لهم لا شيء حقًّا، فلا حضارة بقيت ولا هدف. انهار معنى كل شيء بدَكةٍ واحدة خلال ذلك الزلزال المدمر، ولم يتبقَّ شيء سوى المال ونوبات اضطراب ناجمة عن إحساسٍ ما. هكذا صارت ميسينا بين بركاني إتنا واسترومبولي بعد أن ذاقت هول سكرات الموت. أتوجس دائمًا عند الاقتراب من هذا المكان المخيف، ومع ذلك وجدتُ الناس فيه لطفاء، بل في شدة اللطف والطيبة، وكأنهم يدركون مدى العوز الشديد إلى الطيبة والعطف.

•••

إنها تمطر بقوة. الناس يتسلقون بصعوبة إلى الرصيف المبلل ويسيرون عبر قضبان السكة الحديدية المبللة وصولًا إلى المظلات. أعداد كبيرة من البشر يهرولون عبر خطوط السكة الحديدية المبللة، وبين القطارات المبللة، للخروج إلى المدينة المريعة الواقعة وراءها. حمدًا للرب أنني لا أحتاج إلى الخروج إلى المدينة. ثمة مدانان مصفَّدان بالسلاسل الحديدية معًا بين الحشود … وجنديان أيضًا. يرتدي السجينان ملابس بسيطة ذات لون بني فاتح، مصنوعة من قماش يشبه ذلك الذي ينسجه الفلاحون، به خطوط بُنيَّة تتكرر بنمطٍ غير منتظم. ملابس لطيفة وخشنة نوعًا ما، حيكت يدويًّا. لكنهما مربوطان أحدهما بالآخر، يا إلهي! وهاتان القبعتان البغيضتان على جبهتيهما الصلعاوين. ليس لديهما شعر. لعلهما ذاهبان إلى إحدى المؤسسات العقابية في جزر ليباري. الناس لا يُلقون لهما بالًا.

لا، لكن المدانِين كائنات لعينة؛ على الأقل، ذلك المدان المسن، بوجهه المقزز الطويل؛ وجهه المفزع الطويل الحليق، الذي لا يبدو عليه أي انفعالات، أو يبدي انفعالات لا يمكن للإنسان أن يدركها. شيء فاتر، خفي. نظرة خفية، دميمة. تشمئز نفسي من لمسه. أما عن الرجل الآخر فلست واثقًا بشأنه لهذه الدرجة. هو أصغر سنًّا، وله حاجبان داكنان. لكن وجهه دائري وناعم نوعًا ما، به شيء من الخبث. لا، لكن الشر شيء مريع. طالما كنت أعتقد أنه لا يوجد شر مطلق. لكني الآن أدرك أن هناك الكثير منه. إنه موجود بقدر بالغ إلى حد يهدد الحياة بأكملها. ذلك الغموض الذي يكتنف المجرمين. إنهم لا يعرفون أي شيء عما يشعر به الآخرون. ولكن ثمة قوة مخيفة تحركهم.

خطأ فادح أن تُلغي عقوبة الإعدام. لو كنتُ ديكتاتورًا، لأمرت بإعدام العجوز في الحال. من المفترض أن يكون لديَّ قضاة لهم قلوب مرهفة وحية، لا عقول مجردة. ولئن أقر القلب، بغريزته الفطرية، بوصف رجلٍ ما بأنه شرير، لأُهلِكنَّ هذا الرجل. لأُهلِكنَّه في أسرع وقت. لأن الحياة الدافئة الهادئة أصبحت في خطرٍ الآن.

•••

بينما أقف على محطة ميسينا، وهي جحر كئيب موحش، أراقب أمطار الشتاء وأنظر إلى المدانَين الاثنين، لا مفرَّ حينها من أن أتذكر من جديد أوسكار وايلد وهو واقف على رصيف محطة قطار ريدينج، مدانًا. يا له من خطأ بشع، أن يدع المرء نفسه ليُقتل على يد مجموعة من الرعاع والدهماء. لا بد أن يقول الإنسان كلمته. لكن «من دون أن يلمسه أحد».

أمرهم غريب هؤلاء الأشخاص. اثنان من ضباط الشرطة يصعدان وينزلان، ثم يصعدان وينزلان. الضابط الصغير، الذي يرتدي قبعة سوداء بها شريط ذهبي، يتحدث إلى الضابط الأكبر سنًّا الذي يرتدي قبعة قِرمِزية بها شريط ذهبي. ثم يمشي، أعني الضابط الصغير، بحَجْلة قصيرة مجنونة، وأصابعه تحلِّق وكأنه يريد أن ينثرها في جهات السماء الأربع، وتتدفق منه الكلمات وكأنها ألعاب نارية، بسرعة تفوق سرعة الصقليين. وهكذا يستمر في الصعود والهبوط، بعين داكنة تملؤها الإثارة وغير مرئية، كعين أرنب شارد. غريبة تلك البشرية وخارجة عن حدود السيطرة.

•••

ما هذا العدد من الموظفين! بإمكانك أن تميزهم من قبعاتهم. موظفون ذوو أجساد بدينة وقصيرة وأنيقون يرتدون أحذية عالية من جلد الماعز اللامع وقبعات بها أشرطة ذهبية، وآخرون شامخون طويلو القامة في مزيد من القبعات ذات الشريط الذهبي، يدخلون من الأبواب العديدة المختلفة ويخرجون منها كدخول الملائكة وخروجها من أبواب السماء. حسبما أرى، يوجد ثلاثة مديرين للمحطة يعتمرون قبعات قِرمِزية، وخمسة مديرين مساعدين يعتمرون قبعات سوداء وذهبية، وعدد لا حصر له من المسئولين كبارًا وصغارًا في أحذية عالية مهترئة بشكلٍ أو بآخر وقبعات رسمية. إنهم كالنحل يحومون حول خليةٍ، يَطِنُّون في حديث مهم، ومن حين إلى آخر يلقون نظرة على ورقةٍ أو أخرى، ثم يُخرجون قليلًا من العسل. ولكن الحديث هو الأمر المهم هنا. فالحياة في نظر موظفٍ إيطالي تبدو كمحادثة طويلة وحيوية، يقطعها وصول القطارات والمكالمات الهاتفية العابرة. وبجانب ملائكة أبواب السماء، يوجد مديرون، وحمالون، وعمال تنظيف المصابيح، إلى غير ذلك. وهؤلاء يقفون في مجموعات ويتحدثون عن الاشتراكية. ويندفع عامل تنظيف المصابيح لينظف مصباحين. فيخبط أحدهما في النقالة. فيتهشم زجاجه. وينظر لأسفل وكأنه يقول: ماذا أفعل في ذلك؟ ثم يسترق النظر حوله ليرى ما إن كان أي فرد من رتبة أعلى يراه. سبعة أفراد من رُتبٍ أعلى لا ينظرون إليه. يذهب العامل بالمصباح في لامبالاة. انكسر مصباح آخر أو مصباحان. «فلنمضِ قدمًا.»

يحتشد الركاب من جديد، البعض يرتدي قَلَنسُوات، والبعض لا يرتدي شيئًا. وشباب في ملابس باهتة ورديئة يقفون تحت الأمطار المنهمرة وكأنهم لا يعرفون أنها تمطر. بإمكان أي أحدٍ أن يرى معاطفهم التي تبللت تمامًا. ورغم ذلك لا يبالون بأن يحتموا تحت مظلة تقيهم المطر. كلبان في المحطة يركضان في الأرجاء ويسرعان ناحية القطارات المتوقفة، مثلهما كمثل موظفي المحطة. يصعدان على الأعتاب، ويقفزان إلى داخل القطارات ثم يقفزان خارجها متى شاءوا ذلك. وكان يتفحص مزيدًا من القطارات الخاوية من الداخل حمالان أو ثلاثة، في قبعاتهم القماشية التي تشبه المظلات في كبر حجمها، وعند فردها تبدو حرفيًّا وكأنها زعانف ضخمة على أكتافهم. فيظهر المزيد والمزيد من الناس. ويقف في الجوار المزيد والمزيد من مسئولي المحطة بقبعاتهم. والمطر لا يتوقف. القطار القادم من الميناء والمتجه إلى باليرمو وسيراكيوز كلاهما تخلفا بالفعل عن موعدهما بساعة. أمر مزعج. رغم أنهما أفضل المواصلات من روما.

عربات القطار التي حُلت من قيدها تتدحرج إلى الأمام والخلف، وتشبه بطريقة غامضة كلابًا سوداء تجري للأمام وتعود. الميناء لا يبعد سوى أربع دقائق سيرًا. لو لم تكن تمطر بغزارة هكذا، لكنَّا نزلنا وسرنا على القضبان حتى نصل إلى القطار المنتظر هناك. كلٌّ يفعل ما يحلو له. ها هي مدخنة لعبَّارةٍ تشق طريقها بصعوبة بالغة … إنها تتحرك ببطء. ذلك يعني أن المواصلة من البر قد وصلت أخيرًا. لكننا نشعر بالبرد من وقوفنا هنا. فأخذنا نأكل في استسلام قطعة من الخبز مع الزبدة من مطبخنا المتنقل. ورغم كل ذلك، ماذا قد يعني مرور ساعة ونصف الساعة؟ من الممكن ببساطة أن تطول لتصبح خمس ساعات، تمامًا كآخر مرة جئنا فيها من روما. و«قطار النوم»، الذي حجزناه إلى سيراكيوز، بقي محجوزًا بلا مبالاةٍ في محطة ميسينا، دون أن يتحرك خطوة واحدة. خرج الجميع بحثًا لأنفسهم عن غرفة ليقضوا فيها ليلة في ميسينا اللعينة. سيراكيوز أو غير سيراكيوز، باخرة مالطا أو غير باخرة مالطا. فنحن بصدد قطار الدولة.

لكن، لم التذمر إذن؟ نحن الإيطاليون في أحسن حال. هكذا يقول الإيطاليون أنفسهم.

•••

ها قد وصل! أخيرًا! انتشت الجماهير المحتشدة فرحًا بينما يندفع القطاران السريعان إلى داخل المحطة بكل فخر، بعد أن قطعا نصف ميل زحفًا. الكثير من الأماكن الشاغرة، للمرة الأولى. رغم أن أرضية عربة القطار كانت بركة ماء، والسقف كان ينضح بالماء. فهذا هو الحال في الدرجة الثانية.

•••

رويدًا رويدًا، تحرك القطاران، مُصدرَين أصواتًا عالية، والتفَّا لتجاوز المرتفعات التي تشرئب لها الأعناق وتحصر ميسينا في الداخل عن الساحل الشمالي. النوافذ معتمة يغطيها البخار وقطرات المطر. الأمر ليس ذا قيمة … صببنا الشاي من التِّرْمُس، مما أثار الاهتمام الشديد لراكبَين آخرَين كانا قد أمعنا النظر بشغفٍ في ذلك الشيء المجهول لهم.

«أها!» يقول الراكب في فرح شديد، ما إن رأى الشاي الساخن يُصَب. «يشبه القنبلة.»

تقول الأخرى، بإعجاب حقيقي: «ساخن ورائع.» تبددت في الحال كل المخاوف، وعمَّ السلام في مقصورة النوم المبللة، التي يحجبها الضباب. انطلقنا قاطعين أميالًا وأميالًا عبر النفق. فالإيطاليون قد أنشَئوا طرقًا وسككًا حديدية مذهلة.

•••

إذا مسحت بيدك على النافذة وتطلعت إلى المشهد في الخارج، فستجد بساتين ليمون تزخر بليمون أبيضَ نديٍّ، منازلَ هدمها الزلزال، أكواخًا جديدة، بحرًا رَماديًّا كئيبًا على اليمين، وعلى اليسار تلمح تفاصيل معقدة لمرتفعات شاهقة تنبثق منها مجاري أنهار صخريةٌ ذات عرضٍ مُبالغ فيه، وبين الفينة والأخرى تجد على الطريق رجلًا يمتطي بغلته. أحيانًا تجد أقرب ما يكون إليك، مَعْز سُودٌ لها شعر طويل تميل على أحد الجوانب فتشبه زورقًا مائلًا تحت الحافة الناتئة لمنزلٍ حقير. يسمُّون الحواف الناتئة من أسطح المنازل بمظلات الكلاب. فترى الكلاب في المدن تركض بالقرب من المنازل أسفل الجدران ذات الحواف الناتئة لتحميها من البلل. هنا تميل المَعْز مثل الصخر، وكأنها تدخل إلى الجدار الجِصِّي. لماذا أتطلع إلى الخارج؟

السكك الحديدية في صقلية ذات مسار واحد. ومن ثم، تجد مجالًا لحدوث التزامن. والتزامن هو أن يلتقيَ قطاران في حلقة تمرير القطارات. تجد نفسك جالسًا في عالم مطير وتنتظر حتى تنفث قاطرة سخيفة بأربع عربات دخانها طَوال الطريق. ها هو التزامن! ثم بعد محادثة وجيزة بين القطارين، حول السرعة والبضائع، يتعالى صوت النفير وننطلق مبتعدين، في سعادة، نحو تزامن جديد. والموظفون في الأمام بعيدًا يكتبون بابتهاج على سبورة الإعلانات تفسيرًا للساعات التي تأخرناها. كل شيء يضيف إلى نكهة المغامرة في هذه الرحلة رونقًا خاصًّا، يا إلهي. وصلنا إلى محطة وجدنا فيها الاتجاه الآخر، والقطار القادم من الاتجاه الآخر، في انتظار وصولنا المتزامن. القطاران يسيران أحدهما بجوار الآخر، مثل كلبين يتقابلان في الطريق فيتشمم أحدهما الآخر. يهرع الموظفون لتحية الموظفين الآخرين على القطار الآخر، وكأنهم جميعًا داود وجوناثان عندما التقيا بعد المحنة. فيندفع الواحد منهم بين ذراعي الآخر ويتبادلان السجائر. وكأن القطارين لا يحتملان مفارقة أحدهما الآخر. والمحطة لا تقوى على مفارقتنا. الموظفون يمازح بعضهم بعضًا ويمازحوننا بكلمة «برونتو» التي تعني مستعد! برونتو! ثم مرة أخرى برونتو! ثم تنطلق الصَّفَّارات بصوتٍ عالٍ وحاد. في أي مكان آخر، كان القطار سيهرب من رأسه المعذب. لكن لا! هنا يكفي ذلك البوق الملائكي الصغير لأحد الموظفين ليتولى المهمة. وأقنِعْهم بأن ينفخوا في هذا البوق إن استطعتَ. فهم لا يحتملون الفراق.

•••

مطر، مطر مستمر، سماء مُلبَّدة بالغيوم والمطر، وبحر رمادي مستوٍ، وقطار مبلل يغشاه الضباب يدور ويلف حول الخُلْجان الصغيرة، ويغوص عبر الأنفاق. أشباح جزر ليباري القبيحة تقف على مسافة قليلة من البحر، أكوام الظلال المتراكبة تشبه أكوام القُمامة في الأجواء الرمادية المنتشرة.

•••

يدخل المزيد من الركاب. امرأة ضخمة للغاية لها وجه مميز جماله، ورجل ضخم لكنه في عز شبابه، وخادمة صغيرة لا يكاد عمرها يتعدى الثالثة عشرة، لها وجه جميل. لكن جونو … هذه هي من حبست أنفاسي. إنها لا تزال شابة في الثلاثينيات. حُبِيَت بذلك الجمال الملائكي غير المعقول للإلهة هيرا: جبين نقي مع حاجبين داكنين، وعيون واسعة وداكنة وشامخة، وأنف مستقيم، وفم منحوت بدقة، وإحساس بثقة في ذاتها. إنها ترسل القلب في رحلة بالزمن إلى أيام الوثنية. و… و… إنها ببساطة رائعة، كأحد القصور. ترتدي قبعة ذات ريش، وتضع على كتفيها فراء أرنب أسود. تسير بتؤدة على مهل، وبمجرد أن تجلس يفزعها النهوض على قدميها. تجلس في ثبات متسق مع شخصيتها، فالشفاه مطبقة، والوجه صامت وجامد بلا تعبير. وتتوقع مني أن أبدي إعجابًا بها، بإمكاني أن ألاحظ ذلك. تتوقع مني أن أبدي تقديرًا لجمالها، فقط لجمالها وليس لشخصها، ولكن لها بوصفها تحفة فنية. ترمقني بنظرات قليلة مترفِّعة من تحت جفنيها.

من الواضح أن صاحبة هذا الجمال الريفي أصبحت من «الطبقة البُرجوازية». تتحدث على مضض إلى راكبة أخرى حولاء العينين؛ امرأة شابة ترتدي هي الأخرى فراء أرنب أسود، لكن من دون تباهٍ.

أما زوج جونو فهو شاب صغير حديث العهد بالبرجوازية، ويتمتع أيضًا ببنية ضخمة. فالصُّدْريَّة التي يرتديها قد تصلح لعمل معطف خارجي للراكب الرابع، وهو الرفيق غير الحليق للمرأة الحولاء. يرتدي الشاب جوبيتر قفازات من جلد الماعز؛ وهنا تكمن حقيقة مهمة. فهو أيضًا له تطلعاته. لكنه ودود نوعًا ما مع ذلك الرجل غير الحليق، ويتحدث الإيطالية بلا تكلُّف. بينما جونو تتحدث بلكنة متصنعة.

لا أحد يلتفت إلى الخادمة الصغيرة. كان لها وجه رقيق، بريء كالقمر، ولها عينا أهل صقلية الرماديتان الجميلتان الشفافتان، اللتان ينفذ إليهما الضوء فتصبحان سوداوين أحيانًا، وزرقاوين في أحيان أخرى. تحمل حقيبةً والمعطف الإضافي لجونو الضخمة، وتجلس على حافة الكرسي بيني وبين الرجل غير الحليق، فجونو قد أشارت لها برأسها لتجلس هناك في نزعة ملكية.

يبدو أن الخادمة الصغيرة خائفة إلى حدٍّ ما. ربما هي طفلة يتيمة … ربما. تَقسَّم شعرها ذو اللون البندقي من النصف بسلاسة في ضفيرتين صغيرتين. لا ترتدي أي قبعة، فذلك يتماشى مع الطبقة التي جاءت منها. على كتفيها شال صغير رمادي اللون يذكِّرك بملاجئ الأيتام. وثوبها رمادي داكن وحذاؤها متين.

يبدو وجه الفتاة الطفلة ناعمًا عذريًّا خاليًا من التعبيرات، كوجه القمر، يميل إلى الشحوب وكأنها خائفة، إنه وجه مؤثر. وجه مثالي أُخذ من صورة في العصور الوسطى. يحرك المرء بطريقة غريبة. لماذا؟ فهو وجه يفتقر إلى الوعي، بقدر ما نمتلك نحن من الوعي. وكحيوان صغير أبكم تجلس هناك، في حزن. يبدو أنها ستتقيأ. فتدخل الممر وتتقيأ … قيء شديد، فتميل برأسها ككلبٍ مريض على حافة النافذة. وقف جوبيتر أعلى منها … ليس في قسوةٍ، وعلى ما يبدو من دون الشعور بأي اشمئزاز. ارتجاج جسد الفتاة لم يؤثر فيه بقدر ما أثر فينا. نظر إليها غير متأثر، واكتفى أن يتجرأ بالتعليق بأنها قد التهمت طعامًا كثيرًا قبل صعود القطار. وكان تعليقًا حقيقيًّا بشكلٍ واضح. وبعدها جاء وتحدث معي في أمور عادية. وبعد فترة تسللت الفتاة الصغيرة إلى الداخل وجلست على حافة الكرسي المواجه لجونو. لكن لا، هذا ما قالته جونو: إن كانت تشعر بالغثيان، فستتقيأ عليَّ. ولهذا قام جوبيتر في لفتة لطيفة منه ليغير الأماكن مع الفتاة الصغيرة، التي أصبحت بعدئذٍ إلى جانبي. تجلس الفتاة على حافة الكرسي وهي تطوي يديها الحمراوين الصغيرتين الضئيلتين، بوجه شاحب خالٍ من التعبيرات. جميل هو ذلك الخط الرفيع لحاجبيها ذوَي اللون البني البندقي، وتلك الرموش الداكنة لعينيها الداكنتين الشفافتين الصامتتين. صامتة خامدة كحيوانٍ سقيم.

لكن جونو تأمرها بأن تمسح حذاءها الملطخ. فتتحسس الصغيرة باحثة عن أي منديل. فتخبرها جونو بأن تأخذ منديل جيبها. وتمسح الفتاة الصغيرة حذاءها في وهنٍ، ثم تستقيم مرة أخرى. لكنها لا تتحسن. اضطرت لأن تذهب إلى الممر وتتقيأ مرة أخرى.

بعد فترة يتجه الجميع إلى الخارج. غريب أن ترى الناس على سجيتهم. لم تتعامل جونو ولا جوبيتر بقسوة على الإطلاق. بل إنه كان يبدو حانيًا. لكنهما ليسا منزعجين أبدًا. ليسا منزعجين ولو نصف قدر انزعاجنا … ترغب ملكة النحل في أن تقدم لها الشاي، وهكذا. ربما علينا أن نرفع رأس الصغيرة. أما هما فتركاها وحيدة تمامًا ترتجف، ولم يظهر عليهما القلق ولا الضيق من أجلها. فهُما على ما هما عليه.

إن عفويَّتهما تبدو لنا غير طبيعية. لكني واثق بأنها الأفضل. فالتعاطف لن يؤدي إلا إلى تعقيد الأمور، ويفسد ذلك الطابع الغريب، البعيد، العذري. تقول ملكة النحل: إن هذه سخافة شديدة.

•••

لا أحد ينظف زاوية الممر، رغم أننا نتوقف في المحطات لفترات طويلة بما يكفي، ولا يزال أمامنا ساعتان أخريان في الرحلة. يمر موظفو القطار ويحملقون، ويخطو من فوقه الركاب ويحملقون، ويحملق الراكبون الجدد ويخطون من فوقه. يسأل شخصٌ ما: «من فعل هذا؟» لم يفكر أحد في أن يلقي سطل ماء. لماذا ينبغي لهم أن يفعلوا؟ هذه كلها أشياء طبيعية … يجد المرء نفسه مستسلمًا لنفس هذه «الطبيعة»، في الجنوب.

•••

يدخل راكبان جديدان: رجل له عينان سوداوان ووجه مستدير بهي الطلعة أنيق الملبس يرتدي قطيفة مضلَّعة ويحمل بندقية، والآخر رجل ذو وجه طويل وبشرة نضرة وشعر أبيض كثيف يرتدي قبعة جديدة ومعطفًا أسود طويلًا من قماش أسود ناعم مُبطَّن بفراء عتيق لكنه كان غاليًا في يوم من الأيام. يتباهى الرجل تباهيًا شديدًا بهذا المعطف الأسود الطويل والبطانة من الفرو العتيق. وفي تباهٍ طفولي يلفه مرة أخرى على ركبتيه، ويرمقه بنظرة إعجاب. تنظر عيون الصياد السوداء واللامعة حولها في انتباه مبتهج. يجلس مواجهًا للرجل ذي المعطف، الذي يشبه الجيل الأخير من السلالة النورماندية. ينظر الصياد ذو الحُلَّة القطيفة إلى الخارج بفضول، بعينيه السوداوين البراقتين، في ذلك الوجه الأحمر المستدير. عينان سوداوان لامعتان في وجهٍ أحمر مستدير. والآخر يحشر بين رجليه معطفه الطويل المبطَّن بالفراء ويرمق نفسه بنظرة إعجاب، كما يحملق فيه الجميع بإعجاب، وينظرون إليه كما لو كان أصم. لكن لا، لم يكن أصم. كان يرتدي حذاء ملطخًا بالطين ذا رقبة منخفضة.

عند محطة ترميني، كانت الإضاءة بالمصابيح. يتزاحم رجال أعمال في الدخول. انضم إلينا خمسة رجال أعمال: جميعهم بدناء، من أفاضل باليرمو. الرجل المقابل لي له شوارب، وعلى ركبتيه الممتلئتين دِثار للسفر برُقَعٍ متعددة الألوان. غريب، كيف يجلبون معهم هذا الشعور بالأريحية. إنك لا تندهش مطلقًا إذا بدءوا في خلع أحذيتهم، أو فك ياقاتهم وأربطة عنقهم. العالم بأسره ما هو إلا غرفة نومٍ بالنسبة لهم. أنكمش في مقعدي، لكن من دون فائدة.

ثمة حوار يدور بين الصياد ذي العينين السوداوين البراقتين، ورجال الأعمال. وكذلك يحاول الشاب ذو الشعر الأبيض، الأرستقراطي، أن يتمتم، بعد فترة طويلة، ببضع كلمات. حسبما أمكنني أن أستشف، فإن الشاب الأصغر سنًّا مجنون … أو معتوه … والرجل الآخر، الصياد، هو القيِّم عليه. وهما يجوبان أوروبا معًا. وهناك حديث حول «الكونت». ويقول الصياد إن هذا البائس «تعرض لحادثٍ». لكن ذلك الأسلوب في الحوار من المفترض أنه من الطبيعة اللطيفة لأهل الجنوب. على أي حال فالأمر غريب؛ الصياد في ردائه القطيفة، وبوجهه المستدير المتورد، وعينيه السوداوين الغريبتين، وشعره الأسود الناعم، هو لغزٌ بالنسبة لي، وأكثر حتى من ذلك الأمهق ذي المعطف الطويل، والوجه الطويل، والبشرة النضرة، الغريب كأنه آخر ما تبقى من بارون. كلاهما ملطخان بالوحل، ومبتهجان بطريقتهما المعتوهة قليلًا.

لكن الساعة الآن السادسة والنصف. وأصبحنا في باليرمو، عاصمة صقلية. يعلق الصياد البندقية على كتفه، وأنا أعلق حقيبة الظهر، ونختفي جميعًا بين الحشود، في شارع فيا ماكويدا.

•••

هناك شارعان كبيران في باليرمو، شارع فيا ماكويدا، وشارع كورسو، وهما شارعان متعامدان. شارع فيا ماكويدا ضيق، وبه أرصفة صغيرة ضيقة، ودائمًا مختنق بالسيارات والمترجلين.

كان المطر قد توقف. لكن الشارع الضيق كان مرصوفًا ببلاطات حجرية كبيرة ومحدَّبة، وزلقة بدرجة لا توصف. لذا فإن عبور شارع فيا ماكويدا يُعَد عملًا بطوليًّا. لكن، بمجرد أن تعبره، ينتهي الأمر. النهاية القريبة للشارع كانت أكثر ظلامًا، وبها أغلب مَحال الخضراوات. كميات وفيرة من الخضراوات … أكوام من الشمَر الأبيض والأخضر الذي يشبه الكرفس، وحدات خُرشوف صغير بلونٍ أرجواني ورملي، أكوام من الفُجْل الكبير، والجزَر القِرمِزي والأرجواني المائل إلى الزرقة، وسلاسل طويلة من التين المجفف، جبال من البرتقال الكبير، والفلفل الأحمر الطويل، آخر شريحة من قرع العسل، كميات ضخمة من الخضراوات الطازجة وبألوان مختلفة. وجبال من القرنبيط البَنفسَجي الأسود، الذي يشبه رأس الزنجي، إلى جانبها جبال من قرنبيطٍ أبيض كالثلج. كيف لشارعٍ مظلم، زلق، يغشاه الليل، أن يلمع بكل تلك الخضراوات، كل هذا اللب الشهي والطازج لخضراوات برَّاقة رُصَّت في أكوامٍ في الهواء الطلق، وينتشر لمعانها في الجو المظلم، وتحت المصابيح. تريد ملكة النحل في الحال أن تشتري خضراوات. «انظر! انظر إلى البروكلي ناصع البياض. انظر إلى الشمر الضخم. لمَ لا نشتريها؟ لا بد أن أشتري بعضًا منها. انظر إلى سباطة البلح هذه … عشَرة فَرَنكات للكيلو، ونحن ندفع ستة عشر فَرَنكًا في مدينتنا. هذا جشع. مدينتنا جشعة بكل بساطة.»

رغم كل ذلك، لا يمكن لك أن تشتري خضراوات لتأخذها إلى سردينيا.

عبرنا شارع كورسو عند تلك الفوضى المزخرفة وفخ الموت الخاص بحي كواترو كانتي. كدت، بطبيعة الحال، أُدهس وأُقتل. فكل دقيقتين يكاد يُدهس إنسان ويُقتَل. لكنْ هناك، العربات خفيفة، والأحصنة كائنات حذرة. لا يمكن أن تطأك أبدًا.

الجزء الثاني من شارع فيا ماكويدا هو الجزء الأروع: أقمشة حرير وريش، عدد لا حصر له من القُمصان وأربطة العنق وأزرار القُمصان والأوشحة وكل ما يستهوي الرجال. قد تدرك هنا أن أقمشة الرجال وملابسهم الداخلية لا تقل أهمية عن تلك الخاصة بالنساء، إن لم تكن أكثر أهمية منها.

أنا، بالطبع، في حالة غضب. ملكة النحل تحملق في كل خِرقة وكل غرزة، وتعبر ثم تعود لتعبر مرة أخرى إلى هذا الشارع المظلم اللعين المنبثق من فيا ماكويدا، الذي، كما قلت، هو مختنق بالعربات والمشاة. ولتتذكرْ أني أحمل على ظهري الحقيبة البنيَّة، وملكة النحل تحمل حقيبة المطبخ المتنقل. هذا كفيل بأن يجعل منَّا حيوانات متنقلة. لو أنني أرتدي قميصي فحسب، ولو أن ملكة النحل كانت أمسكت بمفرش الطاولة ولفَّته حولها ونحن في طريقنا للخروج، لأصبح كل شيء على ما يرام. لكن حقيبة كبيرة بنية! وسلة فيها تِرْمُس حراري، وغيره! لا، ليس لأحد أن يتوقع مثل تلك الأشياء أن تدخل عاصمة في الجنوب.

لكني قاسي القلب. وسئمت من المتاجر. صحيح أننا لم نزر أي مدينة منذ ثلاثة أشهر. لكن هل أنا أهتم بزخارف الستائر المبالغ فيها وهذه الفنتازيا؟ كل شيء قد يضفي أناقة إضافية يسمى فانتازيا. تتسلل الكلمة إلى أحشائي في حزنٍ شديد.

فجأة أدركت أن ملكة النحل تندفع ورائي كالعاصفة. ومن دون مقدمات رأيتها تنقض على ثلاث فتيات وقحات يقهقهن في الأمام … حتمًا ذات القلنسوة المُخملية السوداء، وقطعًا ذات الوشاح الأبيض المجعد، وبكل تأكيد تلك المتعجرفة من الطبقة الدنيا. «هل تُرِدْنَ شيئًا. هل لديكن شيء لتَقُلْنَه؟ هل هناك شيء يضحككن؟ أوه! لا بد أن تضحكي، أليس كذلك؟ أوه … اضحكي! أوه! لماذا؟ لماذا؟ أأنتن تسألْنَ عن السبب؟ ألم أسمعكن! يا إلهي … أنتِ تتحدثين الإنجليزية! تتحدثين الإنجليزية! نعم … لماذا؟ هذا هو السبب! نعم، هذا هو السبب.»

انكمشت الفتيات الثلاث الوقحات الضاحكات، كما لو كن سيختبأن الواحدة وراء الأخرى، بعد أن انتفضن بعُنجُهية وسألن لماذا؟ أخبرتهن السيدة عن السبب. ولهذا انكمشت الفتيات الثلاث معًا تحت الضربات المفاجئة لمِرزَبة ملكة النحل الإيطالية، فكان أكثر من مجرد انتقام ثقيل، فشارع فيا ماكويدا كان ممتلئًا. وكانت الواحدة تلتف حول الأخرى، لتحاول كل منهن الرجوع وراء الأخرى، بعيدًا عن ملكة النحل التي تتوعدهن. أدركت أن هذا الالتفاف مساوٍ للوقوف ساكنات، ولهذا شعرت بأنه مطلوب مني أن أقول شيئًا بوصفي الرجل.

قلت: «همج من باليرمو، لا أخلاق لهم.» ثم ثرثرت بلا مبالاة في النهاية، وبنبرة إبعاد: «جهلة.»

وكانت النبرة كفيلة بأن يفهمن. فابتعدن إلى آخر الزقاق، وهن متلاصقات وخائفات مثل الزوارق التي تلم أشرعتها، وينظرن خلسة ليرَيْن إن كنَّا قادمَين. نعم، يا عزيزاتي، نحن قادمان.

سألتُ ملكة النحل، التي كانت تنتفض من الغضب: «لماذا انزعجتِ هكذا؟».

– «كنَّ يتبعْنَنا طَوال سيرنا في الشارع … ويستهزئن بالحقيبة العسكرية، وأننا نتحدث الإنجليزية، ويقلن: أنتما تتحدثان الإنجليزية، ويسخرْنَ منَّا بكل وقاحة. لكن الإنجليز حمقى. دائمًا ما يغضون الطرْف عن سلاطة لسان الإيطاليين.»

ربما يكون هذا حقيقيًّا. لكن ماذا عن حقيبة الظهر هذه؟ ربما لو كانت مليئة بالإوز البرونزي لما جذبت مزيدًا من الانتباه!

على أي حال، كانت الساعة قد بلغت السابعة، والمحالُّ تبدأ في إغلاق أبوابها. لا مزيد من التحديق في المحال. ليس أمامنا سوى مكان واحد مبهج: لحم نيِّئ، ولحم مسلوق، وجيلي الدجاج، وفطائر الباف باستري بالدجاج، ولبن رائب حلو، وجبن حَلُّوم، وكعك بسيط بالجبن، ونقانق مدخنة، ومُرْتَدِيلَّا طازجة وشهية، وكَرْكَند أحمر من البحر المتوسط، وذلك الكركند من دون مخالب. نقف ونصيح: «رائع! رائع!».

لكن هذا المحل يغلق أبوابه أيضًا. فأسأل رجلًا عن فندق بانتكنيكو. فيعاملني بأسلوب أهل الجنوب اللطيف، اللين بدرجة غريبة، ويأخذني ليريني مكانه. ويجعلني أشعر وكأني ورقة ضعيفة، هشة، لا حول لها ولا قوة. غريب عن المكان، كما تعرف. رجل معتوه، مسكين. فيمسك يدي ويدلني على الطريق.

•••

فلنقيم في غرفة هذه السيدة الأمريكية الشابة، ذات الستائر الزرقاء، ونتحدث ونتناول الشاي حتى منتصف الليل! آه … هؤلاء الأمريكان طيبون … فهم أكبر منَّا سنًّا وأشد دهاءً، يتبين لك ذلك ما إن تقترب منهم. وجميعهم يشعرون وكأن العالم يشارف على الانتهاء. ويتميزون بكرم حقيقي في ضيافتهم، في هذا العالم البارد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤