البحر
العتَّال العجوز البدين يطرق الباب. يا إلهي، إنه الظلام مرة أخرى. أستيقظ مرة أخرى قبل الفجر. السماء مظلمة في الخارج، مُلبَّدة بالغيوم. رنين مثير من عدد لا حصر له من أجراس المَعْز، القطيع الأول يدخل المدينة، فأصواتها كالموجة. حسنًا، لا بد أننا في الصباح، حتى ولو كان جسدك يرتجف. فعلى أقل تقدير السماء لا تمطر.
•••
يبزغ في الخارج ضوء الساعة الأولى من الفجر، أزرق شاحب كضوء المسارح. والرياح باردة. وصلنا إلى رصيف الميناء الواسع، المهجور، عند منحنى ميناء بانورومس. يظهر هناك شحوب مخيف لماء البحر البارد في ساعة الفجر. وهنا ترى وحْل الميناء الزلِق؛ وسمكًا؛ ونُفايات. الفتاة الأمريكية برفقتنا، متدثرة في سُترتها الصوفية. عالم موحش، وبارد، ولزج، وكئيب، تبدو وكأنها ستتلاشى أمامه. لكن تلك الكائنات الهشة، يا لما يستطيعون اجتيازه من مصاعب!
عبرنا شارعًا كبيرًا بجانب رصيف الميناء، كان واسعًا موحلًا زلقًا غير ممهد كما ينبغي، لنصل في النهاية إلى البحر. هناك تقف باخرتنا، عند عتَمة الفجر التي تخيِّم على حوض السفينة، ولا يظهر منها إلا نصفها. يقول العتال: «تلك التي تدخن سيجارها هناك.» تبدو ضئيلة، بجانب باخرة «سيتي أوف تريستي» الضخمة التي تقف بجوارها.
•••
إن قارب التجديف الذي سنركبه محشور بين قوارب كثيرة شاغرة، محتشدة إلى جانب رصيف الميناء. يشق طريقه إلى الخارج مثل كلب راعٍ للماشية يشق طريقه خارجًا من قطيع الخراف، أو كأنه يشق طريقه خارج كتل الجليد. نقف عند حوض السفن المفتوح. يقف المجدِّف ويدفع المجداف. يطلق صيحة طويلة وكئيبة لشخصٍ يقف على رصيف الميناء. والماء يدنو ويقترب أمام مقدمات السفن. الرياح قارسة البرودة. القمم الجبلية الخلابة خلف باليرمو يظهر جزء منها في سماء يغلب عليها الظلام. يبدو أن الفجر متردد في الطلوع. باخرتنا لا تزال تدخن سيجارها — أي الدخان الذي تنفثه المدخنة — في الجهة المقابلة هناك. ولذا، يجلس الواحد منَّا ثابتًا، ويعبر المسافة المستوية للماء الذي يغلب عليه الظلام. تجتمع صواري السفن الشراعية، والروافد على اليسار، عند السماء التي ينقشع عنها الظلام.
•••
نصعد لأعلى، لأعلى، فهذه سفينتنا. نصعد لأعلى، أعلى السُّلم. تقول الفتاة الأمريكية: «يا إلهي لكن …» ثم تتابع قائلةً: «أليست صغيرة! أليست صغيرة بدرجة مستحيلة! يا إلهي، أسنبحر في مثل هذه السفينة الصغيرة؟ يا إلهي! اثنتان وثلاثون ساعة في مثل هذه السفينة الصغيرة؟ عجبًا، لم أكن لألقي بالًا لها على الإطلاق.»
نخبة من المضيفين، والطهاة، والنُّدُل، والمهندسين، ومنظفي الأوعية والصحون، وهلم جرًّا، أغلبهم يرتدون سُترات من القماش الأسود. لا أحد غيرهم على متن السفينة. مجموعة قليلة في زي أسود تضم طاقمًا فظًّا لا شيء لديهم ليفعلوه، ونحن أول الركاب الذين قدَّموا لهم الخدمة. وها أنا ذا، أجلس في الضوء الرمادي.
– «من سيذهب؟».
– «نحن الاثنان … الآنسة لن تذهب.»
– «التذاكر!»
تلك هي الأساليب غير المبالية من العاملين الكادحين.
أُخذنا إلى غرفة طويلة بها مائدة طويلة وأبواب كثيرة بلون أشقر ذهبي، وألواح متراصة الواحدة تلو الأخرى في داخلها صورة خزفية بلونٍ أزرق وأبيض … ربما هي إلهة من الرخام الأبيض على خلفية زرقاء، كإعلان الإلهة هيجيا للأملاح الصحية. واحدة من الألواح الخالية من أي رسمٍ تُفتح … إنها حجرتنا.
تصرخ الفتاة الأمريكية: «يا إلهي! لمَ ليست كبيرة كخزانة الخزف الصيني. ورغم ذلك ستدخل!».
قلت: «الواحد تلو الآخر.»
– «لكن هذا أصغر مكان رأيته في حياتي.»
المكان حقًّا كان صغيرًا. كان علينا أن ندخل إلى السرير حتى نغلق الباب. لكن لم يكن ذلك يمثل أي أهمية بالنسبة لي. لستُ أمريكيًّا متعلقًا بسفينة «تايتانيك». ألقيت حقيبة الظهر على سرير، وحقيبة المطبخ على السرير الآخر، ثم أغلقنا الباب. واختفت الحجرة في اللوح الذهبي للقاعة المهيبة الطويلة تحت الأرض.
صاحت الفتاة الأمريكية: «عجبًا، أهذا هو المكان الوحيد الذي اخترته لتجلس فيه؟» ثم واصلَتْ: «لكن، كم هو حقير تمامًا! لا هواء فيه، معتم، ورائحته كريهة. يا إلهي لم أرَ في حياتي سفينة كهذه! هل ستسافر فيها حقًّا؟ هل ستفعل ذلك حقًّا!»
كانت القاعة الكبيرة تحت الأرض بالفعل وخانقة، لم يكن فيها شيء سوى مائدة طويلة ومجموعة غريبة من الكراسيِّ المثبتة ببَراغِيَّ، ولم يكن هناك منفذ للهواء على الإطلاق، لكن لم يكن الوضع بهذا السوء، على الأقل بالنسبة لي كشخصٍ لم يسافر خارج أوروبا. تلك الألواح من خشب القَيقَب والمنحنيات من خشب الآبُنُوس … وتماثيل الإلهة هيجيا! التفوا كلهم جميعًا حول المنحنى عند النهاية البعيدة المعتمة، وفي الخلف عند الجانب القريب. كم هو جميل وعتيق خشب القَيقَب ذو اللون الذهبي! كم هو فائق الجمال، مع منحنيات الخشب الآبُنُوسي لقوس الباب! كان به بريق مذهل وعتيق من العصر الفيكتوري، وثمة رونق مميز. حتى إنك قد تحتمل أن تدخل الإلهة هيجيا تحت الزجاج … فاللون كان مناسبًا، لهذا الخزف واللون الأبيض، وبهذا اللمعان الذهبي الآسر. كان لا يزال في تلك الأيام التي بُنيت فيها هذه السفينة فخامة وعظمة وثراء في الخامات المختارة. وهيجيا إلهة الصحة عند الإغريق تظهر على لافتات الإعلانات! لكنها رغم ذلك لم تكن إعلانات. ذلك ما شغل بالي حقًّا. لم تكن كذلك من قبل أبدًا. ربما أن شركة ويجو للأملاح الصحية سرقتها في وقتٍ لاحق.
•••
ليس لدينا أي قهوة … هذا أمر لا يحتاج إلى توضيح. لا شيء يُنجز في الصباح الباكر. طاقم السفينة لا يزال يقف في عُصبة، تمامًا كعصابة من الهمج عند ناصية الشارع. واستأثروا بالشارع لأنفسهم جميعًا … أقصد هذه السفينة. صعِدنا إلى ظهر السفينة.
•••
إنها باخرة طويلة وضيقة وقديمة، بها مدخنة واحدة صغيرة. وهي تبدو مهجورة تمامًا، الآن بما أننا لا نرى عصابة ناصية الشارع الذين يشكلون طاقم السفينة اللامبالي. فهم في الأسفل. لذا تبدو سفينتنا مهجورة.
أخذتْ سماء الفجر تتلون بلونٍ أزرق خافت. أصبحت السماء كتلة من السحب، ويلوح خط ذهبي شاحب ناحية الشرق، خلف جبل بيليجرينو. تهب الرياح عبر الميناء. والتلال خلف باليرمو تَنصِب أذنيها متنصتة إلى خط السماء. أصبحت المدينة القريبة منا على نفس المستوى محجوبة عن الرؤية. هناك … سفينة كبيرة قادمة: سفينة نابولي.
قوارب صغيرة ظلت تأتي إلينا من رصيف الميناء القريب. ونحن نشاهد. ضابط ضخم، فارس، يرتدي زيًّا أخضر ورماديًّا، ومعطفًا فَضفاضًا كبيرًا لونه أزرق داكن مبطَّن بلون قِرمِزي. تظل البطانة القِرمِزية تُصدر وميضًا. كان له لحية صغيرة، وزيُّه ليس نظيفًا تمامًا. كان يحمل صناديق خشبية كبيرة مربوطة بحبل، يستخدمها كحقائب سفر. فقير ودون المستوى. رغم تلك البطانة القِرمِزية اللامعة، والمِهماز في حذائه. من المؤسف أنهم يتجهون إلى الدرجة الثانية. ومع ذلك، سار إلى الأمام عندما رفع عتال السفينة تلك الصناديق الخشبية. لم يأتِ ركاب آخرون بعد.
تستمر القوارب في المجيء. ها هي! ها هي المؤن! قطع متنوعة من لحم الجَدي الجاهز للشواء، دجاج كثير، شمَر يشبه الكرفس، نبيذ في زجاجة كبيرة، خبز طازَج: وعُلب! تُرفع من القوارب إلى السفينة. صاحت ملكة النحل في تفاؤل: «طعام شهي!».
لا بد أن موعد الإبحار قد اقترب. قدِم راكبان آخران … شابان مكتنزان يرتديان ملابس من الجوخ الأسود ويقفان عند مؤخرة قارب صغير، وأيديهما في جيوبهما، ويبدو أنهما يشعران بالبرد. ليسا إيطاليَّين تمامًا، جسداهما قويان وذكوريان. في الواقع هما سردينيان من كالياري.
•••
نزلنا من سطح السفينة العلوي البارد. كنا في منتصف النهار تقريبًا. كانت الخطوط الذهبية الشاحبة تختفي بين السحب الخفيفة الباردة القادمة من ناحية الشرق، أعلى جبل بليجرينو، وتنكشف رقع من السماء بلونٍ أزرق سماوي. باليرمو على اليسار تربِض عندها الموانئ المهجورة الفوضوية وكأن رصيف سفنها الأمامي يمثل نهاية العالم ونهاية البحر. حتى من هنا بإمكاننا أن نرى العربات الصفراء تتحرك في بطءٍ، والبغال تهز الريش القِرمِزي أعلى رأسها على طول جانب الميناء الفسيح المتهالك. أوه، عربات صقلية الملونة، بكل ما تحمله من تاريخ على ألواح الخشب!
•••
يصل شخص إلى جانبنا. «يخشى القبطان أنه من غير الممكن أن نبدأ الرحلة. هناك رياح قوية في الخارج. رياح شديدة!».
كيف يَهوَون أن يأتوا بأخبار مفزعة، أو مثيرة للقلق، أو مزعجة! يا لها من بهجة تمنحها لهم مثل هذه الأخبار. يا لهذا الارتياح الذي يظهر على جميع الوجوه! بالطبع جميع الكسالى الآخرين يراقبوننا، أي متسكعي ناصية الشارع على سطح هذه السفينة. لكننا لُدغنا لمراتٍ كثيرة.
قلتُ وأنا أنظر إلى السماء: «غريب! ليس هناك رياح شديدة إلى ذلك الحد.»
إن أفضل رد فعل مؤثر هو إظهار اللامبالاة بكل هدوء مع هز الكتفين، كما لو أنك تعرف كل شيء عن الأمر، وأكثر مما كانوا يعرفون هم.
«آه أجل! رياح شديدة! رياح شديدة! في الخارج! في الخارج!»
ويشير إلى خارج الميناء، إلى البحر الرمادي، بوجه مكتئب وملامح درامية. وأنظر أنا أيضًا خارج الميناء عند الخط الشاحب للبحر وراء رصيف الميناء. لكني لم أثقل على نفسي بالرد، وكانت عيناي هادئتين. لذلك انصرف بعيدًا وهو يشعر بأنه نصف منتصر فحسب.
•••
صرخت الصديقة الأمريكية: «يبدو أن الأمور تصير من سيئ لأسوأ! ماذا ستفعل على مركب مثل هذا إذا باغتكم الجو البشع في وسط البحر المتوسط؟ يا إلهي … أستجازف، فعلًا؟ ألن تسافر من تشيفيتا فيكيا؟»
صاحت ملكة النحل: «كم سيصبح شيئًا بشعًا!» وهي تنظر حول الميناء الرمادي، والصواري الكثيرة التي تحتشد في السماء الرمادية على اليمين، وسفينة نابولي الكبيرة تولي دُبُرها إلى جانب رصيف الميناء البعيد قليلًا، وتتزحزح بحذرٍ إلى الخلف ناحية الميناء المغلق كليًّا؛ وسحب قليلة زرقاء وبيضاء تمر أعلاها، والقوارب الصغيرة مثلها كمثل خنافس تنطلق سريعًا وعشوائيًّا هنا وهناك عبر حوض السفن؛ وحشد كثيف على رصيف السفن يُقبل ليلتقي بالسفينة نابولي.
•••
الوقت! الوقت! لا بد للصديقة الأمريكية أن ترحل. فودعتنا، بأسلوب أكثر من عاطفي.
– «شغوفة بشدة لأن أعرف كيف ستسير الأمور معك.»
وبهذا نزلت. يريد المراكبي أن يحصل على عشرين فرنكًا … ويريد أكثر من ذلك.. لكنه لم يتحصل عليها. حصل على عشرة فرنكات، وهو أكثر من حقه بخمسة فرنكات. وبهذا جلست وهي تبدو صغيرة شاحبة واهنة، متدثرة في سُترتها الصوفية، ثم أخذت المركب تبقبق على الماء المموج في اتجاه الدرجات الصخرية البعيدة. لوَّحنا بأيدينا لنودعها. لكن حال بيننا مركب آخر. ملكة النحل، التي تشعر بأنها منفعلة، تَكدَّر مزاجها لأن أفكار الصديقة الأمريكية عن الرفاهية سلطت الضوء على وضعنا السيئ. نشعر كأننا أفقر الفقراء المسافرين بحرًا.
•••
باخرتنا تصدر صوتًا عاليًا يليق بها. يأتي راكب مهم في الدقيقة الأخيرة مندفعًا. فحبال الربط تُلَف وتصدر صوت قعقعة في الداخل. طيور النَّورس — التي قلما تجد كثيرًا منها في البحر المتوسط — تحلق عاليًا كرقائق ثلج في الهواء البارد. السحاب يمر. ومن دون أن ندرك وجدنا أنفسنا نختفي بعيدًا عن الشاطئ، وعن مرسى السفن الذي كنا فيه، بين باخرة «سيتي أوف تريستي» المهيبة وباخرة أخرى سوداء كانت تقف كجدار. نَزفِر ناحية هذه الباخرة السوداء الثانية تحديدًا. وبالطبع يقف شخص يرتدي قبعة الموظفين في الأسفل عند سُلم المغادرة الذي يعلو الماء، ويصيح: السفينة! السفينة! … يصرخ لأحد القوارب. ورجل عجوز في البحر يجدف في قاربه القديم البطيء بكل ما أوتي من سرعة بيننا وبين الباخرة السوداء الأخرى. يقف هناك بعيدًا في الأسفل، يبدو صغيرًا، يدير قاربه الثقيل الحركة، ويبدو بعيدًا كما لو أنه في صورة على الماء الأخضر الداكن. وجانبنا الأسود يقصد في مكرٍ وخبث الباخرة السوداء الضخمة الأخرى. أخذ الرجل يجدف في قاربه بيننا، حتى وصل إلى هنا تقريبًا.
عندئذٍ استدار الرجل الواقف على آخر درجة في سلم المغادرة إلى الاتجاه الآخر. ثمة قارب آخر من حوض السفن المفتوح يقترب منا، إنه سباق؛ فهو يقترب، يزداد قربًا، ها هو يصل. يلف القارب من حوض السفن المفتوح بقفزة واسعة ليصبح عند السلم. يتراجع القارب بين السفينتين بمجاديفه. الموظف يصيح ويلوِّح، والرجل العجوز الذي يوجِّه مجاديفه إلى الخلف في تلك الهوة الواسعة يصيح محتجًّا، فالقارب القادم من الحوض المفتوح نجح في اختطاف فريسته، وتبدأ سفينتنا في الخوض في الوحل، وتضبط بَراغيَّها، والرجل في تلك الهوة الواسعة من الماء الأخضر يجدف من أجل البقاء على قيد الحياة … ونحن نطفو متجهين إلى الحوض المفتوح.
رويدًا رويدًا استدرنا، بينما السفينة تستدير، قلوبنا تستدير معها. وباليرمو تتبدد صورتها من أذهاننا: قارب نابولي، الحشود التي تنزل من السفن، العربات المجلجلة على الأرض، سفينة «سيتي أوف تريستي» … كل ذلك يتلاشى من قلوبنا. لا نرى إلا الهوة المفتوحة لمدخل الميناء، وسطح بحر مستويًا خاليًا بلونٍ رمادي شاحب في الخلف. وثمة خطوط من ضوء برَّاق … هناك.
وإلى هناك قلوبنا تلتفت وتشاهد … رغم أن باليرمو قريبة منَّا، وراءنا بالضبط. نلتفت، فنراها وراءنا … لكنها رحلت بالفعل، رحلت من قلوبنا. الهواء المنعش، الأضواء البرَّاقة، البحر الهائج المفتوح وراء قضبان الميناء.
•••
وهكذا أبحرنا مبتعدين. وعلى حين غِرة بدأت السفينة تغوص قليلًا ببطء في الماء، ثم تصعد ببطء إلى أعلى، ثم تهبط مرة أخرى ببطء لتسير مسافة طويلة. يصبح لون ملكة النحل شاحبًا. ترتفع مؤخرة السفينة لأعلى ببطء، تصيبك بالدُّوَار … ثم تنخفض ثانية فترتفع مقدمتها. كل هذا بهدوء شديد ورفق، منتهى الرفق. لكن يا إلهي، إنها تستغرق وقتًا طويلًا للغاية، كم هي بطيئة، وتصيبك بالدوار.
قلتُ لملكة النحل: «مبهج للغاية.»
أجابت بلهفة: «أجل، جميل للغاية حقًّا». للحقيقة، ثمة شيء في ارتفاع السفينة الطويل والبطيء، وفي انزلاقها البطيء إلى الأمام جعل قلبي ينبض فرحًا. حركة تُشعرك بالحرية. أن تشعر بأنك ترتفع لأعلى … ثم تنزلق ببطءٍ إلى الأمام، مع صوت ارتطام المياه، وكأنك تطير في السماء بحركة ساحرة، تطير في الفضاء بنعومة. هذه الحركة المتناغمة المتمايلة للسفينة وهي ترتفع وتنخفض في المياه فيعلو صوت الخرير كما لو كان صادرًا من أنفها، يا إلهي! يا له من إحساس مبهج لأعماق النفس الجياشة. أصبحت حرًّا في النهاية … أشدو فرحًا مرفرفًا في بطءٍ، ومحلقًا في الفضاء. يا إلهي! أن تَنْعم بالحرية من قيود الحياة … من هول ضغط البشر، من الجنون التام للآلات. من حالة الضيق التي سببها لي القطار بكل تأكيد. وحالة الضيق التي ظلت أكثر مما ينبغي من الحياة بين أناس متبرمين ومعاندين على الأرض. ثم تأتيك هذه الحركة الرتيبة الطويلة من هذه السفينة الخالية تقريبًا، وهي تأخذ مجراها في المياه. يا الله! الحرية، الحرية، حرية بلا قيد. تمنيت في نفسي لو أن الإبحار يظل إلى الأبد، وألا يكون للبحر نهاية، وأن يصبح بوسع الإنسان أن يسبح في هذا الإيقاع الموجي المترجرج الطويل؛ ليهرب من قيود الزمان والمكان.
•••
كانت السفينة خالية تقريبًا … إلا من عصابة ناصية الشارع الذين ظلوا يتسكعون في الأسفل، على سطح السفينة نفسها. وقفنا وحدنا على متنزه سطح السفينة الصغير الباهت اللون بفعل عوامل الطقس، وكان به مقاعد من خشب بلوطٍ عتيق، ومنحوت على طرفيه، كمسند ذراع، أُسود صغيرة … وثمة حجرة مغلقة بشكل يثير الريبة، وبعد اختلاس النظر إليها كثيرًا تبيَّن أنها مكتب البرق وسرير عامل البرق المحاط بالستائر.
•••
جوٌّ بارد، وهواء منعش، والسفينة تمخر عُباب البحر الهائج، الشفاف، الذي يتراوح لونه بين الأزرق والأسود، وصقلية على اليسار: جبل بليجرينو، تلك الكتلة الضخمة غير المنتظمة من الصخر الوردي اللون، بالكاد تغطيها النباتات وتشخص لأعلى نحو السماء. يبدو حجم جبل بليجرينو ضخمًا وكتلته عظيمة، يبدو عاريًا كصحراءَ في السماء، ويبدو عتيقًا. إن سواحل صقلية لها طابع مَهيب، بديع، حصين لما بداخلها. ومن جديد ينتابك شعور بأن الدهر قد أتى عليها فجعلها جرداء، وكأن الحضارات القديمة الغابرة نخرت التربة واستنفدتها، وتركتها صخرة صلداء مريعة، كما هو الحال في هضاب سيراكيوز، وهنا في هذه الكتلة الضخمة.
•••
لا يبدو أن أحدًا هنا على متن السفينة سوانا؛ كنا وحدنا على متنزه سطح السفينة الصغير. وحدنا بما يدعو للغرابة، نطفو على سفينة قديمة جرداء وراءها سواحل خاوية جميلة، في بحرٍ هائج، ننكفئ وننهض في الرياح. إن الخشب الذي صُنع منه الأثاث يبدو كله عاريًا يكسوه لون رمادي من أثر عوامل الجو، وكذلك الحجرة، والمقاعد، وحتى الأسُود الصغيرة في المقاعد. تآكل الطلاء منذ أمدٍ بعيد، وهذا الخشب لن يرى طلاءً أبدًا ثانية. غريب أن يضع الواحد منَّا يديه على خشب البلوط العتيق، الذي تجذع كثيرًا بفعل البحر. خشب بلوط فاخر عتيق بجذوعٍ رفيعة: أقسم أنه نبَت في إنجلترا. فكل شيء مصنوع بدقة، وبمتانة شديدة تدوم مدى الحياة. أنظر إلى الأُسود، بهذه المخالب الدقيقة الرفيعة من خشب البلوط وهذه الأفواه الصغيرة المفتوحة. إنها راسخة تمامًا كما كانت في العصر الفيكتوري، وثابتة كذلك. لن تَبلَى أبدًا. يا لَلبهجة التي يبعثها هذا العمل المتأني الدقيق القوي المعمَّر المبذول في هذه السفينة! على أقل تقدير في هذه السفينة التي تبلغ من العمر ستين عامًا. كل ذرَّة في خشب البلوط العتيق هذا تبدو دقيقة وجميلة؛ التحام الخشب بأكمله مع الأجزاء المفصلية والمسامير الخشبية التي تضفي بهاءً وحيويةً تفوق اللحام الحديدي. خشب عتيق لا يبدو عليه القِدم، معمر، خلاياه حية لا تموت، لا يصدأ مثلما أن الجسد لا يصدأ، ويبدو فرحًا كما لم يبدُ على الحديد أبدًا. في حقيقة الأمر تسير السفينة بكفاءة، وتبحر بكل جمال.
•••
العديد من أفراد طاقم السفينة يتجولون ليلقوا نظرة علينا. فهذا المتنزه المتواضع على سطح السفينة يعلو غرف الدرجة الأولى، التي توجد بأكملها في مؤخرة السفينة. لذا رأينا أولًا شخصًا، ثم صعِد آخرُ بعده السُّلم … أغلب الرءوس عارية، ثم شخص ينزل وراء الآخر، يدخن سيجارًا. الطاقم بأكمله. في النهاية تُوقِف ملكة النحل واحدًا منهم … وهذا ما ينتظرونه، فرصة للحوار … ثم تسأل عما إذا كان ذلك الشيء الغريب أعلى جبل بليجرينو حطامًا. أيوجد سؤال سياحي أكثر من ذلك! لا، إنه عمود إشارة. جاء ذلك بمثابة صفعة على عين ملكة النحل! لكنها لم تبالِ مع ذلك، وبدأ العامل في الحديث. هو شخص ضعيف البنية، أجوف الخدين، طبعه من طبع أهل المدينة (باليرمي). يرتدي بدلة عمال لونها أزرق باهت ويخبرنا بأنه نجار السفينة، أي أنه بما لا يدع مجالًا للشك عاطل عن العمل بكل سعادة لبقية حياته، ويأخذ وظيفته على أنها أقل مما يستحقه. يحكي الرجل أن هذه السفينة في الماضي كانت تسير بين نابولي وباليرمو … وهو مسار في غاية الأهمية … منذ أيام شركة الملاحة العامة. باعتها شركة الملاحة العامة مقابل ثمانين ألف ليرة منذ سنواتٍ مضت، أما الآن فقيمتها تصل إلى مليونين. تظاهرنا بأننا نصدق ما يقوله، لكني أبليت بلاءً ضعيفًا. أضيق ذرعًا، بمعنى الكلمة، من وقع كلمة الليرة. ليس أحد يسمع اليوم من إيطالي عشر كلمات من دون أن يتخللها ألفان أو مليونان أو عشرٌ أو عشرون ليرة أو ليرتان، تنتشر كبعوضٍ سامٍّ حول أذنيه. ليرة … ليرة … ليرة، ولا شيء غيرها. اندثرت إيطاليا الرومانسية الشاعرية ذات شجر السَّرْو وشجر البرتقال. وبقيت إيطاليا المختنقة في غطاءٍ قذر من أوراق لا حصر لها من الليرات؛ نقود ورقية مهترئة قميئة، تبدو كثيفة في الهواء، يتنفسها الواحد منَّا كما يتنفس ضباب لزج. وراء هذا الضباب اللزج قد يبقى بعض الأشخاص الذين لا يزالون يرون شمس إيطاليا. أجد المسألة شاقة. فمن خلال ضباب الليرات تختلس النظر إلى مايكل أنجلو وبوتيتشيلي والبقية، وتراهم جميعًا كما لو كانوا خلف نظارة سوداء. أصبح جو إيطاليا بعد الحرب جوًّا مُظلمًا، يضغط عليك، ويعتصِرُك، ويسحقك إلى نقود ورقية قذرة. فالملك هاري كان محظوظًا لأنهم لم يرغبوا إلا في سكِّه على عملة ذهبية. وإيطاليا تريد أن تسحقك إلى ليرات ورقية قميئة.
•••
شخصٌ آخر … لكنه يرتدي هذه المرة سُترة سوداء من نسيج الأَلْبَكة ومنديلًا للمائدة … يخبرنا بأن القهوة جاهزة. وليس قبل الوقت المحدد للقهوة، أيضًا. نزلنا إلى القاعة السفلية، وجلسنا على كراسيَّ مثبتةٍ ببراغيَّ، بينما كانت السفينة تتهادى صاعدة وهابطة تحتنا، وشربنا فنجانين من القهوة بالحليب، وأكلنا قطعة من الخبز بالزبدة. على الأقل قدم لي شخص واحد من الطاقم الذي لا حصر له فنجانًا واحدًا، ثم نبذني. وكان يبدو واضحًا بكل تأكيد محاولته ألا أحصل على المزيد؛ لأن العاملين الذين لا حصر لهم ربما يطلبون فنجانًا آخرَ من القهوة بالحليب. ومع ذلك، في ظل اندفاع السفينة وتجمع العاملين في معاطفهم من الأَلْبَكة في توعُّدٍ عند مدخل الباب، وازنت خطوتي إلى مائدة البوفيه القصديرية واقتنصت إبريق القهوة وإبريق الحليب، ونجحت ببراعة في أن أقدم لملكة النحل ولنفسي قهوة مع الحليب. وبعد أن أعدت تلك الأباريق إلى المائدة المقدسة من القصدير، عدت إلى كرسيِّيَ الدوار عند المائدة الطويلة الخالية. أنا وملكة النحل وحدنا … باستثناء أنه في مكانٍ بعيد يجلس جانبًا رجلٌ ذو ظهر بدين بياقةٍ مزينة بجديلة ذهبية ويدين ممتلئتين تتخلصان من أوراق مختلفة … إنه جزء من المائدة الوحيدة، بكل تأكيد. أما هذا الرجل الطويل النحيل ذو معطف الأَلْبَكة، والوجه الجامد المصْفَرِّ والشارب الأسود الكبير، فيتحرك من المدخل الخارجي للباب، ويحملق غاضبًا في فنجانَينا الممتلئين، ثم يتجه إلى المائدة المقدسة القصديرية ويلمس يدَي الإبريقين؛ يلمسهما فقط ليعدلهما، كمن يقول: تلك الأباريق لي. من ذاك الغريب الوقح الذي يجرؤ أن يخدم نفسه!
•••
بأقصى سرعة ممكنة ترنحنا لأعلى من الزنزانة الطويلة التي ينقض فيها ذوو معاطف الألبكة على أباريق القهوة مثل ذبابات زرقاء، ثم تحلق في الهواء. هناك ينتظرنا النجار، كعنكبوت.
تقول ملكة النحل في حزنٍ: «أليس البحر أهدأ قليلًا؟» صارت تزداد شحوبًا.
يقول النجار ذو الوجه المرهَق: «لا سيدتي … كيف ذلك؟» ثم يشير إلى منحدر صخري أسود شاهق في الأمام ويقول: «الرياح في انتظارنا خلف رأس جايو. أترَيْن رأس جايو؟ عندما نصل إلى ذلك الرأس، نصل إلى الرياح والبحر. هنا …» ثم يشير … «لكنه معتدل.»
تقول ملكة النحل، بعد أن صارت أكثر شحوبًا: «أف! سأستلقي في الفراش.»
ثم تختفي. النجار، الذي يجدني غير مرحِّبٍ به، سار إلى الأمام، وأراه يختفي بين مجموعة أفراد الطاقم الذين لا حصر لهم، الحائمين على سطح السفينة مرورًا بالمطبخ والمحركات.
•••
السحب تمر سريعًا أعلى رءوسنا، ثم تأتي قطرات مطر سريعة ومنفردة، حتى إنك قد تظن أنه رذاذ. لكن لا، هذه زخة مطر. السفينة تصدر حفيفًا وتميل إلى الأمام، وترتطم ارتطامًا أجوف وترجع في بطءٍ إلى الوراء، على امتداد ساحل صقلية المرتفع الوردي الذي ينحصر في الخليج. ومن البحر المفتوح يأتي المطر، تأتي موجات طويلة.
•••
لا ملجأ يُحتمى به. لا مفرَّ من النزول. ملكة النحل ترقد في هدوء على فراشها. وفقدت القاعة رونقها كممر في سكة حديدية تحت الأرض. لا مأوى، عدا قرب المطبخ والمحركات، حيث تتلمس قليلًا من الدفء. الطاهي منهمك في تنظيف السمك، على لوحٍ صغير خارج مطبخه الضيق. مجرًى بطيء في المطبخ المتسخ يندفع إلى الأمام والخلف على طول جانب السفينة. مجموعة من طاقم السفينة تميل بالقرب مني … ومجموعة أكبر عددًا في الأسفل. الله يعلم ماذا بوسعهم أن يفعلوا … فليس بإمكانهم أن يفعلوا أي شيء سوى الوقوف في مجموعات والتحدث والأكل وتدخين السجائر. أغلبهم من الشباب … أغلبهم باليرميون … واثنان من الواضح تمامًا أنهما من نابولي، فلهما نظرة أهلها المميزة المثيرة للشفقة، والوجنات المنحوتة، والشارب الأسود الصغير، والعيون الكبيرة. لكنهم يمضغون نافخين وجَناتهم إلى الخارج، ويضحكون بأنوف منمنمة أشبه بالمتهكمة. المجموعة بأكملها تنظر باستمرار إلى جانبها. لا أحد يعطيهم أوامر أبدًا … ويبدو أن السيطرة غائبة تمامًا. ليس سوى المهندس البدين في ثيابه الكتانية يبدو نظيفًا وكفئًا تمامًا مثل ماكينته. غريب أن التحكم في الماكينات يضفي فخرًا واحترامًا على الإنسان.
•••
توقف المطر، فذهبت وجلست تحت قماش القِنَّب المنبسط أعلى المظلة الشفافة المقوسة فوق متنزه سطح السفينة، وجلست على المقعد المثبت على جانبي المظلة. الهواء بارد، وهناك أشعة متسللة من الشمس وقطرات مطر. وصلنا إلى الرأس الكبير وأصبح خلفنا على اليسار، وكنا نتجه لما هو أبعد من رأس جايو مثل السحابة في سماء مغيمة. ثمة حالة من العتامة سيطرت على عقلي؛ شيء أشبه بالتخدير بسبب الرياح وحركة السفينة المضطربة إلى الأمام والخلف. ليس دُوارًا، ولكن شيئًا أشبه بإعياء بسيط. حركة كثيرة، وهواء قوي يدفعك دفعًا. وكذلك بهجة انتصار مستمرة أثناء إبحار السفينة الطويل، والبطيء.
•••
صوت جرسٍ عالٍ: حان وقت الظهيرة، ويتوجه الطاقم لتناول الطعام، يندفعون لتناول الطعام. بعد فترةٍ دُعينا لتناول الطعام. يسأل النادل بحماس: «ألن تأكل السيدة؟» على أمل ألا تأكل. قلتُ: «أجل، ستأكل.» جئت بملكة النحل من فراشها. حضرت شاحبةً بعض الشيء وجلستْ على كرسيها الدوار. تأتي أصوات القرع بأطباقٍ ضخمة من حساء الكرنب الكثيف والدسم، الممتلئ لآخره فيتساقط على الجوانب. فعلنا ما يمكن أن نفعله معه. وكذلك الراكبة الثالثة؛ سيدة شابة لا ترتدي قبعة أبدًا، وبذلك تُقر بأنها واحدة من «العوام»، لكنها ترتدي فستانًا غاليًا راقيًا، مع جوارب حريرية رقيقة سوداء، وحذاء شمواه بكعبٍ عالٍ. فهي أنيقة، حازمة، لها عين داكنة كبيرة وأسلوب فظ وصريح صراحةً فظة بدرجة كبيرة على إيطاليا. فهي من كالياري … وليس بإمكانها أن تتفاعل كثيرًا مع حساء الكرنب، وتخبر النادل بذلك، بصوتها العميق الودود. وفي المدخل تحوم سحابة صغيرة من معاطف الأَلْبَكة تبتسم ابتسامة باهتة، وتترقب الطعام في خبث، وتَأْمُل، مثل الذباب الأزرق، لو أننا نصبح في حالة إعياء تمنعنا عن تناول الطعام. ينصرف الحساء ويظهر أومليت أصفر عملاق، مثل جذع شجرة أصفر. كان جافًّا، وثقيلًا، ومطهوًّا بزيت الزيتون المعتاد ذي المذاق الفاخر. رفضت السيدة الشابة أن تتناوله، وكذلك نحن. فكان ذلك انتصارًا للذباب الأزرق، الذي يرى العملاق الأصفر محمولًا إلى مائدتهم المقدسة. وبعدها تُقطَّع قطع سميكة وطويلة من اللحم إلى شرائح لا حصر لها، ولها مذاق عدمي ميت، وعليها صلصة سميكة بلونٍ بني بلا طعم، تكفي لاثني عشر شخصًا على الأقل. هذا مع قطع من القرنبيط الأخضر ذي النكهة القوية به كمية كبيرة من الزيت، على متن السفينة التي تدفع بالفعل قلبها إلى الخارج، ليكوِّن وجبة الغداء. تتجمع الانتصارات الخبيثة بين الذباب الأزرق في الممر. وعلى نفس المنوال مع التحلية من البرتقال، والكمثرى مع القلوب الخشبية ولب فاكهة سميك له لون أصفر وملمس أملس، وثمرات تفاحٍ. ثم القهوة.
كان علينا أن نظل حتى النهاية، وهو أمر جلل. الذباب الأزرق في معاطف الألبكة تَطِنُّ فوق كَميات الطعام التي أعدناها على الأطباق إلى المائدة المقدسة من القصدير. أُعِدَّ هذا الطعام بلا شك حتى لا يقدر أحدٌ على تناوله! تحدثت السيدة الكاليارية الشابة معنا. نعم، انطلقت في الحديث بتلك اللغة البشعة التي يسميها الإيطاليون — عامة الإيطاليين بالطبع — الفرنسية، والتي يصرون على التحدث بها ليشعروا بالفخر الشخصي؛ أجل، عندما يصلون إلى باب السماء، سيسألون القديس بيتر: «تذكرة واحدة للدرجة الثالثة.» بهذه اللغة البشعة التي تخلط ما بين الإيطالية والفرنسية الركيكة.
لحسن الظن، أو لسوء الحظ، فإن فضولها قد أخرج أفضل ما فيها، وسرعان ما تراجعت إلى لهجتها الإيطالية الأصلية. مَن نحن، ومن أين جئنا، وإلى أين سنذهب، ولماذا سنذهب، وهل لدينا أي أطفال، وهل نريد أي أطفال، إلى غير ذلك. وبعد كل إجابة تومئ برأسها وتقول: آه! وتراقبنا بعينيها الداكنتين المفعمتين بالنشاط. رجعت بالحديث إلى جنسياتنا وقالت بالإيطالية، إلى شهود غير مرئيين: زوجان جميلان. وفي تلك اللحظة شعرنا بأننا لسنا جميلين ولا زوجين، كنَّا نبدو أكثر إعياءً. يأتي الجندي العابس المدجج بالسلاح ليسألنا مرة أخرى إن كنا سنذهب لشرب بعض النبيذ، فعادت إلى لكنتها الفرنسية الصعبة، وهي أصعب من أن أستطيع فهمها. وقالت: إنه في رحلة بحرية لا بد للإنسان أن يأكل، لا بد أن يأكل، ولو حتى القليل. لكن … عادت مرة أخرى إلى لهجتها الإيطالية … ولا بد للإنسان بأي حالٍ من الأحوال ألا يشرب النبيذ … لا … لا! قلت بحزن: إننا لا نريد أن نشرب. وعندئذٍ قال الجندي العابس الذي، بالطبع، حرمناه من الزجاجة التي رفضنا أن يفتحها لنا، بنبرة تهكم يائسة: إن النبيذ صنع رجالًا من صُلب رجال … إلخ، رغم ذلك، ضايقني هذا التلميح. كل ما عرَفته أنه كان يريد نبيذًا، ونحن لم نطلب أي نبيذ. وهو لا يبالي بالطعام.
أخبرتنا السيدة الكاليارية بأنها جاءت من نابولي، وأن زوجها سيلحق بها في غضون أيام. فهو يجري بعض الأعمال في نابولي. كدت أن أسألها إن كان يشبه كلب البحر قليلًا … هذا الكائن الذي يرمز به الإيطاليون إلى المستثمرين، لكني منعت نفسي في الحال. وبهذا أوَت السيدتان إلى الفراش للاستلقاء، وأنا ذهبت وجلست تحت المظلة الخاصة بي.
•••
شعرت بكآبة شديدة وبأنني لست نفسي. وجلست غير قادر على التفكير في أي شيء. ازدادت الشمس حرارة في فترة العصر. واتجهت السفينة ناحية الجنوب، والرياح والأمواج وراءنا، وصار الجو أكثر دفئًا بكثير، وأكثر سلاسة. ونشرت الشمس دفأها القوي البهي، بلونها الذهبي على البحر الأزرق الداكن. وبدا خشب البلوط العتيق بلونٍ أبيض تقريبًا، فكانت فترة العصر في منتهي البهاء فوق البحر. وفي أشعة الشمس وصوت البحر، ومع انطلاق السفينة الخاوية بسرعةٍ أكبر، غفوت لساعةٍ دافئة وهنيئة، واستيقظت من جديد. رأيت أمامي جُزُرًا خافتًا لونها، تلوح في الأفق عند الجانب الأيمن؛ الجزر العِقادية العاصفة، وعند اليمين جبل أو مرتفع مخروطي عالٍ، تعلو قمتَه مبانٍ، وفي الجهة المقابلة للبحر، لكن لا تزال بعيدة، مبانٍ مشيدةٌ على مرسى سفن داخل الميناء، وحاجز أمواجٍ، وقلعة أمام البحر، جميعها صغيرة وبعيدة، كنافذة عرض. المباني كانت مربعة وبديعة. ثمة شيء مبهر … سحري تحت أشعة الشمس البعيدة والرياح العاتية، المباني المربعة المتناسقة تنتظر بعيدًا، تنتظر كمدينة مفقودة في إحدى القصص، مثل قصة «رِيب فان وِينكِل». كنت أعرف أنها مدينة تراباني، الميناء الغربي لصقلية، تحت الشمس الغربية.
•••
التل القريب منَّا كان جبل إيريكس. لم أره أبدًا من قبل. ولهذا كنت قد خِلْته جبلًا في السماء. لكنه لم يكن إلا ربوة مرتفعة، وثمة تجمع سكني لا يمكن تمييزه تابع لقريةٍ على القمة، حيث يوجد إلى الآن دفقات باردة من الأبخرة العالقة. يقولون إن ارتفاعه ٢٥٠٠ قدم. ومع ذلك فهو لا يزال يبدو مجرد تل.
لكن لماذا بحق السماء يتوقف قلبي ما إن أشاهد هذا التل الذي يرتفع عن البحر؟ إنه جبل إتنا الخاص بالغرب، لكن ما هو إلا تل تكلله مدينة. بالنسبة إلى الرجال، فلا بد أنه كان له سحر أعظم نوعًا ما من جبل إتنا. أن تشاهد أفريقيا! أفريقيا … تكشف سواحلها في الأيام الصافية. أفريقيا المخيفة. ومعبد المراقبة العظيم على القمة، الذي قدسه العالم، ورهِبه العالم القديم. فينوس لدى الرومانيين الأصليين، هي أقدم من أفروديت الإغريق. فينوس الرومانيين الأصليين، من معبدها الحارس الذي يطل على أفريقيا، خلف جزر إيجشن. سر العالم، الإلهة عِشتارة الباسمة. تلك البقعة، التي تُعَد مركزًا من مراكز العالم، قديمة قِدم الأزل! والإلهة تحرسُ أفريقيا! إريسينا ريدينس. تضحك الإلهة عند مركز هذا العالم القديم المفقود كليًّا.
أعترف أن قلبي توقف عن النبض. لكن هل مجرد حقيقة تاريخية يصبح لها أثرٌ قوي، حتى إن ما يتعلمه الواحد منَّا بنهمٍ من الكتب قد يثيره هكذا؟ أو هل الكلمة تحديدًا تستحضر صدًى من الدم المتدفق في الأعماق؟ هكذا يبدو الأمر لي. يبدو لي أن مِن ارتداد دمي في الأعماق يأتي صدًى مخيفٌ عند النطق باسم جبل إيريكس؛ شيء لا يمكن تفسيره أبدًا. بالكاد يثير اسم أثينا في نفسي شيئًا. أما إيريكس فتجعلني أرتجف من الداخل. إيريكس، تلك التي تطل غربًا على غروب شمس أفريقيا. إريسينا ريدينس.
ثمة صوت تكتكة في الغرفة الصغيرة التي أستند إليها. فعامل البرق، بلا شك، منهمكٌ بالتواصل مع مدينة تراباني. هو شابٌّ بدين له شعر مموج أشقر نوعًا ما وله طلعة مَهيبة. امنح رجلًا زمام التحكم في آلةٍ ما، وفي الحال يظهر إحساسه بالأهمية، وبوقار يفوق مستوى البشر. أحد عامِلِي الطاقم عديمِي المسئولية يتسكع عند المدخل الصغير، كدجاجة تسير على قدمٍ واحدة، ليس لديها أي شيء لتفعله. تصعد الفتاة من كالياري ومعها شابان من سردينيا أيضًا، عُرفا من بنيتهما القصيرة والبدينة، وهيئتهما المستقلة، وأثر الفخر في عينيهما الداكنتين. أما هي فلم ترتدِ أي معطف على الإطلاق؛ لا شيء سوى فستانها الأنيق ذي القماش الرقيق، ورأسها العاري الذي تطير منه خصلات شعرٍ على جبينها، وجوارب حريرية «سوداء» شفافة. رغم ذلك يبدو أنها لا تشعر بالبرد. تتحدث بحماسٍ شديد، وهي جالسة بين الشابين. وتُمسك في رقةٍ بيد الشاب الذي يرتدي معطفًا. وتمسك دائمًا بيد الرجل أو ذلك الآخر من الشابين، وتنحِّي عن جبينها خصلات الشعر التي تطيرها الريح، وبصوتها القوي غير المبالي تتحدث سريعًا وبلا توقف، وبحيوية هائلة. الله وحده يعلم إن كان هذان الشابان — وهما من ركاب الدرجة الثالثة — لهما معرفة سابقة بها. لكنهما يمسكان يديها وكأنهما أخواها … يمسكانها بتلقائية ولطف، وليس بأسلوبٍ فيه بذاءة أو شهوانية. كان الانطباع العام «ولمَ لا؟».
تناديني أثناء مروري، بلكنتها الفرنسية الحادة والغريبة:
– «هل ذهبت زوجتك إلى الفراش؟»
فأقول لها إنها تستريح في الأسفل.
تومئ برأسها: «آه، هل أصابها دُوَار البحر؟»
«لا، لم يصبها دوار البحر، تريح جسدها لا أكثر.»
الشابان، اللذان كانت تجلس وسطهما وكأنهما وسادتان، يراقبان بعينيهما الداكنتين الفضوليتين المُمَيِّزتين لأهل سردينيا، واللتين تبدوان حذرتين وتكشفان عن البياض حولهما. كانا مبهجَين … مثل الفقمات قليلًا. كانا مشدوهَين لوهلة، ومعجبَين بهذه اللغة الغريبة. فتابعتْ بكل حماسٍ ترجمة ما قيل إلى اللغة السردينية، أثناء انصرافي.
يبدو أننا لن نذهب إلى مدينة تراباني. تقع المدينة هناك على اليسار، أسفل التل، المباني المربعة التي أوحت لي بمصانع شركة الهند الشرقية اللامعة في ضوء الشمس التي تبسط أشعتها على امتداد الميناء القريب والغامض، خلف البحر بمياهه المتدفقة بلونها الأزرق الداكن. يبدو أننا نقصد الجانب الأكبر من جزيرة ليفانزو. ربما سنتجه إلى سردينيا من دون أن نَدْلِف إلى تراباني.
وهكذا دَوالَيك … وكأننا كنا نبحر دائمًا بين الجزر المتجمعة الزرقاء الشاحبة، لنترك تراباني خلفنا على اليسار. كانت المدينة ظاهرة للعِيان لمدة ساعة أو تزيد عليها: ونحن لا نزال نبحر سريعًا ناحية ليفانزو. وعامل البرق يتكتك ويدقدق منهمكًا داخل غرفته الصغيرة على سطح السفينة العلوي هذا. عندما تختلس النظر إلى غرفته، ترى فراشه ومقعده خلف ستارةٍ منسدلة، محجوبين عن مكتبه الصغير. وكل شيء يبدو مرتبًا وباعثًا على السرور.
ومن الجزر، تشق واحدة من السفن الشراعية في البحر المتوسط طريقها، عبر مسار سفينتنا، متجهة إلى تراباني. لا أفقه شيئًا عن أسماء السفن لكن النجار يقول إنها مركب شراعي ذو صاريَين؛ يقول ذلك بنبرة شكٍّ إيطالية تنم عن أنه لا يعرف حقًّا، ولكنه لا يطيق أن يكون جاهلًا بالأمر. على أي حالٍ ها هي تدنو منا، بسُلمها الطويل المستند إلى الأشرعة المربعة البيضاء في ضوء العصر، ومقدمتها المبهجة، المقوسة من الداخل لتصنع بذلك تجويفًا رائعًا، وتُسرع وكأنها حيوان بري جامح يقتفي رائحةً عبر مياه البحر. هناك … رائحة تجتذبها نحو الشمال مرة أخرى. فتغير وجهتها من مدخل الميناء، وتجري بعيدًا، لتمر وراءنا. جميلة هي السفينة، رشيقة وسريعة وجامحة، بأشرعتها البيضاء الزاهية والمندفعة.
نغير نحن مسارنا. كنا نقصد طَوال الوقت جنوب ليفانزو. والآن بإمكاني أن أرى الجزيرة تقترب ببطء من الخلف، وكأنها تفسح الطريق لنا، كرجلٍ في الشارع. الجزيرة تقترب تدريجيًّا وتنزوي جانبًا، ثم تمضي. فنحن نقصد بكل وضوح مدخل الميناء. كنا طَوال هذا الوقت نبحر مسرعِين، في الخارج عند البحر، وحول الميناء من الخلف. أرى الآن القلعة الحصينة، مَعلمٌ قديم، في الجهة الخارجية أمام البحر: فنار صغير والممشى المؤدي إلى داخله. وخلفه، واجهة المدينة، مزدانة بنخلٍ مهيب وأشجار داكنة غريبة، وفي الخلف ترتفع تلك المباني المربعة الكبيرة في الجنوب بشكلٍ لافت، وكأنها قصور حادة مشيدة على الممشى. وجميعها لها مظهر فخم، مهيب، لها طابع الجنوب، وبعيدة كذلك عن سمت القرون الحديثة: فتقف بمنأى عن تيار الحياة الصناعية التي نشهدها.
أتذكر الصليبيين، وكيف احتشدوا هنا كثيرًا في طريقهم إلى الشرق. وتراباني يبدو أنها لا تزال تنتظرهم، بنخيلها وهدوئها، وانغماسها في شمس العصاري. واضح أنها لا حيلة لها سوى الانتظار.
تظهر ملكة النحل في ضوء الشمس، ويرتفع صوتها بالتعبير عن روعة المنظر! فالبحر أصبح أكثر هدوءًا، وصرنا بالفعل في المساحة الخضراء المنتشرة على منحنى الميناء. من الشمال تسرع السفن الكثيرة المبحرة من الجزر ناحيتنا، مع اتجاه الريح. وبعيدًا في الجنوب، على مستوى البحر، تُدير طواحين هواء كثيرة أشرعتها بوتيرة سريعة، طاحونة بعد طاحونة، ضخمة وقصيرة نوعًا ما، تدور بمرحٍ في سماء العصر الزرقاء الساكنة، وبين بحيرات الملح الممتدة في اتجاه مارسالا. لكن مع هذا الجمع الكبير من طواحين الهواء هناك، كان دون كيخوتي سيُجن جنونه. تدور الطواحين هنا وهناك، عشوائيًّا، على مستوى سطح البحر الأزرق الشاحب. وربما يمكن لنا أن نرى بريق أكوام الملح الأبيض. فهذه هي بحيرات الملح العظيمة التي تجعل تراباني ثرية.
•••
ندخل حوض الميناء، مرورًا بالقلعة العتيقة بعيدًا على اللسان ومرورًا بالفنار الصغير، ثم ندخل عبر المدخل، منزلقين بهدوءٍ على المياه التي كانت هادئة حينها. يا لَلروعة! كم هو مبهج اكتمال شمس العصاري التي تفيض بنورها على هذا الميناء الدائري، الذي تسكن الحركة فيه سريعًا، ويصطف النخيل ناعسًا على جانبيه، وسرعان ما تغرق مياهه في النوم. يبدو ميناءً صغيرًا إلى حدٍّ ما، ومريحًا، به مبانٍ ضخمة تتجمل بألوانٍ دافئة في أشعة الشمس التي تقف خلف الميناء الصغير المزدان بأشجار داكنة. وتعُمُّ نفس الحالة من الهدوء، والنعاس، وهيبة الشمس الدافئة التي لا آخر لها.
في خضم هذا الهدوء، استدرنا ببطءٍ عند المياه اللامعة، وفي غضون دقائق معدودة رسوْنا. هناك سفن أخرى رست بعيدًا على اليمين: الكل نيام، على ما يبدو، تحت فيض أشعة شمس العصاري. وخلف مدخل الميناء تتدفق مياه البحر الزاخر وتهب الرياح. هنا كل شيء ساكن وساخن ومنسي.
يعلو صوت السيدة الشابة بالسؤال بلكنتها الفرنسية المفعمة بالنشاط: «أستنزلان إلى اليابسة؟» … تغادر ممسكةً بيدَيِ الرجلين الشابين للحظة. لم نكن واثقَين تمامًا، ولا نرغب في أن تأتي معنا على أي حال، فلكنتها الفرنسية لا تشبه لكنتنا الفرنسية.
يدب السكون على الأرض، لا أحد ينتبه إلينا، لا شيء سوى مجرد قارب يجدف ليقطع عشرات الياردات نحونا. قررنا أن نطأ بأقدامنا على الشاطئ.
•••
لم يكن من المفترض أن ننزل، وكنا نعلم ذلك. ليس من المفترض منَّا أبدًا أن ندخل تلك المدن في الجنوب التي تبدو من الخارج في غاية اللطف، والجمال. ومع ذلك، ظننا أن بإمكاننا أن نشتري بعض الكعك. ولهذا عبرنا الشارع الذي يخيَّل إليك من البحر أنه في غاية الجمال، والذي، عندما تدخله، تجده نقطة التقاء بين مكانٍ خارجي بوسعك أن تلقي فيه القُمامة وبين طريق متعرج غير ممهد في حي رثٍّ، به مقاعد قليلة من الحديد، وسلة مصنوعة من القش وخرقة قديمة. المنظر في حد ذاته موحش بطريقة أعجِز عن وصفها، رغم الأشجار المرتفعة، وأشعة الشمس الفاتنة، والبحر والجُزر التي تلمع ببريق ساحر وراء مدخل الميناء، والشمس؛ الشمس الخالدة بأشعتها الحارقة. وبعض أفراد بثياب رثة، ليس لديهم ما يفعلونه يقفون تعيسين في الأرجاء، في رداء أهل الجنوب، وكأنهم قد هُجِروا هناك، وقد غمرهم الفيضان الأخير بالماء، وظلوا في انتظار الفيضان التالي ليغمرهم أكثر. حول الزاوية على امتداد رصيف الميناء، ثمة باخرة نرويجية تحلم بأن حمولة تُرفع إليها، وسط حالة الفوضى التي تعم الميناء الصغير.
•••
نظرنا إلى الكعك … فوجدناه ثقيلًا ومعجَّنًا على معدتَينا المضطربتين من البحر. فسِرنا إلى شارع رئيسي، معتم ومشبَّع بالرطوبة كبالوعة مجارٍ. وترامٌ يصطدم بموقف، وكأنه أخيرًا في ذلك الحين وصل إلى نهاية العالم. الأطفال القادمون من المدارس في انتشاء يركضون ملاحِقين لآثارنا، بأنفاسٍ مقطوعة، ليسمعوا أصواتنا المذعورة بلغتنا الأجنبية. انزوينا إلى زُقاق جانبي مظلم، على بُعد أربعين خطوة إلى الداخل تقريبًا: وكنا في الجهة الشمالية، فوق شيء أسود له رائحة منتنة بدت وكأنها ماسورة مجارٍ بها حركة لا تتوقف، فكانت كُومة من الوحل.
هكذا وصلنا إلى نهاية الشارع الرئيسي الأسود، واستدرنا في عجالة نحو الشمس. آهٍ … في لحظةٍ واحدةٍ كنا فيه. هناك يرتفع النخيل منتصبًا، وتستقر سفينتنا في الحوض المشرق المنحني … وهنالك الشمس الحارقة، ولهذا في غضون لحظة كنا سكارَى مخدَّرين من أثرها. أصابتنا الدَّوخة. جلسنا على مقعد حديدي في الشارع المهجور المليء بالقُمامة، الذي تضربه أشعة الشمس.
فتاة متسخة في ملابس رثة كانت ترضع طفلًا بدينًا ومبللًا لا تستطيع أن تحركه من مكانه، سيتحول إلى صبي بدين متسخ. وقفتْ بعيدًا على مسافة ياردة واحدة وأخذت تحملق فينا كما يحملق الإنسان في خنزيرٍ سيشتريه. اقتربت منَّا، ثم تفحصت ملكة النحل. كانت قبعتي الكبيرة البنيَّة على عينيَّ. لكن عبثًا، فقد جلست الفتاة بجانبي، ودست وجهها مباشرة تحت طرَف قبعتي، حتى إن شعرها الأشعث لمسني، وظننت أنها ستُقبِّلني. لكن أخطأت الظن للمرة ثانية. وبأنفاسها على وجنتيَّ حدقتْ في وجهي كما لو كنت تمثالًا من الشمع. فنهضتُ مسرعًا.
قلتُ لملكة النحل: «هذا كثير عليَّ.»
ضحكتْ، وسألت عن اسم الطفل. وكان يدعى بيبينا، كأغلب الأطفال.
انطلقنا إلى الأمام، فأخذنا جولة في الشارع المهجور ناحية السفينة الذي يتوفر فيه الظل والشمس، وعدنا مرة أخرى إلى المدينة. لم نكن قد أمضينا على الشاطئ أكثر من عشر دقائق. هذه المرة سرنا إلى اليمين، فوجدنا عددًا أكبر من المتاجر. الشوارع كانت مظلمة، وباردة، لا تصلها الشمس. ومدينة تراباني بدت في نظري أنها تكتفي ببيع نوعين من السلع: فراء أرانب معالج، وفراء قطط، وتشكيلات من مفارش أسرَّة كبيرة، وقبيحة، وعصرية من الحرير الثقيل الزاخر بالورود وبأسعار مذهلة. يبدو أن الناس في تراباني لا تُلقِ بالًا لآلاف الليرات.
لكن أبرز شيء على الإطلاق كان الأرانب والهِررة. أرانب وهِررة مفلطحة ومستوية كأوراق شجر مضغوط، تتدلى في مجموعات في كل مكان. كل أنواع الفراء! أرانب بيضاء وأرانب سوداء بأعداد وفيرة، وأرانب مرقَّطة، وأرانب رمادية … ثم الهِررة: هِررة مخططة، وهِررة صَدفة السلَحْفاة، ولكن الغالبية من الهِررة السوداء، في صورٍ مخيفة من الحياة، وجميعها مفلطحة، بالطبع. الفراء وحدها فقط. هناك مجموعات، حُزَم، أكوام، مجموعات متدلية من الطبقات الخارجية للهررة والأرانب! هررة وأرانب بالعشرات والعشرينات، كأوراق الشجر المجفف، لتختار منها. إذا قُدِّر لِقِطة من إحدى السفن أن تجد نفسها في شوارع تراباني، لصرخت صرخة مهلكة، وأصابها الجنون، أنا واثق من ذلك.
تجولنا لعشر دقائق أخرى في هذه المدينة الضيقة، والمتعرجة، والزائفة، التي بدا أن لديها عددًا غفيرًا من السكان النشطين، وعددًا لا بأس به من الاشتراكيين، إذا كان من المفترض لشخصٍ أن يحكم بتلك الشخبطة المكتوبة على الجدران: «لينين» و«فلتسقط البرجوازية».
•••
لم أجرؤ على شراء الكعك بعد إلقاء نظرة على سعره. لكنَّا وجدنا بسكويت «الماكرون»، ونوعًا من الحلوى أشبه بقالب مجسم للمسيح الطفل وحمامةٍ، فاشترينا اثنين منها. أكلت ملكة النحل بسكويت «الماكرون» الخاص بها طَوال الطريق، واتجهنا ناحية السفينة. ينادينا المراكبي البدين ليعيدنا. كانت السفينة على بعد ثماني ياردات تحديدًا، إذ رست عند رصيف الميناء، حتى كان بإمكاننا أن نقفز إليها. أعطيت المراكبي ليرتين وفرنكين. فتظاهر في الحال بغضب العامل الاشتراكي، وألقى النقود إليَّ. ستون سنتيمًا أخرى! الأجرة كانت خمسة وستون سنتيمًا! في البندقية أو سيراكيوز ستكون الأجرة عشرة سنتيمات. سددت إليه نظرةً وأعطيته النقود وقلت: «لأجل الله، فنحن في تراباني!». فرد مغمغمًا بشيء عن الأجانب. لكن أثار استيائي الوقاحة البغيضة واللاأخلاقية لهؤلاء السادة الكادحين، الذين أصبحت لهم الآن «اتحادات» تدعمهم و«حقوق» بوصفهم عمَّالًا. فهم لا يُعَدون مجرد رجال عاديين، أما الإيطالي الإنسان السعيد فقد اختفى على نحو يثير الدهشة. فقد ظهرت لهم امتيازات جديدة، إلى غير ذلك. وشوهت قيمة عمل الإنسان، مما أدى إلى استغلال الفقراء والمحتاجين وإساءة معاملتهم.
•••
لكن، ثمة نقطة أخرى جديرة بالذكر، لِأذكر نفسي بأن هذا الخطأ هو خطؤنا نحن الإنجليز. لقد ثرثرنا كثيرًا على نبل الكدح، ومع ذلك، ما زال النبلاء في النهاية يصرون بتلقائية على أكل الكعك. ويزيد على ذلك، أننا سعينا، سياسيًّا، لتحقيق الحرية والمساواة، ولكننا كنا في الحقيقة نملأ جيوبنا بكل وقاحة ونفضل مصالحنا الشخصية. فلا عجب من أن هذا النفاق قد أفقدنا مصداقيتنا بين الأمم الأخرى، ولا سيما في الجنوب.
•••
حسنًا، عدنا إلى السفينة. ونرغب في تناول الشاي. توضح القائمة بجانب الباب أن موعد تناول القهوة واللبن والزبدة في الساعة ٨:٣٠، والغداء في الساعة ١١:٣٠، والشاي أو القهوة أو الشوكولاتة في الساعة ٣:٠٠، ثم العشاء في الساعة ٦:٣٠. وعلاوة على ذلك «سيقتصر تقديم الشركة لوجبات الطعام إلى الركاب على الفترة الطبيعية للرحلة.» عظيم … عظيم. أين الشاي إذن؟ لا توجد أي علامة! الرجال ذوو المعاطف من صوف الأَلْبَكة يتحاشَوننا. لكننا عثَرنا على رجلنا، وطالبنا بحقوقنا؛ على الأقل ملكة النحل طالبت بحقها.
إن تكلفة التذاكر من باليرمو إلى كالياري، لنا نحن الاثنين، تساوي ٥٨٣ ليرة. منها ٢٥٠ ليرة ثمن التذكرة، و٤٠ ليرة تكلفة الطعام لكل واحد منا. وهذا يعني ٥٨٠ ليرة للتذكرتين. وأما الليرات الثلاث الباقية فهي للطوابع غالبًا. كان من المفترض أن تستغرق الرحلة حوالي ثلاثين أو اثنتين وثلاثين ساعة؛ من الساعة الثامنة من صباح يوم المغادرة إلى الساعة الثانية أو الرابعة من عصر اليوم التالي. وبكل تأكيد ندفع لنتناول الشاي.
ظهر الركاب الآخرون: باليرمي «أنيق» ضخم شاحب بدين سيشغل منصب أستاذ جامعي في كالياري، وزوجته الضخمة البدينة ولها بشرة مشبعة بالحُمرة، وثلاثة أطفال: صبي في الرابعة عشرة من عمره يبدو كفتاة نحيفة وهزيلة يشبه أباه، وصبي صغير في معطف من فراء الأرنب، وطفلة على ركبة أمها. وكانت الطفلة الصغيرة ذات العام الواحد، بكل تأكيد، هي الرجل الوحيد في الأسرة، ربما لافتقاد كل ذكور الأسرة إلى الصفات الذكورية التقليدية.
كانوا جميعًا في حالة إعياء طَوال اليوم، والإرهاق يبدو عليهم. تعاطفنا معهم. يمتعضون من قساوة الرحلة … وأنه لا خدمة على متنها! لا خدمة! ومن دون أي خادمة خصوصية. الأم تطلب قهوة، وكوب لبن للأطفال، ثم لمَّا رأت معنا الشاي بالليمون، ولأنها تعرفه من شهرته، قررت أن تأخذ شايًا. لكن الصبي الذي يرتدي فراء الأرنب سيطلب قهوة … ثم قهوة ولبنًا … ولا شيء آخر غيره. ولكنه يطلب برتقالًا. أما الرضيعة، فستأخذ ليمونًا؛ قطع ليمون. و«الآنسة» الصغيرة التي تشبه أباها في هيئة أخٍ مراهق يفرط في الضحك على الرغبات الكثيرة لهذين الصغيرين، والأب يضحك ويظن أن الأمر برمته لطيف ويتوقع منَّا أن نُظهر استحسانًا. فهو يبدو مرهقًا للغاية على أن يتابع كما ينبغي، وعلى أن يُولِي اهتمامًا بكامل جسده.
بهذا تحصل الأم على فنجان الشاي … وتضع قطعة ليمون فيه … ثم لبنًا فوقه. الطفل ذو فراء الأرنب يمصُّ البرتقال، ويسيل لعابه في الشاي، ويصر على تناول قهوة ولبن، ويتذوق قطع الليمون، ثم يحصل على قطعة بسكويت. أما الطفلة الرضيعة، بتعبيراتها الغريبة، فتمضغ قطعة الليمون، ثم تسقِطها في فنجان الأسرة، ثم تلتقطها مع قليل من السكر، ثم تجعلها تَقطُر على أول المائدة لآخرها، ثم تضعها في فمها وتلقيها بعيدًا، وتمتد يدها لقطعة ليمون جديدة. يظن جميعهم أن الأمر فكاهي وممتع. يصل اللبن، ليعامَل على أنه فنجان محبب آخر، فيُمزَج معه البرتقال والليمون والسكر والشاي وقطعة البسكويت والشوكولاتة والكعك. الأب والأم والأخ الأكبر لا يضعون في أفواههم شيئًا، فلا شهية لهم. لكنهم مستمتعون، بكل تأكيد، بالمُزاح اللطيف والفوضى التي أحدثها الصغيران. فلديهم قدرة جميلة غير عادية على الصبر، ويجدون في أفعال صغيريهم مصدرًا لا ينقطع من التسلية اللطيفة. الكبار ينظر بعضهم إلى بعضٍ، ويضحكون ويعلقون على ما يحدث، في حين أن الصغيرين يمرِّغون أنفسهم والمائدة في المزيج الفوضوي من الليمون واللبن والبرتقال والشاي والسكر والبسكويت والكعك والشوكولاتة. هذا الصبر الجميل المبالغ فيه من الإيطاليين مع قرودهم الصغار يبدو مدهشًا. فيجعل الصغار أكثر تشبهًا بالقرود، ويمنحهم اعتدادًا أكبر بأنفسهم بطريقة مذهلة، وبهذا يجيد الطفل الرضيع جميع حيل العاهرة البابلية، ويجرِّب مُزاحات جديدة. حتى يرى الإنسان في النهاية أن العائلة المقدسة في الجنوب كثالوث غير مقدس من البلاهة.
في تلك الأثناء مضغت مجسَّمي ليسوع الطفل والحمامة، الذي كان في أكله أشبه بزجاج رفيع قاسٍ وحادٍّ للغاية. كان مصنوعًا من اللَّوز وبياض البيض على ما يبدو، ولا يكون مذاقه بهذا السوء على الإطلاق إذا تمكنت من أكله. كان تذكارًا لعيد الميلاد المجيد. راقبت العائلة المقدسة عند الجهة المقابلة من المائدة الضيقة، وحاولت ألا يظهر على وجهي كل ما شعرت به.
•••
صعِدتُ إلى سطح السفينة في أسرع وقت ممكن، راقبنا تحميل براميل النبيذ في المخزن … فهي عملية سهلة لا يُحمَل لها هم. كانت السفينة خاوية من الحمولات مثلما كانت خاوية من الركاب. وأما عن الركاب، فكنَّا اثني عشر بالغًا، أشرت إليهم جميعًا، وثلاثة أطفال. وبالنسبة إلى الحمولات، فكانت هناك الصناديق الخشبية الخاصة بالضابط، وتلك البراميل الأربعة عشر من النبيذ من تراباني. استقرت البراميل بعد فترة طويلة في وضع ثابت بشكلٍ أو بآخر، والمالك أو الشخص المسئول عنها يشرف على ذلك. بدا واضحًا أن لا أحد على متن هذه السفينة يتحمل مسئولية أي شيء. أربعة رجال من بين طاقم لا حصر له كانوا يعيدون الألواح الخشبية الكبيرة فوق المخزن. كان من الغريب أن ترى كم كانت السفينة مهجورة وهي تستعد للإبحار مرة أخرى. ولم يفلح طاقمها الضخم في أن يضفوا عليها الحياة والنشاط. فاتخذت سبيلها كروحٍ تائهة عبر البحر المتوسط.
•••
خارج الميناء كانت الشمس تميل إلى المغيب، والسماء الشاسعة بديعة في حلتها الذهبية الحمراء، من وراء مجموعة الجزر العِقادية التي أخذ الظلام يدثرها شيئًا فشيئًا. قادمون كما كنَّا من الجانب الشرقي للجزيرة، الذي فيه يُعَد مطلع الشمس من وراء البحر الأيوني هو الحدث العظيم والمألوف في اليوم؛ حدث حاسمٌ للغاية، لدرجة أن الضوء حين يبزغ على امتداد حافة البحر، تنفتح عيناي معه وتنظر إليه، وتدرك أنه الفجر، وحين يتبدد لون الليل الأرجواني مبتعدًا ويتسلل قليل من اللون القِرمِزي نحو قمة السماء، يومًا بعد يوم، دون أن يتخلف يومًا، أشعر بأنه لا مفرَّ من النهوض؛ نحن قادمون من الشرق، ويفصلنا عن الغرب قمم جبلية مرتفعة من خلفنا، لذا شعرنا بأن هذا الغروب في البحر الأفريقي مهيب ومؤثر. بدا لنا أنه أكثر عظمة وتراجيدية من شروق الشمس لدينا في البحر الأيوني، الذي يوحي دائمًا بتفتح الأزهار. لكن هذا الغروب العظيم ذا الحمرة المتوهجة، كان يحمل نكهة أفريقية تهديدية على البحر، وبدا أنه شديد البعد في أرض مجهولة. أما فجرنا الأيوني فهو يبدو دائمًا قريبًا ومألوفًا ومبهجًا.
إلهة أخرى؛ عِشتارة إريكس، الإلهة عِشتروت، «إيرسينا ريدنس» لا بد أنها كانت، في ابتسامتها القاتمة في عصر ما قبل التاريخ، تراقب غروب الشمس المهيب خلف الجزر العِقادية، من أبولو ذي الهالة الذهبية المضيئة شرق البحر الأيوني. في نظري هي إلهة غريبة، هذه الإلهة فينوس إيرسينا، والغرب بالنسبة لي غريب، وغير مألوف، ومخيف قليلًا، سواء كان هذا الغرب هو أفريقيا أو أمريكا.
عند غروب الشمس تحركنا بعيدًا عن الميناء رويدًا رويدًا. وبينما كنا تقريبًا تجاوزنا الحاجز، أبصرنا في الأمام بعيدًا، بين الجزر، وميضًا سريعًا ثاقبًا. وعند النظر إلى الخلف، أبصرنا الضوء عند مدخل الميناء يتراقص، والمدينة القاصية الشريدة أخذ بريقها يتلألأ. حل الظلام على البحر صابغًا إياه بلون أواخر الشفق البنفسَجي.
كانت الجزر تَلُوح في الأفق بحجمٍ كبير بينما كنَّا نزداد قربًا منها، وكان الظلام يغلفها. ويعلو رءوسنا نجم ليلي مهيب يلمع فوق البحر المفتوح، فأصاب قلبي بغصةٍ، لأني اعتدت أن أراه متدليًا فوق قمم الجبال، فانتابني شعور بأنه سيهوي، ويبتلع المكان أسفله.
كانت جزيرة ليفانزو والجزيرة الأخرى الرحبة في ظلام دامس؛ ظلام حالك، عدا شعاع ضوءٍ متسلل من فنارة بعيدة. الرياح عادت مرة أخرى قوية وباردة، وكانت السفينة قد بدأت مرة أخرى تسير سيرتها الأولى ما بين ارتفاع وهبوط، بعد أن كنا لحسن حظنا قد نسينا. تعلو رءوسنا نجوم رائعة لا حصر لها نشطة وكأنها كانت نابضة بالحياة في السماء. رأيت وراءنا كوكبة الجبار تلمع عاليًا، وكوكبة الكلب الأكبر تتألق. سمعنا صوت البحر بينما نعتلي الأمواج، ثم سمعناه بينما ننزل تحتها! هذا الإيقاع الغريب للمياه والقرع الرنان للسفينة في البحر كان له تأثير مخدر ومثير للجنون على الروح، تندفع المياه لفترة طويلة فتصدر هسهسةٍ، ثم تتمايل السفينة، ثم تندفع لأعلى مرة أخرى لتصدر صوت هسهسة مفاجئة!
كان الجرس قد قُرِع وعلمنا أن الطاقم سيقدم الطعام مرة أخرى. في كل لحظة من النهار، ومن المفترض كذلك في الليل، كان الطعام أو شرب القهوة لا يتوقفان.
•••
دُعينا إلى تناول العشاء. كانت السيدة الشابة برفقتنا قد أخذت مقعدها، وصديقها الضابط البدين في زيه الرسمي كان يُنهي طعامه بعيدًا. الأستاذ الجامعي الشاحب ظهر أيضًا، وعلى مسافة على المائدة جلس رجل ضئيل رمادي الشعر يرتدي معطف سفرٍ رماديًّا من الأَلْبَكة. ظهرت المعكرونة المفضلة مع صلصة الطماطم؛ ولم تظهر أي مأكولات بحرية. كنت أعلق آمالي على السمك. ألم أرَ يُطهى على الموقد سمكُ البيتا السيامي المقاتل الأبيض؟ … ها قد ظهر السمك. فأي طبقٍ كان؟ حبَّار مقلي. الحبَّار، وهو أيضًا البولب، أخطبوط صغير يتردد، للأسف، على البحر المتوسط، ويبخ حبرًا في حال تعرضه لأذًى. يُقطَّع هذا البولب وأذرعه ثم يُقلى، ثم يُركَّز حتى يصل إلى قوام السيلولويد المغلي. يُعَد طبقًا شهيًّا، لكنه أشد قسوة من المطاط الهندي، فتملؤه غضاريف في كل مكان.
أشعر بنفورٍ خاص ناحية الحبَّار. ذات مرة في إقليم ليجوريا، كان لدينا قارب خاص بنا، وكنا نخرج بالقارب بصحبة مجدفين قرويين. اصطاد أليساندرو حبَّارًا، وكان يشبه هذا. ثم ربط أنثى حبار بخيط داخل كهف، وكان الخيط يمر من فتحة مناسبة في مؤخرتها. عاشت هناك، ككلبةٍ ترير ذات شعر خشن، حتى ذهب أليساندرو للصيد مرة أخرى. وسحبها وراءه ككلبةٍ بودل. ومن ثَم كأنثى البودل، جذبت الذكور في البحار المالحة. وأمثال البولب المسكين الولهان وقعوا ضحية لها. ثم رُفع كفريسة على متن السفينة، فنظرتُ في ذعر إلى أذرعه الرمادية الشفافة وعيونه الكبيرة الواهنة المتحجرة. ثم جُرَّت أنثى البولب وراء قاربنا مرة أخرى. لكنها ماتت بعد أيام قليلة.
أظن، بالنسبة إلى مخلوقات بهذا المنظر البشع، أن هذه الطريقة هي طريقة مُهينة بدرجة يُعجَز عن وصفها، وتُثبت أن الكائن الأكثر وضاعة من الأخطبوط نفسه هو الإنسان المتغطرس.
حسنًا، مضغنا بعض أطراف الحبَّار المقلي، ثم تركناه. وفتاة كالياري تركتها أيضًا؛ أما الأستاذ الجامعي فلم يحاول حتى أن يتذوقه. لم يستمتع بمضغها سوى الرجل ذي الشعر الرمادي الذي يرتدي معطف الأَلْبَكة. بقيت جبال من الحبار من نصيب الذباب الأزرق المبتهج.
وصل اللحم الذي لا يمكن الفرار منه، هذه القطعة الطويلة من اللحم الذي لا طعم له على الإطلاق مُقطَّعة إلى عدد لا حصر له من الشرائح الرمادية البنية. آهٍ، يا إيطاليا! الأستاذ الجامعي فر هاربًا.
وصلت الكُمَّثرى بقشرتها المُخملية، وكذلك التفاح والبرتقال … احتفظنا بتفاحةٍ واحدة لنتلذذ بها في ساعة أكثر بهجة.
وصلت القهوة، وكمكافأة عظيمة قُدمت بعض الأصناف المعروفة من المعجَّنات. كلها بلا استثناء مذاقها بائت. السيدة الشابة تهز رأسها. وأنا أهز رأسي، لكن ملكة النحل سعيدة كالطفلة. والأكثر سعادة من الكل هم الذباب الأزرق الذين ينقضون في معاطفهم السوداء على مائدتهم المقدسة القصديرية، ويصدرون طنينًا عاليًا، عنيفًا، فوق أصناف الكعك البائت.
الرجل النحيل ذو الوجه الأصفر لم يبالِ البتةَ بالكعك. جاء مرة أخرى يحدثنا عن النبيذ. تحدث كثيرًا لدرجة أن الفتاة الكاليارية طلبت كأسًا من نبيذ المارسالا، وكان عليَّ أن أفعل مثلها. وها نحن أولاءِ، ثلاث كئوس من النبيذ البني. شربت الفتاة الكاليارية كأسها ولاذت بالفرار فجأة. وشربت ملكة النحل كأسها بحذرٍ شديد ثم انسحبت في هدوء. وأشرب أنا ما تبقى من كأس ملكة النحل الصغير إلى آخره، وأشرب كأسي، ويطِن الذباب الأزرق المفترس في حماس وإثارة. واختفى صاحب الوجه الأصفر بالزجاجة.
من غرفة الأستاذ الجامعي يتسرب صوت تأوهٍ خافت، وفي بعض الأحيان قد يصبح شديدًا، وكأن شخصًا على وشك أن يتقيأ. ليس سوى باب رفيع بين هذه القاعة وغرفتهم. وخرقة قديمة بالية لا يوجد أكثر منها اهتراءً يحملها رجلٌ يتسلل خُفية مع الصحون، محاولًا ألا يظهر أيٌّ من الأشياء البغيضة بداخلها. صعِدتُ لأنظر إلى النجوم اللامعة، المنتشرة، ولأتنفس هواءً باردًا، ولأرى السفينة تتهادى فوق البحر الحالك. ثم ذهبت أنا أيضًا إلى الغرفة، وراقبتُ البحر لدقيقة من خلف النافذة، ودسست نفسي في السرير السفلي الضيق كقطعة لحمٍ بين شطيرتي خبزٍ. يا لها من غرفة غاية في الضيق، نترنح فيها كعودَي ثقاب داخل علبة ثقاب! يا لَلعجب! لكن مع ذلك كانت السفينة تمخر عباب البحر ببراعة.
•••
لم أعانِ من قلة النوم في تلك الليلة الخانقة، والمائجة، بل إنني في الحقيقة استغرقت في النوم بعمق في الجزء الأخير من الليل. وكان ضوء النهار قد سطع بالفعل عندما نظرت من النافذة، وكان البحر أكثر هدوءًا. كان الصباح مشرقًا صافيًا. أسرعت واغتسلت في عجالة في الصحن الذي يقطر في دلو في أحد الأركان، لم تكن هناك مساحة تَسَع ولو كرسيًّا واحدًا، فهذا الصحن كان بجانب رأس سريري. ثم اتجهت إلى سطح السفينة.
يا له من صباح جميل! وراءنا بعيدًا كانت الشمس تبزغ فوق مستوى البحر، والسماء يكسوها كلها لون ذهبي؛ لون ذهبي مبهج ومتوهج، والبحر لامع شفاف، والرياح ساكنة، والأمواج تتهادى في تموجات طويلة ومنخفضة، وكانت الرغوة من أثر مَخْر السفينة لها لون أزرق ثلجي شاحب في الأجواء المكسوة بلونٍ أصفر. صباح رحب جميل، مشرق على البحر، والشمس تبزغ صاعدة من وراء البحر وكأنها كانت تسبح فيه، وسفينة شراعية عالية، بسُلمها الأمامي المستوي المستند على الأشرعة، تحجب الضوء في رقةٍ، وباخرة بعيدة نائية تظهر في أفق الصباح الساطع المشرق.
فجر رائع، وصباح رحب صافٍ بهيج في عُرض البحر المبهج الموشَّى بالذهب الذي يتلألأ كالخرز اللامع، والسماء بعيدة نائية قاصية في الأعلى، وصافية بشكلٍ يُعجِز استيعابُه. يا لَبهجةِ أن تصبح على متن سفينة! يا لها من ساعة ذهبية يحظى بها قلب إنسان! لو أن الإنسان بإمكانه أن يبحر إلى الأبد، على سفينة صغيرة هادئة وحيدة، فينتقل من أرضٍ لأرض ومن جزيرة إلى جزيرة، ويهيم غير عابئ في الفضاء الفسيح لهذا العالم الرائع، دومًا في الفضاء الفسيح لهذا العالم الرائع. من الجميل في بعض الأحيان أن تصل إلى تلك الأرض المعتمة، وأن تضع نفسك في مواجهة الأرض اليابسة، وتُسكن الحركة المرتجفة التي تحلِّق بها انصياعًا لهدوء أرضنا اليابسة! لكن الحياة نفسها قد تكون في الرحلة، في اضطراب الفضاء. اضطراب الفضاء الذي لا ينتهي أبدًا، ما دام الإنسان يرحل! الفضاء، والارتجاف الضعيف للفضاء، والاختطاف السعيد لهذا القلب الوحيد. ألَّا يتقيد بالأرض أكثر من ذلك. ألَّا يكون كحمارٍ قُيِّدتْ رجله بجذع شجرة، فصار مقيدًا بأرض منهكة ليس لديها أي إجابة الآن. ليس لديه سوى الهروب.
أن تجد ثلاث أرواح لرجال تائهة في الدنيا، ثم تهيم معهم، عبر الفضاء المضطرب، إلى مدى الحياة! لماذا علينا أن نرسو؟ لا شيء لنرسو من أجله. الأرض ليس لديها إجابة تقدمها للروح أكثر من ذلك. أصبحت هامدة. أعطني سفينة صغيرة، وإلهًا رحيمًا، وثلاثة رفاق تائهين في العالم. اسمعني! دعني أهيم بلا هدف في هذا العالم الخارجي النابض، هذا العالم الذي لا بشر فيه، حيث يسبح الفضاء سعيدًا.
•••
أخذ الصباح المشرق، في البحر المفتوح، بلونه الأصفر يشحب لونه مكتسبًا زرقة مميزة، وهدوءًا! صارت الشمس متعامدة على الأفق، كالبقعة المحترقة للزهرة المقدسة. والسفن الشراعية في البحر المتوسط، ذات طابع يرجع إلى العصور الوسطى، ترفرف في رياح الصباح الهادئة، كما لو كانت غير واثقة في أي طريق ستسلك، وكأنها حشرات ذات جَناح واحد على الزهرة. الباخرة، التي لا يظهر منها سوى الجزء العلوي، تُبحِر في اتجاه إسبانيا. الفضاء يحيط بنا من كل اتجاه؛ والبحر الهادئ المستوي!
ظهرت السيدة الشابة الكاليارية وصديقاها. كانت تبدو جميلة واستعادت نفسها الآن بعد أن صار البحر هادئًا. وقف صديقاها يلمسانها، كل منهما يلمس أحد كتفيها.
قالت لي بصوت عالٍ: «صباح الخير، سيدي!»، ثم تابعت بالفرنسية: «هل تناولت القهوة؟»
– «ليس بعد، وأنتِ؟»
– «لا! وزوجتك …»
كانت تزمجر ككلب الدرواس، ثم أخذت تترجم باستمتاع شديد إلى صديقيها الجاهلَين. كيف لهما ألا يفهما لهجتها الفرنسية، لا أعلم كيف، فاللكنة تبدو كإيطالية محرَّفة.
نزلتُ لأسفل لأجد ملكة النحل.
•••
عندما صعِدنا لأعلى، ظهر أمامنا شبح الأرض على بعد، كان أكثر شفافية من اللؤلؤ الرقيق. ها قد وصلنا إلى سردينيا. السحر هو المرتفعات حينما تُرى من البحر، عندما تكون نائية قاصية، ولا يبدو لك سوى شبحها، تمامًا كجبال الجليد. كانت هذه سردينيا، تلوح في الأفق كظلال آسرة في عُرض البحر. والسفن الشراعية كما لو أنها اقتُطعت من اللؤلؤة الشفافة الرقيقة، كانت تنساب متجهة إلى نابولي. أردت أن أُحصي عدد أشرعتها … خمسة أشرعة مربعة أسميها بالسُّلم، المربع يعلو الآخر … لكن كم عدد المجاديف المجنحة؟ ذلك ما تبقى لملاحظته.
•••
صديقنا النجار كان يراقبنا؛ على الأقل لم يكن صديقًا لي. لم يجدني رجلًا لطيفًا، أنا واثق من ذلك. لكنه صعِد، وشرع في تسليتنا بسخافة متعبة. مرة أخرى تصيح السيدة الشابة وتسأل إذا كنا قد تناولنا القهوة؟ أخبرناها أننا كنَّا على وشك النزول في الحال. ثم تخبرنا بأن ما سنتناوله اليوم، أيًّا ما كان، سندفع ثمنه؛ فقد كانت الرحلة بالطعام ليوم واحد فقط. فغضبت ملكة النحل من ذلك، وشعرت أنها قد خُدعت. أما أنا فكنت أعرف ذلك من قبل.
•••
نزلنا وتناولنا القهوة رغم ذلك. نزلت السيدة الشابة إلى أسفل، ونظرت بعينيها إلى إحدى الذبابات الزرقاء في معطف الأَلْبَكة. وبعدها رأينا فنجان قهوة بحليب وقطعتي بسكويت تؤخذ إلى غرفتها خلسةً. عندما يتخفَّى الإيطاليون ويفعلون شيئًا خلسة، تعج الأجواء من حولهم بالقيل والقال، وتطالهم آلاف الألسنة. وبالرغم من آلاف الألسنة الخفية التي تضج بالواقعة، كانت السيدة الشابة قد حصلت خُفية في غرفتها على قهوتها دون مقابل.
•••
لكن الأجواء الصباحية كانت رائعة. أنا وملكة النحل تسللنا حول المقعد عند مؤخرة السفينة تحديدًا وجلسنا بمعزلٍ عن الرياح وعن النظر، جلسنا تحديدًا أعلى الزَّبَد الطافي من مَخر السفينة. أمامنا كان مشهد الصباح المكشوف … وسنا الضوء من أثر إبحار السفينة، الذي كان أشبه بأثر الحلزون في سيره، يزحف عبر البحر؛ كانت تسير في مسارٍ مستقيمٍ لفترة قصيرة، ثم تنعطف إلى اليسار، دائمًا ما تنعطف ناحية اليسار، ثم تقترب إلينا من الأفق الصافي، كمسار الحلزون اللامع. كان باعثًا على السعادة الجلوس في سكون، ولا شيء سوى البحر المتلألئ الخالي من صنف البشر.
ولكن لا فائدة، لقد عُثر علينا. وصل النجار.
– «آه، لقد عثرتما على مكان بديع …!»
– «بديع للغاية.» كان هذا ما قالته ملكة النحل بالإيطالية ردًّا عليه. لم يكن بإمكاني أن أحتمل هذا الاقتحام.
تابع حديثه … وكما هو متوقع حتمًا، كان حديثه عن الحرب. آهٍ، الحرب … كانت شيئًا مريعًا. لقد أصبح مريضًا … مريضًا للغاية. لأنك، كما تعرف، لا تعيش فقط دون زادٍ كافٍ، ودون راحة ودفء كافيين، لكنك أيضًا تعيش في عذاب الخوف على حياتك طَوال الوقت. عذاب الخوف على حياتك. هذا ما تفعله الحرب. ستة أشهر في المستشفى …! وأبدت ملكة النحل، بالطبع، إحساسًا بالشفقة.
الصقليون يأخذون الأمر ببساطة شديدة. يخبرونك بأنهم كانوا خائفين إلى حد الموت، وأن هذا أصابهم بالمرض. وملكة النحل، مثل كل النساء، تحبهم لبساطتهم الشديدة في تعاملهم مع الأمر. أما أنا فأشعر بالغضب إلى حدٍّ ما. لأنهم «يتوقعون» تعاطفًا تامًّا. ومهما كان الإله العظيم مارْس قد انكمش وخبت حيويته في العالم، فلا يزال يزعجني أن أسمع الكفر به «لهذه الدرجة».
•••
بالقرب منَّا يدور المِسراع الآلي، ساحبًا الحبل الرفيع خلفنا في البحر. يهتز ويدور بشدة، ويلتف على فترات متقطعة. شرح لنا أن البُرغيَّ الصغير في نهاية الحبل يدور حسب سرعة الإبحار. فكنَّا نبحر بسرعة تتراوح من عشَرة أميال إيطالية إلى اثني عشر ميلًا إيطاليًّا في الساعة. آه، بالتأكيد، كان «بإمكاننا» أن نبحر على سرعة عشرين ميلًا. لكننا لم نسر بسرعة تزيد على عشَرةٍ أو اثني عشر ميلًا، توفيرًا للفحم.
الفحم! أدركت أننا كنا الملامين. إنجلترا تستحوذ على الفحم. وماذا تفعل به؟ تبيعه بثمن غالٍ للغاية. لا سيما لإيطاليا. إيطاليا فازت في الحرب، والآن لا تستطيع أن تحصل ولو على الفحم. وما السبب في ذلك! السعر. فرق العملة! والآن وقعت في الفخ من الناحيتين. بَلَدان كانا قد تمكنا من الحفاظ على قيمة عُملتهما عاليةً … أقصد إنجلترا وأمريكا. الجنيه الإسترليني والدولار الأمريكي، ذلك هو المال. توافد الإنجليز والأمريكان على إيطاليا، بجنيهاتهم الإسترلينية ودولاراتهم، واشترَوا ما حلا لهم بلا مقابل يُذكر، بلا مقابل. وانظر هنا! في الوقت الذي يشعر فيه الإيطاليون المساكين … بأنهم في حالة دمار … دمار حقيقي. والحلفاء، … إلخ.
اعتدت على الأمر تمامًا، اعتدت عليه لدرجة السأم. لا يمكنني أن أخطو خطوة إلى الأمام من دون أن يُرشَق برأسي هذا «الفرق» اللعين للعملة. ويأتي مع هذا حقد عنيف مؤذٍ يصيبني بالرعب. لأني أؤكد لهم أنني أدفع مقابل أي شيء أقتنيه في إيطاليا، وأنني لست إنجلترا. لست الجزر البريطانية التي تسير على قدمين.
ألمانيا … أخطأت بدخولها الحرب. لكن … حدث ما حدث، ووقعت الحرب. إيطاليا وألمانيا كانتا دائمًا صديقتين. في باليرمو …
يا إلهي، شعرت أنني ليس بإمكاني أن أحتمل لثانية أخرى. ليس بإمكاني أن أجلس أعلى الزَّبَد ويلازمني مثل هذا الكائن البائس ليحشر في أذني حشوًا من الأخبار المستهلَكة … لا، لم يكن بإمكاني أن أحتمل ذلك. في إيطاليا، ليس هناك مهرب. قل كلمتين، وسيبدأ الشخص في مضغ الجرائد القديمة ثم يحشوها في أذنيك. لا مفر. إذا كنت إنجليزيًّا … تصير … رمزًا لإنجلترا والفحم وفرق العملة؛ وتُعامَل على هذا الأساس. ومن غير المجدي على الإطلاق أن تحاول أن تتعامل بإنسانية حيال الأمر، أنت النظام الربوي للدولة، مدمن الفحم ولص العملة. لقد اختفت كينونة كل رجل إنجليزي في هذا التجريد الثلاثي الأركان، في عيون الإيطاليين، والطبقة الكادحة منهم خاصةً. حاول وأقنعهم أن يكونوا بشرًا، حاول وأقنعهم أن يروا ببساطة أنك مجرد شخص، إن استطعت ذلك. في النهاية، لستُ سوى مجرد إنسان فرد يهيم في طريقه الوحيد طَوال تلك السنوات. لكن عبثًا كل ذلك … في عين رجل إيطالي أنا تلك الصورة المجردة المحكمة أركانها، إنجلترا … الفحم … فرق العملة. الألمان كانوا سالفًا شياطين في التجريد النظري اللاإنساني للمخلوقات. لكن الإيطاليين الآن تفوقوا عليهم. أنا عمود إحصائيات سائر على قدميه، يجمع ويحسُب على نحوٍ سيئ لإيطاليا. هذا فقط وليس أي شيء آخر. ولكون الأمر هكذا، أُطبِق فمي وأسير مبتعدًا.
•••
تخلصنا الآن من النجار. لكني غاضب، وأشعر بالحمق لأنني غاضب. فالأمر أشبه بأن تنزعج بسبب بعوضهم. صارت السفن الشراعية قريبة … وبإمكاني أن أَعُدَّ خمسة عشر شراعًا. منظرها جميل! ومع ذلك لو كنت على متنها، لجاء شخص يمضغ الجرائد ويحشو أذني بها، ويخاطبني بصفتي إنجلترا … الفحم … فرق العملة.
البعوض يحوم ويحوم. لكن وجهي المتجهم الصخري يبقيه بعيدًا. لكنه يحوم. وملكة النحل تشعر بتعاطف تجاهه؛ متعاطفة تمامًا. لأنه بالطبع يعاملها على أنها جميلة الجميلات … كما لو كان سيلعق حذاءها، أو أي شيء آخر قد تسمح له بلعقه.
•••
في تلك الأثناء نأكل التفاح الذي ادخرناه من تحلية يوم أمس، وبقايا كعك مجسم الطفل يسوع والحمامة الخاص بملكة النحل. الأرض تزداد قُربًا منَّا … بوسعنا أن نرى شكل نتوءٍ بعيد وشبه جزيرة … وبقعة صغيرة بيضاء تشبه كنيسةً. الجزء الأكبر من الأرض مهجور وغير واضح المعالم، ويأتي نحونا، لكنه جذاب.
نتطلع إلى الأرض التي تتكشف لنا. البعوضة تحوم حولنا. أجل … فهو غير متأكد … يظن أن البقعة الصغيرة البيضاء كنيسة … أو فنارة. عندما تمر برأس سبارتفنتو على اليمين، وتَدْلِف إلى الخليج الواسع بين رأس سبارتفنتو ورأس كاربونارا، عندئذٍ تكون على بعد ساعتين من الإبحار إلى كالياري. سنصل بين الساعة الثانية والثالثة. والآن الساعة الحادية عشرة.
نعم، السفن الشراعية على الأرجح متجهة إلى نابولي. لا توجد ريح قوية الآن. حالما توجد رياح تجري سريعًا، وربما تصبح أسرع من سفينتنا البخارية. آه يا نابولي … جميلة نابولي، جميلة، أليس كذلك؟ أقول إنها قذرة قليلًا. لكن ماذا تريد؟ هكذا يقول النجار. مدينة عظيمة! باليرمو أفضل بكل تأكيد.
أما عن النساء النابوليات، فيقول إن كنَّ جميلات أم لا. فهُن يصففن شعورهن بأناقة شديدة لتصبح في غاية الإتقان والأناقة والجمال … لكنهن من الداخل قذرات. قوبل ما قاله بصمتٍ فاتر، فتابع قائلًا بالإيطالية: نحن نلف العالم، ونحن نعرف العالم. بم يقصد «نحن»، لا أدري، ففخامة النجار الباليرمي يسخر، بلا شك. لكن «نحن» الذين نسافر نعرف العالم. يجهز هو الآن تسديدته. النساء النابوليات والنساء الإنجليزيات هن على حدٍّ سواء في هذا الشأن، فهن قذرات من الداخل. من الداخل، هن قذرات. نساء لندن …
بالنسبة لي، هذا الرجل تجاوز كل الحدود.
أقول: «أنت الذي تبحث عن نساء قذرات» وتابعتُ: «ستجدهن في كل مكان.»
توقف لبرهة وتطلع إليَّ.
– «لا! لا! لقد أسأت فهمي. لا! لا أقصد ذلك. أقصد أن النساء النابوليات والإنجليزيات يرتدين ملابس داخلية قذرة …»
ولم أعلق على ما قاله سوى بنظرة لا مبالية ووجه متجهم. وعندئذٍ التفتَ إلى ملكة النحل، واستمر في استدرار عطفها. وبعد دقائق معدودات استدار إليَّ مرة أخرى:
– «السيد منزعج! منزعج مني.»
لكني استدرت إلى الناحية الأخرى. وأخيرًا انصرف شاعرًا بالانتصار، لا بد أن أعترف بذلك، كبعوضة لدغت أحدهم في رقبته. والحقيقة أن على المرء ألا يسمح «أبدًا» لمثل هؤلاء الأشخاص وفي مثل هذه الأيام أن يشاركوه في الحديث. لم يعودوا بشرًا. يكرهون الهُوية الإنجليزية، ويغفلون عن الإنسان.
•••
سرنا إلى الأمام، ناحية مقدمة سطح السفينة، حيث المشهد الذي تطل عليه غرفة القبطان. القبطان رجل كهل، صامت ومتواضع، له هيئة رجل نبيل. ومع ذلك يبدو مغلوبًا على أمره. شخص آخر من العاملين في تقديم الطعام يصعد سُلَّمه متسللًا حاملًا فنجان قهوة سادة. عند الرجوع، نظرنا خلسة لأسفل من الفتحة المتصلة بالمطبخ. وهناك رأينا دجاجًا مشويًّا ونقانق … دجاج مشوي ونقانق! أخْ، هذا هو المكان الذي تذهب إليه قطع لحم الماعز والدجاج وما لذ وطاب؛ كل شيء يذهب إلى أسفل في حلوق طاقم السفينة. لم يتبقَّ لنا مزيد من الطعام، حتى نصل إلى البر.
•••
لقد مررنا بمنطقة الرأس في البحر … والشيء الأبيض تبيَّن أنه فنارة. صعِد الأستاذ الجامعي البدين والأنيق حاملًا طفلته الصغيرة، بينما الأخ الأكبر ذو الطابع النِّسوي يجر الصبي الصغير ذا فراء الأرنب من يديه. وبهذا يسيرون كأسرة، ويا لها من أسرة. ثم يستقرون قريبًا منَّا، وهذا يُنذِر بإقامة حوار آخر. لكنني لن أفعل ذلك ولو مقابل أي شيء، يا أعزائي!
البحارة … ليس البحارة، وإنما بعض متسكعي ناصية الشارع يرفعون علم إيطاليا ذا الألوان الثلاثة الأحمر والأبيض والأخضر. يرفرف على قمة الصاري، والأخ ذو الطابع النسوي، في فيضٍ رقيق من المشاعر، يخلع قبعته الفكاهية في زهوٍ ويصيح: «ها هو علم إيطاليا!»
آهٍ من العاطفية البغيضة في أيامنا هذه.
الأرض تمر ببطء، ببطءٍ شديد. تكثر بها التلال، لكنها جرداء، تضم أشجارًا قليلة. ولا تنتشر بها النتوءات وإنما هي جميلة بهية، مثل صقلية. صقلية لها طرازها. بقينا على الجانب الشرقي من الخليج … بعيدًا في الغرب يظهر رأس سبارتيفنتو. لكن كالياري لم تظهر في مجال الرؤية.
تصيح الفتاة الكاليارية: «متبقٍّ ساعتان!». وتابعت: «ساعتان على الطعام. عندما أصل إلى البر، يا لها من وجبة شهية سألتهمها.»
الرجال يسحبون المسراع الآلي. السماء تمتلئ بغيمات كثيفة ثلجية تأتي بعد وقت الظهيرة عندما تهب رياح الشمال القارسة. لم يعد الجو دافئًا.
•••
رويدًا، رويدًا، أخذنا نزحف على امتداد الشاطئ الذي لا ملامح له. تنقضي ساعة. نرى قلعة صغيرة في الأمام، مصممة من مربعات ضخمة باللونين الأسود والأبيض، مثل قطعة من لوحة شطرنج عملاقة. تجدها قائمة في نهاية لسان أرضي طويل، شبة جزيرة جرداء لا منازل على أرضها وتبدو كما لو أنها ملعب جولف. لكنها ليست ملعب جولف.
وفجأة ظهرت كالياري: مدينة جرداء على مرتفع شاهق، مرتفعة، لها طلة ذهبية، ترتفع من السهول وتكاد تصل إلى السماء عند رأس الخليج العميق الذي لا ملامح له. مكان غريب لكنه مذهل، لا يشبه إيطاليا على الإطلاق. ترتفع المدينة بشكلٍ مهيب، وتبدو كنموذجٍ مصغر، إنها تُذكرني بالقدس، بلا شجر، وبلا غطاءٍ، ترتفع أبية متجردة من كل شيء، بعيدة نائية كما لو أنها عادت من التاريخ، كمدينة مذكورة في كتاب قداس مزخرف عن الرهبانية. تتعجب كيف وصلت تلك المدينة إلى هناك. إنها تبدو مثل إسبانيا … أو مالطا، وليس إيطاليا. مدينة مرتفعة ومهجورة، بلا شجر، كما هي في بعض الزخارف القديمة. ومع ذلك فهي تتجلى مثل الجوهرة: كجوهرة بلون العنبر على شكل وردة، وعمق تجويفها الشاسع خاوٍ. الهواء بارد، يهب بريح قارسة وشديدة، والسماء مليئة بالغيوم. وتلك هي كالياري. لها ذلك الجمال الغامض، كما لو كان بإمكانك أن تراها، وليس بإمكانك الدخول إليها. تشبه رؤيا ما، ذكرى ما، شيء فات وانقضى. من المستحيل أن يستطيع الإنسان «أن يدخل» حقًّا إلى تلك المدينة، يطأ بقدمه هناك ويأكل ويضحك. لا، لا يمكن! ومع ذلك تنحرف السفينة مقتربة منها أكثر، فأكثر، حتى صرنا نتطلع إلى الميناء الفعلي.
•••
المنطقة المعتادة الأمامية المطلة على البحر التي تتغنى بالأشجار القاتمة للتنزه، ومن ورائها المباني الفخمة، لكن هنا لم تكن بهذه الألوان الزاهية المبهجة، بل كانت أكثر تحفظًا، وأكثر كآبة بأحجارها الصفراء. الميناء نفسه هو حوض سفن صغير ننزلق فيه بحذرٍ، في الوقت نفسه كانت هناك ثلاث صنادل محملة بملح أبيض كبياض الثلج تتسلل من اليسار، تسحبها قاطرة متناهية الصغر. لم يكن في الحوض سوى سفينتين أخريين مهملتين. الجو بارد على سطح السفينة. تدور السفينة ببطء وتُسحب إلى جانب رصيف الميناء. أنزل لآخذ حقيبتي، وتنقض عليَّ ذبابة زرقاء سمينة.
«عليك دفع تسعة فرنكات وخمسين سنتيمًا.»
دفعت المطلوب، ونزلنا من تلك السفينة.