كالياري
هناك حشد صغير للغاية ينتظر عند رصيف الميناء، أغلبهم رجال يضعون أيديهم في جيوبهم. لكنهم، والحمد لله، يتمتعون بشيء من التحفظ والهدوء. فهم ليسوا كالمتطفلين على السياح في أيام ما بعد الحرب، الذين يهجمون في حقد بارد مخيف في اللحظة التي يظهر الواحد منَّا من أي مركبة. وبعض هؤلاء الرجال يبدو عليهم الفقر حقًّا. لم يعد هناك إيطاليون فقراء؛ على الأقل، المتسكعون.
غريب هو الإحساس الذي تشعر به في الميناء، وكأن الجميع قد رحلوا بعيدًا. لكن لا يزال هناك أُناس في الجوار. ربما لأن اليوم يوم عيد، عيد الغِطاس. لكن مظاهر الاحتفاء به تختلف عن صقلية تمامًا؛ لا شيء من المظاهر الساحرة اللطيفة للإغريق والإيطاليين، لا شيء من النسمات والرحمات، لا شيء من البهجة. بل هي جرداء، موحشة، باردة قاحلة … أشبه بمالطا نوعًا ما، من دون الأجانب الذين يضفون الحيوية على مالطا. الحمد لله أن لا أحد يسعى إلى حمل حقيبتي. الحمد لله أن لا أحد أبدى استعدادًا ما إن رآها. الحمد لله أن أحدًا لم يلتفت إليها. فهم يقفون متباعدين في فتور، ولا يتحركون من أماكنهم.
نسلك طريقنا عبر الجمارك، ثم عبر إدارة الجمارك الخاصة بالمدينة. ثم صرنا أحرارًا. انطلقنا على طريق منحدر جديد وواسع، تنتصب فيه أشجار قليلة على كلا الجانبين. كان طريقًا صخريًا جافًّا جديدًا مائلًا إلى الصفرة تحت السماء الباردة … ويبدو أنه طريق مهجور. ومع ذلك كان يوجد أُناس، بكل تأكيد، في الأرجاء. تهب رياح الشمال بقسوة.
صعِدنا درجات سُلم عريضة، كانت في الشارع العريض شديد الانحدار، وكان الشارع واسعًا ومخيفًا، تصطف الشجيرات الصغيرة على جانبيه. أخذنا نبحث عن الفندق، ونحن نتضور جوعًا.
•••
أخيرًا عثرنا عليه، سكالا دي فيررو، وصلنا إليه عبر ساحة مغطاة بالنباتات الخضراء. وأخيرًا أتى مبتسمًا رجلٌ ضئيل، له شعر أسود طويل، مثل رجال الإسكيمو. فتلك سِمة مميزة لأهل سردينيا … تلك الهيئة المشابهة لرجال الإسكيمو. غير متوفر غرفة بسريرين، كل الغرف فردية فقط. فوُجِّهنا بعيدًا، إذا جاز لي القول، إلى جناح في مبنى الحمامات، في الطابق الأرضي شديد الرطوبة. حجيرات على جانبَي ممر حجري، وفي كل حجيرة حمام من الحجر القاتم، وسرير صغير. بإمكان كل واحد منَّا أن ينزل في حجيرة أو غرفة صغيرة بحمام. إن لم يكن هناك شيء آخر بديل عنه، ولم يكن هناك بديل آخر، لكنها تبدو غرفة تحت الأرض بغيضة وباردة وشديدة الرطوبة. كما أن المرء قد يفكر في جميع «اللقاءات» المنافية للأخلاق في تلك الحمامات القديمة. صحيح، في نهاية الممر يجلس ضابطٌ من قوات الدرك. لكن الله وحده يعلم إن كان يجلس للتأكد من مراعاة الضوابط الأخلاقية أم لا. أصبحنا في الحمامات، هذا كل الأمر.
يعود رجل الإسكيمو بعد خمس دقائق، رغم ذلك. يتوفر في الفندق غرفة نوم. يسره الأمر، لأنه لم يكن يفضِّل أن يُسكننا في الحمامات. أين عثر على الغرفة لا أدري. لكن توفرت غرفة رحبة، معتمة وباردة، أعلى أدخنة مطبخ متسربة من ساحة صغيرة داخلية شبيهة بالبئر. لكنها نظيفة وفي حالة جيدة. كان الناس ودودين وذوي طبيعة سمحة، كالبشر. لقد اعتدنا كثيرًا على الصقليين ذوي الأرواح الشائخة الذين انتُزعت منهم إنسانيتهم والذين يتَّسمون بمكرهم وقسوتهم الشديدة.
•••
بعد أن تناولنا وجبة شهية خرجنا لنتفقد المدينة. كان ذلك في الساعة الثالثة، وكل شيء مغلق مثل يوم الأحد في بريطانيا. كالياري الباردة، المفروشة بالصخور، في الصيف لا مفرَّ من أن تتلظى حرًّا، حيث تكون كالياري كالفرن. يقف الرجال في الأرجاء في مجموعات، لكن من دون الانتباه الحميمي للإيطاليين الذي لا يدع أي مارٍّ يمر في حاله.
كالياري العجيبة والحجرية. صعِدنا إلى شارع كان أشبه بسلم لولبي. رأينا إعلاناتٍ عن حفل راقص بملابس تنكرية للأطفال. إن كالياري منحدرة بشدة. في منتصف الطريق لأعلى تجد مكانًا عجيبًا يسمى الحصن، فهي مساحة رحبة ومستوية أشبه بساحة تدريبات بها أشجار، تبدو معلقة بما يثير العجب فوق المدينة، ويمتد منها مساحة طويلة كجسرٍ واسع، ومن فوق الشارع اللولبي الذي يتجه لأعلى. أعلى هذا الحصن لا تزال المدينة ترتفع بشدة حتى تصل إلى الكاتدرائية والقلعة الحصينة. ما يدعو للعجب أن هذه الساحة أو الحصن حجمها كبير، مثل بعض الساحات الترفيهية الكبيرة، لذلك فهي تكاد تكون مقبضة، وليس لأحد أن يفهم كونها معلقة في وسط الهواء. جنوبًا في الأسفل توجد دائرة الميناء الصغيرة. وعلى اليسار على مستوًى منخفض، يوجد سهل ساحلي موبوء، مع مجموعة من أشجار النخيل ومنازل على الطراز العربي. من هذا يمتد لسان طويل من البر ناحية حصن المراقبة الأسود والأبيض، إلى جانب طريق أبيض يمتد إلى الأمام. على اليمين، وهو الأكثر غرابة، ثمة لسان عجيب طويل من الرمال يمتد في ممر مرتفع عبر الأعماق الضحلة للخليج، والبحر المفتوح من ناحية، وبحيرات شاسعة من ناحية أخرى. هناك جبال مرتفعة، وقاتمة خلف هذا … تمامًا كما تقع التلال القاتمة عبر الخليج الشاسع. منظر طبيعي غريب وعجيب، وكأن العالم توقف هنا. الخليج في حد ذاته شاسع؛ وكل تلك الأشياء العجيبة تحدث عند رأسه، هذه المدينة العجيبة المرصعة بالصخور، كقائم خشبي عظيم لمنزل يغطيه الصخور يبرز من سطح الخليج، وحوله من أحد الجوانب هذا السهل الموبوء المهجور الكئيب الذي له طابع عربي وبه نخيل، وعلى الجانب الآخر بحيرات ملح عظيمة، راكدة خلف الحاجز الرملي، هذه البحيرات مدعومة من الخلف بالجبال المتراصة والمتجمعة، وفجأة، بعيدًا خلف السهل، ترتفع التلال إلى مستوى البحر مرة أخرى. البر والبحر كلاهما يبدو عليهما الإجهاد والتعب، عند رأس الخليج نهاية العالم. في نهاية هذا العالم تبدأ كالياري، وعلى كلا الجانبين مرتفعات ذات قمم تسكنها الأفاعي.
لكنها لا تزال تذكرني بمالطا؛ تائهة بين أوروبا وأفريقيا ولا تنتمي إلى أي مكان. لا تنتمي إلى أي مكان، ولم تنتمِ أبدًا إلى أي مكان. تنتمي أكثر إلى إسبانيا والعرب والفينيقيين. لكنها تبدو كما لو كانت بلا مصير أبدًا. بلا قدَر. تُركت مهجورة خارج نطاقي الزمن والتاريخ.
إن الروح التي تهيمن على المكان هي شيء عجيب. يحاول عصر الآلة الذي نعيش فيه أن يطغى عليها. لكنه لا يفلح. وفي النهاية هذه الروح الغريبة الكئيبة للمكان، باختلافها وقسوتها في أماكن متفرقة، ستحطم وحدانيتنا مع الآلات إلى فتات، وكل ما نظن أنه حقيقي سيختفي في غمضة عين، وسنُترك ونحن محدقون من الذهول.
•••
يوجد على السور المهيب فوق مبنى البلدية وفوق الشارع الرئيسي اللولبي لفيف ضخم من الناس متدلين، ينظرون لأسفل. ذهبنا ونظرنا نحن أيضًا، رأينا في الأسفل مدخلًا إلى الحفل الراقص. نعم، هناك راعية غنم صينية في ثوب أزرق شاحب ولها شعر أملس، ومعها عصا الراعي، وشرائط، وحرير ماري أنطوانيت الأنيق، تسير في الشارع ببطء وتباهٍ، وتحدق بطريقة رائعة فيما حولها. والأكثر من ذلك أن عمرها لا يتعدى الثانية عشرة. ترافقها خادمتان. تحدق النظر بطريقة رائعة يمينًا ويسارًا أثناء سيرها، وبتكلُّف، كنت سأمنحها جائزة على غطرستها. فهي مثالية … متغطرسة على نحو زائد بالنسبة للرسام واتو، لكنها «مركيزة» تصل لدرجة الكمال. يشاهدها الناس في صمت. لا يُسمع هتاف ولا صراخ ولا ركض. يشاهدون في صمت يليق بالموقف.
تأتي عربة يجرها حصانان بنيَّان بدينان يكادان يزحفان، ويصعدان الشارع الرئيسي اللولبي بصعوبة شديدة. هذا في حد ذاته «استعراض للقوة»؛ لأن كالياري ليس بها أي عربات. تخيل شارعًا يشبه سُلمًا لولبيًّا، مرصوفًا بأحجار زلقة. وتخيل حصانين بنيين يشقان طريقهما لأعلى، فهما لا يمشيان خطوة واحدة. لكنهما وصلا. وهناك يرقص ثلاثة أطفال جذابين إلى حدٍّ غريب، ومُهرِّجان إيمائيان هزيلان في ملابس من الستان الأبيض، ومهرجة في زي من الستان الأبيض. كانوا يشبهون فَراش الشتاء الرقيق ذا البقع السوداء. كانت لهم أناقة مثيرة للعجب وغامضة ومختلفة، شيء مألوف وملائم «لنهاية القرن». لكن ليس القرن الذي نحن فيه. إن هذه الرقة المصطنعة العجيبة ترجع إلى القرن الثامن عشر. الصبيان كانا يرتديان أطواقًا كبيرة محكمة حول عنقهما، ويعلقان على كتفيهما شِيلان إسبانية قديمة بلون كريمي، للتدفئة. كانوا في رقة أزهار التبغ، ويرفرفون بأناقة باردة إلى جانب العربة، التي منها ظهرت الأم في رداء كبير من الستان الأسود. يرفرفون على الرصيف بأقدامهم الغريبة الصغيرة التي تشبه أرجل الفراشات، ويحومون حول الأم الكبيرة مثل ثلاثة أشباح هَزْلَى من الورق، فوجدوا طريقهم وراء قوات الدرك الوطني الجالسين والثابتين في القاعة.
وصل صبي وسيم في زي موشًّى بورد الربيع، ومزيَّن بكشكشة، وقبعته تحت ذراعه، عمره يناهز اثني عشر عامًا. يسير متبخترًا، من دون أدنى قلق وهو يصعد الجزء الملتوي المنحدر من الشارع. أو ربما أنه يعتد بنفسه لدرجة انعكست على طريقته الرائعة في السير. كان نموذجًا للجمال الأصيل للقرن الثامن عشر، لكنه، ربما، كان أكثر حدة من الفرنسيين، ولكنه يتمتع بروحهم بشكل كامل. أطفال غريبة عجيبة! كانت لهم ثمة فخامة متفردة، لم تَشُبْها شائبة شك واحدة. بالنسبة لهم، كان طابع «النبالة» فيهم لا جدال عليه. ولأول مرة في حياتي أدرك الفخامة اللامبالية لطبقة «النبلاء» قديمًا. ليس لديهم أدني درجة من القلق حيال تمثيلهم المتقن لرتبة أعلى من البشر.
تبعته «مركيزة» أخرى في ستانٍ أبيض، وبرفقتها خادمة شخصية. فهم ضليعون في تمثيل القرن الثامن عشر في كالياري. ربما إنها الحقيقة المشرقة الأخيرة لهم. بالكاد يمكن حصر ممثلين للقرن التاسع عشر.
•••
غريب أمر الأطفال في كالياري. الفقراء يظهرون حفاة القدمين في حالة رثة تمامًا، مبتهجين ومنطلقين في الشوارع الضيقة المظلمة. أما الأطفال الأثرياء فهم منعَّمون؛ عليهم ثياب أنيقة أناقة غير عادية. انعقد لساني حقًّا. لكن الكبار لم يثيروا دهشتي كثيرًا. إنهم الأطفال. كل «الأناقة»، وكل الأزياء، وكل الحداثة تُنفَق على الأطفال. وبنجاحٍ باهر. فالوضع أفضل من حدائق كِنسينجتون كثيرًا. فهم يتنزهون مع الأب والأم باطمئنان حذر، بعد أن نجحوا تمامًا في أن يحظَوا بمظهر عصري. من كان سيتوقع ذلك؟
•••
يا له من شارع ضيق ومظلم ورطب يتجه إلى أعلى، كالشقوق، صوب الكاتدرائية. نجوت بالكاد أن يصيبني سطل ماء منهمر من السماء. كان يلعب في الشارع صبي صغير، لم تكن سيدته نظيفة تمامًا، ورفع بصره لأعلى في اندهاش ساذج لا انفعال فيه، كتلك النظرة التي يحدق بها الأطفال في نجمةٍ أو في ضوء القنديل.
لا بد أن هذه الكاتدرائية في يومٍ من الأيام السالفة كانت حصنًا حجريًّا للوثنيين. والآن قد مرت، كما كانت، في آلة سحق الأزمان، فأعيدَ تشكيلها إلى الطراز الباروكي وتبدَّل ما بها، لتشبه قليلًا مظلات الكهنة الرهيبة في سانت بيتر في روما. ورغم ذلك، فهي بسيطة ومنزوية، وبها كتلة مرتفعة مشققة تمتد إلى آخر الرصيف ناحية المذبح المرتفع، إذ إن الوقت قارب على الغروب، واليوم يوم الغطاس. الأجواء توحي بأنك تستطيع أن تجثو في أحد الأركان وتلعب بالبِلْي، وتأكل خبزًا وجبنًا، وتشعر بالراحة كأنك في المنزل؛ إحساس شبيه بأجواء الكنائس في الأيام الغابرة.
كان هناك بعض الشرائط المزينة المذهلة على كسوة المذابح. والقديس يوسف لا بد أنه يحتل مكانة القديس الأول. فله مذبح وصلاة ابتهالٍ للموتى.
«أيها القديس يوسف، الأب القادر الحقيقي للرب.» وأتساءل: ماذا يمكن أن يفيد الإنسان من أن يكون الأب القادر لأي شخص! أما عن البقية، فلست كارل بادكر.
•••
في أعلى كالياري توجد القلعة الحصينة؛ البوابة القديمة، المتاريس العتيقة المبنية من حجر رملي أصفر أشبه بقرص النحل. وعلى ارتفاع شاهق يوجد متراس إسباني بديع على ارتفاع شاهق. والطريق يزحف لأسفل مرة أخرى عند السفح، أسفل الجهة الخلفية من التل. وهنالك تستقر البلدة؛ ذلك السهل الراكد، بنخيله المتناثر القليل وبحره الباهت، ومن الناحية الداخلية تلال أيضًا. لا بد أن كالياري تقع على منحدر صخري فريد، وطليق، ومفقود.
من المصطبة أسفل القلعة مباشرةً، وأعلى المدينة، وليس خلفها، وقفنا نتأمل مشهد الغروب. كان رهيبًا بكل ما فيه، تغيب الشمس خلف المرتفعات المثلمة التي تسكنها الأفاعي، والتي تقع، بزرقتها وهيئتها المُخملية، خلف بِرك الصرف. أما السماء في الغرب، فتبدو مظلمة، خانقة، مليئة بالسحب القرمزية الثقيلة، التي تخيم على المكان وتشيع جوًّا من الشر. خلف كل قمم التلال الزرقاء الكئيبة تبسط السحب ستار الشر، بلونه الأحمر المحتدم، الذي ينسدل حتى البحر. وفي الأسفل في الأعماق تقع البرك. يبدو أنها تمتد لأميالٍ وأميال، لكنها ليست إلا مصارف. لكن الحاجز الرملي يمتد إلى الجهة المقابلة كالجسر، وبه طريق. الجو كله مظلم، تغشاه زرقة مائلة إلى الأزرق القاتم. الغروب المهيب يحترق في داخله، سرًّا بينه وبين نفسه، ولا يشع أي وهج، رغم لونه الأحمر القاتم. الجو بارد.
نزلنا إلى الشوارع المنحدرة، ذات الرائحة الكريهة، والرطوبة الشديدة، والبرد القارس. لا يمكن لمركبة تسير على عجلاتٍ أن تندفع عليها. الناس تعيش في غرفة واحدة. الرجال يمشطون شعورهم أو يزررون ياقاتهم في المداخل. حل المساء، وهذا يوم عيد.
•••
في نهاية الشارع مررنا بمجموعة صغيرة من الشباب المقنعين، أحدهم يرتدي عباءة صفراء طويلة وقبعة نسائية بها ثَنَيات، وشاب آخر يظهر في هيئة سيدة عجوز، وآخر يرتدي ثيابًا من قماش مضلع. كانوا يسيرون متشابكي الأذرع ويتهجمون على المارة. تصرخ ملكة النحل وتبحث عن مهرب. يُرعبها المقنَّعون، وهذا خوف يعود إلى أيام الطفولة. وللحقيقة، فأنا خائف أيضًا. أسرعنا خفية إلى جانب بعيد من الشارع، خرجنا من أسفل الحصون. ثم اتجهنا لأسفل ناحية الشارع الواسع، القصير، البارد، المألوف لنا الذي يفضي إلى البحر.
عندما وصلنا إلى أسفل، وجدنا مجددًا عربة تحمل مزيدًا من المقنعين. الكرنفال على وشك البدء. رجل في ثياب لسيدةٍ ريفية يتسلق على مقعد سائق العربة بتنورته الفضفاضة الكبيرة وخطواته الواسعة، متباهيًا بسوطه الشريطي، ويخاطب حشدًا صغيرًا من المستمعين. يفتح فمه حتى آخره ويستمر في إلقاء خطبة مدوِّية طويلة عن التنزه مع أمه … رجل آخر في ثياب مبهرجة لسيدةٍ عجوز وشعرٍ مستعار ظل يتمايل وهو على مقعد السائق في العربة. الابنة المزعومة تلوِّح، وتصيح، وتثِب أعلى مقعد سائق العربة. والجمع يستمع بانتباه ويبتسم بهدوء. كان كل شيء يبدو حقيقيًّا بالنسبة لهم. ملكة النحل تحوم بعيدًا، مبهورة إلى حدٍّ ما، وتراقبهم. تَقدَّم المقنَّع ملوِّحًا بسوطه وأرجله … كاشفًا عن سرواله المزيَّن بكشكشة … ليقود العربة في الشارع العريض بجانب البحر … المكان الوحيد الذي تُمكِن القيادة فيه.
•••
الشارع الكبير بجانب البحر هو فيا روما. تنتشر المقاهي على أحد جانبيه وفي الجهة المقابلة من الطريق مجموعة كثيفة من الأشجار تحول بيننا وبين البحر. بين تلك المجموعة الكثيفة من الأشجار أمام البحر مباشرة يوجد ترام بخاري، يشبه قطارًا صغيرًا، يرتج ليتوقف ويستريح، بعد أن جال حول الجهة الخلفية من المدينة.
يضم شارع فيا روما جميع مظاهر الحياة الاجتماعية في كالياري. يأتي ضمن ذلك المقاهي بطاولاتها المنتشرة في الخارج على أحد جوانب الطريق، وشارع الشاطئ على الجانب الآخر، فالشارع واسع للغاية، وفي المساء يستوعب المدينة بأكملها. هنا وليس في أي مكانٍ آخر يمكن للعربات أن تسير، في بطءٍ شديد، ويمكن للموظفين أن يركبوا، ويمكن للناس أن تحظى بنزهةٍ «في جماعات».
اندهشنا من الحشد المفاجئ الذي وجدنا أنفسنا في وسطه … مثل نهر قصير وكثيف من البشر يتدفقون في جماعات. لم تشهد المدينة عمليًّا ازدحام مركبات … فقط تدفقات كثيفة ومتواصلة من البشر من كل صنفٍ ولون، جميعهم سائرون على أقدامهم. لا بد أن شيئًا مثل هذا كان في شوارع روما الملكية، حيث لم توجد أي عربات تسير والبشر جميعهم واقفون على أرجلهم.
مجموعات صغيرة من المقنَّعين، وأفراد مقنَّعون كانوا يرقصون ويتبخترون وسط سيل البشر الكثيف تحت الأشجار. إذا كنت أحد المقنعين، فإنك لا تسير مثل البشر، لكنك ترقص وتقفز بطريقة استثنائية كدمية متحركة بالحجم الطبيعي، وتتحكم بها خيوط من الأعلى. هكذا تسير: بهذا المرح العجيب وكأن ما يرفعك ويدفعك هو خيوط مثبتة تشدك من كتفيك. مر أمامي مهرج له ألوان ساحرة، جميعها ألوان تأخذ شكل المعين، ولها جمال كقطعة خزف صيني. يتحرك بخفةٍ ورشاقة، حركة مذهلة، ويسير وحده تمامًا وسط الحشد الكثيف، وفي بهجة تامة. جاء طفلان صغيران يدًا في يد في زي بلون أبيض وقِرمِزي زاهٍ يتنزهان في هدوء. لم يؤدوا حركات المقنعين. وبعد فترةٍ جاءت فتاة في لونٍ سماوي ترتدي قبعة عالية وتنورة طويلة، كانت قصيرة للغاية، وأخذت تتشقلب، كشقلبات راقصات الباليه، أثناء سيرها متبخترة؛ جاءت وراءها وثبات نبيل إسباني كانت أشبه بوثبات القرد. كانوا يشقون طريقهم بحذرٍ وسط التدفق البطيء للحشد. ظهر دانتي وباتريتشي، في الجنة على ما يبدو، وكلاهما في رداء أبيض، ورأساهما متوجان بأكاليل فِضية، كانا يسيران يدًا بيد، ويتبختران في بطءٍ وإجلال، لكن بخفة ونشاط داما طويلًا وكأنهما مربوطان بخيوط من الأعلى. كانا مبهرين؛ الصورة الخيالية المعروفة دبت فيها الروح، فيتجسد دانتي، في رداء أبيض كالكفن، بشَعرٍ مربوط، وإكليل فضي، وباتريتشي الخالدة على ذراعه، وكانا يتبختران في الشوارع المظلمة. كان له أنفه المميز وعظام الوجنتين ووجنة عريضة، وتلك النظرة الجافة الغبية، وكان يعرض رؤية نقدية معاصرة عن الجحيم.
•••
كان الجو قد صار مظلمًا تمامًا، فأُنيرت المصابيح. عبرنا الطريق إلى مقهى روما، ووجدنا مائدة على الرصيف بين عامة الناس. وفي دقيقة حصلنا على شاي لنا. المساء كان باردًا، والريح تحمل معها الثلوج. الناس كانت تتدفق جيئة وذَهابًا، وعلى مهلٍ. كان أغلب من يجلس على الموائد هم الرجال، يشربون قهوة أو نبيذ الفيرموت أو البراندي، جميعهم تبدو عليهم الألفة والسلاسة، ويغيب عنهم ذلك الإحساس العصري بالوعي الذاتي. ثمة بهجة تنتشر في الأرجاء، روح معنوية عالية طبيعية، وشيء من التلقائية والبساطة الإقطاعية. بعد ذلك وصلت أسرة، مع أطفالٍ، ومربية في زيها الوطني. جلسوا جميعًا على مائدة، جميعهم كانوا في حالة انسجام، بيد أن المربية الرائعة كان يبدو عليها أنها من الطبقة الدنيا. كانت زاهية كزهرة خَشخاش، في ثوبٍ من قماشٍ راقٍ بلون وردي وقِرمِزي، وسُترة غريبة قليلًا لها لون أخضر زمردي وأرجواني، وصدرية من الكتان الناعم الشعبي بها أكمام طويلة رائعة. وعلى رأسها كانت ترتدي رباط رأس لونه أحمر ووردي وأبيض، وكانت ترتدي أزرارًا بها زركشة ذهبية دقيقة، وأقراطًا مماثلة. شربت الأسرة البرجوازية-الإقطاعية عصائرها وراقبت عامة الناس. أكثر ما يمكن تمييزه هو الغياب التام للوعي الذاتي. فجميعهم كانوا في حالة طبيعية مثالية من «السكينة والهدوء»، والمربية في زيها الرائع كانت على راحتها تمامًا كما لو أنها في شارع بقريتها. تتحرك وتتحدث وتنادي على أحد المارة بلا أدنى حرج، بل أكثر من ذلك، بلا أدنى ادعاء. فهي من الطبقة الدنيا، التي لا يمكن تجاوزها إلى طبقة أعلى. أذهلني أن الحاجز الطبقي كان حاجزًا دقيقًا لدى الطرفين، ظل كلاهما يتعاملان بأسلوب طبيعي وإنساني، بدلًا من أن يصبحوا شياطين تتزاحم وتتدافع في ساحة صراع.
•••
تحتشد الجماهير في الجهة المقابلة من الطريق، تحت الشجر القريب من البحر. عند هذا الجانب يتنزه المشاة بين الحين والآخر. ألمح لأول مرة قرويًّا في زيٍّ تقليدي. إنه رجل كهل ووسيم، قامته منتصبة يبدو بهيًّا في زيه الأسود والأبيض. يرتدي قميصًا أبيضَ بأكمامٍ طويلة وصُدرية سوداء ضيقة وقصيرة من الصوف المحلي. وتخرج من هذه الصُّدرية تنورة قصيرة، من الصوف الأسود نفسه، يمتد شريط منها بين الساقين، بين السروال الفَضفاض من الكَتان الخشن. السراويل مربوطة أسفل الركبة في لِفافات ساق ضيقة من الصوف الأسود. وعلى رأسه طاقية سوداء طويلة مسحوبة للأسفل إلى الوراء. كم هو رجل وسيم، يا له من رجل جميل! يسير مُرخيًا يديه وراء ظهره، ومتمهلًا، ومنتصبًا، ووحيدًا. الرجل الجميل الذي يستحيل الوصول إليه ولا يمكن إخضاعه. الوميض الأسود والأبيض، الخطوات المتمهلة لسرواله الأبيض الطويل، ولِفافات الساق السوداء والصُّدرية السوداء، ثم الأكمام البيضاء الرائعة ومنطقة الصدر البيضاء مرة أخرى، والطاقية السوداء من جديد … يا لجمال هذا الربط بين العناصر المتباينة، رائع، وفاتن، كما هو الحال في طائر العَقعق … يا لروعة الرجولة، إذا وجدَت السبيل المناسب للتعبير عن نفسها … ويا لسخافة التعبير عنها في الملابس العصرية.
ها هو قروي آخر، شابٌّ له عين سريعة الحركة ووجه حاد الملامح، وأفخاذ مشدودة وقوية. كان قد طوى طاقيته، بحيث تصبح مائلة إلى الأمام على جبينه مثل قبعة فرِيجِية. يرتدي سروالًا قصيرًا مزمومًا عند الركبتين وصُدرية ذات أكمام ضيقة من قماش بني سميك يشبه الجلد. وعلى الصُّدرية القصيرة يرتدي درعًا من جلد الخراف الأسود الباهت، والصوف المجعد يظهر إلى الخارج. هكذا كان يمشي وهو يتحدث إلى صاحبٍ. كم هو رائع أن ترى، بعد الإيطاليين الناعمين، تلك الأرجل في سراويل ضيقة وقصيرة حتى الركبة، بهذا الوضوح، وبهذه القوة، ولا تزال تزخر بقوة الماضي. تدرك، في ذعرٍ، أن جنس الرجال انقرض على الأغلب في أوروبا. ليس سوى أبطال كالمسيح، ورجالٍ كَدُون خوان يعبدون النساء، أو مولَّدين مسعورين مطالِبين بالمساواة. ذهب الرجل الكهل الجسور الذي لا يُقهر. انطفأ تفرده الصارم. والشرر الأخير يخبو في سردينيا وإسبانيا. لم يتبقَّ سوى الفئة الكادحة والمهجَّنين من الجماعات المُنادية بالمساواة، والروح المزعجة القاتلة الكئيبة المضحية بذاتها. يا له من شيء مقزز.
لكن ذلك الزي العجيب، المتألق، ذا اللونين الأبيض والأسود! يُخيَّل إليَّ أني أعرفه من قبل، وأني كذلك قد ارتديته من قبل، وأني حلَمت به. نعم حلمت به، وأن يدي قد لمسته فعلًا. فهو يرتبط بشكل أو بآخر بداخلي … بماضيَّ، ربما. لا أعرف. لكن إحساس الألفة المحيِّر يلازمني. أُدرك أني أعرفه من قبل. فهو شيء يثير بداخلي نفس الشعور بالحيرة الذي انتابني من قبل أمام جبل إريكس، لكن من دون رهبة هذه المرة.
•••
في الصباح كانت الشمس تسطع من السماء الزرقاء الصافية، لكن الظلال كانت باردة بشدة، والريح أشبه بنصل حاد من الثلج. خرجنا نُهرع نحو الشمس. لم يكن بإمكان الفندق أن يقدم لنا قهوة بحليب؛ القليل من القهوة السادة فقط. لهذا نزلنا إلى الجهة الأمامية من البحر مرة أخرى، قاصدين شارع فيا روما، إلى المقهى الذي جلسنا فيه. كان يوم جمعة؛ بدا أن الناس تجيء من الريف بسلال ضخمة.
يتوفر في المقهى قهوة بحليب، لكن لا يوجد به زبدة. جلسنا وراقبنا الحركة في الخارج. حمير سردينية صغيرة؛ أصغر المخلوقات التي يمكن أن تراها على الإطلاق، تُحرك أقدامها المتناهية في الصغر يَمنة ويَسرة على طول الطريق، لتجر عربات أشبه بالعربات التي تُدفع باليد. أبعادها صغيرة للغاية، حتى إنها تجعل صبيًّا يسير بجوارها يبدو رجلًا طويلًا، بينما الرجل العادي يشبه عملاقًا يطاردها بوحشية وضخامة. إنه من المثير للسخرية في نظر رجل ناضج أن يمتلك دابةً من هذه الدوابِّ الصغيرة، التي بالكاد هي أكبر حجمًا من ذبابة، لتجر حمولة من أجله. إحداها تجر خزانة أدراج على عربة، فتبدو أنها تسحب منزلًا بأكمله وراءها. رغم ذلك تجد هذا المخلوق الصغير يسير بشجاعة، تحت وطأة الحمولة.
يخبرونني أنه كان من المعتاد أن يُوجَد بالمكان هنا قُطعان من تلك الحمير، التي تقتات وهي شبه طليقة على تلال سردينيا البرية التي تشبه الأرض البور. لكن الحرب، وكذلك الطيش الأهوج لسادة الحرب، استنزفت تلك القطعان أيضًا، ولهذا لم يتبقَّ منها سوى القليل. الأمر نفسه ينطبق على الماشية. فسردينيا، موطن الماشية، أرجنتين البحر المتوسط الصغيرة الزاخرة بالتلال، تكاد تكون الآن مقفرة. إنها الحرب، كما يقول الإيطاليون … وكذلك طيش وسفه سادة الحرب وإسرافهم الأحمق. فلم تكن الحرب وحدها هي التي استنزفت العالم. استنزفه أيضًا التبذير اللعين المتعمَّد لصانعي الحرب في بلادهم. فإيطاليا خربت نفسها بيديها.
•••
رجلان قرويان في رداءٍ أسود وأبيض يتنزهان وهما متألقان في ضوء الشمس. الحُلم الذي طاف بي الليلة الماضية لم يكن حُلمًا. وحنيني لشيءٍ لا أعرفه لم يكن وهمًا. أشعر به من جديد، وفي الحال، ما إن وقع بصري على الرجال في ردائهم من الصوف والكَتان، حن قلبي لشيء كنت أعرفه من قبل، وأهفو أن أعود له مرة أخرى.
اليوم يوم السوق. اتجهنا إلى لارجو كارلو-فيليس، الممر الواسع الثاني من الشارع، طريق واسع لكنه قصير للغاية، مثل نهاية شيءٍ ما. إن كالياري هكذا؛ كل شيء وعكسه. وعلى جانب الرصيف تُنصب أكشاك كثيرة؛ أكشاك لبيع أمشاط الشعر، وأزرار الياقات، والمرايا الرخيصة، والمناديل، وبضائع من مانشستر رديئة الصنع، وأغطية واقية للفراش، وورنيش الأحذية، والأواني الفَخَّارية الرديئة، وأشياء أخرى من هذا القبيل. لكننا رأينا أيضًا سيدة من كالياري ذاهبة للتسوق، ومعها خادم برفقتها، يحمل سلة ضخمة محبوكة من الخوص، أو عائدة من السوق، ويتبعها صبي صغير يعينها على حمل إحدى السلال الضخمة من الخوص — التي كانت أشبه بأطباقٍ ضخمة — على رأسه، وكانت زاخرة بالخبز، والبيض، والخضراوات، ودجاجة، وهكذا. لذلك اقتفينا أثر هذه السيدة الذاهبة إلى السوق، فوجدنا أنفسنا في سوقٍ شاسعة، تبرق نوعًا ما بالبيض؛ بيض في تلك السلال الدائرية العظيمة من الخوص الذهبي؛ بيضٍ في أكوامٍ، وفي تلالٍ صغيرة، وأعداد هائلة، جبل سييرا نيفادا من البيض، يلمع بلون أبيض دافئ. كيف تبرق هكذا! لم ألاحظ ذلك من قبل. لكنها تشع دفئًا وبريقًا مثل اللؤلؤ في الهواء. يظهر أن حرارة الذهب البراق تنبعث منها. عدد لا حصر له من البيض، وشوارع تبرق بالبيض.
ويوضع عليها علامة مميِّزة … ٦٠ سنتيمًا، ٦٥ سنتيمًا. يا لها من فرحة، تصيح ملكة النحل: «لا بد أن أعيش هنا في كالياري» … وذلك لأن في صقلية يصل سعر البيضة إلى ١٫٥٠.
هذا هو سوق اللحوم والدواجن والخبز. هناك أكشاك لبيع خبز طازج متنوعةٍ أشكاله، منه البني ومنه الفاتح، وتظهر أكشاك صغيرة تبيع كعكًا رائعًا يشتهر به البلد، تهفو نفسي إلى تذوقه، وتوجد كَميات كبيرة من اللحم والمَعز، وأكشاك أخرى للجبن تمتلئ كلها جبنًا بجميع الأشكال؛ جميع أنواع الجبن الأبيض، والجبن الكريمي الذي يتدرج حتى يصل إلى لون النرجس الأصفر. وجبن من ألبان المَعز، وجبن من ألبان الغنم، وجبن سويسري، وجبن البارميزان، الاستراكينو، الكاتشوكافالو، وجبن التورولوني، وغيرها من أنواع الجبن الكثيرة التي لا أفقه أسماءها! لكن سعرها يقارب السعر نفسه في صقلية؛ ثمانية عشر فرنكًا، عشرون فرنكًا، خمسة وعشرون فرنكًا للكيلو. يتوفر لحم خنزير شهي بسعر ثلاثين أو اثنين وثلاثين فرنكًا للكيلو. هناك كميات قليلة من الزبدة الطازجة أيضًا بثلاثين أو اثنين وثلاثين فرنكًا للكيلو. وأغلب الزبدة، رغم ذلك، تجدها معبأة في علبٍ قصديرية في ميلان. ويتساوى سعرها مع سعر الطازج منها. تجد أكوامًا لامعة من الزيتون الأسود المملح، وسُلطانيات ضخمة من الزيتون الأخضر المملح. تجد دجاجًا وبطًّا وديوكًا برية بسعر أحد عشر واثني عشر وأربعة عشر فرنكًا للكيلو. وتُباع المُرتديلا، ونقانق البولونيا الضخمة، التي تشبه في سُمكها عمود الكنيسة، بسعر ستة عشر فرنكًا، وتتوفر أنواع مختلفة من النقانق الأصغر حجمًا، أو السَّلامي، لتؤكل على هيئة شرائح. هناك وفرة مدهشة من طعامٍ براقٍ ولامع. تأخرنا قليلًا على سوق السمك، لا سيما يوم الجمعة. لكن رجلًا حافيَ القدمين يعرض علينا شيئين غريبين من البحر المتوسط الذي يزخر بوحوش البحر.
النساء القرويات يجلسن خلف بضائعهن، وتنتفش حولهن تنانير من الكَتان المَحِيكة في المنزل، طويلة ضخمة، وزاهية بألوان متنوعة. والسلال الصفراء تشع وهجًا من الضوء. ثمة إحساس بالوفرة والسَّعة يظهر مرة أخرى. لكن للأسف يغيب الإحساس برخص الأسعار، ما عدا البيض. كلَّ شهر يرتفع ثمن كل شيء.
تقول ملكة النحل: «لا بد أن آتيَ وأعيش هنا في كالياري، لأتسوق هنا. لا بد أن أقتني واحدة من تلك السلال الكبيرة من الخوص.»
نزلنا إلى الشارع القصير … لكننا رأينا مزيدًا من السلال تتجلى على مجموعة من درجات السُّلم العريضة الحجرية. لهذا صعِدنا السُّلم ووجدنا أنفسنا في سوق الخَضراوات. هناك زادت سعادة ملكة النحل. النساء القرويات، بعضهن حافيات القدمين، يجلسن وهن يرتدين صدريات ضيقة صغيرة وتنورات ضخمة، ملونة وراء أكوام الخضار، لم أرَ في حياتي مشهدًا أجمل من هذا. بدا أن اللون الأخضر القاتم والقوي لأوراق السبانخ كان طاغيًا على المشهد، ومن فوقه برزت زهرات القرنبيط الأبيض والقرنبيط الأرجواني: كان القرنبيط الرائع يتألق، مثل الأزهار، حيث كانت زهرات القرنبيط الأرجوانية كأنها باقات كبيرة من البنفسج. ومن هذه الأكوام الخضراء والبيضاء والأرجوانية كانت تبرز الألوان الوردية القرمزية الزاهية من الفجل، فجل كبير مثل اللفت، في أكوام. ثم تأتي براعم الخرشوف الطويلة والرفيعة، ذات اللون البنفسَجي والرَّمادي، وسباطات متدلية من البلح، وأكوام من التين الأبيض المغطى بالسكر وتين أسود داكن، وتين داكن لامع؛ أسبتة وأسبتة عامرة بالتين. وثمة أسبتة قليلة بها لوز، والكثير من الأسبتة الكبيرة تمتلئ بالجوز. أسبتة وأواني تمتلئ بالزبيب الأصلي. فُلفُل قِرمِزي يشبه الأبواق، وشمر رائع شديد البياض وكبير الحجم وناعم للغاية، وأسبتة من البطاطس الطازجة، والملفوف، وهليون بري في حُزم، وبروكلي له براعم صفراء، وجزر كبير وممتلئ، وأطباق سلطة خفيفة مع لُب خضراوات بيضاء، وبصل طويل بلون بنفسَجي وبني، ثم يأتي بعد ذلك، بكل تأكيد، أهرام من البرتقال الكبير، وأهرام من التفاح الشاحب، وأسبتة من اليوسفي اللامع البراق، والقليل من برتقال التانجرين بأوراقه الخضراء الداكنة. لم أرَ عالم الفواكه الأخضر الزاخر بالألوان بهذه الروعة تحت سقف السوق في كالياري؛ كانت الألوان زاهية ونابضة بالحياة. وكل شيء رخيص للغاية، باستثناء البطاطس. فالبطاطس من أي نوع يصل ثمنها إلى 1.40 أو 1.50 ليرة لكل كيلو.
تصيح ملكة النحل: «يا إلهي!» وتابعت قائلة: «إذا لم أعِشْ في كالياري وآتِ لأتسوق هنا، سأموت من دون أن أحقق أمنية من أمنياتي.»
•••
لكن بعيدًا عن الشمس فالجو بارد، رغم ذلك. سرنا في الشوارع لنحاول أن نحظى بالدفء. الشمس كانت قوية. لكن للأسف، كما هو الحال في المدن الجنوبية بوجهٍ عام، فالشوارع كالآبار لا تصلها الشمس.
لهذا كنا نتسلل أنا وملكة النحل ببطءٍ إلى الرقع المشمسة، ثم يبتلعنا الظل رغمًا عنا. تطلَّعنا إلى المتاجر. لكن لا يوجد الكثير لنراه. لم يكن هناك سوى متاجر صغيرة ريفية لها رائحة كريهة، بوجهٍ عام.
عدد لا بأس به من القرويين في الشوارع، ونساء قرويات في زيهم التقليدي المعتاد؛ فساتين من الكَتان الشعبي أو القطن السميك، لها صِدار ضيق، وتنورة ضخمة. كان أجملها هو ذلك الذي فيه تقليم وخطوط متداخلة فيما بينها باللون الأزرق والأحمر الداكن، بحيث يجتمع اللون الأزرق الداكن حول الخصر في لونٍ واحد، وطياتٍ لا حصر لها تُخفي كل الألوان الحمراء الوردية. لكن السيدة الريفية عندما تسير مرتدية تنورتها الضخمة المبطنة، يظهر اللون الأحمر في ومضات، فتبدو كأنها طائر يستعرض ألوانه. كم يبدو هذا المنظر جميلًا في تلك الشوارع الكئيبة. ترتدي المرأة صِدارًا سادة خفيفًا له حافة، وفي بعض الأحيان سُترة صغيرة بأكمام طويلة بيضاء، وفي الأغلب مِنديلًا أو شالًا فَضفاضًا معقودًا. جذابةٌ هي طريقة مِشيتهم، بخطواتٍ سريعةٍ وقصيرة. إذا ما استعرضنا كل شيء، فإن أكثر ثياب النساء جاذبيةً في نظري، هو ذلك الذي له صِدار ضيق وقصير وتنورة بها طيات كثيرة، وطويلة تتأرجح مع الحركة. إن له سحرًا تفتقر إليه الأزياء العصرية تمامًا … فهو يجعل المرأة تبدو كطائر عندما تتحرك.
•••
إنهن مُسليات، هؤلاء الفتيات والنساء القرويات؛ فهن في منتهى النشاط والجرأة. لهن ظهور معتدلة كحائط صغير، وحواجب محددة ومرسومة بدقة. تجدهن منتبهات بطريقة مثيرة للإعجاب. فهن لا يسرن بنعومة مثل الشرقيات. إنهن يسرن كطيور حادة ويقظة على طول الشوارع، وتشعر بأنهن سيضربنك على رأسك وهن ينصرفن عنك وينظرن إليك. الحمد لله، فالرقة لا تبدو أنها صفة من صفات أهل سردينيا. إيطاليا في منتهى الرقة — كمعكرونة مطهية — ياردات وياردات من الرقة الناعمة تفيض على كل شيء. الرجال هنا، كما يبدو لي، لا ينظرون نظرة مثالية إلى النساء. هنا لا ينظرون لهن بتلك النظرة الشهوانية، التي ينظر الرجل الإيطالي بها إلى المرأة والتي تعني: أنا تحت أمرك. عندما ينظر الرجال الريفيون إلى هؤلاء النساء، فإن نظرتهم تعني: انتبهي لنفسكِ يا امرأة. أعتقد أن هذا التقديس المتذلل للعذراء لا يمت كثيرًا لشيم أهل سردينيا. هؤلاء النساء يجدن أنفسهن مرغمات على رعاية مصالحهن، أن يصلبن ظهورهن ويقفن على أرجلهن. الرجل سيصبح مَلِكًا إن استطاع ذلك. والمرأة كذلك لن تمنحه كثيرًا مما يستهويه بطريقته الخاصة. لذلك ستجد هذا الانفصال الزوجي القديم والمقبول بين الجنسين. والأمر رائع حقًّا وينم عن قوة، بعد كل هذا الاختلاط اللزج البغيض والعبادة الواهنة للنساء. رجال سردينيا لا يبحثون عن «امرأة من النبلاء، امرأة قُدِّر لها أن تكون من النبلاء.» لا، شكرًا. إنهم يريدون تلك السيدة الشابة هناك، تلك السيدة العنيدة القوية كما هي. إنها أمتع بكثير من ذلك النوع المقدر له أن يكون من النبلاء؛ فهن لا يزدن عن كونهن مدعيات خاويات. وهي أيضًا أمتع بكثير من المرأة اللعوب التي تمنح نفسها بسهولة، فهي تتمتع بالحياء والشجاعة وصعوبة الوصول إليها. إن هذا الانفصال المذهل والجريء بين الجنسين، وكل منهما عازم على الدفاع عن جانبه ضد الاعتداء. لهذا فاللقاء يحمل نكهة لاذعة وجامحة، فكل منهما يمثل شيئًا مجهولًا خطيرًا بالنسبة للآخر. وفي الوقت نفسه، كلٌّ له شخصيته الأبية الشُّجاعة، فهو يقفز قفزة خطيرة ناحية الطرف الآخر ثم يتراجع مرة أخرى.
أعادني هذا إلى إحساس الحب اللاذع القديم. كم أشعر بالاشمئزاز من الاندفاع في العواطف وادعاء النبل، وفوضى العشق الحديث التي تشبه المعكرونة الزلقة.
•••
ترى في كالياري القليل من الوجوه البديعة؛ تلك العيون الواسعة السوداء المُطفأة. وتوجد في صقلية عيون سوداء خلابة ولامعة وواسعة، تتمتع ببريق جريء، وحركة غريبة، ورموش طويلة؛ إنها بكل تأكيد عيون الإغريق القدامى. أما هنا، فإنك لا ترى سوى العيون التي تتمتع بسواد مخملي خاوٍ، دون جرأة. وهي تدهش الغرباء من زمن بعيد، من قبل أن تصبح الروح مدركة لذاتها؛ وقبل أن تظهر العقلية الإغريقية في العالم. إنها بعيدة، دائمًا بعيدة، كما لو أن البصيرة قد استقرت في الأعماق داخل الكهف، ولم تعد للأمام أبدًا. يبحث المرء في سوادها لثانية، بينما ينظر إليها. ولكن من دون أن يتمكن من اختراق هذا السواد للوصول إلى الحقيقة. وتتراجع، ككائنٍ مجهول يستقر في عمقٍ أكبر داخل جحره. ثمة كائن أسود وذو سطوة. لكن ما هو؟
في بعض الأحيان يمنحنا الرسام فيلاسكيز، وفي أحيان أخرى يمنحنا خويا تلميحًا عن هذه العيون الواسعة السوداء المطفأة. وهي تتواءم مع الشَّعر الناعم الأسود الذي يشبه الفراء في نعومته. لم أرَ مثل هذا في شمال كالياري.
•••
ملكة النحل تشاهد خلسةً بعض الأقمشة القطنية المقلَّمة والمخططة باللونين الأزرق والأحمر الذي منه تحيك النساء القرويات ثيابهن؛ لفة كبيرة في مدخل المتجر المظلم. دخلنا المتجر، وبدأنا نتحسس القماش. إنه من القطن الناعم والسميك … يبلغ ثمن المتر اثني عشر فرنكًا. وكأغلب الأنماط التي ترتديها القرويات، تجد القماش أكثر تعقيدًا ودقةً عما يبدو: المكان العجيب للخطوط المقلَّمة، التناسب الدقيق، الخيط الأبيض المتروك في أسفل جانبٍ واحدٍ فقط من كل مربع أزرق عريض. الأهم من ذلك أن الخطوط المقلَّمة تسير «بعرض» القماش لا بطوله. لكن العرض سيكون طويلًا بما يكفي للتنورة … ومع هذا يوجد في أغلب تنانير القرويات شريط في الجزء السفلي يسير في اتجاه دائري بالخطوط المقلَّمة.
أما الرجل فهو ممن لهم هيئة رجال الإسكيمو، بسيط، صريح وودود … يقول إن هذه النوعية من الأقمشة صُنعت في فرنسا، وإن هذه هي اللفة الأولى منذ الحرب. إنه النمط القديم، هذا صحيح … لكن الخامة ليست قيِّمة «بالدرجة». تشتري ملكة النحل ما يكفي لحياكة فستان.
يُرينا أيضًا أصواف الكشمير، البرتقالي منها، والقِرمِزي، والأزرق السماوي، والأزرق الملكي؛ أصواف كشمير قيِّمة من الصوف الخالص كانت مرسلة إلى الهند، واستُولي عليها من غواصة تجارية ألمانية. هكذا يقول. خمسون فرنكًا للمتر … عريض جدًّا، جدًّا. لكن حملها في حقيبة ظهر قد يتسبب في مشقة كبيرة، مع أن جمالها يأسر العقل.
•••
أخذنا نتجول ونلقى نظرةً على المتاجر، وعلى الحُلى الذهبية المزركشة زركشةً دقيقة للنساء القرويات، وعلى متجر كتب جيد. لكن لم يتبقَّ سوى القليل لنراه، ومن ثَم فالسؤال هو: هل سنواصل السير؟ هل نتقدم إلى الأمام؟
تُتاح طريقتان لمغادرة كالياري لمن يقصد الشمال: إما قطار السكك الحديدية العام الذي يسير على الجانب الغربي من الجزيرة، وإما قطار سكة حديدية ضيق ثانٍ يخترق مركز الجزيرة. لكننا تأخرنا كثيرًا على القطارات الكبيرة. لذلك سنسافر بالقطار الثاني، مهما كانت وجهته.
هناك قطار في الساعة الثانية والنصف، ويمكننا أن نصل به إلى مانداس، على بعُد خمسين ميلًا في الداخل. عندما أخبرنا النادل الضئيل المريب في الفندق، قال لنا إنه من مانداس، وهناك خانان للمسافرين. لذا بعد أن تناولنا الغداء — الذي كانت قائمة الطعام فيه تقتصر على الأسماك — دفعنا حسابنا. يصل الحساب على غير المتوقع إلى ستين فرنكًا مقابل ثلاث وجبات شهية لكلٍّ منَّا، مع نبيذ، والمبيت لليلةٍ، فهذا سعر رخيص، كما هي الأسعار الآن في إيطاليا.
سرتني الإقامة في فندق سكالا دي فيررو البسيط واللطيف، حملت حقيبتي على كتفي وانطلقنا إلى المحطة الثانية. الشمس كانت تشع حرارة هذا العصر … سخونة حارقة عند البحر. الطريق والمباني تبدو يابسة وجافة، الميناء يبدو منهكًا وكأنه نهاية العالم.
تجمع حشد مهيب من القرويين في المحطة الصغيرة. وكل رجل تقريبًا يحمل زوجًا من الحقائب القماشية كسرج الحصان … قماشة طويلة ضيقة من الصوف المنسوج الخشن، مثبت على طرفيها جيبان مسطحان ممتلئان بالمشتريات. تلك الحقائب هي بالكاد الحقائب الوحيدة لحمل الأشياء. يعلقها الرجال على أكتافهم، بحيث يصبح أحد الجيوب الكبيرة معلقًا في الأمام، والجيب الآخر في الخلف.
تلك الحقائب التي تشبه سرج الحصان رائعة للغاية. وهي تنسج من شرائط خشنة من الصوف الأسود الباهت، مع شرائط متنوعة من الصوف الأبيض الخام أو القُنَّب أو القطن … يتنوع عرض هذه الشرائط والسُّرُج وتقطع بالعرض. وعلى الشرائط الباهتة تخاط أشكال الزهور في بعض الأحيان بأكثر الألوان جاذبية، كالأحمر الوردي، والأزرق والأخضر، وأحيانًا تنسج أنماط القرويين … وفي أحيان أخرى تُنسج أشكال الحيوانات الرائعة بألوان داكنة من الصوف أيضًا. لذلك فإن هذه الحقائب المخططة باللونين الأبيض والأسود كالحمير الوحشية، بعضها يُزيَّن بألوان مبهجة كألوان الزهور، وبعضها يُزيَّن بأشكال الحيوانات الغريبة والجذابة التي تشبه الحيوانات الخرافية، هي منظر طبيعي كامل في حد ذاتها.
لا يتوفر في القطار سوى الدرجتين الأولى والثالثة. وتتكلف التذكرتان في الدرجة الثالثة لنا نحن الاثنين ثلاثين فرنكًا، للرحلة المتجهة إلى مانداس، والتي تبعد مسافة ستين ميلًا. تزاحمنا في الداخل مع الحقائب المبهجة التي تشبه سرج الحصان، داخل عربة خشبية تضم مقاعد كثيرة.
ومن العجب العجاب أننا انطلقنا من كالياري في الموعد المقرر بالثانية. وصرنا على الطريق مرة أخرى.