مانداس
العربة كانت مكتظة إلى حدٍّ ما بأُناس عائدين من السوق. في هذه القطارات تجد عربات الدرجة الثالثة غير مقسَّمة إلى مقصورات. فجميعها تظل مُفتَّحة، فيكون بإمكانك أن ترى الجميع كما لو كنتم في غرفة. الحقائب الجذابة التي تشبه السرج، كانت مطروحة أرضًا في كل مكان، ومعظم الناس مستقرون في أماكنهم وقد انخرطوا في الأحاديث. الأمتع، بوجهٍ عام، أن تسافر في الدرجة الثالثة بالقطار. إذ تتمتع بالمساحة والهواء، كما أن الأمر يشبه أن تكون في نُزل يسوده المرح، والجميع في معنويات جيدة.
ثمة مساحة رحبة في المكان الذي نجلس فيه. في الجهة المقابلة يجلس زوجان عجوزان، مثل طفلين عائدين إلى منزلهما بكل سعادة. كان الرجل بدينًا، بدينًا من جميع النواحي، وله شارب أبيض ووجه مقطب، لكنه لا يفتقر إلى الود. أما هي فكانت امرأة نحيفة وطويلة لها بشرة خمرية، ترتدي ثوبًا له تنورة منفوشة بلونٍ بني ومئزر أسود به جيب كبير. لم تكن ترتدي غطاء رأس، وكان شعرها ذو اللون الرمادي مفروقًا من الوسط بانسيابية. كانا سعيدين كثيرًا ومتحمسين لكونهما يستقلان القطار. أخرجَتْ كل النقود من جيبها الكبير، فعدَّتها ثم أعطتها له؛ كل النقود الورقية من فئة الليرات العشر والليرات الخمس والليرتين والليرة، أخذت تحدق بتمعن في الأجزاء الصغيرة المتسخة على ظهر عملات الليرة باللون الوردي لترى ما إذا كانت صالحة للاستخدام. ثم أعطته أنصاف بنسات. فخبأها هو في جيب السروال، فوقف ليدفعهم دفعًا في رجله البدينة. ثم رأيت، لدهشتي الشديدة، أن الجزء الخلفي من قميصه بأكمله تُرك خلفه، فكان أشبه بمئزر ارتداه شخصٌ معكوسًا من الخلف. لمَ ذلك؟ … هذا لغز. كان رجلًا بدينًا، حسن الخلق، غير مبالٍ، له تكشيرة بسيطة على وجهه، مثل هؤلاء الرجال الذين يكون لهم عادة زوجات طويلات ونحيفات وصارمات ومطيعات.
كانا في غاية السعادة. وفي دهشة راقبنا ونحن نصب شايًا ساخنًا من الترمس الحراري. أظن أنه قد ساورته الشكوك هو الآخر أن الترمس ربما هو قنبلة. كانت له عيون زرقاء وحواجب بيضاء منتصبة.
قال، وهو يرى البخار المتصاعد من الشاي: «ساخن جميل …!». هذا الاستغراب الذي لا مفرَّ منه. «هل هذا يُشعرك بسعادة؟»
أجابت ملكة النحل: «أجل. كثيرًا.» ثم هزَّا رأسيهما في إعجابٍ. كانا عائدين إلى المنزل.
•••
كان القطار يسير متجاوزًا السهل البحري الذي يبدو هواؤه ملوثًا … مارًّا بأشجار النخيل المُهمَلة، ومارًّا بمبانٍ تبدو شبيهة بالمساجد. عند مزلقان السكة الحديدية اندفعت حارسة المزلقان بقوةٍ إلى الخارج بعَلَمها الأحمر. تجولنا داخل القرية الأولى. كانت مبنيَّة من منازل بالطوب اللَّبِن المجفف بالشمس، وجدران حدائق من الطوب اللبن السميك، لها حواف قرميدية تبرز إلى الخارج اتقاءً لمياه الأمطار. داخل الأراضي المسوَّرة تنتشر أشجار البرتقال بلونها الداكن. لكن القرى المبنية ذات اللون الطيني، المبنية من الطين الجاف، كان لها مظهر غريب: فهي تبدو أقرب إلى الأرض، كجحور الثعالب أو مستعمرات الذئاب.
ما إن تلقي نظرة إلى الخلف، ترى كالياري شديدة التحدر على صخرتها، منظر بديع بكل تأكيد، إذ تحيط بها من كل جانب حافة البحر الرفيعة. من الصعب حقًّا أن تصدق أنه بحر حقيقي، من على هذا السهل المصبوغ بلون الطين الشاحب.
•••
لكن سرعان ما بدأنا في صعود التلال. وسرعان ما بدأت الأراضي المستصلحة في الظهور والاختفاء. كم هو غريب أن ترى التلال الشبيهة بالأرض البور المقفرة قريبة من البحر؛ كم هو استثنائي أن ترى مساحات شاسعة من سردينيا غير مأهولة بالسكان ومغطاة بشجيرات صغيرة. أرض برية تغطيها شجيرات الخَلْنَج والقَطْلَب، ونوع من نبات الآس لا يتجاوز طوله ارتفاع الصدر. ترى أحيانًا رءوس مواشٍ قليلة. ثم تظهر مرة أخرى الرقع الصالحة للزراعة التي يميل لونها إلى الرمادي، حيث تُزرع الذرة. إنها تشبه مقاطعة كورنوال، ومنطقة لاندز إند. ويظهر من آن لآخر، على مسافة بعيدة، مزارعون يعملون في الأراضي المنعزلة. في بعض الأحيان تجد رجلًا يعمل وحيدًا على مسافة بعيدة، ويبدو مفعمًا بالحيوية والنشاط في ثيابه الزاهية باللونين الأبيض والأسود، وضئيلًا ومنزويًا كطائر عَقعق وحداني، ومميزًا بما يدعو للعجب. يجتمع كل السحر العجيب لسردينيا في هذا المشهد. بين التلال المنخفضة الشبيهة بالأراضي البور، يظهر أحدهم ضئيل الحجم لكن مفعمًا بالنشاط بلونيه الأبيض والأسود، يعمل وحده، وكأنه يعمل إلى الأبد. ثمة رُقع ومساحات خاوية من الأراضي الرمادية الصالحة للزراعة، تصلح لزراعة الذرة. فسردينيا كانت ذات يوم صومعة حبوب لها شأن.
ورغم ذلك، فقد عَدَل مزارعو الجنوب بشكل عام عن التمسك بالأزياء التقليدية. أصبحوا يرتدون، عادة، الزي الأخضر الرمادي المموه، أو البذلة الكاكي الإيطالية. أينما تذهب، وأينما تكون، ترى هذا الكاكي، هذا الزي الأخضر الرمادي للحرب. كم من ملايين الأمتار من تلك الخامة القوية والممتازة، ولكن البغيضة كان لزامًا على الحكومة الإيطالية أن توفرها، لا أدري؛ لكن بقدر ما يكفي ليغطي إيطاليا بسجادةٍ من اللُّبود، على ما أظن. إنها تنتشر في كل مكان. تغطي الأطفال الصغار في أردية ومعاطف قاسية مموهة، كما تكسو آباءهم بشكلها الذي يفتقر للبهجة، بل إنها في بعض الأحيان تحيط النساء بدفئها. إنها ترمز للضباب الرمادي الذي غلف الإنسان، والذي سلب منه كل تفرده وبهجته، ومَحَا كل سماته الفردية. يا لسوء الديمقراطية! تلك الديمقراطية المغلفة بالكاكي!
•••
هذا المكان يختلف كثيرًا عن المشهد في إيطاليا. فإيطاليا على الأغلب مفعمة بالمشاعر والحيوية طَوال الوقت، وربما تكون دائمة الرومانسية. المشاعر والحيوية تجدها في سهول لومباردي، والرومانسية في بحيرات البندقية، والإثارة التي تبعثها المناظر الطبيعية المبهجة تجدها تقريبًا في كافة الربوع المرتفعة من شبه الجزيرة. ربما هو الجمال الطبيعي للتكوينات التي تشكلت من الأحجار الجيرية. لكن المشهد في إيطاليا يوحي حقًّا بمشهدٍ من القرن الثامن عشر، يُعرض بذلك الأسلوب الرومانسي الكلاسيكي الذي يجعل كل شيء يبدو مذهلًا وعصريًّا؛ القنوات المائية، الأطلال التي خُلفت على جبال شوجر لوف، والوديان الوعرة وشلالات فيلهلم مايستر؛ مرتفعات ومنخفضات.
أما سردينيا فهي شيء آخر. أكثر اتساعًا، أكثر اعتيادية، ليس بها مرتفعات ومنخفضات على الإطلاق، وإنما تنساب أمامك دون عوائق. منحدرات غير ملحوظة من تلال مقفرة، وربما تقودك إلى مجموعة من القمم الجبلية الواضحة في الجنوب الغربي. هذا يمنحك شعورًا باتساع المكان، وهو ما تفتقده في إيطاليا. مساحة آسرة مترامية الأطراف أمامك … لا شيء منتهٍ، لا شيء له آخر. إنها تشبه الحرية بعينها، بعد أن كنت حبيسًا بين القمم الجبلية في صقلية. متسعٌ من المكان … هب لي متسعًا … هب لي متسعًا من أجل روحي: ولكَ كل الصخور الرومانسية المهدَّمة.
واصلنا السير عبر الأشعة الذهبية لفترة الظهيرة، وعبر مشهد التلال الكيلتية الرحْبة، وقطارنا الصغير ينفث دخانه بهدوء وبطء شديد. غير أن نباتات الخَلْنَج والشجيرات الصغيرة التي يصل طولها لارتفاع الصدر أو ارتفاع الرجل، هي على الأحرى كبيرة للغاية، وعالية بالنسبة إلى أرضٍ كيلتية. وتظهر أحيانًا قرون الماشية السوداء البرية.
وبعد شوطٍ طويل، وصلنا إلى محطة بعد أن قطعنا مسافة في الخواء. وفي كل مرة، يبدو وكأننا لن نرى مزيدًا من الحياة … لن نرى مزيدًا من البشر. ولكننا في كل مرة نصل إلى محطة.
غادر أغلب الناس القطار. وكما هو الحال مع الرجال الذين يركبون عربات صغيرة، فينزلون عند كل حانة، حتى يترجل الراكبون عادة للترويح عن أنفسهم في الهواء الطلق عند كل محطة. يقف صديقنا العجوز البدين ويحشر ذيل قميصه بكل أريحية في بنطاله، وهو بنطال يجعلك طَوال الوقت تحبس أنفاسك، إذ يبدو في كل لحظة أنه سيسقط على الفور؛ ويخرج الرجل من القطار، متبوعًا بزوجته الطويلة ذات البشرة الخمرية.
يستقر القطار ليستريح لخمس أو عشر دقائق، في الطريق الذي تسلكه القطارات. وأخيرًا نسمع أصوات صَفارات وأبواق، ويركض صديقنا العجوز البدين ويتشبث كسرطان بحرٍ ضخم بآخر جزء من نهاية القطار أثناء انطلاقه. في اللحظة نفسها يُسمع صُراخ عالٍ ونداءات قادمة من الخارج. فنفِزُّ جميعًا واقفين. وهناك، عند آخر خط السكة الحديدية، تقف الزوجة بجسدها الطويل ذي البشرة الخمرية. كانت قد ابتعدت لتقصد نزلًا على بُعد مائة ياردة، لتبقى دقيقة أو اثنتين، وفي تلك اللحظة رأت القطار يتحرك.
رأيتها في تلك اللحظة ترفع يديها في تضرعٍ إلى السماء، وسمعت صرختها المدوية: «يا عذراء!» وسط أصوات الصخب. لكنها أمسكت بتنورتها من عند الركبتين، وبدأت تسرع بجنون خلف القطار وقد بدت ساقاها النحيلتان في الجوارب الرمادية. لكن بلا فائدة. فالقطار لا محالة يواصل مساره. قفزَتْ، لتصل إلى إحدى نهايتي الرصيف بينما نحن نغادر النهاية الأخرى. ثم أدركت أنه لن يتوقف لها. ثم، يا للذعر! رفعت ذراعيها في تضرع شديد بعد انسحاب القطار، واشرأبت برأسها عاليًا إلى الله، ثم أنزلت ذراعيها في يأس تام على رأسها. وكانت هذه المرة الأخيرة التي رأيناها فيها، وهي تمسك برأسها البائس في كربٍ وتَحنيها إلى الأمام. لقد تركها القطار … تخلى عنها.
أما الزوج البدين المسكين فكان طَوال الوقت واقفًا عند مؤخرة القطار، باسطًا يديه إليها ويصرخ بجنون موبخًا إياها ويطلق صرخات مضطربة إلى القطار حتى يتوقف. لكن القطار لم يتوقف. وتُركت هي … تُركت في تلك المحطة المهجورة تحت الضوء المتضائل.
وهكذا، تبدل حال وجهه المشرق، وعينيه المستديرتين اللامعتين كنجمتين، من أثر الهلع والغم والغضب والضيق، وأتى ليجلس على مقعده مستشيطًا ومتيبسًا وعاجزًا عن النطق. كان وجهه وسيمًا في ظل احتدام مشاعره المتضاربة. لبعض الوقت بدا وكأنه غائب عن الوعي في وسط أحاسيسه. ثم تفجر الغضب والاستياء من وسط ذهوله. واستدار بغضب إلى الحارس الغادر ذي الأنف الطويل الذي يشبه الفينيقيين. لماذا لم يوقِفوا القطار من أجلها! وفجأة، وكأن شخصًا أضرم النار فيه، احتدم الحارس من الغضب. هيه! … القطار لا يمكن أن يتوقف على هوى كل شخص! القطار قطار … والمواعيد لا بد أن تُحترم. ماذا كانت تريد السيدة العجوز من تجولها إلى آخر الخط؟ هه! إنها تدفع ثمن طيشها. هل دفعَت حق القطار … ها؟ والرجل البدين طَوال الوقت يطلق إجاباته غير المبالية التي لا ينتبه إليها. دقيقة واحدة … دقيقة واحدة فقط … لو كان المُحصِّل قد أخبر السائق! لو كان المحصِّل قد صرخ! يا لها من سيدة مسكينة! لا يوجد قطار آخر! ماذا ستفعل! وتذكرتها؟ وليس معها نقود. يا لها من امرأة مسكينة!
كان هناك قطار عائد إلى كالياري في تلك الليلة، هذا ما قاله المُحصِّل، وحينئذٍ كاد الرجل البدين ينفجر ويشق ملابسه كما ينشق القرن لتخرج منه الحبوب. فقفز من مقعده ناهضًا. ما فائدة ذلك؟ ما فائدة أن هناك قطارًا عائدًا إلى كالياري، في حين أن منزلهما في سنيللي! هذا يزيد الطين بلة.
وهكذا فقد تواثبا وانتفضا وجادل كل منهما الآخر بقدر ما أراح قلبيهما. ثم انزوى المحصل مبتسمًا بخبث، فقد ارتاح نوعًا ما. أما صديقنا البدين فقد نظر إلينا بعينين محتدمتين وغاضبتين وخجلتين وحزينتين، ثم قال إنه أمر مخزٍ. فتدخلنا في الحديث قائلين إنه كان حقًّا مخزيًا. حينئذٍ تقدمت آنسة معتدة بنفسها قالت إنها جاءت من مدرسة داخلية في كالياري وسألت عددًا من الأسئلة الوقحة بنبرة مشفقة متطاولة. وبعدها غطى صديقنا البدين، الذي تُرك وحيدًا، وجهه المكفهر بيديه، وولى ظهره للدنيا، وتجهم.
كان الموقف كله دراميًّا مؤثرًا، حتى إننا ضحكنا رغمًا عن أنفسنا، وإن كانت ملكة النحل قد ذرفت بعض الدموع.
•••
حسنًا، استغرقت الرحلة ساعات. وصلنا إلى محطة، وأخبرَنا المحصل بأننا لا بد أن نغادر العربة؛ فهذه العربات لا تمضي لأكثر من ذلك. لن يواصل الرحلة إلى مانداس سوى عربتين. لهذا نزلنا إلى خارج القطار حاملين متعلقاتنا، وصديقنا البدين حاملًا حقيبته القماشية، مجسدًا كل مشاعر البؤس.
كانت العربة التي صعِدنا إليها مزدحمة نوعًا ما. أما العربة الوحيدة الأخرى فكانت أغلبها من الدرجة الأولى. وباقي عربات القطار كانت مستخدمة في الشحن. كانتا عبارة عن عربتي ركاب حقيرتين في نهاية سلسلة طويلة من عربات الشحن والشاحنات.
كان هناك مقعد شاغر، لهذا جلسنا عليه؛ ليتبيَّن لنا بعد حوالي خمس دقائق، أن سيدة عجوزًا نحيلة برفقتها طفلان — أحفادها — تهز رأسها في تذمر لأن هذا المقعد كان «مقعدها» … لم تقل ما السبب في أنها قد تركته. وتحت قدميَّ كانت صرة خُبزها. كادت تفقد صوابها. وأعلى رأسي، على الرف الصغير، كانت حقيبتها القماشية التي تشبه السرج. وضحك الجنود السمان بمرح، ولكنها هاجت وماجت كدجاجة عجوز لا ريش لها. وبما أنها جلست على مقعد آخر وكانت تشعر بالراحة تمامًا فيه، ابتسمنا وتركناها تغمغم متذمرة. فسحبت صرة خبزها من تحت قدمي ممسكةً بها في يد، وفي اليد الأخرى أمسكت بطفل سمين، وجلست متشنجة.
•••
صار الجو مظلمًا تمامًا. جاء المحصل وأخبرنا بأنه لا يتوفر مزيد من زيت الإنارة. ولو نفد ما في المصابيح، فسنضطر إلى الجلوس في الظلام. لم يكن هناك مزيد من الزيت طَوال الطريق. ولهذا صعِد على المقاعد، وبعد معاناة طويلة، وبمساعدة بعض الفتية الذين كانوا يشعلون ثقابًا من أجله، تمكَّن من إشعال ضوءٍ حجمه بحجم حبة البازلاء. فجلسنا في هذا «الظل والنور»، وأخذنا نراقب الوجوه المنعكسة على هيئة ظلال قاتمة حولنا؛ الجندي البدين حاملًا بندقية، والجندي الوسيم ذا الحقيبة الضخمة التي تشبه سرج الحصان، والرجل المريب الضئيل ذا البشرة السمراء الذي ظل يتبادل طفلًا مع سيدةٍ حازمة كانت ترتدي وشاحًا أبيض مربوطًا حول رأسها، والسيدة القروية الطويلة التي كانت ترتدي زيًّا تقليديًّا، واندفعت إلى الخارج في إحدى المحطات المظلمة وعادت منتصرةً بقطعة شوكولاتة؛ وشابًّا يافعًا متعاونًا كان ينبهنا في كل محطة ويذكر اسمها. وكان هناك أيضًا الرجل الذي يبصق، هناك دائمًا أحدهم.
أخذ الحشد يتضاءل شيئًا فشيئًا. وفي إحدى المحطات رأينا صديقنا البدين يمضي في حسرةٍ كنفسٍ مخدوعة، وحقيبته المنتفخة التي تشبه سرج الحصان معلقة من أمامه وخلفه، لكنها غير مريحة الآن … غير مريحة على الإطلاق. أخذ الضوء البسيط الذي كان ينبعث من المصباح الزيتي يتضاءل شيئًا فشيئًا. وجلسنا في عتَمة وحولنا رائحة صوف الأغنام والقرويين، لا يخبرنا إلى أين وصلنا سوى الشاب البدين الرزين. أما الأوجه القاتمة الأخرى فبدأت تغرَق في صمتٍ مميت كئيب. والبعض غلبه النوم. وظل القطار الصغير يجري ويجري، وسط ظلام سردينيا المجهول. ووسط حالة من اليأس، أتينا على آخر قطرة شاي وأكلنا آخر كِسَرٍ من الخبز. كنا نعلم أننا سنصل في وقتٍ ما إن آجلًا أو عاجلًا.
•••
لم يكن الوقت قد تجاوز الساعة السابعة بكثير عندما وصلنا إلى مانداس. ومانداس هي نقطة التقاء تستقر عندها تلك القطارات الصغيرة وتستمتع بدردشة مبهجة طويلة بعد صعودها الشاق فوق منحدرات التلال. قد استغرق الوقت منا خمس ساعات تقريبًا لنقطع خمسين ميلًا. فلا عجب إذن من أنه في الوقت الذي تلوح فيه نقطة الالتقاء هذه في الأفق يندفع الجميع خارج القطار كاندفاع البذور من قرنها المنفجر، فيُهرعون إلى أي مكان من أجل أي شيء. إلى مطعم المحطة بكل تأكيد. ومِن ثم فهناك مطعم صغير في المحطة له نشاط رائج، وفيه يمكن أن تحظى بفراش.
كان في المطعم سيدة لطيفة تمام اللطف تجلس وراء مشرب صغير؛ امرأة سمراء ذات شعر بني مفروق وعينين بنيتين وبشرة بنية ذات سُمرة خفيفة من أثر الشمس ترتدي صِدارًا بنيًّا ضيقًا من قماشٍ مُخملي. قادتنا إلى أعلى سُلم حجري ملتوٍ وضيق، كسُلم مؤدٍّ إلى أعلى قلعة، فكانت تسبقنا حاملةً شمعة تنير لنا بها الطريق، ورافقتنا حتى دخلنا إلى غرفة النوم. كانت تنبعث من الغرفة رائحة حمضية بغيضة، كالتي تنبعث من الغرف المغلقة. سارعنا بفتح النافذة. كانت هناك نجوم كبيرة بيضاء تومض بقوةٍ في السماء.
كان بالغرفة سرير ضخم كبير يتسع لثمانية أفراد، ونظيف للغاية. وعلى المائدة التي استقرت عليها الشمعة كان هناك مفرش. ويا له من مفرش! أظن أن لونه في الأصل كان أبيض، ولكنه الآن، لم يكن سوى شبكة من الثقوب التي أكلها الزمن وبقع حبر أسود حزينة وبقع نبيذ بائسة، كما لو كان كفن مومياء يرجع عمره إلى ٢٠٠٠ سنة قبل الميلاد. تُرى هل رُفع عن تلك المائدة يومًا؛ أم أنه حُنِّط عليها! عن نفسي لم أحاول أن أرفعه. لكن هذا المفرش أثار دهشتي حقًّا، لأنه كان متسخًا لدرجة لم أكن أتخيل وجودها من قبل. يا له من مفرش.
نزلنا سُلم القلعة قاصدين غرفة الطعام. كان في الغرفة مائدة طويلة عليها أطباق حساء مقلوبة ومصباح يشتعل منه لهب أسيتيلين مكشوف غريب مذهل. جلسنا على المائدة الباردة، وفي الحال بدأ ضوء المصباح يتضاءل. كانت الغرفة، بل في الواقع سردينيا بأكملها، باردةً بردًا قارسًا، قارسًا حقًّا. في الخارج كانت الأرض متجمدة. وفي الداخل لم يكن يخطر على البال أي شكلٍ من أشكال الدفء؛ أرضيات وجدران حجرية لزنزانة تحت الأرض، وأجواء في برودة الجثث، شديدة الثقل والبرودة لدرجة تجعل من المستحيل تحريكها.
انطفأ المصباح تمامًا، فانطلقت صيحة من ملكة النحل. أقحمت المرأة السمراء رأسها في فتحةٍ في الحائط. ومن خلفها رأينا نار الطهي، وخادمَين يقلبان القدور. جاءت السيدة البنية ورجَّت المصباح … كان أشبه بزَهرية ثقيلة من الخزف على رف مدفأة … فرجَّته جيدًا وحركت ما بداخله، وأشعلته ثم انصرفت مرة أخرى. ثم عاودت الظهور بسلطانية من حساء الكرنب الذي يتصاعد منه البخار، ويوجد به قطع من المعكرونة … وهل سنتناول النبيذ؟ ارتعدت أوصالي عند التفكير في نبيذ هذا البلد الأحمر الشديد البرودة، لهذا سألت ماذا أيضًا لديهم. كان هناك «مالمسي»، وهو صنف النبيذ العتيق الذي أُغرق فيه دوق كلارنس. لهذا حصلنا على نصف لتر من نبيذ المالمسي، وتنعمنا بالراحة. على الأقل تنعمنا بها حتى انطفأ المصباح مرة أخرى. فجاءت السيدة السمراء ورجَّته وخبَّطت عليه، ثم أشعلته من جديد. ولكنه انطفأ مرة أخرى وكأنه يقول: «لن أضيء لكما ثانية.».
ثم حضر صاحب المطعم حاملًا شمعة وإبرة، وكان رجلًا صقليًّا بشوشًا ذا بنية ضخمة وشوارب متدلية. فوخز ذلك المصباح اللعين وخزةً دقيقة بالإبرة، ثم رجَّه، وأدار مسامير صغيرة. فاشتعل اللهب. كنَّا متوترين قليلًا. سألنا الرجل من أين أتينا، وما إلى ذلك. ومن دون مقدمات سألنا، في حماسة، إذا كنا اشتراكيين. أها، كان سيرحب بنا على أننا رفاق ومواطنون. ظن الرجل أننا عميلان من البلاشفة، كان بوسعي أن أفهم ذلك. ولهذا كان مستعدًّا لمعانقتنا. لكن هيهات، فملكة النحل تبرأت من هذا الشرف. أما أنا فاكتفيت بالابتسام والإيماء برأسي. من المحزن أن تسلب الأشخاص من أوهامهم المثيرة.
صاحت ملكة النحل: «هناك اشتراكيون كثيرون في كل مكان!»
قال الصقلي المتحفظ: «مممم، ربما، ربما …». وفكرتْ قليلًا ثم أضافت: «الإنسان منا يحتاج إلى قليل من الاشتراكية في العالم، القليل فقط منها. لكن ليس الكثير. ليس الكثير بأي حال من الأحوال. وفي أيامنا هذه، هناك الكثير من الاشتراكية.»
تراجع صاحب المطعم وهو يطرِف بعينه عند سماعه هذا الحديث الذي يمس عقيدته المقدسة، غير مصدق لكلمة مما يقال، شاعرًا بالإهانة وكأن ملكة النحل تذر التراب في عينيه، وشعر بالتوتر منا كزوج من المَكَرة الخبثاء. وفور انصرافه، انتصب لهب المصباح بكامل طوله، وبدأ المصباح يصدر صفيرًا. فتراجعت ملكة النحل. ولم يكتفِ المصباح بذلك؛ إذ بدأ اللهب فجأة يتحرك سريعًا حول الفتيل، كأسدٍ يلوِّح بذيله بقوةٍ. تنحينا وقد فقدنا أعصابنا، ونادت ملكة النحل مرة أخرى، فأقبل صاحب المطعم بابتسامة خفيفة وهو يحمل في يده دبوسًا وقد بدا عليه الإحسان، ثم روض الشعلة الثائرة.
ما الأصناف الأخرى التي كانت متوفرة لتناولها؟ كانت لدي قطعة من لحم الخنزير المقلي، ولدى ملكة النحل بيض مسلوق. وبينما باشرنا تناول الطعام، هلَّ ما تبقى من ترفيه الليلة: موظفو المحطة الثلاثة، اثنان منهم يرتديان قبعات قِرمِزية لها مقدمة بارزة، والثالث يرتدي قبعة باللونين الأسود والذهبي ولها أيضًا مقدمة بارزة. جلسوا محدثين ضجة، والقبعات على رءوسهم، وكأن ثمة حاجبًا خفيًّا يحول بيننا وبينهم. كانوا في عمر الشباب. ميَّز ذا القبعة السوداء هيئته النحيفة وحسُّه الساخر؛ وكان أحد اللذين يرتديان القبعة قِرمِزية شابًّا في مقتبل العمر قصيرًا، ذا وجه متورد وشارب قصير؛ سمَّيناه الخنزير الصغير المرِح؛ إذ كان جسمه ممتلئًا بادية عليه التغذية وروحه مرحة. أما الثالث فكان يرتدي نظارة ويبدو شاحبًا ومنتفخًا نوعًا ما. بدَوا جميعًا أنهم يديرون لنا ذلك الجانب من وجوههم الذي توارت ملامحه ويلمِّحون إلى أنهم لن يخلعوا قبعاتهم حتى لو كانت المناسبة هي مناسبة عشاء في حضور سيدة غريبة. كان بعضهم يتهكم ببعض بأسلوب فظ، وما برِحوا يتعاملون وكأننا نجلس في الجانب الآخر من الحاجب الخفي.
لكني عزمت على إزالة هذا الحاجب الخفي، فقلت مساء الخير وعلَّقت بأن الجو قارس البرودة. غمغموا قائلين مساء الخير وعلقوا مؤكدين بأن الجو منعش. لا يصرح الإيطاليون بأن الجو بارد، الجو ليس إلا منعشًا. لكنهم فهموا هذا التنويه عن برودة الجو بأنه تلميح على تشبثهم بارتداء القبعات، فلم ينبسوا ببنت شفة إلى أن دخلت السيدة بسُلطانية الحَساء. فتعالت أصواتهم إليها، وبالأخص «الخنزير الصغير»، سائلين عما هو متاح لتناوله. أخبرَتْهم بأن المتاح هو شرائح لحم خنزير. وعندئذٍ امتعضت وجوههم. ثم أردفَتْ بأن هناك، كخيار آخر، قطعًا من لحم الخنزير المسلوق. تنهدوا وتجهمت وجوههم، ثم تهللت ثانيةً، وطلبوا شرائح اللحم.
انقضُّوا على حَسائهم. لم أسمع في حياتي سيمفونية ثلاثية من أصوات تناثر الحَساء أكثر طربًا من تلك التي أسمعها من بين البخار المتصاعد. كانوا يرتشفونه من ملاعقهم برشفاتٍ طويلة وبتلذذ شديد. وكان «الخنزير الصغير» صاحب الصوت ذي الطبقة العليا الحادة، فكان يسحب الحَساء إلى فمه برشفات مرتعشة خاطفة تعترضها قطع الكرنب، وهو ما جعل ضوء المصباح يبدأ في الارتعاش من جديد. أما ذو القبعة السوداء فكان صاحب طبقة صوتٍ باريتوني متوسط، وكان يأخذ رشفات مدوِّية ممتلئة. وموظف المحطة ذو النظارة كان خفيض الصوت، فكان يبتلع الحساء برشفات سريعة صوتها منخفض. ويتزعم هاتين الطبقتين صوت الرشفات المرتعشة الطويلة التي كان يرتشفها «الخنزير الصغير». ثم على سبيل التغيير، يرفع فجأة ملعقته بيدٍ ويمضغ قطعة ضخمة من الخبز ثم يبتلعها متمطِّقًا؛ إذ يلتصق لسانه بغاره الأعلى ليُحدث بذلك صوتًا. اعتدنا أن نسمي ذلك الصوت ونحن أطفال «التلمُّظ».
وبهذا كان «الخنزير الصغير» يتلمظ مُصدرًا صوتًا يشبه صوت زوجٍ من الصَّنْج، بينما يردد وراءه صاحبا الصوت الباريتوني المتوسط والخفيض. ثم يقاطعهما الصوت الحاد الخاطف الطروب.
لكن لم يتبقَّ الحَساء بهذه الوتيرة لوقت طويل. وصلت شرائح لحم الخنزير. وأصبحت السيمفونية من العازفين الثلاثة في تلك اللحظة هي سيمفونية مؤلفة من أصوات تَمطُّق الصُّنُوج الخشبية وقرع الصنوج المعدِنية. ونظر «الخنزير الصغير» حوله بسعادة المنتصر. فقد تفوق عليهما في صوت التمطق.
الخبز في القرية كان رديئًا إلى حدٍّ ما وله لون بني وقشرة خارجية قاسية جدًّا. توضع كتلة من هذا الخبز القاسي على منديل مائدة مبلل قليلًا. قطع «الخنزير الصغير» خبزه القاسي إلى قطعٍ، وشكا إلى ذي القبعة السوداء الذي كان قد حصل على نوع غريب من الخبز الأبيض النقي — كان لونه أبيض بياض النشا — مثلث الشكل. فكان يمتلئ زهوًا بخبزه الأبيض.
التفت إليَّ فجأة صاحبُ القبعة السوداء. وسألنا من أين أتينا، وإلى أين سنذهب، ولأي غرض. لكن بأسلوب مقتضب وتهكمي.
صاحت ملكة النحل: «أحب سردينيا.»
سألها باستهزاءٍ: «لمَ؟». فحاولت اكتشاف السبب.
قلتُ: «يبعث أهل سردينيا السرور في نفسي أكثر من الصقليين.»
فسأل باستهزاء: «لماذا؟»
– «إنهم أكثر صراحةً ونزاهةً.» بدا أن الرد أفحمه.
قال «الخنزير الصغير» وهو يحشر في فمه قطعة ضخمة من الخبز ويدير عينيه الفاترتين الشبيهتين بعيني خنزير أسود صغير مرح وسمين في الخلفية: «صاحب المطعم صقلي.» فلم نستطرد في الحديث.
قال لي صاحب القبعة السوداء وكأنه تهديد: «هل زرت كالياري؟»
صاحت ملكة النحل التي تسافر وهي تحمل معها زجاجة من الزبد الذائب الجاهز لاستخدامه مع الجَزَرِ الأبيض: «بالطبع! استمتعت بكالياري. إنها جميلة.»
قال صاحب القبعة السوداء: «أجل، كالياري بين بين، إنها مقبولة. ليست سيئة.» وبدا واضحًا أنه فخور بها.
سألت ملكة النحل: «وهل مانداس جميلة؟»
فسألوا في تهكم شديد: «جميلة من أي جانب؟»
– «هل بها أي شيء جدير بأن نتفقده؟»
قال «الخنزير الصغير» باقتضاب: «دجاج» شعروا بالاستفزاز حينما سئلوا إذا كانت مانداس جميلة.
سألت ملكة النحل: «ماذا يفعل الواحد منَّا هنا؟»
– «لا شيء! في مانداس لا يفعل الإنسان أي شيء. في مانداس يأوي المرء إلى الفراش عندما يحل الظلام مثل دجاجة. في مانداس يمكن للمرء أن يسير في الشارع هائمًا على وجهه مثل خنزير يسير بلا وجهة. في مانداس يفهم الماعز أكثر مما يفهم أهل البلد. في مانداس يحتاج المرء إلى الاشتراكية …»
صاح جميعهم في نفسٍ واحد.
من الواضح أن مانداس، بالنسبة لهؤلاء المتآمرين الثلاثة، كانت مكانًا لا يُطاق لدقيقة أخرى.
قلتُ: «أتشعرون بالملل هنا إذن؟»
– «أجل.»
إن النبرة الهادئة التي نُطقت بها هذه الإجابة الصريحة العارية كانت أبلغ من أي كلام.
– «هل ترغب في أن تعيش في كالياري؟»
– «أجل.»
تخلل الحديث صمت مطبق ساخر. ونظر الثلاثة بعضهم إلى بعض وعلقوا بنكتة مريرة عن مانداس. ثم التفت إليَّ صاحب القبعة السوداء.
قال: «هل تفهم اللهجة السردينية؟»
– «بعض الشيء. أكثر من اللهجة الصقلية على أي حال.»
– «لكن اللهجة السردينية أصعب من الصقلية. فهي مليئة بكلماتٍ لا يفهمها الإيطاليون نهائيًّا.»
– قلتُ: «صحيح، لكن يمكن التحدث بها بلهجة واضحة وكلماتٍ صريحة، بينما تبدو اللهجة الصقلية وكأن كل الكلمات ملتصقة معًا، فليس هناك كلمات قائمة بذاتها على الإطلاق.»
ينظر إليَّ وكأنني دجَّال. لكن هذه هي الحقيقة. أنا أجد من السهل تمامًا فهم السردينية. فالمسألة في الواقع هي مسألة الأسلوب الذي ينتهجه البشر في الحديث أكثر منه الإيقاع الصوتي. تبدو اللهجة السردينية واضحة وصريحة وقوية. أما اللهجة الصقلية فهي لزجة ومراوغة وكأن المواطن الصقلي لا يريد مخاطبتك بأسلوبٍ مباشر. وفي واقع الأمر هو لا يخاطبك مباشرةً. فهو إنسان ذو ثقافة رفيعة وحس مرهف وفكرٍ قديم، ولعقله أوجه كثيرة لدرجة أنه لا يتقيد بوجهة نظر واحدة محددة أبدًا. يحمل عشرات وجهات النظر وهو أمرٌ يدركه بغصة، ومسألة أن يُلزم نفسه بوجهة نظر واحدة ما هي إلا خدعة يمارسها على نفسه وعلى من يحادثه. أما السردينيون، فلا يزالون أصحاب فكر واحد واضح. اصطدمتُ، على سبيل المثال، بإيمانهم الواضح والشديد بالاشتراكية. الصقلي هو رجل قديم في ثقافتنا لدرجة تُعجزه عن استساغة مذهب الاشتراكية بأكمله؛ عتيق ومراوغ بشدة لدرجة تساعده على تعقيد أي مذهبٍ. يندفع كطلقة نارية؛ ثم يظل يحرق نفسه ببطء ومرارة مترددًا حتى تجاه أفكاره هو. يتعاطف المرء معه عند التفكير في أحداث الماضي. لكن في الحياة اليومية هو شخص لا يمكن احتماله.
أسأل صاحب القبعة السوداء لتباهيه بخبزه: «أين عثرت على مثل هذا الخبز الأبيض؟»
– «أحضرته من بيتي.» ثم يسأل عن الخبز في صقلية. هل هو أنصع بياضًا من خبز مانداس القاسي؟ نعم، فهو أنصع بياضًا بقليل. وعندئذٍ اغتموا مرة أخرى. لأن أمر هذا الخبز يثير حنقهم. فالخبز يعني الكثير للرجل الإيطالي؛ فهو يقينًا قِوام حياته. يعيش الإيطالي تقريبًا على الخبز. وبدلًا من أن يحكُم عليه من مذاقه، صار الآن مثله مثل العالم بأسره يحكم عليه بعينه. فترسخت في عقله فكرة أن الخبز ينبغي أن يكون لونه أبيض، ولذا في كل مرة يتوهم درجة لون أغمق في رغيف الخبز يخيم الحزن على روحه. ولكنه ليس مخطئًا في ذلك كليةً. فعلى الرغم من أني، شخصيًّا، لم يعد يستهويني الخبز الأبيض، فأنا أحب أن يُصنَع خبزي البني من الطحين النقي غير المُخلَّط. من المدهش أن يبدو رغيف الخبز، لدى فلاحي صقلية الذين يخزنون قمحهم ويصنعون خبزهم البني الطبيعي، طازجًا وذا مذاق طيب و«نظيفًا» وله رائحة مميزة كرائحة الخبز المصنوع في المنازل قبل الحرب. في حين أن خبز البلدة، الذي يُعد المُؤْنة المقررة، قاسٍ وخشن وجاف نوعًا ما، فتجده خشنًا وقاسيًا للغاية على الحنك. فيُنهك الواحد منَّا حتى الموت. يساورني الشك أنه مخلوط بدقيق الذرة. لكن لا أدري يقينًا. وأخيرًا يختلف الخبز من مدينة إلى مدينة، ومن بلدة إلى بلدة. فالتوزيع الذي يزعمون بأنه عادل ومتكافئ هو محض هراء. تجد أحد الأماكن زاخرًا بخبز طيب مذاقه، ومكان آخر شحيحًا بالخبز دائمًا يدبر معيشته بحصةٍ من الخبز الخشن القاسي. والفقراء حقًّا يقاسون بشكلٍ مؤسف من شح الخبز لأنهم يعتمدون على هذا الزاد وحده. يقولون إن عدم المساواة والظلم في التوزيع سببه مافيا الكامورا التي لا تعدو في يومنا هذا أكثر من كونها اتحادًا من مرابحين استغلاليين يبغضهم الفقراء. ولكن عن نفسي، لا أدري. لا أعرف سوى أن مدينة واحدة كمدينة البندقية، على سبيل المثال، تبدو عامرة بمؤن لا تنضب من الخبز النقي والسكر والتبغ والملح، في حين أن فلورانسا تعيش في اضطراب دائم من الشح في تلك المؤن التي تحتكرها الحكومة ومن ثمَّ صار توزيعها بحساب.
تمنينا ليلة سعيدة لأصدقائنا الثلاثة من السكة الحديدية، وصعِدنا إلى الفراش. لم نكن قد أمضينا دقيقة واحدة أو دقيقتين في الغرفة عندما طرقت السيدة السمراء الباب لتخبرنا بأنه إذا سمحنا، فإن صاحب القبعة السوداء يبعث إلينا برغيف من خبزه الأبيض الصغير. تأثرنا بذلك صدقًا. إن لَفَتات الكرم البسيطة والرقيقة مثل هذه قد اندثرت تقريبًا من العالم.
كان خبزًا غريبًا صغيرًا مثلث الشكل، ولا يختلف في جفافه عن بسكويت السفن المصنوع من دقيق النَّشا. ليس خبزًا بالضبط.
•••
كانت ليلة باردة، والبطاطين ثقيلة غير منفوشة، لكننا حظينا بنوم هانئ تمامًا حتى الفجر. في الساعة السابعة كان الصباح صافيًا وباردًا، والشمس لم تَطْلع بعد. وعندما وقفت عند نافذة الغرفة أتطلع إلى الخارج، بالكاد كنت أصدق عينَيَّ، فالمنظر يشبه إنجلترا كثيرًا، يشبه كورنوال في المناطق الموحشة منها، أو يشبه هضاب ديربيشاير. كان هناك مرعًى صغير، متداعٍ نوعًا ما، خلف المحطة وبداخله زوج من الغنم. وكذلك مبانٍ ملحقة تبدو مهجورة تشبه كثيرًا تلك التي في كورنوال. ثم يأتي بعد ذلك طريق زراعي فسيح ومهجور يمتد بين حدود الأعشاب والأسوار الحجرية القصيرة متجهًا نحو مزرعة مبنية من الحجر الرمادي ذات تجمعات شجرية صغيرة، وقرية من حجرٍ غير ملوَّن تظهر على بُعد. سطعت الشمس بلونها الأصفر، فتلألأت البلدة الموحشة في توانٍ بلون مائل إلى الزرقة. كانت منحدرات التلال الخضراء المنخفضة مقسَّمة إلى حقول ذات أسوار حجرية منخفضة وقنواتٍ للري. تظهر هنا وهناك حظائر من الأحجار تقف وحدها أو بجوار بعض الأشجار العاصفة العارية من الورق. حصانان جلدهما خشن من أثر برودة الشتاء كانا يرتعان على حشائش خشنة، وصبي قَدِم من الطريق الرئيسي الفسيح المحفوف بالعشب حاملًا سطلين من الحليب، ينحرف عن مساره فجأة، وبذلك فكل شيء شبيه بكورنوال أو بجزء من أيرلندا لدرجة أن الحنين القديم إلى المناطق الكيلتية بدأ يدبُّ فجأة في نفسي. يا لتلك الأسوار الحجرية التي تفصل بين الحقول بلونها الشاحب! ويا له من عشب داكن لونه، ويا لها من سماءٍ مكشوفة! ويا لها من خيول بائسة في الصباح البارد! غريب هو المنظر في المناطق الكيلتية، له وقع مؤثر ومربك أكثر من وقع الجمال الآسر لإيطاليا واليونان. أمام هذا التاريخ الذي أزيح الستار عنه، يشعر المرء بأن العالم كان مثل هذا العراء الكيلتي ومثل كآبته وهوائه. لكن ربما ليس ذا طابع كيلتي على الإطلاق، بل إيبيري. لا شيء يثير السخط أكثر من مفهومنا عما هو كيلتي وما هو غير كيلتي. لدي قناعة بأنه لم يكن هناك وجودٌ للسلالة الكيلتية من الأساس. أما بالنسبة إلى الإيبيريين …!
من الرائع أن تخرج للسير على طريق يكسوه الثلج، وأن ترى الحشائش في زرقة الفجر يكسوها صقيع أبيض، وأن ترى، تحت الأشعة الصفراء لشروق شمس يومٍ شتوي، الحشائش والصقيع يذوب من فوقها ثم تبرد مرة أخرى في لمح البصر. مذهلةٌ هي الأجواء المائلة إلى الزرقة، والهواء البارد، والأشياء التي تقف على مسافة في جوٍّ بارد. بعد قضاء فصلين من الشتاء في الجنوب تظل فيهما الورود متفتحة طيلة الوقت، فإن هذه البرودة وهذا الصقيع البسيط في الصباح النابض يتسللان إلى روحي كإحساسٍ منعش. أشعر بسعادة غامرة على هذا الطريق الخاوي المهجور، ولا أعرف ماذا أفعل بنفسي. أسير في حفر المياه الضحلة المعشوشبة بجوار الأسوار الحجرية المفككة، أسير على الحافة الصغيرة من الحشائش، تلك الضفة الصغيرة التي بُنيت فوقها الأسوار، وأعبر الطريق فوق رَوْث الأبقار المتجمد؛ كل شيء يبدو ملمسه مألوفًا على قدمَيَّ، حتى إني أشعر بحماسٍ شديد وكأني قد توصلت إلى اكتشاف. تبيَّن لي أني أكره الحجر الجيري، أكره أن أعيش على حجر جيري أو رخام أو أي من تلك الصخور الجيرية. أكرهها. فهي أحجار حسها فاتر وغير نابضة بالحياة وتتسبب في سريان الرجفة في قدمَيَّ. لكن الحجر الرملي أفضل كثيرًا. أما الجرانيت! فالجرانيت هو المفضل لدي. إنه ينبض بالحياة تحت قدميك، وله بريقه الشديد. أحب استدارته … وأمقت الملمس الجاف للأحجار الجيرية ذات النتوءات الحادة التي تحرق في الشمس وتؤذي.
•••
بعد أن وصلت إلى بئر عميق في منطقة عشبية تشغل مساحة واسعة من الطريق، هممت بالعودة عبر الريف المكشوف المشمس المرتفع قاصدًا المحطة والمباني الملحقة بها ذات اللون الوردي. ثمة قاطرة تنفث دخانها الأبيض في ضوء الصباح الجديد. بعيدًا على اليسار يظهر صفٌّ من المنازل الصغيرة يشبه صف مساكن العاملين بالسكة الحديدية. مشهد عجيب لكنه مألوف. أما حدود المحطة فتبدو فوضوية ومتهدمة. أفكر في مُضيفِنا الصقلي.
تُقدم لنا السيدة السمراء قهوة ولبنَ مَعزٍ دسمًا له رائحة نفاذة وخبزًا. بعدها انطلقنا أنا وملكة النحل مرة أخرى إلى الطريق المؤدي إلى القرية. تشعر هي أيضًا بسعادةٍ غامرة. فتأخذ كذلك نفسًا عميقًا. وتشعر أيضًا «برحابة المكان» من حولها، وبالحرية لتحرك أطرافها؛ فالواحد منَّا لا يشعر بمثل هذا في إيطاليا وصقلية حيث يتسم الجميع بالتقليدية والجمود.
القرية في حد ذاتها هي شارع طويل متعرج ومتغيِّم تلقي بظلالها عليه منازل ومتاجر وورشة حدادة. ربما تشبه كورنوال تقريبًا، ولكن ليس بشكل تام. شيءٌ، لا أعرف ما هو، يوحي بالوهج القوي الحارق لفصل الصيف. وكذلك، بطبيعة الحال، يغيب أي إحساسٍ بالدفء والراحة الذي قد تضفيه الورود المتسلقة وأشجار اللَّيْلَك والمتاجر الصغيرة وأكوام التبن على مشهد إنجليزي. هذا أشد قسوة، وأكثر عراءً وسوءًا وكآبة. رجل طاعنٌ في السن في ملابس سوداء وبيضاء يخرج من أحد الأكواخ. وجزار يحمل قطعة كبيرة من اللحم. والنساء تُمعِن النظر فينا … لكن في تَخَفٍّ وتحفُّظٍ أكثر من النظرات الصريحة لنساء إيطاليا.
واصلنا السير نحو الشارع المرصوف بالحصى على امتداد القرية بأكملها. وحينما خرجنا على الجهة الأخرى وراء الكوخ الأخير، وجدنا أنفسنا مرة أخرى عند الريف المكشوف على التل القليل الانحدار. يسير المشهد على الشاكلة نفسها: تلال منخفضة ذات انحدار بسيط، وأجواء خافتة تحت ضوء الشمس الأصفر لصباح يومٍ في شهر يناير؛ أسوار حجرية، وحقول، وأراضٍ زراعية رمادية؛ ورجلٌ يحرث الأرض رويدًا رويدًا بفرس صغير وبقرة لونها بني ضارب إلى الحُمرة؛ ونهاية طريق خاوية حتى مسافة بعيدة؛ أما الملاحظة الوحيدة التي بدت غريبة بشدة كانت المقبرة المسوَّرة التي تقع في الخارج على جانب التل القليل الانحدار، فكان يحيط بها من جميع الجوانب بإحكام سور مرتفع؛ وعلى السطح الداخلي لهذا السور بلاطات رخامية لامعة بلونٍ أبيض كأنها أدراج مقابر مغلقة، أما السور فكان يشبه خزانة ذات أدراج، أو عيونٍ مجوفةٍ حتى يُحمَل فيها الموتى. ويرتفع وسط القبور المسورة أشجار السرو الملفوفة الكثيفة الداكنة. في الجنوب، عُزلت المقابر بسورٍ وفُصلت عما حولها بإحكامٍ شديد. كان الموتى كما لو كانوا محتجزين داخل القبور محاطين بالأسوار. لم تكن القبور منتشرة على امتداد البلدة. إنها محاطةٌ في إحكام شديد بأشجار السرو التي تستمد سمادها من عظام الموتى. هذه هي الملاحظة الوحيدة الغريبة تمامًا في المشهد. لكن ثمة غرابة تعم الأرجاء، ذلك الشعور الغريب الذي ينتابك في الجنوب والشرق كما لو كانت «الأعماق» قاحلة ومصابة بضربة شمس. مصابة بضربة شمس، أما قلبها فأكله الجفاف.
تصيح ملكة النحل: «يعجبني ذلك! يعجبني ذلك!»
– «لكن هل بإمكانك العيش هنا؟» كانت تود لو أنها تجيب بالموافقة، لكنها لم تجرؤ.
رجعنا شاردين. رغبت ملكة النحل في شراء حقيبة قماشية من تشكيلة الحقائب التي تشبه سرج الحصان. سألتها ما الغرض من شرائها؟ فأجابت للاحتفاظ بالأشياء داخلها. حقًّا! لكن أخذنا نختلس النظر داخل المتاجر، فرأينا واحدةً فدخلنا وعايناها. هذه الحقيبة في حالة جيدة إلى حدٍّ كبير ومصنوعة بدقة؛ لكنها خالية من أي زخرفة، دون زخرفة على الإطلاق. على الشرائط البيضاء المتقاطعة لا توجد زهور ملونة جذابة متألقة بالألوان وردية وخضراء وأرجوانية؛ تلك الألوان الثلاثة المفضلة في سردينيا؛ وليس هناك كذلك أي من الحيوانات المذهلة والشبيهة بالحيوانات الخرافية. لذلك إنها غير مقبولة. كم ثمنها؟ خمسة وأربعون فرنكًا.
لا شيء لنفعله في مانداس. لهذا سنأخذ قطار الصباح ونتجه إلى المحطة الأخيرة نحو سورجونو. ومن ثمَّ، سنعبر المنحدرات السفلية مارِّين بالكتلة الصخرية الكبرى في سردينيا، وهي كتلة صخرية يُطلق عليها جينارجينتو. نشعر بأن سورجونو ستكون مكانًا جميلًا.
عدنا إلى المحطة وأعددنا الشاي على المَوقِد الكحولي، ثم ملأنا الترمس، وحزمنا حقيبة الظهر وحقيبة المطبخ المتنقل، ثم خرجنا إلى شمس رصيف المحطة. ذهبت ملكة النحل لتشكر الضابط ذا القبعة السوداء على الخبز الأبيض، بينما أسددُ الحساب وأطلب طعامًا لنحمله معنا في الرحلة. التقطت السيدة السمراء من قدر أسود كبير في الخلف قطعًا من لحم خنزير مسلوق رديء، وأعطتني منها قطعتين ساخنتين مع خبز وملح. هذه وجبة الغداء. دفعت الحساب الذي وصل إلى أربعة وعشرين فرنكًا، مقابل كل شيء. (يقول الواحد منَّا في إيطاليا فرنك أو ليرة أيًّا كان.) في تلك اللحظة وصل القطار القادم من كالياري، فاندفع الرجال إلى الداخل، وتعالت أصواتهم بطلب الحَساء، أو بالأحرى بطلب المرقة. فصاحت السيدة السمراء قائلة وهي تتجه إلى القدر الأسود: «إنها جاهزة، إنها جاهزة!»