الفصل الخامس

إلى سورجونو

ربضت عدة قطارات جنبًا إلى جنب في نقطة التقاء القطارات وتجاذبت حديثًا طويلًا قبل أن ننطلق أخيرًا. كان رائعًا أن ننطلق في الصباح المشرق نحو قلب سردينيا داخل القطار الصغير الذي بدا مألوفًا للغاية. كنَّا لا نزال نستقل عربة الدرجة الثالثة، الأمر الذي أثار اشمئزاز موظفي السكة الحديدية في مانداس إلى حدٍّ ما.

في البداية كانت البلدة مكشوفة بدرجةٍ ما: القمم الطويلة الناتئة من التلال الشديدة الانحدار التي لم تكن مرتفعة مع ذلك. ومن قطارنا الصغير تطلَّعنا عبر الريف والتل والوادي. على مسافة بعيدة كانت ثمة بلدة صغيرة واقعة على منحدر منخفض. لولا منظرها المتراصف والمحصن، لظننتها بلدة في تلال الداونز بإنجلترا. رجلٌ في العربة مدَّ جسمه خارج النافذة وهو يحمل قماشة بيضاء ليشير إلى شخصٍ ما في أقصى البلدة ليخبره بقدومه. عصفت الريح بالقماشة البيضاء، أما المدينة البعيدة فبدت صغيرة ووحيدة في واديها. وانطلق القطار الصغير مسرعًا.

كان المشهد طريفًا للغاية. إذ كنَّا نصعد طَوال الوقت. وكان خط السكة الحديدية ينعطف في حلقات دائرية كبيرة. وبذلك عندما كان الواحد منَّا يتطلع من النافذة، كان يصيبه الذعر مرارًا وتَكرارًا وهو يرى قطارًا صغيرًا مسرعًا أمامنا ينحرف في اتجاهنا، نافثًا سحابات كبيرة من البخار. لكن يا إلهي، كان هذا قطارنا الصغير وهو ينطلق مسرعًا في حلقةٍ دائرية. كان قطارنا طويلًا إلى حدٍّ ما، لكن عربات الشحن جميعها كانت في مقدمة عربات القطار، ولم يكن هناك سوى عربتين للركاب متصلتين بالقطار في الخلف. لهذا السبب، كانت قاطرتنا تركض باهتياج شديد في مجال رؤيتنا، ككلبٍ يركض في الأمام وينحرف فجأة مقتربًا منَّا، بينما نتبعها من الخلف في نهاية سلسلة عربات الشحن.

أدهشتني براعة القطار الصغير في صعود المنحدرات الحادة ومدى شجاعته في الانطلاق إلى حدود السماء. إنه قطار استثنائي. أود أن أعرف منْ صَنَعَه. يسير لأعلى التل ثم لأسفل الوادي ثم ينعطف على نحو مفاجئ غير مكترث، يختلف عن القطارات الضخمة المعتادة، التي تقبع داخل أخاديد عميقة وتشق طريقها عبر الأنفاق، وإنما ينطلق صاعدًا التل كجرو صغير لاهث، وبعد أن ينظر حوله، يتحرك في اتجاهٍ آخر منطلقًا بخفةٍ مخلفًا إيانا وراءه دون اكتراث. هذا أكثر مرحًا بكثير من القطارات السائرة في الأنفاق والأخاديد.

أخبروني بأن سردينيا تستخرج فحمها: وهو كافٍ إلى حدٍّ كبير لسد حاجتها منه؛ لكنه ليِّن جدًّا ولا يصلح في أغراض توليد البخار. رأيت أكوامًا منه: يبدو صغيرًا باهتًا وبه شوائب. ورأيت حمولات منه أيضًا. وكذلك حمولات من الحبوب.

كنَّا نُترك، عند كل محطة، ثابتين في أماكننا على نحوٍ مخزٍ، في حين أن القطارات الصغيرة — التي كانت تحمل أسماء بلونٍ ذهبيٍّ مبهج على هياكلها السوداء الصغيرة — كانت تسير متمهلة عبر المسارات الجانبية وتفحص عربات الشحن المختلفة. كنا نجلس عند كل محطة، بينما تُنبذ بعض عربات الشحن جانبًا وتُفرَز عربات أخرى، كغنمةٍ موسومة بعلامة، من المسارات الجانبية ثم تُوصَّل بقطارنا. كان ذلك يستغرق وقتًا طويلًا.

•••

كانت تغطي نوافذ جميع المحطات حتى الآن شبكة من السلك. هذا دلالة على وجود البعوض الحامل للملاريا. يزداد انتشار الملاريا في سردينيا. تتكاثر هذه الحشرة كالعادة في الأودية الضحلة بين المرتفعات، وفي المستنقعات ذات الشمس الحارقة في الصيف، والمياه الراكدة. لكن الوضع ليس مريعًا للغاية بقدر ما يتبيَّن لي؛ إذ إن شهري أغسطس وسبتمبر هما الشهران المنذران بالخطر. لا يحب أهل البلد الاعتراف بوجود أي ملاريا؛ فيقولون إن وجودها شيء لا يُذكَر. بمجرد أن تصل إلى الأشجار، تختفي الملاريا. هكذا يقولون. لعدة أميال يبدو المشهد عبارة عن مستنقعات وتلال، دون أي أشجار. لكن فلتنتظروا الأشجار. أوه، في غابات وأحراش جينارجينتو؛ إذ تزداد الغابات والأحراش في الأعلى، وتختفي الملاريا هناك!

ينطلق القطار الصغير مسرعًا لأعلى، في مسار دائري حلقي كما لو أنه سيعض ذيله؛ وكنا نحن هذا الذيل؛ ثم يندفع فجأة مخترقًا حدود السماء بعيدًا عن مجال رؤيتنا. فيتغير المشهد. بدأت الغابات الشهيرة تلوح في الأفق. في البداية لم تظهر إلا آجام البندق، أميال من آجام البندق البرية، فيها عدد ضئيل من رءوس الماشية السوداء التي تحاول أن تختلس النظر إلينا من بين الريحان الأخضر وشجيرات القَطْلَب التي تشكل الغطاء النباتي تحت الأشجار المرتفعة؛ وفلاحان بدائيان غير متوقَّعين في هذا المشهد يحدِّقان في القطار. كانا يرتديان طاقية طويلة تشبه الجورب وسُترة طويلة من فراء الغنم، ويظهر الصوف على الوجه الخارجي للسُّترة. ومثلهما مثل الماشية، كانا يختلسان النظر من بين الشجيرات الكثيفة. يصل ارتفاع شجيرات الريحان هنا إلى طول الإنسان، ولهذا تختفي الماشية والرجال فيها. أما أشجار البندق الكبيرة فيزيد ارتفاعها قليلًا عنها. لا بد أن السير في تلك المناطق صعب.

يمكنك، أحيانًا، أن ترى على مسافة بعيدة قرويًّا في ردائه الأبيض والأسود ممتطيًا دابته وحيدًا عبر مكان أكثر رحابةً، فيبدو ككيان ضئيلٍ متحرك. تروقني كثيرًا غريزة الاعتزاز بالنفس التي تدفع صاحبها إلى تمييز نفسه عن المشهد من خلفه. أكره التخفي في اللون الكاكي كالأرانب. إن قرويًّا في ردائه الأبيض والأسود ممتطيًا مُهره لا يبدو سوى نقطة بعيدة خلف أوراق الشجر، لكنه مع ذلك يلمع ويهيمن على المشهد. مرحى مرحى! مرحى بإنسانٍ يعتز بنفسه! ها هو يمتطي دابته باعتزاز! لكن للأسف، أغلب الرجال لا يزالون يشعرون بالخزي ومتخفين في الزي الكاكي كأرانب يصعب تمييزها. والعجيب أن الجنود الإيطاليين يبدون في زيهم الرمادي والأخضر كالأرانب؛ تمامًا مثلما يبدو جنودنا كالكلاب وهم يرتدون زيهم الكاكي ذا اللون الرملي. يبدون وكأنهم يتصارعون بحقارة وخزي على الأرض. أعيدوا إلينا الزي القِرمِزي والذهبي، وليكن ما يكون.

•••

أخذ المشهد تتبدل ملامحه بالفعل. تميل منحدرات التلال بشدة. وثمة رجلٌ يحرث الأرض بزوجين صغيرين من الماشية على منحدر وعر تتدلى عليه الأشجار، ولا تختلف حدة انحداره عن انحدار سقف منزلٍ. ينحني الرجل بجسده على المحراث الخشبي الصغير، ويشق سريعًا خطوط الحراثة في الأرض. ترفع الثيران أنوفها إلى السماء بحركة غريبة متضرعة تشبه حركة الثعابين، ثم تخطو خطوات صغيرة للغاية بأقدامها الضعيفة، وتتحرك بميلٍ فوق المنحدر، بين الصخور وجذور الأشجار. وبينما يشق الرجل خطوط الحرث، تخطو الثيران خطواتٍ صغيرة ضعيفة مرتجفة، ثم تُرجِع قرونها مرة أخرى إلى الخلف وترفع خَطْمها إلى السماء بحركة ثعبانية. ثم يضع الرجل محراثه الخشبي عند تجويف آخر في الأرض. من المدهش أن ترى كيف تتشبث على ذلك المنحدر الحاد الوعر. مثل هذا المشهد قد تجحظ له عينا أي فلاح إنجليزي.

ثمة جدولٌ مائي، هو في الواقع مجرًى مائي طويل يشبه الشلال ويصب في وادٍ ضيقٍ عميق، وينفتح قاع الجدول قليلًا، فيكشف عن مجموعةٍ رائعة من أشجار الحور العارية من الأوراق بعيدًا. تبدو كالأشباح. وتعكس في ظل الوادي، ضوءًا ضعيفًا يكاد يكون وامضًا بجانب جدول الماء. وإن لم يكن وامضًا، فهو وهاج: وهج رمادي وذهبي شاحب ينبعث من أغصان عارية وعدد لا يُحصَى من الغصينات التي لها لمعانٌ خافت وتبرق على نحو عجيب. لو كنت رسامًا لرسمتها؛ لأنها تبدو كما لو أن لها جسدًا حيًّا نابضًا. والظلال تحيط بها.

شجرة أخرى عارية كنت أود أن أرسمها هي شجرة تين لامعة بلونٍ فِضي مائل للبنفسَجي الفاتح، يلمع وهجها الخافت، وتتشابك أغصانها، مثل كائن رقيق خرج من صخرة. إن شجرة تين متجلية ببريقها الطبيعي على أرض الشتاء المعتمة هو منظر يستحق المشاهدة. مثل شقائق النعمان البيضاء المتشابكة. آهٍ، لو أنها تستطيع الرد عليَّ! أو لو أننا نملك سبيلًا للحوار مع الشجر!

•••

صحيح أن جوانب الوادي المنحدرة أصبحت أوديةً عميقة خانقة، وبها أشجار. لكنها ليست غابات كما كنت أتخيل، بل مجرد أشجار بلوط رمادية صغيرة ومتناثرة، وبعض أشجار الكستناء الرشيقة. كانت أشجار الكستناء بفروعها الطويلة، وأشجار البلوط بأغصانها المكتنزة، متناثرة على جوانب التل المنحدرة وتبرز حولها الصخور. يدور القطار برعونة صاعدًا لأعلى. ثم يندفع فجأة فوق جسرٍ ويدخل محطة غير متوقعة على الإطلاق. علاوة على ذلك، تهافت الرجال على الدخول إلى القطار؛ فقد كان يربط بين المحطة والسكة الحديدية الرئيسية حافلةٌ كبيرة لنقل الركاب.

اقتحام مفاجئ من الرجال … ربما كانوا عمالًا بالمناجم أو عمالًا بسطاء أو مزارعين. يحمل كل واحدٍ منهم حقيبة ضخمة؛ حقائب قماشية رائعة بزهور وردية اللون منثورة على الأجزاء الداكنة. رجلٌ عجوز يرتدي ثيابًا بيضاء وسوداء، لكنها متسخة للغاية ومهترئة. أما الآخرون فيرتدون سراويل ضيقة لونها بني مائل إلى الحمرة وصُدرية بأكمام. وبعضهم يرتدي رداء طويلًا من جلد الغنم، لكن جميعهم يرتدي الطاقية الطويلة الشبيهة بالجورب. ويا لرائحتهم! تنبعث منهم رائحة الأغنام وعرق الرجال. فتملأ العربة رائحة نتنة.

يتجاذبون أطراف الحديث ويمتلئون نشاطًا. لهم وجوه ماكرة كوجوهٍ في العصور الوسطى، لا يغادرون حصونهم أبدًا لدقيقة واحدة، تمامًا مثلما يمتنع حيوان الغرير أو الظَّرِبان عن مغادرة حصنه. تغيب عنهم مظاهر الود والبساطة المتمدنة. يعرف كل رجل أنه لا بد أن يحمي نفسه ومِلكه؛ كل رجل يعرف أن الخطر ليس بعيدًا عنه. لم يأتهم قطُّ نبأ المسيح ما بعد عصر النهضة. وهو أمر مذهل.

لا يبدو عليهم الارتياب والقلق. بل على النقيض، لهم حضور صاخب طاغٍ قوي. لكن لا يحملون ذلك الاعتقاد المضمر بأن الجميع سوف يحسنون التعامل معهم أو من المفترض أن يفعلوا ذلك، وتلك هي سِمة عصرنا. فهم لا يتوقعون أن يُحسن الناس إليهم؛ ولا يريدون ذلك. يذكِّرونني بكلابٍ شبه برية بإمكانها أن تحب وتطيع، لكن لا يمكن السيطرة عليها. لن تسمح بأن تُمسَّد رءوسُها. ولا يمكن التربيت عليها. وبإمكان المرء أن يسمع زمجرة تغلب الشراسة عليها.

يرتدون الطواقي الطويلة الشبيهة بالجوارب كشيء أشبه بالعُرف، مثلما تُظهِر السحالي عُرفها في وقت التزاوج. يحركونها دائمًا، ويثبتونها على رءوسهم. شاب بَدين له عيون بُنية ماكرة، ولحية نابِتة تغطي وجهه، يطوي طاقيته الشبيهة بالجورب ثلاث طيات، حتى تعلو حاجبه فتبدو أنيقة ويبدو وسيمًا. يغطي الشاب أذنه اليسرى بطاقيته. وثمة رجل آخر وسيم ذو فكٍّ به أسنان ضخمة يدفع طاقيته إلى الوراء ويدعها تتدلى إلى الأسفل على ظهره. ثم يغير وضعها لتصبح متدلية إلى الأمام على أنفه، ثم يُخرج منها طرفين بارزين، كأذني الثعلب، أعلى صدغيه. يبدو مدهشًا عدد الأشكال التي يمكن أن تتشكل بها تلك الطواقي. يقولون إن أولئك الذين وُلدوا من أجل تلك الطواقي، هم وحدهم من يستطيعون ارتداءها. فهي تبدو تمامًا كحقيبة طويلة من قماش قطني أسود يبلغ طولها مترًا واحدًا تقريبًا.

يأتي المحصل ليقطع تذاكر لهم. فيُخرج جميعهم لفاتٍ من نقودٍ ورقية. حتى الرجل الجَرِب الذي يشبه الفأر الذي يجلس في الجهة المقابلة لي كان يحمل رزمة من العملات الورقية من فئة الفرنكات العشرة. يبدو أن لا أحد يخلو جيبه من مائة فرنك في أيامنا هذه؛ لا أحد.

تتعالى أصواتهم ويتجادلون مع المحصل. يعيشون حياة قاسية؛ لكنها قسوة مبالغ فيها! تجد الرجل الوسيم صُدريته مفتوحة، وقميصه قد حُلَّت أزراره. إذا لم تدقق النظر، يبدو لك وكأنه يرتدي قميصًا داخليًّا أسود. ثم فجأة، يتبين لك أن هذا شعر صدره. إن جسده مغطًّى بشعر أسود كالح السواد داخل قميصه، كأنه ماعز أسود.

لكن ثمة فجوة واسعة بينك وبينهم. فهم ليس لديهم أي فكرة عن آلامنا ومشاعرنا بوجهٍ عام. كل منهم متقوقع حول نفسه ومكتفٍ بحاله، مثله كمثل الحيوانات البرية. يراقبون، ويرون أشياء أخرى، أشياء ليسخروا منها أو ليسيئوا الظن بها أو ليتشمموها بفضول. لكن وصية «أحبب جارك كما تحب نفسك» لم تتوغل في أعماقهم، بل لم تخطر لهم على بال. ربما يحبون جيرانهم حبًّا شديدًا قاتمًا لا شك فيه. لكنه حبٌّ من المحتمل أن يختفي بغتة. لم يستحوذ عليهم الافتتان بغيرهم. جيرانهم هم مجرد غرباء. وحياتهم تدور حول مركزٍ واحد، متقوقعة حول نفسها، ولا تُقبِل على الآخرين ولا على الجنس البشري. يستشعر المرء لأول مرة الحياة الحقيقية القديمة للعصور الوسطى المنغلقة على نفسها التي لا تبدي اهتمامًا بالعالم الخارجي.

هكذا يتفرقون في كل ناحية على المقاعد، يلعبون، يصيحون، يَغُطُّون في النوم، يثبتون طواقيهم الطويلة؛ ويبصقون. من المدهش أنهم في هذا الوقت من اليوم لا يزالون يرتدون طواقيهم كجزء من ذواتهم لا يمكن الاستغناء عنه. إنها دليلٌ على العناد والإصرار الشديد. فلن تغزوهم الأفكار التي يتبناها العالم. ولن ينساقوا وراء الملابس التي يألفها العالم. فهم غلاظ، شِداد، أقوياء الإرادة، يستمسكون بغبائهم الأعمى الفظ ويتركون العالم الكبير يشق طريقه إلى جحيمه ذي الفكر المستنير. أما جحيمهم فهو لهم وحدهم، ويفضلونه مظلمًا.

ليس بوسع المرء إلا أن يتساءل عما إذا كانت سردينيا ستقاوم طَوال الدهر. هل ستقتحمهم آخر موجات التنوير ووحدة العالم وتجرف طواقيهم التي تشبه الجوارب؟ أم أن حركة المد التنويري ووحدة العالم ستكون قد انحسرت سريعًا بما يكفي؟

حتمًا سيظهر رد فعل، بعيدًا عن الشمولية البائدة وعن الكوزموبوليتية والدولية. وفي الوقت نفسه، تستجيب روسيا، بشيوعيتها الدولية، استجابة عنيفة للغاية بعيدًا عن أي احتكاك آخر، فتعود، منغلقةً على نفسها، إلى كيان روسي شرس يستحيل الاقتراب منه. أي حركة ستنتصر؟ الحركة الدولية للعمال، أم حركة الجذب المركزية نحو الانعزال القومي؟ هل سنلتحم في ائتلاف بروليتاري محايد؟ أم سنرتد إلى مجتمعات منعزلة ومنفصلة ومتمردة بطريقة أو بأخرى؟

الكفَّتان راجحتان. إن الحركة الدولية لطبقة العمال ستضع حدًّا في النهاية للتيار المنجرف نحو الكوزموبوليتية والاندماج العالمي، وفجأة وفي لمح البصر سوف يلوذ العالم إلى تقسيماتٍ قاسية. وسوف يحدث ذلك عندما تستجيب أمريكا — ذلك الكيان المُغالي في الوحدة العالمية والاندماج العالمي — بأنانية عنيفة، أنانية هندية أمريكية أصلية. ونحن يقينًا على أعتاب إمبراطورية أمريكية.

بالنسبة لي، فأنا سعيد. سعيد بأن عهد الحب والوحدة قد ولَّى: وحدة العالم المتجانس البغيضة. سعيد بأن روسيا ستلوذ سريعًا إلى الكيان الروسي البربري، المنفصل، المنغلق على ذاته بوحشية. سعيد بأن أمريكا تحذو الحذو نفسه. وسأصبح سعيدًا عندما يبغض الناس الملابس المشتركة التي تشبه ملابس سائر العالم، عندما يمزقونها إرْبًا ويُلْبِسون أنفسهم في حماسٍ شديد ما يميزهم عن باقي العالم، يميزهم بقوة عن باقي العالم الزاحف؛ عندما تطيح أمريكا بالقبعات وبالياقات وأربطة العنق في طي النسيان، وتبدأ في الاعتياد على زيها القومي؛ عندما يُصدر الرجال رد فعلٍ عنيف ضد أن يبدو الجميع بمظهر واحد وكينونة واحدة، وينتمون إلى عشيرة نابضة بالحياة أو يستمسكون بصفاتٍ مميزةٍ لوطنهم.

ولَّى عهد الحب والوحدة. يجب أن ينتهي عهد العالم المتماثل. ويبدأ مدٌّ آخر. سوف يُلبِس الرجال أحدهم الآخر قلنسوات، وسيناضلون من أجل الانقسام والتميُّز الواضح. ولَّى يوم السلام والوحدة، وصار الآن يوم النضال الجليل من أجل التنوع والاختلاف. فليمضِ اليوم سريعًا، وينقذنا من التماثل البروليتاري وتشابه الجميع في الزي الكاكي.

أحب الرجال الأفظاظ من جبل سردينيا الذين لا يُقهرون؛ لطواقيهم الطويلة التي تشبه الجوارب وغبائهم الحيواني الواضح. ليت الموجة الأخيرة من صبغ الجميع بمظهرٍ واحد لا تزيل عنهم تلك الطواقي التي تشبه الأعراف المذهلة.

•••

نتقدَّم الآن بصعوبة بالغة بين النتوءات الصخرية لجبل جينارجينتو. ليس هناك قمة واحدة … لا يوجد مثيل لإتنا سردينيا. يحافظ القطار، مثله كمثل المحراث، على توازنه فوق الجوانب شديدة الانحدار للنتوءات الصخرية للتلال، ويتعرج ويدور. تكسو المنحدرات الحادة من أعلاها لأسفلها أشجارٌ وارفة. هذه هي غابات جينارجينتو. لكنها في نظري ليست غابات بالمعنى الحرفي للكلمة. فهي قلة من أشجار البلوط والكستناء وأشجار السنديان متناثرة فوق المنحدرات الحادة. وأشجار السنديان الفليني! ألمح أشجارًا عجيبة رفيعة تشبه أشجار البلوط لكنها تبدو عارية تمامًا من تحت الأغصان، وتقف منتصبة بلونها البني المائل إلى الحمرة، وهي مميزة على نحو غريب وسط اللون الرمادي الشاحب الضارب إلى الزرقة للأشجار الأخرى. تذكرني، مرارًا وتكرارًا، بالسكان الأصليين العراة للبحار الجنوبية، المتقدين حماسة، ذوي البشرة الداكنة كلونِ القهوة. تتسم بنعومتها الواضحة، ولونها البني الضارب إلى الحمرة كلون الهمج العراة. وتلك هي أشجار السنديان الفليني العارية. بعضها عارية تمامًا، وبعضها عارية جزئيًّا. بعضها ذات جذع عارٍ تمامًا أحمر اللون وكذلك جزء كبير من فروعها السفلية، وبعضها لا يتعرى سوى جزء بسيط من جذعها.

•••

مضى وقت طويل بعد الظهر. يجلس خلفي قرويٌّ يرتدي ثوبًا أسود وأبيض، وزوجته الشابة الحسناء في ثوبها الأحمر الوردي، ومئزرٍ بهيج مُطرَّز بلون أخضر كخضار العشب، وسُترة أرجوانية داكنة صغيرة ترتديها فوق صِدار كامل أبيض اللون، يتحدثان. أما القرويون من العمال فيستسلمون إلى النوم. صرنا في وقت العصر تحديدًا، وكنا قد أكلنا اللحم منذ وقتٍ طويل. والآن نأتي على الرغيف الأبيض — الهدية — والشاي. عندما تطلعنا فجأة من النافذة، رأينا كتلة جبل جينارجينتو خلفنا، كانت قمة يكسوها ثلج كثيف، تبدو خلابة خلف النتوءات الصخرية الحادة والطويلة التي نحن عالقون بينها. افتقدنا الكتلة الجبلية البيضاء لمدة نصف ساعة؛ ثم فجأة ظهرت أمامنا تقريبًا على نحوٍ غير متوقع القمةُ المهيبة التي زادها الثلج علوًّا.

كم بدا هذا الجبل مختلفًا عن إتنا، تلك الأعجوبة الوحيدة التي التفَّت حولها الأنظار في صقلية! هذا الجبل أقرب ما يكون إلى الإنسان وأسهل كثيرًا في تحديد ملامحه، إذ إن له صدرًا قويًّا وأطرافًا ضخمة، وبنية جبلية قوية. إنه يشبه القرويين في هيئتهم.

•••

تقع المحطات على مسافات متباعدة، فتستغرق المسافة بين المحطة والأخرى ساعة كاملة. آهٍ آه، كم تُنهِك المرءَ تلك الرحلات؛ إذ تستغرق وقتًا طويلًا. ننظر عبر الوادي القريب. لكن للأسف، ليس لهذا القطار الصغير أجنحة، ولا يستطيع القفز. هكذا ينعطف القضيب عائدًا إلى الخلف أكثر فأكثر صوب جينارجينتو، ذلك الطريق الصخري الطويل، إلى أن وصل أخيرًا إلى رأس الوادي المقفر. ولف حولها بصخب، ثم انطلق بسرور إلى أسفل على مساره من جديد. ثمة رجل كان ينظر إلينا ونحن نلف وندور بالقطار، نزل وعَبَر الوادي في خمس دقائق.

يرتدي جميع القرويين تقريبًا ثيابهم التقليدية في تلك اللحظة، حتى النساء في الحقول؛ الحقول الصغيرة في الأودية الآهلة جزئيًّا بالسكان. إن أودية جينارجينتو معمورة جزئيًّا، أكثر من الأراضي السبخة في أقصى الجنوب.

تجاوزت الساعة الثالثة، والأجواء باردة في الأماكن التي تغيب عنها الشمس. وأخيرًا لم يتبقَّ غير محطة واحدة أخرى قبل أن نصل إلى المحطة الأخيرة. وهنا يستيقظ القرويون، ويعلقون حقائبهم المنتفخة على أكتافهم، ثم ينزلون. نلمح تونارا بعيدًا في الأعلى. نرى رفيقنا القروي العجوز في ثيابه البيضاء والسوداء المتسخة ترحب به سيدتان كانتا قد جاءتا مع فرسٍ صغير للقائه … كانتا ابنتين أنيقتين في ثياب بلونٍ وردي وأخضر زاهيين. شرع الرجال القرويون في ثيابهم البيضاء والسوداء، وآخرون في ثياب بلون بني داكن وسراويل ضيقة مزمومة أسفل الركبة ملتصقة على أفخاذهم الصغيرة، وكذلك النساء في ثيابهم الوردية والبيضاء، والخيول الصغيرة التي تحمل حقائب تشبه السرج، في التقدم ببطء نحو أعلى طريق التل راسمين لوحة بديعة قاصدين قرية تونارا البعيدة المشمسة، كانت قرية كبيرة مشمسة مثل قدس جديدة.

•••

يتركنا القطار كالعادة واقفين، ثم يتحرك في بطءٍ مع عربات الشحن … نسمع خرير الماء في الوادي: توجد أكوام من الفلين في المحطة، وأخرى من الفحم. فتاة بلهاء ترتدي تنورة طويلة واسعة مصنوعة بالكامل من رُقع ملونة كانت تلوي وجهها. كانت صُدرتها الصغيرة تبدو قديمة بدرجة لا تصدق، وتُظهِر آثارًا باهتة على أنها كانت في يومٍ من الأيام مقصَّبة بلونٍ أرجواني وأسود فاتنين. الوادي والمنحدرات الحادة مكشوفة أمامنا. وثمة راعي غنمٍ عجوز يسير بقطيعٍ جميل من خِراف المارينو الرقيقة.

وأخيرًا تحركنا. قد نصل إلى هناك في غضون ساعة. بينما كنا نسافر بين المنحدرات المكسوة بالأشجار، والكثير من أشجار الفلين بلونها البني، يصادفنا قطيع من الخراف. يتطلع قرويان في العربة معنا إلى الخارج، ويطلقون صرخاتٍ لا مثيل لها في غرابتها وتكلُّفها وجلجلتها، إذ لا يمكن أن تصدر أبدًا من أي كائن طبيعي. لكن الخراف تفهم، فتتفرق. وبعد عشر دقائق تنطلق الصرخات مرة أخرى موجهة نحو ثلاث بقرات صغيرة. لا أعرف إن كان هؤلاء القرويون يفعلون ذلك بدافع الخير فحسب. لكنها أغرب وأعجب صيحات همجية سمعتها في حياتي.

•••

إنه عصر يوم السبت والساعة صارت الرابعة. تبدو البلدة مقفرة ومهجورة، أما القطار فكان خاليًا تقريبًا، لكن ينتشر في الأجواء شعورٌ بأخذ هُدنة من العمل. يا لها من منحدرات ملتوية مشجَّرة! ويا لمنظر جينارجينتو! ويا لأشجار الفلين العارية الداكنة! ويا لرائحة القرويين! ويا لعربات السكة الحديدية الخشبية المُرهقة، كم ضقنا بك ذرعًا! قضينا حوالي سبع ساعات في هذه الرحلة؛ وقطعنا مسافة ستين ميلًا.

لكننا أوشكنا على الوصول … ها هي، ها هي سورجونو مستكينة في جمالٍ بين المنحدرات المشجَّرة أمامنا. يا لسحر هذه المدينة الصغيرة! أنتِ المدينة الأخيرة والمركز الذي يفيض حيوية على الطرق الداخلية، نأمل أن نجد فيك نُزلًا مريحًا وصحبة سعيدة. ربما سنقضي يومًا أو يومين في سورجونو.

يُطلق القطار نفثةً أخيرة، ويقترب من الوقوف الأخير له في المحطة النهائية الصغيرة. سألني رجلٌ عجوز ترفرف ثيابه الرثة في الهواء، إذا كنت أريد نُزلًا. أجبته بالموافقة وتركته يحمل حقيبتي. سورجونو الجميلة! بينما كنا ننزل إلى الزقاق القصير الموحل بين الأسْوِجة الشجرية، متجهين إلى الطريق الرئيسي للقرية، خُيِّل إلينا تقريبًا أننا قد وصلنا إلى بلدة صغيرة في الريف الغربي الإنجليزي، أو في بلدة هاردي. كانت هناك مساحات شاسعة من أشجار البلوط الصغيرة، ومنحدرات كبيرة زاخرة بأشجار البلوط، وعلى اليمين يُسمع أزيز مِنشرةٍ، وعلى اليسار مدينة بيضاء قريبة قابعة وراء برج كنيسة على الطراز الباروكي. وكان الزقاق الصغير موحلًا.

ثلاث دقائق من السير أوصلتنا إلى الطريق الرئيسي، وكان هناك مبنى كبير بلا نوافذ مطلي باللون الوردي الفاتح على الشارع المواجه لزقاق المحطة، ومعلقة عليه لافتة بحروف ضخمة: RISTORANTE RISVEGLIO (ريستورانتي ريسفيليو): كان حرف N فيها معكوسًا. وكلمة ريسفيليو تعني الاستيقاظ أو النهوض من النوم، مثل كلمة «reveille». اندفع الرجل داخلًا إلى ريسفيليو. فقلتُ: «لحظة واحدة.» ثم سألت: «أين نُزُل ألبرجو دي إيطاليا؟» كنت أعتمد على كتاب إرشاد سياحي.

أجاب صاحب الثياب الرثة بالإيطالية: «لم يعد موجودًا.» إن هذه الإجابة التي صارت تتردد بكثرة هذه الأيام هي دائمًا أكثر إجابة مزعجة.

– «حسنًا إذن، ما الأنزال الأخرى المتاحة؟»

– «لا يوجد أي نُزُل آخر.»

إما ريسفيليو أو لا يوجد نُزُل آخر. ها نحن ندخل. دخلنا إلى مشرب كبير وكئيب، حيث يوجد عدد لا حصر له من الزجاجات خلف طاولة من القصدير. يصيح الرجل ذو الثياب الرثة؛ وبعد فترة طويلة يظهر صاحب النزل، رجلٌ شاب له هيئة تشبه رجال الإسكيمو، لكنه أضخم قليلًا، يرتدي بِذلة سوداء مقبضة وصِدارًا بذيل وكأنه سُترة عشاء، وعلى قميصه من الأمام عدد لا حصر له من بقع النبيذ. كرهته في الحال من مظهره القذر الذي ظهر به. كان يرتدي قبعة مهترئة وله وجه لم يُغسل منذ فترة طويلة.

– «هل هناك أي غرفة متوفرة؟»

– «أجل.»

ثم قادنا إلى آخر الممر الذي لا يقل اتساخًا عن الطريق في الخارج، وصعِد الدرج الخشبي الأجوف الذي كانت نظافته لا تختلف عن نظافة الممر، ومنه إلى الممر الأجوف المتسخ الذي يأخذ شكلًا مقعرًا من الخلف، ثم إلى غرفة النوم. حسنًا، كان في تلك المساحة الخاوية المتسخة بالغرفة فراشٌ كبير، عليه لحاف أبيض ورمادي منبسط، يشبه مقبرة كبيرة متواضعة عليها لوح رخامي؛ وكذلك كرسيٌّ واحد متداعٍ تقف عليه شمعة لم أرَ في هزالتها مثيلًا؛ وحوض غسيل مكسور معلق على حلقة من السلك؛ أما بالنسبة لباقي الغرفة، فثمة مساحة ذات أرضية خشبية لونها أسود رمادي متسخ للغاية، وكذلك جدار قذر مغطى بدماء قتل البعوض. كانت النافذة على مسافة قدمين أعلى مستوى ساحة إسطبل بالخارج، وبجوار الإسطبل حظيرة دجاج بجانب إطار النافذة تحديدًا. ويتطاير عند النافذة بعض الريش والقش القذر، وكانت الأرض مليئة بفضلات الدجاج. وعلى الجهة المقابلة وقف حمارٌ وثوران يأكلن التبن في أريحية داخل حظيرة مفتوحة، ويتمدد في وسط الساحة خنزيرٌ أسود كث الشعر يحظى بآخر ما تبقى من أشعة الشمس. كانت الروائح متنوعة بالطبع.

أنزلت حقيبة الظهر وحقيبة المطبخ المتنقل على الأرضية المقززة التي كرهت حتى أن ألمسها بحذائي. قَلَبتُ أغطية الفراش ونظرت إلى البقع التي خلَّفها الآخرون.

– «أهناك شيء آخر؟»

قال الرجل ذو الجبين المنخفض المغطى بالشعر المسترسل، والقميص المقزز صدره: «لا يوجد». ثم انصرف متجهمًا. أعطيت الرجل ذا الثياب الرثة إكراميته فحنى رأسه هو الآخر وولى مسرعًا. ثم أخذنا أنا وملكة النحل نتنشَّق الهواء من حولنا.

قلتُ: «يا له من وغد قذر ومقزز!» فقد كنت غاضبًا.

أظن أنه كان بوسعي أن أغفر له أي شيء، ما عدا منظر منطقة الصدر البشعة في قميصه، ووقاحته.

قمنا بجولةٍ … فرأينا غرف نومٍ أخرى مختلفة، بعضها أسوأ حالًا، وواحدة كانت حقًّا أفضل حالًا. لكنها كانت تبدو مشغولة. كانت الأبواب كلها مفتوحة، والمكان كان مهجورًا تمامًا، ومفتوحًا على الطريق. الشيء الوحيد الذي بدا قاطعًا كان الأمانة. لا بد أنه مكان كل من فيه يتحلى بالأمانة، إذ كان بوسع أي كائنٍ، سواء أكان رجلًا أم حيوانًا، أن يدخل بلا هدفٍ بعينه ولا يعيره أحدٌ أدنى قدر من الاهتمام.

وهكذا نزلنا. كان المكان الآخر الوحيد الذي يمكننا الذهاب إليه هو المشرب العام المفتوح الذي بدا وكأنه جزء من الطريق. كان ثمة سائقٌ للبغال، ترك بغاله على ناصية ريسفيليو، ويشرب عند الطاولة.

•••

كان هذا النُّزل المشهور في آخر القرية. سرنا في الطريق الممتد بين المنازل، عند سفح التل. يا له من مكانٍ كئيب! إنها قرية باردة مملة قذرة نوعًا ما، تفتقر إلى الحياة وليس بها ما يميزها. لا توجد متاجر حقيقية على الإطلاق. هناك كنيسة متداعية، ومجموعة منازل بائسة. تمشينا في القرية. في المنتصف كان هناك ما يشبه الساحة المفتوحة وبها حافلة ركاب كبيرة رمادية. أما سائق الحافلة فكان يبدو مرهقًا نوعًا ما.

– إلى أين تذهب هذه الحافلة؟

– تذهب إلى محطة السكة الحديدية الرئيسية.

– متى؟

– في الساعة السابعة والنصف صباحًا.

– فقط في هذا الوقت؟

– نعم، في هذا الوقت فقط.

قلتُ: «الحمد لله أننا سنتمكن من الخروج من هنا، على أي حال.»

واصلنا السير، وخرجنا إلى ما بعد القرية، لكننا لا نزال على الطريق الرئيسي المتحدر الذي أجريت عليه إصلاحات. لم يكن الطريق جيدًا بالقدر الكافي. إلى جانب ذلك، كنَّا قد ابتعدنا عن الشمس، ولأن المكان على ارتفاع لا يستهان به، كان الجو باردًا. لهذا رجعنا أدراجنا صاعدَين التل سريعًا لنقترب من أشعة الشمس.

•••

اتجهنا لأعلى وانعطفنا قليلًا وراء مجموعة المنازل البائسة ناحية زقاق صغير منحدر بين المنحدرات. وقبل أن ندرك أين نحن، كنَّا في قلب دورة مياه عامة. في تلك القرى، كما عرفت، لا تتوفر مرافق صحية من أي نوع مهما كان. وكل رجل وسيدة من القرية يتوجهان عند قضاء الحاجة إلى أحد الطرق الجانبية. فهذا تقليد إيطالي منذ قديم الزمان. ولمَ الانزعاج بشأن الخصوصية؟ وهم أكثر شعب مترابط اجتماعيًّا على وجه الأرض، فيحبون حتى أن يقضوا حاجتهم مجتمعين في صحبة.

وجدنا أنفسنا في قلب أحد أماكن قضاء الحاجة. لا بد لنا من الخروج من هنا مهما كلف الأمر! لهذا صعِدنا منحنيات حادة متجهَين إلى حقل في الأعلى مليء بالقش. وفي هذا الوقت، كنت أتأجج غضبًا.

•••

كان المساء يحل، والشمس آخذة في الغروب. تجمَّع أسفل منَّا تفاح السُّدوم لهذه القرية الحقيرة. حولنا كانت تلال ووديان جميلة ومكسوة بالأشجار، وقد اكتسبت لونًا مُزْرَقًّا بسبب ظلال الصقيع. الهواء قارس وقوي. وفي وقت وجيز ستغيب الشمس. كنَّا على ارتفاع ٢٥٠٠ قدم تقريبًا فوق سطح البحر.

لا أنكر أن المشهد كان خلابًا في وجود المنحدرات المكسوة بأشجار البلوط والإحساس بالحزن والوحدة وأجواء الغروب. لكني كنت غاضبًا لدرجة منعتني أن أعترف بذلك. تسلقنا لأعلى بجنون حتى نشعر بالدفء. وغربت الشمس في الحال، فألقي الظل الأزرق الثقيل علينا. وبدأ ينبعث من القرية دخان الحطب الأزرق، وصارت تبدو أشبه بالريف الغربي عند الغسق أكثر من أي وقتٍ مضى.

لكن كفانا ذلك … كان علينا أن نعود. أعلينا أن نتحمل ذلك الزقاق النَّتِن؟ مستحيل. كنت أتحرك بغضب شديد، مبالغ فيه نوعًا ما، لكن هكذا صار الحال، أنزلت ملكة النحل إلى منحدر في غابةٍ، ثم إلى حقل محروث، ثم إلى مسار عربة، وهكذا إلى أن وصلنا إلى الطريق الرئيسي الكبير فوق القرية وفوق النزل.

كان الجو باردًا، وغابت الشمس تمامًا وبدأ الظلام يخيم على الدنيا. أسفل الطريق الرئيسي، أقبل رجالٌ نصف عراة يمتطون الخيول، وجاءت أربع أبقار بعيون واسعة تنحدر إلى أسفل التل حول الزاوية، وثلاثة خراف مارينو جميلة ورقيقة كانت تحدق إلينا بعيونها الجاحظة الفضولية، وجاء رجل عجوز جدًّا يحمل بيده عصًا، وجاء قروي قوي الصدر يحمل عصًا خشبية طويلة، وجاءت تجلجل أجراسها مجموعةٌ شاردة من المَعز المبتهجة ذات الحركة الرشيقة والقرون الطويلة والشعر الطويل. حيَّانا كلٌّ منهم في تردد. وتوقف كل شيء عند ناصية ريسفيليو، بينما قد انتهى الرجال من رشف النبيذ.

انقضضت مرة أخرى على الرجل ذي الصدر المتسخ بالبقع.

– هل بإمكاني أن أحصل على حليب؟

– لا، ربما قد يتوفر حليب في غضون ساعة. وربما لا.

– هل هناك أي شيء لنأكله؟

– لا، في الساعة السابعة والنصف سيتوفر طعام لتأكله.

– هل توجد مدفأة؟

– لا … لم يشعل الرجل النار.

لا شيء لنفعله سوى أن نذهب إلى الغرفة القذرة أو نسير على الطريق الرئيسي. فاستدرنا إلى الطريق الرئيسي مرة أخرى. كانت الحيوانات تقف هنا وهناك على الطريق في الهواء القارس البرودة مطأطئة الرءوس في استسلام في انتظار الرجال حتى يفرغوا من الشراب في ذلك المشرب البشع … سِرنا على مهلٍ لأعلى التل. في حقلٍ على اليمين، تقدَّم قطيعٌ من خراف المارينو بصعوبة متسلقين الممرات الجبلية في حَيْد الطريق الوعْر، ومصدرة بأجراسها الصغيرة اللطيفة التي لا تعد ولا تحصى أصواتًا خافتة. على حين غرة، تحرك جسم في الحقل حسبته حقًّا في الظلام جمادًا. كان راعي غنم عجوزًا كهلًا يرتدي ثيابًا رثة لونها أبيض وأسود، والله وحده يعلم كم أمضى من الوقت ثابتًا تمامًا بلا حركة متكئًا على عصاه كتمثال من الحجارة هناك عند نهاية الحقل المفتوح. في تلك اللحظة تحرك حركة فجائية بطيئة ثم عرج وراء نعجته البائسة الفضولية. كان الخيط الأحمر يخبو من أقصى الغرب. وعند الزاوية، بينما كنا نتسلق ببطءٍ وإنهاك، كدنا أن نصطدم بثور رمادي وحيد كان ينزل التل بتأنٍّ كرجلٍ ذي شأن. عَدَل رأسه فجأة وانعطف مبتعدًا عنا.

وصلنا إلى مكانٍ استعصى علينا أن نتبيَّنه: ثم اتضح لنا أنه مخزن فلين. كانت في العتَمة أكوام كثيرة من لِحاء الفلين الذي كان يشبه جلود حيواناتٍ متغضنة.

قالت ملكة النحل بحزم: «سأرجع الآن»، ثم استدارت. كان آخر خيط أحمر يتوارى خلف التلال المهجورة المكسوة بالأشجار الرفيعة المميِّزة لهذه الأرض. وسحبٌ من دخان أزرق نصف مضيء تطفو فوق القرية المعتمة. ينعطف الطريق الرئيسي عند سفح التل من تحتنا شاحبًا مُزْرَقًّا.

كانت ملكة النحل حانقة من غضبي.

«لمَ أنت غاضب إلى هذه الدرجة؟ قد يظن أي شخص أن ذاتك الفاضلة قد أهينت! لمَ تأخذ الأمر وكأنه إهانة أخلاقية؟ أرعبَت الرجل في النُّزل بالطريقة التي كنت تتحدث بها معه وتستنكر بها! لمَ لا تتعامل مع الأمور ببساطة؟ هذه هي الحياة.»

لكن عبثًا، كنت أشعر بغضبٍ شديد، أشد ما يكون. والله أعلم بسببه. لكن أظن السبب أن سورجونو قد بدت فاتنة لي عندما تخيلتُها قبل مجيئي إلى هنا. كم بدت رائعة! لو لم أتوقع أي شيء، لَمَا صُدمت هكذا. طوبى لمن لم يتوقع شيئًا حتى لا يخيب ظنه.

لعنتُ السكان الأصليين المنحطين، وصاحب النُّزل ذا الصدر المتسخ الذي «تجرأ» بأن يُبقي على مثل هذا النُّزل القذر، وأهل القرية المنحطين الذين بلغت بهم الوضاعة أن يقرفصوا ليقضوا قذارتهم الإنسانية بهمجية في هذا الوادي أعلى التل. وكل التقدير والثناء إلى أصحاب الطواقي الطويلة … هل تذكرهم؟ لم أعد أتحدث عنهم. لعنتهم جميعًا، وملكة النحل لكونها امرأة تتدخل فيما لا يعنيها.

•••

في المشرب ثمة شمعة ينبعث منها ضوءٌ خافت … ورجالٌ متعبون كئيبون كانوا يشربون النبيذ بمناسبة عودتهم إلى المنزل يوم السبت مساءً. أما الماشية فكانت مستلقية على الطريق في الهواء البارد كما لو أنها فقدت الأمل.

– هل وصل الحليب؟

– لا.

– متي سيصل؟

لم يعرف.

– حسنًا، ماذا علينا أن نفعل؟ ألا يتوفر أي مكان؟ أليس هناك أي مكان لنجلس فيه؟

– بلى، توفَّرت غرفة في تلك اللحظة.

«في تلك اللحظة!» أخذ الشمعة الوحيدة وترك الرجال يشربون نبيذهم في الظلام، وقادنا نحو الغرفة، عبر ممر ترابي مظلم وعر، فوق أحجار مفككة وألواح خشبية مبعثرة، كما لو كنا تحت الأرض.

الغرفة كان يغشاها سواد حالك! … لكن فجأة رأيتُ نارًا مهيبة تشتعل من جذر شجرة بلوط، فكانت نارًا مذهلة متقدة محتدمة، فتبدد غضبي في تلك اللحظة.

ترَكَنا صاحبُ النُّزل عند الباب آخذًا الشمعة. كانت الغرفة يسودها ظلام دامس لولا ألسنة اللهب الجديدة، التي بدت كزهورٍ نضرة، تشتعل في المدفأة. رأينا الغرفة في ضوء النار. كانت أشبه بزنزانة تحت الأرض، خاوية تمامًا، أرضيتها ترابية غير مستوية، وجدرانها عالية عارية تمامًا من أي زخارف، كانت غرفة كئيبة ذات نافذة علوية عرضها عرض الكف. لم يكن بها أي أثاث على الإطلاق، عدا مصطبة خشبية صغيرة أمام المدفأة كانت بارتفاع قدم، وعدة حصائر تبدو أنها نُسجت في المنزل، كانت ملفوفة ومستندة إلى الحائط. وكذلك كرسي أمام المدفأة معلق عليه مناديل طاولة مبللة. فيما عدا هذا، كانت الغرفة عبارة عن زنزانة مظلمة وخاوية.

لكنها كانت جافة تمامًا، وبها مدخنة مفتوحة، ونيران وليدة تندفع كشلالٍ من بين جذور أشجار البلوط الجافة المتكومة. أسرعت بوضع الكرسي وأزحت المناديل المبللة، التي تشبه الكَفَن، إلى أحد الجوانب. جلسنا جنبًا إلى جنبٍ في الظلام على المصطبة المنخفضة أمام هذه النار المحتدمة المُضرَمة، وأمام فتحة المدخنة المفتوحة، ولم نعد نلقي بالًا للزنزانة والظلام. يمكن للمرء أن يعيش دون طعام، لكنه يعجز أن يعيش دون نار. إنه قول إيطالي مأثور. ها قد وجدنا النار وكأننا اكتشفنا ذهبًا جديدًا. جلسنا جنبًا إلى جنب على المصطبة المنخفضة أمامها، لكن بعيدًا عنها قليلًا، وقدمانا على الأرضية الترابية غير المستوية، وشعرنا بألسنة اللهب تتصاعد إلى أعلى فتشيع الدفء في المكان، وكأننا نغتسل في غدير رائع من النيران. سامحت صاحب النُّزل ذا الصدر المتسخ على كل شيء وكنت سعيدًا وكأنني دخلت مملكةً.

جلسنا وحدنا لنصف ساعة نبتسم أمام ألسنة اللهب، ونغسل وجوهنا بالضوء المشع. من وقت لآخر، كنت أستشعر وقع أقدام في الممر الخارجي الذي يشبه النفق، وكذلك كنت أنتبه لأشخاص يختلسون النظر إلينا. لكن أحدًا لم يدخل. أحسستُ أيضًا بتصاعد بخارٍ خفيف من مناديل المائدة البشعة التي كانت واحدة من الأشياء القليلة التي شغلت الغرفة.

•••

دخلت شمعةٌ مرتجفة ورجلٌ كهل مُلتحٍ بدا عليه الارتباك كان يرتدي سروالًا ذهبي اللون من القطيفة المضلعة، ويحمل شيئًا عجيبًا على رُمحٍ طويل للغاية. وضع الشمعة على رف المدفأة وقرفص جانب النار وأخذ يرتِّب جذور شجر البلوط. كان يحدق في النار بنظرة غريبة وثابتة. ثم رفع ذلك الشيء على الرُّمح أمام وجوهنا.

كان هذا الشيء جَدْيًا صغيرًا جاء به الرجل لشوائه. لكنه كان مفتوحًا حتى أصبح مسطحًا تمامًا، وثُبِّت على الرمح وكأنه مِروحة مسطحة على عصًا حديدية طويلة. كان منظرًا غريبًا حقًّا. ولا بد أنه تطلب جهدًا كبيرًا. كان الجَدْي المسلوخ بأكمله على الرمح، فكان رأسه ملويًّا على أحد الكتفين، بما في ذلك الأذنان القصيرتان، والعينان، والأسنان، وقليل من شعر الأنف؛ أما الرجلان الأماميتان فكانتا ملفوفتين بطريقة عجيبة، فكان أشبه بحيوانٍ يضع قدميه الأماميتين فوق رأسه المنحني؛ وأما الرجلان الخلفيتان فكانتا ملويتين لأعلى بشكل يستحيل وصفه؛ كل هذا مثبت على نحو مسطح فوق السيخ الحديدي الطويل، وبذلك أخذ شكلًا مستويًا تمامًا. ذكرني بشدة بالحيوانات الممسوخة التي تشبه الكلاب، ذات الأطراف الرفيعة، المصورة على حُلى اللومبارديين القدامى، فكانت ممسوخة وملتفة على نفسها بشكلٍ مثير للعجب. تحمل الزخارف الكلتية أيضًا تلك الكائنات الممسوخة الملتفة.

بينما كان الرجل العجوز يجهز النار، لوَّح بالجدي المفرود كما لو كان يلوِّح براية صغيرة. ثم في أحد جوانب جدار المدفأة دس طرف الرمح. وجلس مقرفصًا في الناحية الأخرى من المدفأة، ممسكًا الطرف الآخر من الرمح الحديدي الطويل. ومن ثم أصبح الجدي ممددًا أمام النار، وكأنه حاجز للنار. وكان بإمكان الرجل أن يقلبه متى شاء.

لكن لم تكن الفتحة التي أدخل فيها طرف الرمح جيدة بما فيه الكفاية. فظل طرف الرمح ينزلق، حتى سقط الجدي على النار. وظل الرجل يهمهم لنفسه، ثم شرع في محاولة أخرى لرفعه عن النار. وبعد فترة طويلة رفع الرمح، بينما كان يأتي بأحجار كبيرة من الركن المظلم. نظَّم تلك الأحجار حتى يتسنى للطرف الحديدي أن يستند إليها. ثم جلس بعيدًا على الجانب المقابل من المدفأة، يراقب ألسنة اللهب ولحم الجدي بوجه ثابت وعينين سوداوين وتركيز شديد، ويحمل طرف الرمح.

سألناه إذا كان الجدي هو طعام العشاء … فقال إنه كذلك. ستكون وجبة شهية! فأجاب بنعم، ثم نظر بانزعاج إلى ذرات الرماد على اللحم في الجزء الذي قد انزلق. إنها مدعاة للفخر ألا يلمس اللحم الرماد أبدًا. هل يشوون كل ما لديهم من لحمٍ بهذه الطريقة؟ فأجاب بأنهم يشوونه هكذا. وأليس من الصعب وضع لحم الجدي بهذه الطريقة على الرمح الحديدي؟ فقال إن وضعه لم يكن سهلًا، وتفحص المِفصل عن كثَب، ثم تحسس إحدى الرجلين الأماميتين، وتمتم بأنها ليست مثبَّتة بدقة.

غمغم بصوت خافت للغاية يصعب فهمه، وهو ينحي وجهه جانبًا، فلم يوجِّه كلامه إلينا مباشرةً أبدًا. لكن أسلوبه كان مهذبًا لطيفًا هادئًا يعكس طبيعته الحساسة. سألَنا من أين أتينا وإلى أين سنذهب، يتحدث طَوال الوقت بغمغمته الخافتة. وإلى أي بلد ننتمي، هل نحن فرنسيون؟ ثم استطرد في الحديث قائلًا بأن ثمة حربًا نشِبت … لكنه يظن أنها انتهت. نشبت حربٌ لأن النمساويين أرادوا الدخول إلى إيطاليا مرة أخرى. لكن الفرنسيين والإنجليز جاءوا لمساعدة إيطاليا. ارتحل كثير من أهل سردينيا إليها. لكن لعل الحرب وضعت أوزارها. اعتَقَد أنها انتهت … قُتل شباب من سورجونو. أمَّلَ أن تكون قد انتهت.

ثم رفع يده ليصل إلى الشمعة وأمعن النظر في لحم الجدي. كان واضحًا أنه شوَّاء بالفطرة. مَسَك الشمعة ونظر لوقتٍ طويل في جنب اللحم الذي يئز، كما لو كان يقرأ الطالع. ثم حمل سيخه إلى النار مرة أخرى. كان الأمر أشبه برجل من الزمان السحيق يشوي لنفسه وجبة. جلستُ وأنا أحمل الشمعة.

•••

ظهرت سيدة شابة تستمع إلى الأصوات. كان رأسها ملفوفًا بوشاحٍ طرفه يغطي فمها، وبذلك لم يظهر من وجهها سوى عينيها وأنفها. حسبت ملكة النحل أنها مؤكدًا تعاني من ألم في أسنانها … لكن السيدة ضحكت ونفت ذلك. والحقيقة أن هذه هي الطريقة التي يرتدي بها كلا الجنسين غطاءَ الرأس في سردينيا. فهو شيء أشبه بطريقة وضع العرب لغطاء الرأس. ويبدو أن الهدف من ذلك هو تغطية الفم والذقن بإحكام، وكذلك الأذنان والجبين، فلا يُترك مكشوفًا سوى الأنف والعينين. يقولون إن هذا يدرأ عنهم الملاريا. يلف الرجال الوشاح حول رءوسهم بالطريقة نفسها، ويبدو في رأيي أنهم يريدون إبقاء رءوسهم دافئة ومختفية وغامضة، حتى يشعروا بالأمان.

كانت ترتدي ثياب العمل؛ تنورة طويلة واسعة لونها بني داكن، وصُدرة بيضاء بالكامل، وصِدارًا صغيرًا أو مِشدًّا للخصر. وفي حالتها، لم يعد هذا الصدار الصغير سوى مجرد حزام مُجسَّم يشد شرائط دانتيل مبهجة تحت صدرها بدت كأوراق شجر طويلة منتصبة. كان جميلًا … لكنه كان متسخًا. كانت هي أيضًا جميلة، لكن أسلوبها كان وقحًا لا يسر بتاتًا. عبثت بالمناديل المبللة، وسألتنا أسئلة مختلفة، ثم وجهت حديثها بأسلوبٍ سخيف نوعًا ما إلى الرجل العجوز الذي لم يُجِب عليها بأي شكلٍ من الأشكال … ثم انصرفت مرة أخرى. إن النساء مدركات لذواتهن ويعبرن عنها بتكلف وخُيَلاء.

عندما انصرفتْ سألتُ العجوز إذا كانت ابنته. فأجاب نافيًا بجفاف، بنفس الصوت الخافت. قَدِمت هذه الفتاة من قرية على بُعد أميال. أما هو فلا علاقة له بالنُّزل. إنه، بقدر ما فهمت، ساعي البريد. لكني ربما قد أخطأت فهم الكلمة.

لكنه بدا مقتضبًا في حديثه وغير راغب في الحديث عن النُّزل والقائمين عليه. يبدو أن هناك شيئًا مريبًا. سألَنا مرة أخرى إلى أين سنذهب. وأخبرنا أن هناك حافلتين متوفرتين حاليًّا: هناك حافلة جديدة تسير فوق الجبال قاصدةً نوورو. ومن الأفضل كثيرًا الذهاب إلى نوورو بدلًا من أباسنتا. كان من الواضح أن نوورو هي المدينة التي تطل عليها تلك القرى، فكانت أشبه بالعاصمة.

•••

استمر شواء الجدي ببطء شديد، فاللحم لا يقترب أبدًا من النار. ومن وقتٍ لآخر، ينظم الشوَّاء جذور الأشجار المتأججة. ثم يُلقي مزيدًا من الجذور. كانت شديدة السخونة. ثم قَلَبَ السيخ الطويل، ولا أزال أنا أحمل الشمعة.

دخل آخرون المكان ليتطلعوا إلينا. لكنهم كانوا يسيرون خلفنا في الظلام، ولهذا استعصى عليَّ أن أتعرف عليهم بوضوح. تجولوا في الغرفة المظلمة كالزنزانة، وراقبونا. أقبل شخصٌ إلى الأمام … جندي شاب كان بدينًا، ممتلئ الجسم، يرتدي الزي الرسمي. أفسحت له مكانًا على المصطبة، لكنه أومأ بيديه معتذرًا عن دعوتي بالجلوس. ثم انصرف مرة أخرى.

رفع العجوز الجدي لأعلى، ثم اختفى هو الآخر أيضًا لبعض الوقت. ذابت الشمعة النحيفة، ولم تعد ألسنة اللهب تتصاعد من النار، بل أصبحت حمراء. ظهر الشوَّاء مرة أخرى بسيخٍ جديد، لكنه أقصر وأنحف، ومثبت فيه قطعة كبيرة من دهن الخنزير النَّيِّئ. دفعه في النار الحمراء. فأصدر أزيزًا وتصاعد منه الدخان وتساقطت منه الدهون، فتساءلت. أخبرني بأنه أراد أن تُمسك النار به. لكن هذا لم يحدث. بحث في المنطقة الأمامية من المدفأة عن جذور الأغصان التي أشعلت النار في البداية. ورشق تلك الجذور في الدهن، مثلما تُرشق أعواد القرنفل في ثمرة البرتقال، ثم حملها إلى النار مرة أخرى. فأمسكت النار بها أخيرًا في تلك اللحظة، وصارت شعلة متأججة تسيل منها قطرات من الدهن الملتهب. فكان في تلك اللحظة راضيًا عما حققه. حمل شعلة الدهن بلهبها الأصفر فوق لحم الجدي المشوي، وأدار الجدي في وضع أفقي ليسقط عليه الدهن. تساقطت قطرات الدهن المستعرة على اللحم المشوي حتى صار اللحم لامعًا وبنيًّا تمامًا. ثم أعاد الجدي إلى النار مرة أخرى حاملًا فوقه طَوال الوقت الدهن المشتعل بلهب أزرق، الذي صار حجمه يتضاءل.

•••

بينما يُشوَى اللحم، دخل رجلٌ مُلْقِيًا تحية المساء بصوتٍ عالٍ: «مساء الخير». رددنا التحية بمساء الخير … وكان من الواضح أنه أدرك وجود صوت غريب. فأقبل الرجل وانحنى ثم حدَّق من أسفل حافة قبعتي، ثم من أسفل حافة قبعة ملكة النحل، وكنا لا نزال نرتدي قبعات ومعاطف مثلما يفعل الجميع. ثم اعتدل فجأة ولمس قبعته وقال بالإيطالية: «سكوزي» (أي معذرةً). فأجبته بالإيطالية أيضًا أن لا عليه، ثم وجَّه بعض الكلمات الطريفة إلى الشوَّاء المقرفص الذي رد عليه بكلمات قليلة للغاية. تبيَّنت أن الحافلة وصلت من أوريستانو ويستقلها عدد قليل من الركاب.

أدخل هذا الرجل أجواءً جديدة من المرح لم تَرُق الشوَّاء. ومع ذلك، أفسحت مكانًا له على المصطبة المنخفضة وقوبلت مجاملتي هذه المرة بالموافقة. ولمَّا جلس عند طرف المصطبة، ظهر في النور، فرأيت رجلًا قويَّ البنية في مقتبل العمر، يرتدي ثيابًا مُخملية لونها بني داكن، وله شارب صغير أشقر وعينين زرقاوين لامعتين ويبدو ثملًا. حسبته تاجرًا أو مزارعًا من أهل البلد. سأل القليل من الأسئلة بأسلوبٍ صاخبٍ مألوف، ثم خرج مرة أخرى. ثم ظهر بسيخٍ حديدي صغير، فكان يحمل في إحدى اليدين عصًا رفيعة، وفي اليد الأخرى قطعتين من لحم الجدي وحفنة من النقانق. رشق قطع اللحم في السيخ معه. لكن الشوَّاء لا يزال يحمل لحم الجدي الطويل المنبسط أمام النار الحمراء غير المستعرة في تلك اللحظة. انتهت شعلة الدهن، فاندفع الرماد في المدفأة. ولوهلة ارتفعت ألسنة اللهب، ثم احمرَّت النار، ثم اشتد احمرارها ثانية، وصار لحم الجدي أمامها مثل يدٍ كبيرةٍ سوداء.

قال الوافد الجديد علينا الذي سأسمِّيه جيروفاجو: «ها هو» ثم أردف قائلًا: «ها قد نضج. نضج لحم الجدي. أصبح ناضجًا.»

هز الشوَّاء رأسه ببطءٍ، لكنه لم يُجِب. جلس بلا حراك عند نهاية أرض المدفأة، ووجهه مُحْمَرٌّ من حرارة اللهب، وعيناه السوداوان ثابتتان على النار، ولا يزال مركِّزًا على الشواء بكل تفانٍ.

قال جيروفاجو: «لا لا لا! اسمح لشخصٍ آخر بأن يرى النار.» وحاول أن يدس قطع اللحم المثبتة بشكلٍ غريب في عصاه الحديدية تحت الجدي كي تصل إلى النار. وبغمغمته الخافتة، أمره الرجل العجوز أن ينتظر النار حتى تصبح مهيأة له. لكن جيروفاجو دس السيخ بجرأة وفكاهة، وقال مشاكسًا: إن الجدي الوحيد المسموح له بالشواء قد نضج.

قلتُ، لأن الساعة صارت بالفعل الثامنة إلا الربع: «أجل، نضج بكل تأكيد.»

غمغم الشوَّاء العجوز المتفاني، وأخرج سكينًا من جيبه. ثم أدخل نصل السكين رويدًا رويدًا في اللحم: إلى أبعد نقطة تصل إليها السكين في قطعة من لحم الجدي. يبدو أنه يستشعر اللحم من الداخل. ثم قال إنه لم ينضج. هز رأسه، وظل متسمِّرًا عند نهاية العصا.

قال جيروفاجو بالإيطالية: «يا إلهي»، لكنه لم يتمكن من شواء ما لديه من لحم! فحاول أن يدس سيخه قريبًا من الفحم. وبفَعلته هذه سقطت قطع اللحم في الرماد، فتعالت بالضحك أصوات المشاهدين غير المرئيين في الغرفة. لكنه مع ذلك جمعها ومسحها بيديه، ثم قال: «لا بأس، لم نفقد شيئًا.»

ثم استدار إليَّ وسألني الأسئلة المعتادة: مِن أين أتيت وإلى أين سأذهب. ما إن أُجيبت تلك الأسئلة، حتى سألني إذا كنت ألمانيًّا. فأجبته بالنفي، وأخبرته بأني إنجليزيٌّ. نظر إليَّ بدهاء مراتٍ كثيرة وكأنه أراد أن يستشف شيئًا ما. ثم سألني أين كنَّا نسكن … فقلت له في صقلية. ثم سألني سؤالًا وجيهًا وهو: لماذا قَدِمنا إلى سردينيا. قلتُ: ترويحًا عن النفس ولنرى الجزيرة.

كرر كلامي، مستغرقًا في التفكير، غير مصدق تمامًا ما قلته: «أها، ترويحًا عن النفس!»

كان قد دخل الغرفة الآن رجالٌ كثيرون، رغم أنهم جميعًا ظلوا بعيدين عن النظر في الخلف. كان جيروفاجو يتحدث ويلقي بالدعابات، أما الرجال غير المرئيين بالكامل فكانوا يضحكون بطريقة غير ودودة نوعًا ما.

قرر الشوَّاء العجوز أخيرًا أن الجدي قد نضج. فرفعه من النار وتفحصه بدقة، حاملًا الشمعة بالقرب منه، وكأنها رسول رائع من ألسنة اللهب. وللحقيقة، بدا اللحم رائعًا تنبعث منه رائحة ذكية؛ فكان بنيًّا، مُقرمشًا، ساخنًا، شهيًّا، لم يحترق أي جزء منه. كانت الساعة قد بلغت الثامنة.

قال جيروفاجو، دافعًا بيديه الشوَّاء العجوز: «صار ناضجًا، صار ناضجًا! ابتعد به من هنا! انصرف.» وأخيرًا وافق العجوز أن ينصرف حاملًا الجدي كالراية.

صاحت ملكة النحل: «يبدو شهيًّا للغاية! وأنا أشعر بجوعٍ قارص.»

«ها ها ها! إن رؤية اللحم الشهي تُشعِر المرء بالجوع، يا سيدتي. والآن حان دوري. يا جينو …» ثم مد جيروفاجو ذراعه. أقبل في خجل رجلٌ وسيم متسخ له شارب أسود. كان يرتدي زي جنود ذا لونٍ رمادي محايد، كان رجلًا وسيمًا ذا بنية ضخمة قوية، له عينان سوداوان، والطابع الخجول لسكان البحر المتوسط. قال جيروفاجو، وهو يناوله السيخ الطويل: «خذه أنت. إنها مهمتك، حضِّر العشاء، وكن أنت المرأة. أما أنا فسأتولى النقانق وسأطهوها.»

جلس الرجل الذي يلعب دور المرأة على الأرض أمام المدفأة، حيث كان يجلس الشوَّاء العجوز، وبيده السمراء المرتبكة كوَّم الفحم المتبقي معًا. لم تعد ألسنة اللهب تتصاعد من النار، بل كانت قد بدأت تخبو. أخذ الرجل ذو الحاجبين الداكنين ينسق الفحم حتى يتمكن من طهي اللحم. حمل السيخ بإهمال فوق كومة الفحم الحمراء. فسقطت قطعة لحم. وضحك الرجال. قال الرجل ذو الحاجبين الداكنين مثلما قال جيروفاجو من قبل: «لم نفقد شيئًا» ثم رشقها في السيخ مرة أخرى ودفع بها في النار. لكنه في الوقت نفسه كان ينظر إلينا وإلى جيروفاجو من بين رموشه الداكنة.

تحدث جيروفاجو بلا توقف. استدار إليَّ حاملًا حفنة من النقانق.

وقال: «هذه النقانق لها مذاق شهي.»

قلت: «أجل بالطبع … نقانق شهية.»

قال: «أستأكل الجدي؟ أستأكل في النُّزل؟» فأجبته بأني سأفعل ذلك.

فقال: «لا. بل ابقَ وتناول الطعام معي. ستأكل معي. النقانق شهية، ولحم الجدي سينضج سريعًا، فالنار مبهجة.»

ضحكت، إذ لم أكن أفهمه على نحو كامل. كان ثملًا قليلًا بلا شك.

قال ملتفتًا إلى ملكة النحل: «سيدتي.» لكنه لم يلقَ استحسانها؛ إذ كان وقحًا، ولهذا تجاهلته قدر إمكانها. فقال: «يا سيدتي، هل تفهمين ما أقوله؟»

أجابت بأنها تفهم كلامه.

قال: «سيدتي، أبيع أغراضًا للسيدات. أبيعها لهن.»

سألته باستغراب: «ماذا تبيع؟»

قال: «قديسين!»

صاحت في استغراب أكبر: «قديسين!»

قال بجِديَّة الشخص المخمور: «أجل، قديسين.»

استدارت في حيرة إلى جمع الرجال في الخلف. فتقدم الجندي البدين؛ كان قائدًا في قوات الدرك الوطني الإيطالية.

شرح بسخرية: «ويبيع كذلك أمشاطًا وقطع صابون ومرايا صغيرة.»

قال جيروفاجو مرة أخرى: «وقديسين! وأبيع أيضًا … مجسماتٍ لأطفال صغار أيضًا … أينما أكون يوجد طفل صغير يأتي راكضًا ينادي بابا! بابا! أبي! أبي! أينما أكون … أطفال صغار. وأنا هذا الأب.»

استقبل الحشد المختفي في الخلفية كل ما قيل بشيء من السخرية الصامتة. كانت الشمعة تحترق والنار تخبو أيضًا. حاول الرجل ذو الحاجبين الداكنين دون جدوى أن يؤجج النار. ونفد صبر ملكة النحل جوعًا. فنهضتْ في غضبٍ وسارت إلى الممر المظلم بخطوات متعثرة وهي تعترض: «ألن نأكل؟»

قال رجل في الخلفية: «الصبر! صبرًا يا سيدتي. الأمر يستغرق وقتًا في هذا النزل.»

رفع الرجل ذو الحاجبين الداكنين بصره إلى جيروفاجو وقال:

«أستطهو النقانق بأصابعك؟»

كان يحاول هو الآخر أن يستعرض حزمه وحسه الفكاهي، لكنه كان من الأشخاص الذين لا يلتفت إليهم أحدٌ. ثرثر جيروفاجو بلهجةٍ عامية، ساخرًا منَّا ومن وجودنا في هذا النزل. لكني لم أتبيَّن ما يقوله تمامًا.

قال جيروفاجو: «سيدتي! أتفهمين السردينية؟»

أجابت بغضب قليلًا: «أفهم الإيطالية … وقليلًا من السردينية. وأعلم أنك تحاول أن تسخر منا.»

ضحك ضحكة من القلب وبارتياح.

وقال: «حسنًا يا سيدتي. لدينا لغة لن تفهميها … ولا حتى كلمة منها. لن يفهمها أحدٌ هنا سواي أنا وهو …» ثم أشار إلى الرجل ذي الحاجبين الداكنين. ثم أردف قائلًا: «كل فردٍ سيريد مترجمًا له … الجميع بلا استثناء.»

لكنه لم يقل كلمة مترجم بنطقها الصحيح.

فقلتُ: «سيريد ماذا؟»

أعاد كلامه بحماسة السكران، فتبين لي قصده.

قلتُ: «ولِمَ؟ هل هذه لهجة؟ ما لهجتك؟»

قال: «لهجتي هي الساسارية. قدمت من ساساري. إن تكلمت بلهجتي، فسوف يفهمون شيئًا مما أقوله. لكن إن تحدثت بهذه اللغة، فسيحتاجون إلى مترجمٍ لها.»

– «أي لغةٍ هي إذن؟»

مال ناحيتي ضاحكًا.

«إنها اللغة التي نستخدمها عندما تشتري النساء أشياء ولا نريد أن يفهمن ما نقوله أنا وهو …»

قلتُ: «أوه. فهمت. لدينا مثل هذه اللغة في إنجلترا. يُطلق عليها لاتينية اللصوص.»

ضحك الرجال في الخلفية فجأة لسعادتهم بانقلاب المزحة ضد جيروفاجو الجريء. فنظر إليَّ بازدراء. لكنه لمَّا رآني أضحك غير متعمِّدٍ الإساءة إليه، مال عليَّ وقال بصوتٍ خافتٍ بيني وبينه: «ما شأنك إذن؟ أي شأن تعمل فيه أنت؟»

قلت غير فاهم ما يقول: «ماذا؟»

«ما شأنك؟»

قلت، لأني ما زلت لا أفهمه: «ماذا تقصد بشأنك؟»

قال، بوضوح وحقدٍ نوعًا ما: «ماذا تبيع؟ ما البضاعة التي تبيعها؟»

أجبته، وأنا أضحك لظني أنه اعتبرنا محتالَين أو بائعَين جائلَين: «أنا لا أبيع أي شيء.»

قال، بمداهنة وخبث، وكأنه يسْتَلُّ السر مني: «تبيع ملابس … أم ماذا؟»

قلت: «لكني لا أبيع شيئًا على الإطلاق. لا شيء. جئنا إلى سردينيا لنرى ثياب القرويين …» ظننت أن ذلك ربما يبدو مُقنعًا.

قال، وكان من الواضح أنه يظن أني ماكر: «أوه، الثياب». ثم تبادل كلماتٍ مع رفيقه ذي الحاجبين الداكنين الذي كان لا يزال يدس اللحم عند الجمرات ويجلس القرفصاء على الأرض. كاد أن يغشى الغرفة ظلامٌ حالك. رد رفيقه عليه وحاول أن يبدو خفيف الظل أيضًا. لكن كان جيروفاجو ذا شخصية مسيطرة! مسيطرة للغاية، كان شديد الوقاحة في نظر ملكة النحل، ولكنه أثار إعجابي إلى حدٍّ ما. أما رفيقه فكان من الرجال الوسماء السلبيين الأغبياء.

قال جيروفاجو، وهو يلتفت فجأة إليَّ ويشير إلى رفيقه: «هو! هو زوجتي.»

قلت: «زوجتك!»

«نعم. هو زوجتي، لأننا دائمًا معًا.»

عندئذٍ ساد في الخلفية صمت مطبق مفاجئ. ومع ذلك، رفع الرفيق بصره لأعلى من تحت رموشه السوداء وقال، بنصف ابتسامة:

«كف عن الكلام، وإلا سوف أعطيك قُبلة الليلة.»

سادت لحظة صمت قاتلة، ثم واصل جيروفاجو:

«غدًا عيد القديس أنطونيو في مدينة تونارا. سنذهب غدًا إلى تونارا. إلى أين ستذهب أنت؟»

قلت: «إلى أباسانتا!»

«أها أباسانتا! لا بد أن تأتي إلى تونارا. في تونارا تجارة رائجة … وهناك ثياب. يجب أن تزور تونارا. تعالَ معه ومعي إلى تونارا غدًا، وسنتاجر معًا.»

ضحكت، ولم أجب.

قال: «تعال، وستعجبك تونارا! تونارا مكان جميل. وبه يوجد نُزُل: يمكنك أن تحظى فيها بوجبة هنيَّة ونومٍ عميق. أخبرك بذلك لأن عشَرة فرنكات لا تعني كثيرًا لك. أليس كذلك؟ عشَرة فرنكات لا تعني لك شيئًا. حسنًا، فلتذهب إذن إلى تونارا. أخبرني؟ ما قولك؟»

هززت رأسي وضحكت، لكني لم أجب.

وللحق، كان سيروقني الذهاب إلى تونارا معه ومع رفيقه ونقيم تجارة نشطة؛ فقط لو كنت أعرف أي تجارة ستكون.

قال لي: «أتنام في الطابق العلوي؟»

أومأت برأسي.

قال وهو يأخذ من على الحائط حصيرةً من الحصائر المنسوجة بالمنزل: «هذا فراشي». لكني لم آخذ كلامه على محمل الجِد مطلقًا.

قلتُ: «هل ينسجون تلك الحصائر في سورجونو؟»

– «أجل، إنها الأسرَّة في سورجونو، كما ترى! فتطوي هذا الطرَف قليلًا … هكذا! فتصير وسادةً.»

وأسند وجنته جانبًا.

قلت: «ليس هكذا تحديدًا.»

جاء وجلس مرة أخرى بجانبي، فتشتت انتباهي. ملكة النحل كانت متلهِّفة على العشاء. لا بد أن الساعة صارت الثامنة والنصف. وذلك الجدي المشوي على أكمل وجهٍ سيبرد ويفقد مذاقه الشهي. كانت النار والشمعة يخبو لهيبهما. خرج شخص بحثًا عن شمعة جديدة، لكن من الواضح أنه لم يكن هناك سبيل لإذكاء النار. ما زال الرفيق جالسًا على الأرض أمام المدفأة، ووهج النار الأحمر الباهت على وجهه الوسيم، يحاول في صبر أن يشوي الجدي ويدسه أمام الجمرات. كان ذا أطراف قوية تخرج من زيه الكاكي، بيد أن يده التي تحمل السيخ كانت سمراء ناعمة وحساسة، يدٌ لها طابع بحر متوسطي أصيل. أما جيروفاجو الناضج الأشقر مستدير الوجه، العدواني رغم مرحه، فكان أكثر شبهًا بأهل الشمال. في الخلفية أربعة رجال أو خمسة، لم يكن بإمكاني أن أميِّز أحدًا منهم ما عدا جنديًّا بدينًا، مرجحًا أنه قائد في قوات الدرك الوطني الإيطالية.

•••

بينما كانت ملكة النحل تزداد غضبًا كنت أنا قد هدأت أخيرًا، ثم ظهرت الفتاة المتدثرة في الوشاح وقالت: «جاهزون!»

قال الجميع: «جاهزون! جاهزون!»

قالت ملكة النحل، وهي تنهض مسرعة من فوق المصطبة المنخفضة أمام المدفأة: «أخيرًا سنأكل. أين سنأكل؟ هل هناك غرفة أخرى؟»

قال قائد الدرك: «هناك غرفة أخرى، يا سيدتي.»

انصرفنا من الزنزانة التي أكسبتها النار دفئًا، وتركنا جيروفاجو ورفيقه ورجلين آخرين وسائقي البغال من الشارع. كان بوسعي أن ألاحظ انزعاج صديقي جيروفاجو من أننا تركناه. بدا في المكان إلى حدٍّ كبير أنه الأقوى شخصيةً والأشد ذكاءً. لهذا كَرِه أن يصبح من القاعدين في الخلف، في الوقت الذي كان قد اجتذب الأضواء كلها نحوه طَوال المساء. كاد أن يكون في تلك الليلة شقيق روحي. لكن ها نحن فرَّق بيننا القدر متجسدًا في هذا الحد الفاصل الخفي بين حياة كريمة وأخرى شقيَّة. ثمة هوة شاسعة تفصل بيني وبينه، وبين طريقي وطريقه. كان شقيق روحي لكن مع اختلافٍ مُحالٍ تداركه. ثمة جانب بائس في حياته وهو مدركٌ له. لهذا تجده ثملًا طَوال الوقت. تعجبني الذئاب المنفردة أكثر من الخراف. ليتها لا تشعر بصراع في قرارة نفسها. من المحتمل، على ما يبدو، أن الخبثاء يصارعون أنفسهم. ومن المؤسف أن الذئاب المنفردة التي لا يمكن ترويضها يجب دائمًا أن تصبح منبوذة بمحض الاختيار على الأغلب: لأنها خبيثة فحسب.

الحكاية وما فيها أني شعرت بالأسف تجاه جيروفاجو، رغم أني أعرف أنه لا خير من التفكير فيه. فطريقه ليس كطريقي. رغم ذلك، شعرت بالأسف عليه، شعرت حقًّا بالأسف.

•••

وجدنا أنفسنا في غرفة طعام شديدة البرودة بها مائدة طويلة بيضاء عليها أطباق حساء مقلوبة وتنيرها شعلة من غاز الأسيتيلين. كان قد أتى برفقتنا ثلاثة رجال: القائد من الدرك الوطني، وشاب ضئيل الجسم أسمر اللون له شارب أسود صغير يرتدي معطفًا قصيرًا له بطانة من الصوف كالذي يرتديه الجنود، ورجل شاب كان الإجهاد باديًا حول عينيه الزرقاوين ويرتدي معطفًا أنيقًا إلى حدٍّ ما لونه أزرق داكن. أما الفتاة المتدثرة في وشاحها فجاءت بسلطانية الحَساء التي لا مفر منها، فكان حَساء الكرنب والقرنبيط ومكونات أخرى. قدمنا الطعام لأنفسنا، وبدأ قائد الدرك البدين يفتح حوارًا بالأسئلة المعتادة … إلى أين سنذهب غدًا؟

سألت عن الحافلات. فأخبرني الشاب ذو العينين المجهدتين، الذي يبدو عليه تحمُّل المسئولية، بأنه هو سائق الحافلة. كان قد جاء ذلك اليوم من أوريستانو في خط الحافلة الرئيسي. تبعد أوريستانو مسافة أربعين ميلًا تقريبًا. وفي صباح اليوم التالي، كان سيسافر فوق الجبال متجهًا إلى نوورو التي تقع على بُعد المسافة نفسها تقريبًا. أما الشاب ذو الشارب الأسود والعينين الكبيرتين ذواتي الطابع الإغريقي فكان زميله محصِّل الحافلة. كان هذا هو المسار الذي يسلكانه، من أوريستانو حتى نوورو، وهو مسار يقطع مسافة تسعين ميلًا أو أكثر. فيقطع هو تلك المسافة كل يوم. فلا عجب أنه بدا مرهقًا عصبيًّا. رغم ذلك كان يحمل شعورًا بالرِّفعة والجدية والفخر الذي يليق برجلٍ يتحكم في آلة؛ فالوحيدون في يومنا هذا الذين يشبهون الآلهة هم أولئك الذين يسحبون أذرع الرفع الحديدية فيصبحون هم الآلهة المسيطرة على الآلة.

كرروا ما قاله الشوَّاء العجوز أنه من الأفضل كثيرًا لنا أن نسافر إلى نوورو بدلًا من أباسانتا. لهذا عقدنا العزم على الذهاب إلى نوورو، وغادرنا في الساعة التاسعة والنصف صباحًا.

•••

كان السائق وزميله ينامان كل ليلتين في نُزل ريسفيليو المعتم. لا بد أن الغرفة التي رأيناها نظيفة ومرتبة كانت غرفتهما. تساءلت إن كان الطعام يتأخر دائمًا إلى هذا الحد، وكل شيء يبدو سيئًا مثلما هو اليوم. «دائمًا هكذا إن لم يكن أسوأ» هكذا علَّقوا مخففين من وطأة الموقف بالسخرية من ريسفيليو بأسلوب فكاهي. تقضي عمرك كله في ريسفيليو جالسًا ومنتظرًا حتى تشعر بالتنميل: إلا إذا كنت راضيًا بشرب البراندي مثل أولئك الجالسين في الداخل هناك. وأومأ السائق برأسه ناحية الزنزانة.

قلت: «مَن أولئك الجالسون في الداخل هناك؟»

الشخص الذي أدار الحديث كله كان تاجرًا، جيروفاجو التاجر، بائع متجول. كان صديقي جيروفاجو بائعًا متجولًا يبيع تماثيل لقديسين وأطفال صغار! أما الرجل الآخر فكان رفيقه الذي يساعده في حمل الصندوق. كانا يذهبان إلى أي مكانٍ معًا. عجبًا، صديقي جيروفاجو كان شخصية معروفة في جميع أنحاء البلدة. وأين ينامون؟ هناك، في الغرفة التي تخبو فيها النار.

كانوا يبسطون الحصائر وينامون وأقدامهم تجاه المِدفأة. يدفعون مقابل هذا ثلاثة بنسات أو أربعة بنسات على أكثر تقدير. وينعمون بمزية طهي طعامهم. كان نُزل ريسفيليو لا يُمِدهم بشيء سوى النار والسقف والحصيرة. والشراب، بكل تأكيد. يا إلهي، لا حاجة لنا إلى التعاطف مع جيروفاجو وأمثاله. لم ينقصه أي شيء. فلديه كل شيء كان يريده؛ كل شيء؛ وحتى المال الوفير. عاش من أجل البراندي الذي كان يشربه. كان ذلك كل ما أراده؛ إمداد لا ينقطع من البراندي. وقد ناله. ومن ثَم لم يشعر بالبرد. إذا سرى البرد في الغرفة أثناء الليل؛ ولم يكن لديه أي أغطية على الإطلاق كان ينتظر الصباح، وبمجرد أن يسطع نوره كان يشرب زجاجة كبيرة من البراندي. كان ذلك مصدر دفئه، وملجأه وملاذه؛ الشرب. فكان البراندي ملجأ وملاذًا له.

استغربت نبرة الاحتقار الرفيق وفي الوقت نفسه العميق التي تحدث بها هؤلاء الرجال الثلاثة في غرفة الطعام عن الآخرين في الغرفة. كم كان السائق يشعر بالاحتقار للكحوليات، بل يكاد يشعر بالمرارة تجاهها. بدا واضحًا أنه يمقتها. وبالرغم من أننا جميعًا كانت لدينا زجاجاتنا من النبيذ الداكن البارد، وبالرغم من أننا جميعًا شربنا؛ كان شعور الشبان الثلاثة ضد حالة الثَّمَل الفعلية عميقًا وعدائيًّا يشوبه نفور أخلاقي شديد منها؛ وهو الأمر الذي يجعلهم أقرب لأهل الشمال منهم إلى الإيطاليين. فمطُّوا شفاههم ازدراءً بجيروفاجو؛ من جراءته، وعدوانيته الوقحة.

•••

أما بالنسبة إلى النزل، فكان حقًّا في حالة مزرية للغاية. كان في حالة جيدة إلى حدٍّ ما تحت إدارة المالكين السابقين. أما الآن … وهزوا أكتافهم. الرجل ذو الصدر المتسخ والفتاة المتدثرة بالوشاح ليسا هما المالكَين. ليسا سوى مديرَين لشئون النُّزل، وعندئذٍ مطوا شفاههم تهكمًا. كان صاحب النُّزل أحد الرجال من القرية … كان شابًّا. ومنذ أسبوع أو أسبوعين، في احتفالات عيد الميلاد، كانت هذه الغرفة مكتظة بحشد من الرجال الذين ظلوا يشربون ويصخبون حول هذه الطاولة تحديدًا. وعندما دخل صاحب النزل ثملًا غاضبًا، وهو يلوح بزجاجة خمر سعة لتر حول رأسه ويصرخ: «اخرجوا! اخرجوا! اخرجوا من هنا! جميعًا! اخرجوا جميعًا! أنا المالك هنا. ووقتما أريد إخلاء نُزُلي سأُخليه. فلينفذ الجميع أمري … ومَن يأبى سأشج رأسه بهذه الزجاجة. اخرجوا، اخرجوا، قلت اخرجوا جميعًا!» فانصرف جميع الرجال إلى الخارج. قال سائق الحافلة: «لكنني أخبرته بأنني عندما أدفع ثمن الفراش الذي سأنام فيه، فإني أنام فيه. ولن يطردني هو أو أي شخص آخر. ولذا تراجع.»

•••

ساد صمت قليل بين الجميع بعد هذه القصة. وبدا واضحًا أن للقصة بقية لن تُحكَى لنا. والتزم الصمت تحديدًا قائد الدرك. كان رجلًا بدينًا وليس شجاعًا بالدرجة، مع أنه لطيف للغاية.

قال محصل الحافلة، ذو البشرة السمراء قليلًا والوجه الإغريقي الأسمر ذي الملامح الصغيرة: «أوه، لكن يجدر بك ألا تغضب منهم. صحيح أن النُّزل وضعه مزرٍ للغاية. غاية في السوء … لكن عليك أن تُشفق عليهم، لأنهم مجرد جهلاء. مساكين، إنهم جهلاء! فلمَ تغضب منهم؟»

أومأ الرجلان الآخران برأسيهما موافقَين ورددا: «جهلاء. إنهم جهلاء. هذه حقيقة. فلمَ الغضب؟»

وعندئذٍ ظهرت الروح الإيطالية الحديثة: الشفقة الأبدية بالجهلاء. إن هذا ليس إلا تهاونًا. الشفقة تزيد الجاهل جهلًا، وتجعل ريسفيليو مكانًا لا يطاق يومًا بعد يوم. لو أن شخصًا لوَّح بزجاجةٍ حول رأس صاحب الصدر المتسخ، وانتزع الوشاح من رأس السيدة الوقحة وجعلها تُهرع إلى الممر من شدة التوبيخ، ربما سنحظى ببعض الاهتمام وربما يشعران بإحساس طفيف من احترام النفس. لكن لا: عليك أن تشفق عليهم، إنهم مساكين جهلاء، وفي الوقت نفسه هم يسلبونك الحياة ويهددونك كالجراثيم. فكيف لي أن أشفق عليهم؟ إن ما يحتاجون إليه ليست الشفقة وإنما النكز، هم والألوف المؤلفة من أمثالهم.

•••

ظهرت الفتاة المتدثرة بالوشاح حاملة طبقًا من لحم الجدي. لا حاجة لي لقول إن «الجهلاء» قد استأثروا بأفضل قطع اللحم لأنفسهم. ما وصل إلينا كان خمس قطع من اللحم المشوي البارد، لكل واحد منا قطعة. كان نصيبي أشبه بمشطٍ من الضلوع بها شبكة رقيقة من اللحم، ربما تزن أوقية. كان ذلك كل ما حصلنا عليه بعد أن شاهدنا عملية الشواء بأكملها. بالإضافة إلى ذلك، قُدِّم طبق قرنبيط مسلوق بدرجة مفرطة أكلته مع خبز خشن من شدة الجوع. بعد هذا قُدِّمت لي ثمرة برتقال مثيرة للغثيان. ببساطة لا يُطعَم الواحد منا في هذه الأيام حتى يشعر بالشبع. سواء في الفنادق الفاخرة أو الرديئة، تُقدم لنا كميات زهيدة من طعامٍ لا يسمن ولا يغني من جوع، ونمضي بعدها جوعى.

•••

كان سائق الحافلة — الشخص الصادق الوحيد — يتحدث عن أهل سردينيا. أجل، أهل سردينيا! لم يكن يُرجَى منهم أمل. وسبب ذلك أنهم لا يعرفون كيف يُضربون عن العمل. هم أيضًا جهلاء. لكنه شعر بأن هذا النمط من الجهل أكثر استفزازًا. لم يعرفوا بكل بساطة ما يعنيه الإضراب عن العمل. إذا عَرضتَ عليهم في يومٍ أن ينجزوا مهمة مقابل عشرة فرنكات — كان يتحدث في تلك اللحظة عن عمال المناجم في منطقة إجليسياز — كانوا يرفضون رفضًا باتًّا، فهم يريدون اثني عشر فرنكًا. ولكن اذهب إليهم في اليوم التالي واعرض عليهم أربعة فرنكات مقابل إنجاز نصف المهمة، وستجدهم يقبلونها بكل تأكيد. ولهذا السبب كانوا جهلاء، سردينيون جهلاء. ليس لديهم أي فكرة مطلقًا عن كيفية الإضراب. كان غاضبًا بأسلوبٍ ساخر بشأن هذا الأمر. كانت لهجة هؤلاء الشبان الثلاثة تهكمية تحمل الشك، وهي لهجة شائعة بين الشباب في أي مكان في العالم في أيامنا هذه. أظهروا، أو السائق على الأقل، شيئًا من الحماسة نحو إضراباته ونزعته الاشتراكية. لكنها كانت حماسة مثيرة للشفقة: حماسة مؤقتة.

•••

تحدثنا عن الأرض. زعموا أن الحرب كادت أن تسلب من سردينيا مواشيها. والآن تُهمَل الأراضي، وتئول الأراضي الصالحة للزراعة إلى البوار. لمَ؟ يزعم السائق أن السبب يرجع إلى أن أصحاب الأراضي لا يريدون إنفاق أي مال عليها. فقد حُجِز على رءوس أموالهم وماتت الأرض. ولهذا ارتأوا أن الأقل تكلفة لهم هو تبوير جميع الأراضي الصالحة للزراعة وتربية بعض رءوسٍ من الماشية، بدلًا من دفع أجور عالية وزراعة الذرة وكسب عوائد زهيدة.

يتدخل قائد الدرك في الحديث مصدقًا على ما قيل ومضيفًا أن القرويين لا يريدون فلاحة الأرض. إنهم يكرهونها. وسيفعلون أي شيء لهجرها. ما يريدونه هو أجور ثابتة وساعات عمل قصيرة وإلقاء ما دون ذلك وراء ظهورهم. لهذا فهم على استعدادٍ للسفر بالمئات إلى فرنسا بصفتهم عمَّالًا. ويتوافدون إلى روما ويحاصرون مكاتب العمل ويعملون في أشغال حكومية مختَلَقَة مقابل خمسة فرنكات بائسة في اليوم — بينما يتقاضى عامل تحويل القطار ثمانية عشر فرنكًا على الأقل في اليوم — ويشتغلون أي عمل، أي عمل بدلًا من فلاحة الأرض.

يجيب سائق الحافلة بالموافقة، ويتساءل باستنكار عما تفعله الحكومة حيال ذلك! تشق الطرق، متوسعةً إلى الريف، حتى تختلق عملًا للعاطلين، ثم تعيد إنشاءها. لكن في سردينيا، حيث الافتقار التام إلى الطرق والجسور، فهل سيفعلون أي شيء؟ لا!

مع ذلك، هذا هو الحال. يمثل سائق الحافلة، ذو الهالات الداكنة تحت عينيه، صوت العقل في هذا الحوار. أما قائد الدرك فهو شخص حلو الكلام، يسايرك أيًّا كان ما تقوله، رغم إبدائه شيئًا من الاهتمام دائمًا. أما المحصل ذو الملامح الإغريقية فهو لا يبالي بما يقال.

•••

يدخل مسافرٌ آخر متأخر ويجلس في آخر المائدة. تُحضِر له الفتاة ذات الوشاح حَساءً وقطعة هزيلة من لحم الجدي. يرمق الرجل قطعة اللحم بازدراء ثم يُخرج من حقيبته كتلة كبيرة من لحم خنزير مشوي وخبز وزيتون أسود، لتصبح لديه وجبة لائقة.

لم تكن معنا سجائر، فألحَّ علينا سائقُ الحافلة ورفيقُه بسجائرهما المقدونية المفضَّلة. يقول السائق إنها أفخر أنواع السجائر لدرجة أن جميع الأجانب يطلبونها. في الحقيقة أظن أنها تُصدَّر الآن إلى ألمانيا. إنها جيدة إلى حدٍّ ما حينما يكون فيها تبغ بالفعل. لكنها عادةً لا تعدو كونها أنابيب ورقية مجوَّفة تشتعل على الفور تحت الأنف ثم تنتهي.

قررنا أن نشرب دورًا من المشروبات، فاختاروا البراندي الغالي: أظن أنه كان النوع الأبيض. وأخيرًا وصل إلينا حينما أحضره الشاب ذو الهالات السوداء. له مذاق يشبه قليلًا مذاق بترولٍ مُحلَّى مع رشَّةٍ من اليانسون؛ مذاق سيئ. أغلب الخمور الإيطالية الآن صارت مُحلَّاة وطعمها سيئ.

نهضنا بعد فترة طويلة لنذهب إلى الفراش. فسنتقابل جميعًا في الصباح. هذه الغرفة باردة بردًا قارسًا والصقيع يتساقط خارجها. حينما خرجنا، ألقينا نظرة في الغرفة الشهيرة. كان فيها شخصٌ يستلقي ممددًا وحده على الأرض في ظلام يكاد يكون حالكًا. وبعض الجمرات لا تزال متوهجة. وكان بقية الرجال بلا شكٍّ في المشرب.

ها نحن في غرفة النوم القذرة. تربط ملكة النحل رأسها بمنديلٍ أبيض كبيرٍ ونظيف لئلا يلمس رأسها الوسادة ذات الرائحة المنفِّرة. كان سريرًا باردًا وقاسيًا ومستويًا ومعه غطاءان باردان وقاسيان ومستويان. كنَّا في غاية التعب. لكن في اللحظة التي كنَّا سننام فيها، بدأ صوت غناء غريب عالٍ يتصاعد من الأسفل، كان غير مألوف للغاية وتكررت فيه لازمة لصوت عواء! كاد أن يشبه كلبًا يئن من ألمٍ مبرح. استمر هذا الغناء الغريب النشاز، فيتعالى صوتٌ واحد في البداية ثم صوتٌ آخر ثم مجموعة أصوات متداخلة. ومرة أخرى، أيقظنا دبيب أقدامٍ ثقيلة في الممر بالخارج، فكان أجوف ورنانًا مثل الطبل. وهناك في الفناء الخارجي اللعين، يتعالى صوت ديكٍ بالصياح. يصيح هذا الديك اللعين معبرًا عن استيائه الشديد طَوال الليل، حرفيًّا طَوال ساعات الليل الحالك القارس.

•••

على أي حال، حلَّ الصباح. أغسل بحذرٍ شديد جزءًا صغيرًا من جسدي في الحوض المكسور ثم أجففه بوشاح من قماش الموسلين الذي بدا شكله على الكرسي مثل المنشفة. أما ملكة النحل فاكتفت بمنديل جاف. ثم نزلنا الدرَج وآمالنا معلقة على حليب الليلة الماضية.

لا يُرى أحدٌ. الجو باردٌ شديد البرودة والسماء صافية. لا أحد في المشرب. نسير متعثرَين في الممر المعتم. تبدو الغرفة وكأن أحدًا لم يطأها من قبل، يغشاها ظلامٌ حالك، والحصائر مستندة إلى الحائط، والمدفأة صارت رمادية وبها حفنة من رمادٍ بات خامدًا منذ وقتٍ طويل. بدت الغرفة تمامًا مثل الزنزانة. وظل في غرفة الطعام المائدة الطويلة نفسها ومفارش المائدة الأزلية، وظلت مناديلنا، التي لا تزال مبللة، على حالها حيث ألقينا بها جانبًا. عُدنا مرة أخرى إلى المشرب.

هذه المرة وجدنا رجلًا يشرب البراندي، وصاحب القميص المتسخ يؤدي مهامه. لا يرتدي أي قبعة، وليس لديه حاجب على نحوٍ مثير للعجب، ليس لديه سوى شعر أسود مسترسل ومستوٍ ينسدل على حاجبيه، ولا جبين على الإطلاق.

– أهناك قهوة؟

– لا، لا توجد قهوة.

– لمَ؟

– لأنهم لا يستطيعون الحصول على السكر.

ها ها ها! يضحك القروي الذي يشرب البراندي. وهل تُعِدُّون القهوة مع السكر!

أقول عندئذٍ: إنهم لا يستخدمون أي شيء في إعداده … أهناك حليب؟

– لا.

– لا يوجد حليب على الإطلاق؟

– لا.

– لمَ لا؟

– لا أحد يُحضِره.

يتدخل القرويُّ معلقًا: «نعم، نعم … يوجد الحليب إذا أرادوا الحصول عليه. لكنهم يريدون منك أن تشرب البراندي.»

أتخيل نفسي أشرب البراندي. فازداد فجأة شعور الغضب الذي انتابني بالأمس حتى أطبق على أنفاسي تمامًا. ثمة شيء أثاره في نفسي هذا الشاب الأسمر البغيض اللزج المتسخ بالنبيذ.

أقول، منزلقًا إلى الأسلوب الخطابي الذي ينتهجه الإيطاليون: «عجبًا! لماذا تفتحون هذا النُّزل؟ لماذا تكتبون كلمة مطعم بهذا الحجم الكبير إذا كان ليس لديكم ما تقدمونه إلى الناس، ولا تحاولون تقديم أي شيء لهم. لمَ تتجرءون على استقبال المسافرين؟ ماذا يعني أن هذا نُزلٌ؟ ماذا، قلْ لي ماذا يعني هذا؟ قل إذن، ماذا يعني هذا؟ ماذا يعني أن يُكتَب «مطعم ريسفيليو» بهذا الحجم الكبير؟»

عندما انفجرتُ بكل ما في داخلي في نَفَسٍ واحد، أدركت أن استيائي في تلك اللحظة قد بلغ ذروته. لم يتفوه صاحب القميص بأي كلمة نهائيًّا. أما الرجل القروي فضحك. طلبتُ الفاتورة. كانت تزيد قليلًا على خمسة وعشرين فرنكًا. وأخذت كل النقود الباقية.

تسأل ملكة النحل: «ألن تترك أي إكرامية؟»

أجيبها، وقد انعقد لساني: «إكرامية!»

صعِدنا إلى الطابق العلوي وأعددنا الشاي لنملأ به الترمس. وبعد ذلك شققت طريقي خارج ريسفيليو حاملًا الحقيبة على كتفي.

•••

إنه صباح يوم الأحد. يكاد يكون شارع القرية البارد خاويًا. سِرنا إلى المكان الأوسع الذي تقف فيه الحافلات: أتمنى ألا تكون لديهم الجرأة ليطلقوا على هذا المكان ميدانًا.

سألت مجموعة من الصبية الأشقياء: «أهذه حافلة نوورو؟»

وحتى هم بدءوا يسخرون منَّا. لكن غضبي المفاجئ وضع حدًّا لهذا في الحال. أجاب أحدهم بنعم، ثم انصرفوا مبتعدين. وضعت حقيبة الظهر وحقيبة المطبخ المتنقل في الجزء المخصص للدرجة الأولى. تقع الدرجة الأولى في الأمام: وهكذا بوسعنا أن نحظى برؤية أفضل.

ثمة رجال يقفون في الأرجاء يضعون أيديهم في جيوبهم، أولئك الذين لا يرتدون الثياب التقليدية. وبعض الناس يرتدون ثيابًا باللونين الأبيض والأسود. وجميعهم يرتدون الطواقي الطويلة. وكذلك القمصان البيضاء الواسعة، والصُّدرات التي تشبه صُدرة ملابس السهرة. تخيل أحد هذه القمصان البيضاء وقد اتسخ وامتلأ بقعًا من الأمام، حينها ستتخيل مدير نُزل ريسفيليو. لكن هؤلاء الرجال الواقفين في كسلٍ وثبات، ذوي القمصان البيضاء بياض الثلج يتمتعون بنظافة ناصعة، خاصةً وأننا في صباح يوم الأحد. يدخنون غليونهم في الهواء البارد، ولا يبدو اللطف على أحد منهم.

•••

ستتحرك الحافلة في الساعة التاسعة والنصف. يدق برج الجرس معلنًا عن الساعة التاسعة. تتمشى فتاتان أو ثلاث فتيات مرتديات زي يوم الأحد ذا اللون البني الضارب إلى البنفسَجي. صعِدنا في الهواء البارد المنعش النقي، حتى نكتشف الطريق.

ومرة أخرى، كم تبدو القرية من الأعلى خلابة في الصباح البارد! يكسو القريةَ بأكملها ظلٌّ مائلٌ إلى الزرقة، وكذلك المرتفعات وما عليها من أشجار البلوط الرفيعة الشاحبة يكسوها ظلٌّ مائلٌ إلى الزرقة، وليس إلا على مسافة بعيدة، تُلقي الشمس بأشعتها على الصقيع فيعكس بريقًا مبهرًا، كبريق الجواهر، على التلالِ المبهجة والمساحةِ العامرة بأشجار برية رفيعة من هذه المنطقة الداخلية. فيحيط بالمكان هذا الجمال الحقيقي المبهر والمنعش. وهؤلاء البشر.

وبالعودة إلى القرية، عثرنا على متجر صغير واشترينا بسكويتًا وسجائر. التقينا بأصدقائنا رجال الحافلة. يبدو أنهم متحفِّظون هذا الصباح. وسيتأهبون إلى المغادرة ما إن نصبح مستعدين. ولهذا صعِدنا الحافلة مبتهجين لنغادر سورجونو.

أمرٌ واحد أقوله لصالح سورجونو: إنه حتمًا مكان يتسم بالأمانة. لأن الناس هناك يتركون حقائبهم دون توجس أو قلق.

•••

اتجهنا لأعلى نحو الطريق. لكننا توقفنا، للأسف، عند ريسفيليو. ينزل المحصل الشاب إلى الطريق ناحية المحطة. يذهب السائق ويتناول القليل من الشراب مع زميل. هناك حشد ليس بالقليل حول مداخل النُّزُل القذرة. ومجموعة قليلة من الناس يصعدون بصعوبةٍ إلى الدرجة الثانية وراءنا.

ننتظر ويطول بنا الانتظار. ثم يصعد قروي عجوز، يرتدي ثيابًا كاملة بالأبيض والأسود، وهو يبتسم ابتسامة العجائز الساذجة التي تعكس حالةً من الرضا. ثم يصعد بعده شابٌّ ذو وجه نضر حاملًا حقيبة سفر.

قال الشاب: «ها نحن أولاء! أنت الآن في الحافلة.»

يجول العجوز بنظره فيما حوله بابتسامة ساذجة جوفاء تعكس شعورًا بالدهشة.

يواصل المواطن الشاب حديثه بنبرة استعلاء قائلًا: «أنت هنا على ما يرام، ها؟»

لكن العجوز يشعر بالإثارة الشديدة لدرجة تجعله عاجزًا عن الرد. ويحدق هنا وهناك. ثم يتذكر فجأة أن ثمة صرة كانت معه، فيبحث عنها في هلع. يلتقطها الشاب ذو الوجه النضر من على الأرض ويعطيه إياها. حسنًا، كل شيء على ما يرام.

ألمحُ المحصل القصير، في معطفه العسكري القصير المبطَّن بالفراء، يمشي مسرعًا على الطريق الضيق حاملًا حقيبة البريد. يصعد السائق إلى مقعده أمامي. كان يرتدي وشاحًا حول رقبته وقبعةً مشدودة حتى أذنيه. يطلق بوق الحافلة، ويمد العجوز وجهه إلى الأمام ليرى كيف يفعل السائق ذلك.

وهكذا تحركت الحافلة حركة مفاجئة وسريعة، وانطلقنا لأعلى التل.

قال القروي خائفًا: «ماذا يحدث؟»

وضَّح له الشاب ذو الوجه النضر قائلًا: «نحن نتحرك.»

– «نتحرك! ألم نكن قد تحركنا قبل ذلك؟»

فيضحك ذو الوجه النضر في سرور.

قال: «نعم. أتظن أننا كنا نسير منذ أن صعِدت؟»

يجيب العجوز بوضوح: «أجل، منذ أن أُغلق الباب.»

ينظر المواطن الشاب إلينا التماسًا لتأييد ما قيل على سبيل المرح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤