إلى نوورو
إن تلك الحافلات في إيطاليا رائعة. تتحرك بسهولة فائقة على الطرق المنحدرة والمتعرجة، ويبدو أنها تركض بمنتهى التلقائية. وهذه الحافلة كانت مريحة للغاية أيضًا.
تبهرني دائمًا الطرق في إيطاليا. تمتد بجرأةٍ وسهولة مذهلة فوق أكثر المناطق انحدارًا. في إنجلترا، قد يصنَّف أي طريق مماثل تقريبًا — على الأقل ذلك الذي بين الجبال — على أنه ذو خطورة مضاعفة لثلاث مرات وقد يصبح مشهورًا في كافة أنحاء البلاد بأن صعوده مستحيل. لا شيء من هذا القبيل هنا. تمتد الطرق لأعلى ولأسفل، تلتف وتنعطف في ثباتٍ تام. ويبدو أنه لم يُبذل مجهود يُذكر في إنشائها. فهي بطبيعة حالها جيدة للغاية، حتى إنه بالكاد يمكن ملاحظة التصميم المذهل الذي تمثله. لكن بالطبع، صار السطح الآن متدهورًا كثيرًا بدرجة لا تُحتمل. ستصبح أغلب هذه الطرق حُطامًا خلال عشر سنوات من الإهمال. إذ إن الطرق تُشق بين الصخور البارزة وتُحفَر في جوانب التلال. لكن أرى أنه من المذهل كيف توغل الإيطاليون إلى كافة المناطق التي يصعب الوصول إليها، وما أكثرها لديهم، بطرقٍ سريعة رائعة، وعلى امتداد هذه الطرق المرتفعة تسير الحافلات الآن سيرًا بارعًا. وتشق الطرق مسارها بين الأراضي المنحدرة الوعرة. يبدو أن هناك ولعًا بالطرق المرتفعة والتنقل المستمر. في هذه المسألة يمتلك الإيطاليون الآن فطرة رومانية حقيقية. لكون الطرق حديثة.
تخترق كذلك قطارات السكة الحديدية الصخور لأميالٍ وأميال، ولا أحد يلقي بالًا لها. فقطار ساحل كالابريا المتجه إلى ريدجو كان سيبهرنا لو كان عندنا في إنجلترا. لكنه هنا أمرٌ عادي لا يستدعي الانبهار. وكذلك أُكِنُّ دائمًا إعجابًا شديدًا بقيادة السيارات هنا، سواء أكانت حافلة كبيرة أم سيارة عادية. فتبدو قيادة السيارات هنا غاية في السهولة، كما لو أن الإنسان جزءٌ من السيارة. فلا ينتابك شيء من ذلك الشعور بالضغط النفسي والاضطراب الذي تشعر به في الشمال. أما السيارة فتسير بسلاسة وعقلانية كأنها كائن حي.
يحمل القرويون كافة ولعًا بالطرق السريعة. فهم يريدون أن تنفتح أرضهم على الخارج. يبدو أنهم يمقتون الطبيعة المنعزلة لإيطاليا قديمًا. يرغبون جميعًا في أن تكون لديهم القدرة على الهروب في التو واللحظة، والفرار سريعًا. إن قريةً تبعد ميلين عن الطريق السريع، حتى لو كانت على موقع عالٍ كعُش نسرٍ فوق قمة جبل، لا تزال تتلهف وتتعطش إلى أن يُشَق طريق عظيم يصل إليها، وتزداد لهفتها إلى أن تربطها الحافلات يوميًّا بالسكة الحديدية. لا هدوء ولا راحة في الأرض. هناك دائمًا اضطراب.
مع ذلك، تزداد المسارات الدائمة لجميع قطارات السكة الحديدية سوءًا، وصارت الطرق مروِّعة. ولا إجراء يُتخذ حيال ذلك. فهل سيشهد عصرنا؛ عصر الآلة المذهل، ازدهارًا لفترة قصيرة؟ وهل سيقوَّض عن قريب هذا الانفتاح المذهل للأراضي البعيدة التي بات الوصول إليها ممكنًا؟ وهل سيصير الوصول إلى الأماكن البعيدة صعبًا مرة أخرى؟ مَن يدري! أتمنى ذلك بدرجةٍ ما.
•••
سارت بنا الحافلة وهي تسرع في مسار دائري إلى أعلى التل، فكانت تمر أحيانًا بمنطقة ظليلة باردة لا يتخللها شعاع شمس، وأحيانًا أخرى تمر عبر رقعةٍ مشمسة بالكامل. تكتسي الطرق بثلج رفيع لامع، والعشب ببلورات صقيع رمادية داكنة. لا يسعني التعبير عن مدى إعجابي بمنظر الأعشاب والشجيرات الصغيرة المثقلة بالصقيع، وبطبيعتها البرية البسيطة. كانت منحدرات التلال الوعرة مغطاة بغطاء نباتي كثيف من الأعشاب والشجيرات الصغيرة التي تتدلى منها بعض ثمار التوت، وكانت سيقان الأعشاب الطويلة الذابلة يكسوها الصقيع. ومرة أخرى كان الوادي الداكن يبتعد شيئًا فشيئًا فيتحول إلى وادٍ ضيق، لكنه كان متواصلًا كثيف الأشجار. تبيَّن لي مدى حبي لمنظر الشتاء بظلاله الزرقاء، وألوانه الدافئة المتداخلة، وثبات صقيعه. تحتفظ أشجار البلوط الصغيرة بأوراقها ذات اللون البني. وبذلك يصبح شكلها بلا شك أفضل عندما تزدان بحافة رفيعة من الصقيع.
يبدأ المرء في إدراك مدى عراقة إيطاليا الحقيقية، وكيف خضعت لسيطرة البشر وتأثرت. إن إنجلترا أكثر بريةً وبدائيةً وعزلة، لا سيما في أجزائها الريفية. أما هنا، فمنذ قرونٍ لا تُعد ولا تُحصى، روَّض الإنسان جانب الجبل الذي يصعب ترويضه متخذًا منه طرقًا، فاقتلع الأحجار، ورعى أغنامه وسط الأشجار الواهنة، وقطع الأغصان وأشعل الفحم، وأصبح مستأنسًا بدرجة ما حتى وسط أكثر المناطق البرية المنعزلة. وهذا ما يجعل الأماكن النائية، مثل أبروتسي، جذابة. فالحياة هناك بدائية للغاية، بربرية على نحوٍ غريب، ذات طابع وثني غير متحضر. ومع ذلك، فهي حياة بشرية. وحتى البلدة الأكثر برية، فقد طوِّعت بدرجة ما لتلائم البشر وأُخضِعت جزئيًّا لسيطرتهم. وكل ذلك عن وعي. أينما يكون المرء في إيطاليا، فإنه يدرك تأثير الوقت الحاضر أو العصور الوسطى أو الآلهة القديمة الغامضة لحضارة البحر المتوسط. أينما يكون المرء، يحمل المكان طابعه الخاص. عاش الإنسان هناك ووضع فيه عصارة وعيه، وبطريقة أو بأخرى اصطبغ المكان بذلك الوعي وعبر عنه تعبيرًا خاصًّا به. قد يكون التعبير عن الإلهة بروسيربينا أو الإله بان أو حتى «الآلهة المحجوبة» الغريبة للإتروريين أو الصقليين، ومع ذلك فهو تعبير. لقد تم إضفاء الطابع الإنساني على الأرض، مرة تلو الأخرى، ونحن نتحمل في وعينا المنسوج نتائج هذا. ولذا فإننا حين نذهب إلى إيطاليا ونتوغل فيها، يصبح الأمر كما لو كان رحلة مذهلة لاكتشاف الذات، بعيدًا بعيدًا عبر مسارات الزمن القديمة. فتستيقظ بداخلنا مشاعر غريبة وجميلة، وتتحرك ثانية بعد أن صارت في طي النسيان منذ مئات السنين.
ثم ينتابك في النهاية شعور بالنضوب. كل شيء قد انتهى. كل شيء صار معروفًا.
في صباح ذلك الأحد، لمَّا رأيت الصقيع بين شجيرات سردينيا المتشابكة، التي لا تزال برية لم يمسسها بشر، اهتزت نفسي طربًا مرة أخرى. لم يكن هذا معروفًا. لم يكن قد انتهى. الحياة ليست مجرد رحلة لإعادة اكتشاف الماضي. إنها كل ذلك أيضًا. لقد أعادت لي إيطاليا جزءًا من نفسي لا أعرفه، لكنه جزء غاية في الأهمية. لقد عثرت لي على كثيرٍ مما فقدته؛ مثل أوزوريس الذي أعيد إحياؤه. لكني أدركت، صباح اليوم في الحافلة، أنه إلى جانب عملية إعادة اكتشاف الماضي المذهلة التي لا بد أن يقوم بها الإنسان قبل أن يكتمل، ثمة خطوة يجب أخذها إلى الأمام. هناك أراضٍ غير معروفة لم تمهَّد بعد ولا تزال تحتفظ بقيمتها. ولكن لا بد للإنسان أن يكون قد أكمل نفسه في الماضي العظيم أولًا.
•••
إذا سافر المرء أكَل. بدأنا في الحال في تناول البسكويت، أما القروي العجوز ذو السروال الأبيض الفضفاض والصِّدار الأسود والوجه العجوز الذي يبتسم في استغراب تحت طاقيته الطويلة القديمة، فبالرغم من أنه لم يكن ذاهبًا إلا إلى تونارا التي تبعد مسافة سبعة أو ثمانية أميال، فقد بدأ يُقشِّر لنفسه بيضة مسلوقة أخرجها من صرته. وبإهدار هادئ، نزع الجزء الأكبر من بياض البيضة مع القشرة؛ لأنه خرج هكذا. فقال له مواطن نوورو، ذلك الشاب ذو الوجه المشرق: «لكن انظر كيف أهدرتها.» فقال القروي العجوز، ملوحًا بيده بأسلوب فيه لامبالاة واستهتار: «ها!». فما الذي يهمه في مقدار ما أهدره وهو يسافر في حافلة لأول مرة في حياته.
أخبرنا مواطن نوورو أنه كانت لديه بعض الأعمال في سورجونو، لذلك يسافر باستمرار جيئة وذَهابًا. والقروي قضى له عملًا ما بشكلٍ أو بآخر أو أحضر إليه شيئًا من تونارا. كان شابًّا مبهجًا ذا عين لامعة ولم يفعل أي شيء خلال الساعات الثماني التي قضيناها في الحافلة.
أخبرنا بأن تلك التلال لا تزال تحتوي على طرائد؛ خنازير برية يصيدها الصيادون وأرانب برية كثيرة. وقال إنه كان مشهدًا طريفًا وبديعًا أن ترى أرنبًا بريًّا في الليل يفاجئه ضوء مصابيح السيارة، فيجري إلى الأمام وأذناه إلى الخلف، ويظل أمام السيارة داخل دائرة الضوء، يواصل الجري كالمجنون، ثم فجأة وعند أحد التلال يضاعف سرعته ويختفي في الظلام.
•••
انحدرنا إلى وادٍ عميق ضيق ثم مررنا بمفترق طرقٍ ومطعمٍ صغير، وصعِدنا بعد ذلك لأعلى مرة أخرى، وواصلنا صعودنا إلى تونارا مباشرة، تلك القرية التي كنا قد رأيناها أمس في ضوء الشمس. لكننا كنا نقترب منها من الخلف. وبينما انحرفنا نحو ضوء الشمس، اتخذ الطريق منحنًى طويلًا يصل إلى حَيد مفتوح بين واديين. ورأينا أمامنا شيئًا يلمع باللونين القِرمِزي والأبيض. كان يتحرك ببطء. إنه موكب بعيد يضم نساءً يظهرن بلونٍ قِرمِزي وتمثال ضخم يتحرك مبتعدًا عنا، ببطء، في صباح يوم الأحد. كان الموكب يمر عبر الحيد المستوي المضاء بأشعة الشمس وفوق وادٍ عميقٍ. كان موكبًا ضخمًا من النساء اللائي يتلألأن بلونٍ قِرمِزي وأبيض وأسود ويتحرك ببطء في المساحة وراء المباني الصفراء الرمادية للقرية الجاثمة على قمة التل متجهًا نحو كنيسة معزولة قديمة، وكأنه يسير على جسرٍ من ضوء الشمس نفسه.
ألن نرى أكثر من ذلك؟ انعطفت الحافلة مرة أخرى واندفعت على طريقٍ ممهدٍ ثم غيَّرت اتجاهها. وهناك في الأسفل قليلًا وعلى مسافة بعيدة، رأينا الموكب قادمًا. انخفضت سرعة الحافلة حتى توقفت تمامًا، فخرجنا منها. فوقنا تقف بين الصخور الملساء ورقع العشب المستوية كنيسةٌ قديمة عتيقة ترن أجراسها. وأمامنا مباشرة، في الأعلى، كانت توجد منازل حجرية عتيقة نصف متهدمة. كان الطريق ملتفًّا لأعلى باتجاهنا، من قريتين تقع إحداهما فوق الأخرى فوق قمة المنحدر الجنوبي الشديد الانحدار. وفي الأسفل بعيدًا كان الوادي الجنوبي الذي كان يتصاعد منه سحابة بيضاء من دخان المحركات.
وأقبل الموكب في أناةٍ مترنمًا ومنعطفًا على مهلٍ باتجاهنا على الطريق المكسو بالثلج بين العشب. كان الصباح في الأعلى يغشاه السكون. وقفنا جميعًا على هذه القمة الجبلية فوق العالم، وهدوء عميق يسود المنطقة في الأسفل يمينًا. ترنَّم الرجال بأنشودة متقطعة بدت قصيرة وغير مألوفة يعقبها ترديدات بأصوات نسائية خافتة وسريعة. لمرة أخرى تتعالى أصوات الرجال! كان أغلب مَنْ يرتدون الأبيض هم الرجال وليس النساء. وكان الكاهن مرتديًا رداءه، يقود هذا الإنشاد ورجاله بالقرب منه. خلفه مباشرةً، توجد مجموعة صغيرة من رجال طويلي القامة، عراة الرءوس، ولهم وجوه قد سفعتها الشمس، ويرتدون جميعًا ثيابًا من قماش مُخملي مضلع لونه ذهبي، قرويون يعيشون في الجبال، كانوا يُحنون رءوسهم أسفل تمثال بالحجم الطبيعي للقديس أنطونيوس البادوي في وضع الجلوس. وبعد هؤلاء، يوجد عدد من الرجال بالزي التقليدي، لكن بسراويل بيضاء من الكَتان تنسدل بِقَصَّة واسعة وفَضفاضة حتى الكاحلين تقريبًا، بدلًا من ضمها داخل لِفافات الساق الطويلة السوداء. لهذا تبدو السراويل شديدة البياض أسفل كشكشة التنورة القصيرة من الخلف. كان تصميم الصِّدار الصوفي الأسود قصيرًا مثل صِدار بذلة السهرة، وكانت الطواقي الطويلة مستقرة فوق رءوسهم بأوضاع مختلفة. ترنَّم الرجال بأصواتٍ خفيضة جوفاء وملحَّنة. ثم يأتي صوت النساء الخافت. يواصل الموكب زحفه ببطء إلى الأمام وبلا وجهة على أنغام الترانيم. أما التمثال الضخم فظل جالسًا في ثبات.
ثمة مسافة فاصلة تُركت خلف الرجال ثم أعقبها الحشد المبهر من النساء. كانت النساء تسير اثنتين تلو اثنتين وهن ينشدن تلقائيًّا حين يأتي دورهن، وجميعهن يرتدين ثيابًا زاهية جميلة. في الأمام، كانت تسير الفتيات الصغيرات كل اثنتين معًا مباشرة خلف الرجال طويلي القامة الذين كانوا يرتدون ثياب القرويين البيضاء والسوداء. ارتدى الأطفال، الذين ظهروا بمظهر تقليدي متحفظ، ثيابًا قِرمِزية وبيضاء وخضراء، فالفتيات الصغيرات كن يرتدين تنانير طويلة من قماش قِرمِزي تصل إلى أقدامهن ومزيَّنة بشريط أخضر بالقرب من الأسفل، ومآزر حوافها محددة بلونٍ أخضر زاهٍ وألوان متداخلة؛ وكن يرتدين فوق قمصانهن الطويلة البيضاء سُتراتٍ قِرمِزية قصيرة مفتوحة ذات حواف أرجوانية؛ وكذلك غطاء رأس أسود مربوط على أذقانهن الصغيرة تاركًا الشفاه مكشوفة، والوجه محاطًا بلونٍ أسود. يا لهن من فتيات صغيرات مذهلات، يتألقن بمظهر رائع ومحتشم في ثيابهن الزاهية وغطاء الرأس الأسود! كان مظهرهن رزينًا كالأميرات في لوحات فيلاسكيز! ثم جاءت الفتياتُ الأكبر سنًّا ثم النساء البالغات. كانت التنانير القِرمِزية الطويلة المزينة بشرائط خضراء في الأسفل تومض كأنها كتلة متحركة وموحدة من الألوان تتمايل بِرقَّة، وكذلك كانت المآزر البيضاء ذات الشريط الأخضر تتلألأ. كانت القمصان البيضاء الممتلئة عند الصدر مزرَّرة عند العنق بزرارَين كبيرين يشبهان الكرة ومزيَّنَين بزركشة ذهبية، والأكمام البيضاء الكبيرة تنتفخ من السترات القصيرة ذات الحواف الأرجوانية والخضراء. صارت الوجوه أقرب منا وكانت جميعها ملتفة بأغطية الرأس السوداء. وكانت الشفاه جميعها لا تزال تردد النشيد، ولكن العيون كلها تتطلع إلينا. وهكذا أقبلت علينا تلك الكتلة المفعمة بالألوان والمتمايلة برقةٍ. كانت الثياب القِرمِزية الزاهية الناعمة تهتز في انسجام، بينما بدت الشرائط ذات اللون الأخضر الزمردي متوهجة على خلفيةٍ بلونٍ أحمر وأبيض ثلجي، أما العيون الداكنة فكانت تختلس النظر إلينا وتحدق فينا من أسفل الرموش الطويلة السوداء، ثم تعود إلى التحديق إلينا بفضول شديد، وفي الوقت نفسه كانت الشفاه تتحرك تلقائيًّا بالترانيم. كانت الحافلة قد اتجهت إلى الجانب الداخلي من الطريق، لهذا كان على الموكب الالتفاف من حولها، نحو خط الأفق، والوادي العظيم من تحتهم.
كان الكاهن يحدق، والقديس أنطونيوس المريع بدا وكأنه ينكمش خوفًا عند مروره بالجانب الخلفي من الحافلة الرمادية الكبيرة، والرجال القرويون، الذين يرتدون ثيابًا قديمة من القماش المضلع الذهبي الذي صار باليًا من كثرة الغسل، كانوا يتصببون عرقًا أسفل ثِقل التمثال لكنهم ظلوا يغنون بشفاهٍ مفتوحة، والسراويل البيضاء الفَضفاضة التي يرتديها الرجال كانت تهتز أثناء سيرهم وأيديهم خلف ظهورهم، ملتفتين مرة أخرى لينظروا إلينا. يا لها من أيادٍ كبيرة قوية مطوية خلف كشكشة التنورة السوداء! ومرت النساء أيضًا ببطء، بينما تهتز ثيابهن القِرمِزية وشرائطهن الخضراء، ويستدرن كلهن أثناء الغناء ليُطِلن النظر إلينا. وبهذا تجاوز الموكبُ الحافلةَ، وواصل سيره إلى الأمام بخطًى متثاقلة صوب الكنيسة القديمة مُشكِّلًا منحنًى متواصلًا أمام خط الأفق. ومن الخلف، كان اللون القِرمِزي زاهيًا، كنت أتأمل بإمعانٍ وفضول تصميم السُّترات المجسَّمة بلونها الأحمر الخَشخاشي وحروفها البنفسَجية الزاهية والخضراء، والجزء الأبيض الظاهر من القميص عند الخصر. أما الأكمام الطويلة فبدت منتفخةً، وغطاء الرأس الأسود منسدلًا عند حدٍّ بعينه. والتنانير ذات الطيات كانت تتمايل في بطءٍ والشرائط العريضة الخضراء تبرز الحركة. لا بد حقًّا أن يكون الغرض من هذا الشريط السميك الزاهي ذو اللون الأخضر الزمردي هو إبراز الحركة الأفقية المذهلة للتنورة القِرمِزية الرقيقة إلى الأمام والخلف ثم إلى الأمام والخلف مما يضفي بهاء الإلهة ديميتر الذي لا يتغير على حركة القرويين بديعة الألوان التي تجمع بين الأحمر القاني والأخضر المَلاكَيت.
لم تكن جميع الثياب متشابهة بدقة. بعضها كان يزيد فيه اللون الأخضر، وبعضها يقل. بعض السُّترات التي لم يكن لها أكمام كان لونها أحمر داكنًا، والبعض كان يرتدي مآزر أكثر رداءة من غيرها ليس بها تلك الشرائط البديعة في الأسفل. وبعض الثياب كانت قديمة بكل وضوح، على الأرجح يرجع عمرها إلى ثلاثين سنة، لكنها تظل في حالة مثالية ومناسبة، ويُحتفظ بها لأيام الأحد والإجازات المقدسة. وثياب قليلة هي التي كانت بلونٍ أغمق وأكثر حُمرةً عن الأحمر القِرمِزي الأصلي. إن هذا التنوع في درجات الألوان أضفى جمالًا فوق جمال حشد النساء المتهاديات في مشيتهن.
•••
عندما كان الموكب قد دخل مصطفًّا إلى الكنيسة الرمادية الصغيرة المهجورة على قمة الجبل فوقنا تحديدًا، تحركت الحافلة في هدوءٍ لتتجه إلى نقطة استراحة في الأسفل، بينما كنَّا نعاود صعود الطريق الصخري المؤدي إلى الكنيسة. عندما وصلنا إلى الباب الجانبي وجدنا الكنسية تكتظ بالناس. على نفس المستوى ونحن واقفون في المدخل الجانبي المفتوح، رأينا الفتيات الصغيرات راكعات على بلاط صخري عارٍ، وخلفهن احتشدت النساء جاثيات على مآزرهن وأيديهن مطوية على نحوٍ متراخٍ، فكن يملأن الكنيسة حتى المدخل البعيد حيث كانت الشمس مشرقة عند المدخل الأكبر في آخر الجهة الغربية. وعلى مسافة قريبة من الكنيسة الجرداء المطليَّة بلونٍ أبيض، بدت جميع هؤلاء النساء الجاثيات بثيابهن الملونة وغطاء رءوسهن الأسود كأنهن حوض واسع من الزهور الحمراء من فوقها رءوس مكسوة بغطاء أسود. وكلهن جاثيات على أرضية حجرية عارية وصُلبة.
كانت أمام الفتيات الصغيرات في ثيابهن القِرمِزية مساحةٌ خالية يعقبها الرجال ذوو الثياب القطيفة الذهبية المضلعة، يحنون رءوسهم السوداء المستديرة في احترام وإجلال؛ ثم يأتي بعدهم رجال قرويون اشتعلت رءوسهم شيبًا يرتدون صُدرات سوداء غريبة وأكمامًا منتفخة بيضاء، ولكثير منهم لحية. ثم يقف أمامهم مباشرةً وعلى مرأى من الجميع الكاهنُ في ردائه الأبيض ويبدأ في إلقاء خطبةٍ. وكان جالسًا إلى جانب المذبح تمثال كبير مهيب حديث للقديس أنطونيوس البادوي، في رداءٍ أسود، مبتسمًا في خجلٍ وهو يحتضن طفلًا رضيعًا. كان يشبه بدرجةٍ ما النسخة الرجالية من العذراء مريم.
كان الكاهن يقول: «أما الآن، يوضح لكم القديس المبارك أنطونيوس السبيل الذي يمكنكم اتباعه لتصبحوا مسيحيين. لا يكفي أنكم لستم من الأتراك. يظن البعض أنهم مسيحيون لأنهم ليسوا من الأتراك. صحيح أن لا أحد منكم تركي. لكن لا يزال واجبًا عليكم أن تتعلموا كيف تصبحون مسيحيين صالحين. وهذا ما يمكنكم أن تتعلموه من القديس المبارك أنطونيوس. القديس أنطونيوس، إلى آخره …»
إن التباين بين الأتراك والمسيحيين لا يزال قويًّا في دول البحر المتوسط حيث ترك المسلمون تأثيرًا قويًّا. لكن كيف أثارت استيائي كلمة المسيحيين التي قيلت بأسلوب كهنوتي مميز. فالصوت يفتقر إلى نبرة النُّصح. كانت النساء كلهن يتطلعن بشدة إلى ملكة النحل وإليَّ في المدخل، وأيديهن مطوية في تراخٍ شديد.
قلت لملكة النحل: «تعالَي نبتعد! تعالَي ودعيهم ينصتوا.»
•••
غادرنا الكنيسة المزدحمة بحشدها الجاثي على ركبتيه، ونزلنا متجاوزَين المنازل المهدَّمة متجهَين نحو الحافلة التي كانت تقف ساكنةً فوق الوادي في مكانٍ يشبه شرفة مستوية بها بعض الأشجار. لا بد أن يطوَّق المكان بجنودٍ يحملون طبنجات. وكان عليَّ أن أرحب ببعض الملحدين تمامًا على سبيل إحياء عقيدتنا المسيحية الكئيبة.
لكنه كان مكانًا رائعًا. يُقاس عادة مستوى المعيشة بمستوى الارتفاع عن البحر. لكن هنا، في قلب سردينيا، يرتفع مستوى المعيشة بمقدار ارتفاع الهضبة المغمورة بالشمس، أما مستوى البحر فهو ناءٍ في مكانٍ ما بالأسفل وسط الظلام، ولهذا لا يُعتد به كدليلٍ على مستوى المعيشة. إن مستوى المعيشة مرتفع، وتزيده الشمس جمالًا وسط الصخور.
وقفنا ونظرنا لأسفل نحو سحب البخار بعيدًا عند الوادي الممتلئ بالأشجار الذي كنا عنده بالأمس. كان يوجد هنا في هذا المكان المرتفع منزلٌ قديمٌ ذو ارتفاع منخفض. أود لو أني أعيش هناك. إن هذه القرية في الواقع، أو بالأحرى القريتان اللتان تشبهان قُرطًا والحلية المتدلية منه، تقعان في الواجهة بالقرب من قمة منحدر حادٍّ مرتفع للغاية ومكسوٍّ بالأشجار، لا ينتهي حتى يصل إلى أعماق الوادي بعيدًا في الأسفل هناك في الظل.
وبالأمس، أعلى هذا المنحدر، كان قد وصل القروي العجوز برفقة ابنتيه المتألقتين والمُهر الصغير.
وفي مكانٍ ما في تلك القريتين البارزتين المتلألئتين في الواجهة لا بد أنه يوجد صديقي جيروفاجو و«زوجته». أتمنى لو أني أرى حُجَيْرتهما وأشرب معهما البراندي.
قالت ملكة النحل للسائق: «يا له من موكب جميل!»
أجاب بفطنة: «أجل، إن ثياب تونارا واحدة من أجمل الثياب في سردينيا.»
•••
انطلقت الحافلة مرة أخرى، لكن من دون القروي العجوز. رجعنا إلى طريقنا. ثمة سيدة تقود مُهرًا كَستَنائيًّا خلف الكنيسة فكانت تجذب الزمام وتسير بخطوات واسعة، لهذا كانت تنورتها الحمراء البنية تتحرك سريعًا كالمِروحة. من الواضح أن الثياب الحمراء القاتمة مخصصة ليوم الأحد فقط، أما أيام الأسبوع فلها هذا اللون الأحمر البني أو الأرجواني الداكن أو البني الداكن.
انزلقت الحافلة إلى أسفل التل بسرعةٍ وسهولةٍ متجهةً إلى الوادي. كانت الأودية البرية ضيقة وبها أشجار، وكذلك أشجار فلين ذات سيقان بنيَّة. على الجهة الأخرى المقابلة، ثمة رجل قروي في ثيابه البيضاء والسوداء يعمل وحده في أحد الطرق الصغيرة جانب التل، فبدا في عين العالم كله جسدًا صغيرًا منعزلًا كطائر عقعق بعيد. تؤثِر هذه الطائفة من البشر أن تختلي بنفسها وتنعزل عن الآخرين، كثيرًا ما يرى المرءُ إنسانًا وحيدًا منعزلًا وسط البرية. هذا مختلف عن صقلية وإيطاليا حيث يستعصي تمامًا على الإنسان أن يبقى منعزلًا. لا بد حتمًا أن يجتمع كل اثنين أو ثلاثة معًا.
لكنه صباح يوم الأحد، وهذا العامل حالة استثنائية. على امتداد الطريق، نمرُّ بعدد من المارَّة؛ فمنهم رجال يرتدون ثيابًا من جلود خرافٍ سوداء، وآخرون صبية يرتدون ملابس جنودهم الرثَّة. يمشون بخطواتٍ متثاقلة من وادٍ لآخر عبر الأودية البرية. وينتشر إحساسٌ بالحرية المُمَيِّزة لصباح يوم الأحد كما هو في الريف الإنجليزي. ليس سوى قروي واحد عجوز يعمل وحيدًا، وراعي معز يراقب معزه البيضاء ذات الشعر الطويل.
جميلةٌ هي المَعز وسريعة للغاية. تمضي سريعًا بعيدًا عنَّا على طول الطريق وكأنها أطياف بيضاء، ثم تندفع نحو سفح التل. أرى واحدة تقف على غصن شجرة بلوط، كانت ماعزًا بيضاء ضخمة تمضغ في سعادة وترفع فمها عاليًا ثم تشبُّ على رجليها الخلفيتين، ليصبح طولها فارعًا، وتضع قدميها الأماميتين النحيلتين بعيدًا على الغصن العلوي.
•••
في أي وقتٍ نصل فيه إلى قريةٍ نتوقف وننزل من الحافلة، ويختفي محصل حافلتنا الشاب في مكتب البريد ليأتي بحقيبة البريد. غالبًا ما يكون أمر الحقيبة هينًا، فهي تحتوي على ثلاثة خطابات تقريبًا. يحتشد الناس في الأرجاء ويرتدي كثيرٌ منهم ثيابًا رثة للغاية. يبدو عليهم الفقر وربما الانحطاط قليلًا ويفتقرون إلى الوسامة. يبدو الأمر كما لو أن الغريزة الإيطالية التي تدفعهم للتواصل سريعًا مع العالم هي الفطرة السليمة في النهاية. في تلك القرى المنعزلة التي كانت بعيدةً عن أي مركزٍ للحياة منذ زمنٍ سحيق، ثمة نظرة خسيسة تظهر على وجوه الناس. لا بد أن نتذكر أن الحافلة هي واحدة من الابتكارات العظيمة. وهي لم تأتِ هنا إلا منذ خمسة أسابيع فحسب. وأتساءل كم شهرًا ستستمر في العمل.
ذلك لأني أثق في أنها لن تحقق عائدًا. فتذاكر الدرجة الأولى تكلف، حسب ظني، قرابة سبعة وعشرين فرنكًا للتذكرة. في حين أن تذكرة الدرجة الثانية تُكلِّف ثلاثة أرباع ثمن تذكرة الدرجة الأولى. وفي بعض المناطق التي قطعناها أثناء الرحلة كنَّا عددًا قليلًا من الركاب. إن المسافة التي تغطيها الحافلة شاسعة، في حين أن الكثافة السكانية منخفضة، وبالرغم من أن جميع الناس الآن لديهم شغف الخروج من قُراهم، فإن الحافلة لا يمكنها أن تحقق متوسط إيرادٍ أكثر من مائتين أو ثلاثمائة فرنكٍ في اليوم. ومع أجر عاملَيْن وثمن الوقود الباهظ وتكلفة الاستهلاك، لا يمكنها أن تحقق عائدًا.
تحدثت مع السائق. لم يخبرني عن أجره، ولم أسأله أنا عن ذلك تحديدًا. لكنه قال إن الشركة تدفع له ولزميله مقابل المعيشة والمبيت في محطات التوقف. ولأننا في يوم الأحد، لهذا يسافر عدد أقل من الناس، لكن هذا كلام يصعب تصديقه. ذات مرة، كان قد أَقَلَّ خمسين فردًا على طول الطريق الواصل من تونارا إلى نوورو. ذات مرة! لكن اعتراضه كان غير مُجدٍ. قال إن الحافلة تنقل البريد وتدفع الحكومة رقمًا معتبرًا من الدعم يصل إلى آلاف مؤلَّفة من الليرات في السنة. من الواضح إذن أن الحكومة كانت، كالمعتاد، هي الطرف الخاسر. وهناك مئات الحافلات، إن لم تكن الآلاف، تجوب الضواحي النائية في إيطاليا وصقلية، أما سردينيا فكان لديها شبكة من مجموعة حافلات. إنها مبهرة، وربما أنها ضرورة مُلحَّة لسكان متململين ذوي مزاجٍ حاد لا يمكنهم ببساطة أن يبقوا هادئين، ويجدون راحتهم في التجول حتى في الحافلات العامة كما يُطلق على منظومة الحافلات.
تُدير الحافلات العامة شركاتٌ خاصة وتدعمها الحكومة فحسب.
•••
نسير مسرعين على الطريق، طيلة فترة الصباح، حتى رأينا بعد فترة طويلة قريةً كبيرة جاثيةً فوق قمة بعيدة، بناؤها من الحجر يعتلي هضبة مرتفعة. لكن لها طلة ساحرة مثلما تبدو من بعيد تلك المدن الصغيرة المشيدة على قمم جبلية. إنها تُذكرني دائمًا بخيالاتي الطفولية عن مدينة القدس، مدينةٌ متلألئة عالية في السماء تتخذ أبنيتها شكل مكعباتٍ واضحة.
من العجيب حجم الاختلاف الذي يُلحَظ بين القرى العالية البارزة المفعمة بالحياة والقرى المنخفضة في الأودية. تلك القرى التي تتوج العالم تحمل إحساسًا مبهجًا متألقًا، كما كان الحال في تونارا. أما تلك القرى الواقعة في الأسفل المتوارية في الظل، فإنها تحمل إحساسًا كئيبًا بائسًا، وأهلها منفرون مثل سورجونو وأماكن أخرى توقفنا عندها. ربما يكون رأيي غير صائب، لكن كان هذا هو الانطباع الذي تكوَّن لدي.
كنَّا في تلك اللحظة في أعلى نقطة من الرحلة. الرجال الذين رأيناهم على الطريق كانوا يرتدون ثيابًا من جلد الخراف، ورأينا آخرين كانوا يسيرون ملفِّعين وجوهم بوشاح. عندما نظرنا إلى الخلف، رأينا فوق صدوع الوادي ثلج جينارجينتو مرة أخرى، فكان غطاءً أبيض يكسو الجبل، قلب سردينيا تحديدًا. توقفت الحافلة في الوادي المرتفع إلى جانب جدول ماء حيث يتصل الطريق من بلدة فوني بالطريق الذي نحن فيه. كان ينتظر هناك شابٌّ بدراجته. أود الذهاب إلى بلدة فوني. يقولون إنها أعلى قرية في سردينيا.
•••
في الواجهة على القمة الفسيحة، وقفت أبراج جافوي عاليةً. كانت هذه نقطة توقف في منتصف الطريق حيث مُلتقى الحافلات، وكان بإمكاننا أن نبقى لمدة ساعة ونأكل. أخذنا نلف لأعلى ثم لأعلى الطريق الملتوي حتى دخلنا القرية أخيرًا. أقبلت النساء على الأبواب حتى يلقين نظرة علينا. كن يرتدين ثيابًا لونها بني داكن. وهُرع الرجال، وهم يدخنون غليونهم، صوب المكان الذي توقفنا عنده.
رأينا الحافلة الأخرى، كان يستقلها جمع صغير من الناس، ثم توقفنا في النهاية. كنَّا نشعر بالتعب والجوع. وصلنا عند باب النُّزُل، فدخلناه سريعًا. وفجأة، ما هذا الفرق الذي نراه! عند المشرب الصغير النظيف، يشرب الرجال في بهجةٍ وسعادة. وثمة باب جانبي يفضي إلى غرفة عامة. كم كانت آسرة. وفي مِدفأة بيضاء واسعة ونظيفة للغاية تزينها قبة جذابة، كانت تشتعل نارٌ من حُزمة عيدان طويلة مشقوقة وموضوعة أفقيًّا على مسند الحطب. كانت النار متقدة متوهجة تستقر أمامها مقاعد صغيرة منخفضة للغاية بالنسبة لنا لنجلس عليها. ويبدو أن تلك المقاعد الصغيرة الغريبة ذات الارتفاع المنخفض قطعة أثاث مُميِّزَة لهذه المنطقة.
كانت أرضية هذه الغرفة مبلطة بأحجار داكنة مستديرة ونظيفة تضفي مظهرًا جميلًا على الغرفة. وكان معلقًا على الجدران مراوح نحاسية لامعة يتلألأ بريقها على الطلاء الأبيض. أما تحت النافذة الطويلة الأفقية المطلة على الشارع، فكان مثبتًا لوحٌ حجري به تجاويف لإشعال نار صغيرة من الفحم. وكان انحناء قوس المدفأة واسعًا وغير عميق، لكن المنحنى فوق النافذة كان أكثر اتساعًا وأيضًا غير عميق، وبدا السقف الأبيض مقببًا بدرجة بسيطة. كانت الغرفة جميلة حقًّا مع بريق النحاس، وامتداد الأرضية الحجرية ذات اللون الوردي الداكن، والمساحة الرحبة، وحُزمة العيدان المضيئة المنخفضة. جلسنا وتدفأنا، ورحبت بنا صاحبة النُّزل ذات الجسد الممتلئ وابنتها اللطيفة، وكلتاهما كانتا ترتديان ثوبين لونهما بني داكن وقميصين أبيضين طويلين. كانت الناس تدخل وتخرج من الأبواب المختلفة. شيِّدت المنازل دون أي تخطيط على الإطلاق وحُددت الغرف عشوائيًّا إما هنا أو هناك. ومن مكانٍ مظلم جاءت امرأة عاهرة ووقفت تنظر إلى النار، ثم رفعت بصرها إليَّ، وهي تبتسم ابتسامتها المغرية المميزة.
•••
لكننا كنَّا نتضور جوعًا. أي طعام كان متوفرًا لنأكله؟ وهل أوشك أن يصبح جاهزًا؟ أخبرتنا الفتاة اللطيفة ذات الوجنتين البارزتين بأن الصنف المتوفر هو تشينجيالي وأنه أوشك على أن يصبح جاهزًا. ولأن «تشينجيالي» هو خنزيرٌ بري، أخذنا نتشمم رائحة الهواء. ظلت الفتاة تسير بهوادة بلا هدف جيئة وذَهابًا وهي تحمل طبقًا أو منديل مائدة، وأخيرًا قُدِّم الطعام. واجتزنا المكان الداخلي المظلم الذي كان على ما يبدو مساحة تبقت في الداخل من دون نوافذ عندما بُنيت حولها الغرف العشوائية، وانتقلنا إلى غرفة كبيرة جرداء بها أرضية من حجر مستدير داكن، ومائدة بيضاء وصحون حَساء مقلوبة. كانت الغرفة قارسة البرودة. وكانت النافذة تطل جهة الشمال على منظر ذي طابع شتوي من أراضيَ مرتفعةٍ وحقولٍ وجدرانٍ حجريةٍ وصخور. كذلك كان الهواء في الغرفة باردًا وساكنًا.
لكننا كنَّا نشكل مجموعة إلى حدٍّ كبير: سائق الحافلة الثانية وزميله، ومسافر ذو لحية من الحافلة الثانية مع ابنته، ونحن، ومواطن نوورو صاحب الوجه المشرق، وسائق حافلتنا. لكن لم يأتِ محصل حافلتنا الشاب ذو العينين الداكنتين. أدركت فيما بعد أنه لم يكن يقدر على دفع ثمن هذه الوجبة التي لم يشملها أجره.
كان مواطن نوورو يتحاور مع سائق حافلتنا الذي بدا الإجهاد حول عينيه، وجعل الفتاة تحضر علبة من السردين. فُتحت العلبة على مائدة باستخدام سكين جيب كبير خاص بمحصل الحافلة الثانية. كان رجلًا طائشًا غريب الأطوار عجولًا، لكني أحببته كثيرًا. لكن كنت مذعورًا من الطريقة التي شقَّ بها علبة السردين بالسكين. على أي حال، كان بإمكاننا أن نأكل ونشرب.
ثم جاء الحَساء في صحن عميق. كان ساخنًا بشدة ومذاقه قويًّا. ولم تكن به أي إضافات، فقط مرق لحم نكهته قوية ومن دون خضراوات. لكن كم كان مذاقه طيبًا ومنعشًا، ويا لوفرة الكمية التي قُدِّم بها! شربناه حتى آخر قطرة، وأكلنا الخبز البارد الشهي.
ثم جاء الخنزير بشحمه ولحمه. وبكل أسفٍ، كان عبارة عن صحنٍ به قطع كبيرة من لحم مسلوق لونه داكن وقاسٍ نوعًا ما، وكان هذا هو اللحم الذي أُعد منه الحَساء. وكان لحمًا جافًّا بدرجةٍ كبيرة خاليًا من الدهون. كانت ستصيبني حيرة شديدة حتى أعرف نوع اللحم، لو لم يكن قد أخبرني أحدٌ بذلك. للأسف كان يجب أن يحظى الخنزير البري بقليل من الاهتمام في طهيه. أكلنا، مع ذلك، قطعًا من اللحم الساخن الخالي من الدهن مع الخبز، وأسعدنا تناوله. فكان على الأقل مُشبِعًا. قُدِّم كذلك صحنٌ من الزيتون الأخضر المُر قليلًا كنوع من المقبلات.
أحضر مواطن نوورو في تلك اللحظة زجاجة نبيذ كبيرة قال عنها إنها فاخرة، ورفض أن يدعنا نُكمِل شرب النبيذ الداكن الذي كان على المائدة وقُدِّمت منه زجاجة واحدة لكل نزيل. وهكذا شربناها حتى آخر قطرة، ثم مُلِئ لنا مرة أخرى نبيذ سورجونو الأكثر احمرارًا وخفة والأفخر جودةً. وكان مذاقه ممتعًا للغاية.
كذلك لم يأكل محصل الحافلة الثانية الوجبة التي يقدمها النُّزل. إنما أحضر قطعة كبيرة من خبز شهي مخبوز في المنزل، وعلى الأقل نصف خروفٍ مشوي، وورقة كبيرة بها زيتون. أصر المحصل أن يمرر هذا الخروف حول المائدة، ملوحًا بشوكته وسكينته إلى كل نزيل، ومصرًّا على أن يأخذ كل نزيلٍ قطعة منه. لهذا تناولنا جميعًا لحم الخروف المشوي البارد الشهي، واحدًا تلو الآخر، ثم تناولنا الزيتون. ثم بدأ محصل الحافلة أيضًا يتناول اللحم الخاص به. كانت متبقية له قطعة كبيرة من اللحم.
إنه مدهشٌ ما كان عليه هؤلاء الرجال من سخاء وما تعكسه نفوسهم من حسن الخلق. بالتأكيد كان محصل الحافلة الثانية يلوح بشوكته وسكينه ويمتعض إذا اكتفى أحدنا بأخذ قطعة صغيرة من لحم الخروف. فكان يريد منَّا أن نأخذ المزيد. لكن دماثة الخلق الأصيلة فيهم جميعًا كانت رائعة إلى أقصى درجة ورجولية وبسيطة للغاية. ولم تختلف دماثة أخلاقهم مع ملكة النحل. عاملوها بحساسية وبساطة ورجولة، وهو أمر لا يسع المرء إلا أن يكون ممتنًّا له. لقد تجنبوا المجاملات البغيضة المثيرة للاشمئزاز لدى الأشخاص المهذبين. لم يتوددوا إليها ولم يغدقوا عليها من الثناء البغيض الذي يهواه الرجال المداهنون. لقد كانوا هادئين ولطفاء ومراعين لسير الحياة الطبيعي، وكذلك متواضعين تمامًا. أحببتهم حبًّا جمًّا. إن الرجال الذين بإمكانهم أن يُعاملوا سيدةً بلطفٍ وهدوء وبساطة، دون رغبة منهم في الاستعراض أمامها أو استمالتها، لا يزالون رجالًا بما تحمله الكلمة من معنى. لم يكونوا صاغرين ولا متعجرفين. ولم يتفاخروا. يا إلهي، يا لها من راحة تَقرُّ بها النفس أن تصبح في مَعيَّة أشخاصٍ لا يكلفون أنفسهم عناء التفاخر. جلسنا على المائدة في هدوء وعلى طبيعتنا وكأننا نجلس وحدنا، وبكل عفوية كنا نتحدث أو نستمع لحديثهم. وعندما لم نرغب في التحدث، لم يلتفتوا إلينا. وهذا ما أسميه حسن التصرف. قد يراهم أبناء الطبقة المتوسطة المتفاخرين غير مهذبين. لكني أرى أنهم الأشخاص الوحيدون المهذبون حقًّا الذين قابلتهم. لم يبدر منهم أي شكلٍ من أشكال التباهي ولا حتى التظاهر بالبساطة. يدركون أن الإنسان، أولًا وآخرًا، سيقف وحيدًا، وستكون روحه وحيدة، وكل الصفات التي يتباهى بها الناس لن تفيده في شيء؛ وهذا الإدراك الغائي العميق حافظ على بساطتهم.
عندما انتهينا من شرب القهوة وخرجنا، وجدت محصل حافلتنا جالسًا على مقعد صغير بجوار النار. كان الحزن باديًا عليه قليلًا. فهداني عقلي إلى أن أحضر له قهوة، فأبهجه ذلك. لكني أدركت لاحقًا بعد أن ربطت بين التفاصيل أنه كان يريد الجلوس معنا جميعًا على المائدة، لكن أجره على الأرجح لا يحتمل أن ينفق منه هذا المبلغ. كان حساب العشاء لكلينا حوالَي خمسة عشر فرنكًا.
•••
رجعنا إلى الحافلة مرة أخرى، وكانت مزدحمة. جلستْ في مواجهتي فتاةٌ قروية ترتدي ثياب مدينة نوورو التقليدية، وجلس بجانبي رجلٌ في منتصف العمر ذو لحية داكنة يرتدي بذلة مُخملية لونها بني، وكان يحدق بغضبٍ في الفتاة. بدا واضحًا أنه زوجها. لم يلقَ استحسانًا لديَّ؛ فهو من الرجال الناقدين شديدي الغيرة. وكانت الفتاة جميلة، بطريقتها الخاصة، لكن أغلب الظن أنها كانت لعوبًا. كانت هناك سيدتان قرويتان أنيقتان ترتديان ثياب أهل المدن مع وشاح أسود حريري على رأسيهما، وبدتا معجبتين بنفسيهما. ثم حدثت ضجة صاخبة حينما اندفعت إلى الداخل ثلاث فتياتٍ قرويات وهن يضحكن في حماسة مفرطة. وسمعت عبارات وداع صاخبة، وانطلقت الحافلة مغادرة قرية جافوي بين الصخور وحقول الجبال المنعزلة. قطعنا مسافة ميل أو نحوه، ثم توقفنا ونزلت الفتيات المتحمسات. استنتجت أنهن يتنزهن بالحافلة حتى يستمتعن بيوم الأحد. بدا عليهن الفرح والسرور. وانطلقن مع سيدات أخريات عاريات الرأس ترتدين ثيابًا تقليدية، على امتداد طريق جرداء بين الصخور المسطحة الناتئة والحقول الباردة.
•••
كانت الفتاة التي تجلس في مواجهتي لافتة للنظر. أظن أن عمرها لم يتعدَّ العشرين، أليس كذلك؟ هل تعني الخطوط الرفيعة حول عينيها أنها في الخامسة والثلاثين؟ لكنها على أي حال كانت زوجة الرجل ذي البذلة المُخملية. كان قصيرًا ومكتنزًا ويتخلل لحيته السوداء الخشنة بعض الشعر الأبيض، وله عينان ضيقتان بنيَّتان سرعان ما تتقدان غضبًا تحت حاجبيه المعقودين. كان يراقبها طَوال الوقت. ربما كانت في النهاية زوجة شابة حديثة العهد بالزواج. كانت تجلس وعلى وجهها نظرة خالية من أي تعبير، كنظرة شخصٍ تحت المراقبة دون أن يدري ذلك. كان ظهرها مواجهًا لمحرك الحافلة.
كانت ترتدي غطاء رأس أسود يبدأ من حاجبيها، وكان شعرها مشدودًا إلى الوراء من فوق جبينها العريض المتناسق. كان حاجباها الداكنان مرسومين بدقةٍ بالغة فوق عينيها الواسعتين اللامعتين ذواتي اللون الرمادي الداكن، لكنهما كانا مرفوعَين مما يعكس حالة من العند والغضب. كان أنفها مستقيمًا وصغيرًا، وثغرها مُطبقًا بإحكام. أما عيناها الواسعتان الناقمتان قليلًا فكانتا تخفيان داخلهما نظرةَ عِند. لكن، لكونها متزوجة حديثًا والمرجَّح أنها أدركت مؤخرًا ما يعنيه الزواج، كانت عيناها تسددان إليَّ أحيانًا نظرة مستفزة وبها فضول عني بصفتي زوجًا، وفيها تحدٍّ جريء بأن تحتفظ بأسرارها الجديدة لنفسها، وبها عِنْدٌ ضد سيطرة الرجال، وبها اهتمام لحقيقة أني رجلٌ. أما الرجل ذو الثياب المُخملية، التي بهت لونها الذهبي فجعلت مظهره قبيحًا وسوقيًّا بدرجةٍ ما، فكان يراقبها بعينيه المستعرتين غضبًا ذواتي اللون البني المائل إلى الصفرة.
كانت ترتدي الثياب التقليدية، وهي: قميصٌ ذو ثنيات مُزرر عند العنق بزرين كرويين بهما زركشة ذهبية دقيقة، وسُترة داكنة قصيرة من قماشٍ قاسٍ مربوطة عند الخصر ومزينة بشرائط مجدولة تُبرز جمال منطقة الصدر البيضاء، وكذلك ترتدي تنورة بنية مائلة إلى اللون الأحمر. بينما كانت الحافلة تقطع الطريق، صار لونها شاحبًا بدرجةٍ ما وظهرت على وجهها نظرة عناد لامرأة تعارض زوجها. بعد فترة طويلة رشقته بكلماتٍ قليلة لم أسمعها وازداد جبينها انقباضًا، وفي الوقت نفسه أرخت رموشها من حينٍ لآخر فوق عينيها الواسعتين اليقظتين العنيدتين والغادرتين أيضًا. لا بد أنها كانت صنفًا من البشر يصعب التعامل معه. كانت تجلس وركبتاها تلامسان ركبتي، وتهتز مع حركة الحافلة.
•••
وصلنا إلى قرية على الطريق: أصبح المنظر أمامنا أكثر اتساعًا ورحابةً. عند باب النُّزُل توقفت الحافلة، فنزل الزوج ذو الثياب المُخملية والفتاة من الحافلة. كان الجو باردًا، لكن في غضون دقيقة نزلتُ أنا أيضًا. أقبل عليَّ محصل الحافلة وسألني في قلقٍ إن كانت ملكة النحل تشعر بالتعب. أجابت ملكة النحل نافيةً وسألت: لمَ؟ فأجاب بأنه يسأل لأن إحدى السيدات أصابتها حركة الحافلة بالغثيان. فكانت هذه السيدة هي تلك الفتاة.
كان هناك ازدحام وضجيج هائل في هذا النزل. في الغرفة الثانية المظلمة التي خلت من أي أثاث كان يجلس رجلٌ في أحد الأركان يعزف الأكورديون. ورجالٌ يرتدون سراويل ضيقة كانوا يرقصون معًا. ثم بدءوا يتصارعون بعنفٍ ويتصادمون مع من حولهم، وسط صراخٍ وهتافات. كان يتدافع هنا وهناك رجالٌ يرتدون ثيابًا بيضاء وسوداء، لكنها متسخة، مع سراويل بيضاء واسعة تُرِكت منسدلة فوق لِفافات الساق السوداء. وجميعهم أفقدهم الشراب صوابهم. ها هو لمرة أخرى نُزل قذر لكنه يصطخب بالحياة الذكورية العنيفة الفظة.
قال مواطن نوورو إنه يوجد هنا نبيذ فاخر لا بد أن نُجرِّبه. لم تكن لديَّ رغبةٌ، لكنه أصر. لهذا شربنا كئوسًا صغيرة من نبيذ أحمر متوسط الجودة فحسب. كانت السماء قد صارت كلها رمادية تنتشر فيها السحب المتكتلة لفترة العصر. كان الجو باردًا للغاية ونقيًّا. لم يكن النبيذ مبهجًا وكان باردًا مملًّا في مثل هذا الجو.
أصر مواطن نوورو على دفع الحساب. وقال إنه سيتركني أدفع الحساب عندما يأتي إلى إنجلترا. لا يزال يتمتع هو والرجال في حافلتنا بروح الضيافة والكرم التي يشتهر بها أهل سردينيا.
•••
عندما انطلقت الحافلة مرة أخرى عرضت ملكةُ النحل على الفتاة القروية، التي بدت على وجهها نظرة إعياء، أن تبدِّل مكانها معي وتجلس ووجهها مقابل لمحرك الحافلة. هذا ما فعلته الفتاة الشابة بثقة شديدة شائعة بين مثل هؤلاء النساء. لكنها نزلت عند نقطة التوقف التالية وجعلت المحصل يأتي معنا في المقصورة، في حين جلست هي في الأمام بين السائق ومواطن نوورو. كان ذلك ما أرادته طَوال الوقت. وصارت في تلك اللحظة على ما يرام. فقد أدارت ظهرها إلى زوجها ذي الثياب المُخملية، وجلست بين رجلين شابين غريبين أظهرا تعاطفهما معها. وكان زوجها يراقبها من الخلف، وعيناه الضيقتان صارتا أكثر ضيقًا وأكثر تركيزًا، وبدا أنفه مجعدًا من الغضب.
تغيرت الثياب التقليدية مرة أخرى. ظهر اللون القِرمِزي ثانية، لكن من دون اللون الأخضر. وحل البنفسَجي الفاتح والوردي محل اللون الأخضر. وكانت النساء اللاتي يعشن في مكانٍ باردٍ صخري، ومهدَّم نوعًا ما، هن الأكثر تألقًا. فكانت ثيابهن عبارة عن تنورات لونها أحمر قاتم، وسُترات من دون أكمام صُممت لتلتف على نحوٍ غير مألوف حول خصرهن، وكانت محاطة بطيَّة وردية اللون وحافة عريضة بها خطوط من اللون البنفسَجي واللافندر. وبينما صعِدن بين المنازل القاتمة القبيحة تحت السماء الخالية الباردة، كان مذهلًا كيف ذابت هؤلاء النساء ذات الثياب الحمراء القِرمِزية والوردية في هذا الصخب المذهل من الألوان. يا لجرأة هذا المزيج من الألوان! لكن كم بدت مدهشةً تلك الثقة الشديدة الخطرة لهؤلاء النسوة وهن يمشين بهذا التألق. لم أكن أفضِّل التعامل مع أي منهن.
•••
ازداد المشهد أمامنا اتساعًا وبرودةً. بينما كنَّا نعتلي تلًّا في نهاية قرية، رأينا سلسلة طويلة من عربات محمَّلة بأشولة كبيرة، وكل عربة منها يجرها زوجٌ من الثيران، تميل لأعلى في عصر يوم الأحد البارد الشاحب. ما إن رأونا، توقف موكب العربات عند منعطف الطريق، وفي ضوءٍ شاحب بدا مشهد الثور الهزيل والعربات المنخفضة الشاحبة والأشولة الممتلئة الباهتة والعربات التي يقود كلًّا منها رجلٌ طويل يرتدي قميصًا بأكمام ساحبًا وراءه موكبًا ساكنًا على جانب التل، وكأنه صورة خيالية مثل لوحة فنية لدُوريه. مرت الحافلة متجاوزةً الرجل الذي يُمسك بعمود جر العربة، بينما تقف بعض الثيران ثابتة كالحجر، والبعض الآخر يهز قرونه. سألتْ ملكة النحل الرجل ذا الثياب المُخملية عما كانت تحمله تلك العربات. لم ينتبه إلى سؤالها لفترة طويلة. وبعد ذلك تطوع بالرد، بصوتٍ خاطف، بأنها حبوب من الحكومة توزَّع على عامة الناس ليصنعوا الخبز. كان ذلك في عصر يوم الأحد أيضًا.
يا للعجب هذه ذُرة الحكومة! يا لها من مشكلة تمثلها تلك الأشولة!
•••
أصبحت البلدة أكثر اتساعًا ونحن ننحدر إلى الأسفل. لكنها كانت كئيبة بلا أشجار مرة أخرى. كانت الصخور بارزة من الأودية الفسيحة المنخفضة. مر رجالٌ متجهمون يمتطون خيولهم عبر المسافات الشاسعة. وآخرون يحملون حُزمًا وينتظرون عند مفترق الطرق ليستقلوا الحافلة. كنَّا نقترب من نوورو. تجاوزت الساعة الثالثة عصرًا، والجو باردٌ يغشاه ضوء شاحب. بدا المشهد واسعًا مكشوفًا ومليئًا بالصخور فكان مختلفًا عن أي مشهد قبله.
وصلنا إلى الوادي حيث يسير خط السكة الحديد الفرعي إلى نوورو. رأيت في الحال على امتداد الوادي مقصورات قطارٍ وحيدة صغيرة لونها وردي. بعد أن انعطفنا ناحية اليمين انعطافًا حادًّا، انطلقنا في صمتٍ فوق المنحدرات التي بدت كأرض بريَّة، ورأينا البلدة بعيدًا تحتشد منازلها أسفل منا عند نهاية المنحدر الطويل حيث ترتفع الجبال فجأة من حولها. هنالك تقع البلدة وكأنها في نهاية العالم حيث ترتفع الجبال القاتمة في الخلف.
وهكذا توقفنا عند دازيو، الاسم الذي يطلق على كوخ الجمارك بالبلدة، وكان على الرجل ذي الثياب المُخملية أن يدفع مقابل بعض اللحم والجبن الذي أحضره. بعدها انحدرنا إلى الشارع الرئيسي البارد في نوورو. أظن أن هذا هو موطن الروائية جراتسيا ديليدا، ثم لمحت محل حلاقة. أتذكر الروائية ديليدا. الحمد لله أننا في نهاية الرحلة. تجاوزنا الساعة الرابعة.
توقفت الحافلة قريبًا جدًّا من باب النُّزُل: «ستار أوف إيتالي» أو (نجمة إيطاليا)، هل هذا اسم على مسمًّى؟ دخلنا من الباب المفتوح. لا يوجد أحد، وكالعادة مسموحٌ بالدخول إلى أي مكان وفي كل مكان مما يدل مرة أخرى على أمانة أهل سردينيا. نختلس النظر نحو اليسار من مدخل الباب … من غرفة صغيرة غير مهيأة … حسنًا، في آخر الغرفة الكبيرة المظلمة، تقف امرأة عجوز، شعرها أبيض ووجهها طويل عاجي، تكوي عند منضدة طويلة. لا يتسنى لك سوى أن ترى بياض المنضدة الكبيرة، والسيدة الطويلة العجوز بوجهها العاجي الطويل وعينيها المتذمرتين الزرقاوين الشاحبتين وهي ترفع بصرها لأعلى لتتفحصنا في عتَمة المكان في الداخل.
– «أهناك غرفة متوفرة، يا سيدتي؟»
تنظر إليَّ بعينيها الزرقاوين الفاترتين الشاحبتين، وتنادي في الظلام بصوتٍ عالٍ على شخصٍ ما. ثم تتجه ناحية الممر وتنظر إلينا — أنا وملكة النحل — من أعلى لأسفل.
تسأل بنبرة تحدٍّ: «هل أنتما متزوجان؟»
قلت: «أجل، وكيف من المفترض ألا نكون متزوجين.»
ظهرت، ملبيةً النداء، خادمةٌ صغيرة في الثالثة عشرة من عمرها لكنها تبدو نشيطة وقوية البنية.
تأمرها السيدة العجوز قائلةً: «اصطحبيهما إلى الغرفة رقم سبعة»، ثم تدير ظهرها متجهة إلى غرفتها المعتمة وتُحكم قبضتها على المكواة بانزعاج.
نسير وراء الفتاة ونصعد مجموعتين من درجات السُّلم الحجري البارد، فكان ضيقًا مثيرًا للإحباط به درابزين حديدي بارد، وممرات مفتَّحة على نحوٍ كئيب وغير منظم. توحي تلك المنازل من الداخل بأنها لم تُستكمل أبدًا على أكمل وجه، وكأن النزلاء منذ زمنٍ بعيد قد احتشدوا في الداخل، كما لو كانت حظيرة خنازير، دون أن ينتظروا وضع أي شيء في نصابه الصحيح، فتُرِك كل شيء منذ ذلك الحين بشكلٍ كئيب وفوضوي.
دفعت الخادمة الصغيرة ثامبلينا باب الغرفة رقم سبعة بحركة استعراضية. فصاح كلانا قائلَين: «يا لها من غرفة أنيقة!» بدت فخمة في أعيننا. فكان بها سريران أبيضان وثيران وعريضان، ومنضدة، وخزانة ملابس، وحصيرتان مفروشتان على أرضية من البلاط، وصور مطبوعة بديعة معلقة على الجدار، وحوضا غسيل وُضِعا جنبًا إلى جنب … وكل شيء كان نظيفًا ولطيفًا على أكمل وجه. ما كل تلك الفخامة التي جئنا إليها! شعرنا أنه لزامًا علينا أن ننبهر.
•••
فتحنا أبواب النافذة الشبكية ونظرنا لأسفل إلى الشارع؛ كان الشارع الوحيد. شارعٌ يضج بحياة صاخبة. بالقرب من الناصية في نهاية الشارع، تعزف فرقة موسيقية عزفًا مزعجًا إلى حد ما، ومن أول الشارع إلى آخره يرقص عدد لا حصر له من المقنعين الذين يرتدون ثياب المهرجان التقليدية، وفتيات وشابات يسرن في الشارع متشابكات الأذرع للمشاركة في المهرجان. كم كن جميعهن مرحات مفعمات بالنشاط وعلى طبيعتهن!
كان المهرجون في الغالب من النساء، فكان الشارع مليئًا بالنساء؛ وهذا ما ظنناه للوهلة الأولى. لكن عندما ألقينا نظرة عن قرب، تبين لنا أن أغلب النساء كن رجالًا متنكرين في أزياء النساء. كان جميع المهرجين شبابًا وأغلب هؤلاء الشباب كانوا متنكرين بالطبع في هيئة النساء. وبوجهٍ عام كانت السيدات لا ترتدي قناعًا للوجه، بل غطاءً من قماشٍ أسود أو أخضر أو أبيض ينسدل حتى أفواههم. وهذا أفضل كثيرًا. أما أقنعة النصف القديمة، ذات الكشكشة من الدانتيل، والخرطوم الرهيب الذي يبرز للأمام أبيض وشاحبًا مثل مناقير الطيور النافقة، مثل الأقنعة القديمة لأهل البندقية التي لا يسعني إلا أن أقول إنها مخيفة. لكن «الأقنعة» الحديثة عادةً ما تكون مثيرة للاشمئزاز فحسب. بينما الأقنعة النصفية الصغيرة البسيطة ذات اللون الوردي والطرف المصنوع من قماشٍ أسود أو أخضر أو أبيض، إنما هي شكلٌ من أشكال التنكر الآدمي.
كانت لعبة ممتعة أن نميِّز النساء الحقيقيات من الزائفات. كان البعض من السهل تمييزه. فقد حَشَوا صدورهم وأردافهم، وارتدوا قبعاتٍ وثيابًا متنوعة، وكانوا يتبخترون في مشيتهم بخطوات وئيدة مرحة مثل دُمًى صغيرة متدلية من حبالٍ مطاطية، وكانوا يُميلون رءوسهم إلى جانبٍ ويُرخون أيديهم، ويرقصون ليثيروا الفتيات الحقيقيات، وأحيانًا كانوا يتلقون ضربة شديدة على رءوسهم عندما يبدءون في عمل إيماءات جنونية وعنيفة فتتحرك على أثرها الفتيات الحقيقيات بجنون.
كانوا مرحين بسطاء. لكن بعضهم بات تمييزه أصعب. كان حاضرًا كل شكلٍ يمكن تخيله من «النساء»، منهن من لها كتفان عريضان وقدمان كبيرتان نسبيًّا. لكن الأكثر انتشارًا كانت سيدات يغلب عليهن الطابع القروي، لهن صدور ممتلئة وتنورة طويلة ومِشية تعكس ثقةً بأنفسهن. وثمة سيدة واحدة كانت ترتدي ثياب الحداد متكئةً على ذراع ابنة لها ذات بنية قوية. وأخرى كانت عجوزًا شمطاء متدثرة بمفرش سرير من الكروشيه. وأخرى ترتدي تنورةً وقميصًا ومئزرًا مهترئين، وتحمل مِقشة وتكنُس الشارع بقوةٍ من أوله لآخره. لكنه كان رجلًا شقيًّا يمتلئ نشاطًا. كان يكنُس بمثابرةٍ ساخرة أمام آنستين من المدينة كانتا ترتديان معطفًا من الفراء وتتبختران على طول الطريق بتفاخر. كان يكنُس طريقهما باحترام جم، فيقف أمامهما ثم يرجع إلى الخلف يكنُس وينحني احترامًا، بينما كانتا تسيران باختيال. كان ينحني بشدة، وهما تتبختران متجاوزتين إياه، إنهما فتاتان وقحتان بلا شك. ثم وثب وراءهما وثبةً جريئة مرحة، وبجنون شديد تمامًا بدأ يكنُس وراءهما وكأنه يمحو آثار أقدامهما. كان يكنس بمِقشته بجنون وعشوائية حتى إنه صدم كعبيهما وكاحليهما. فصرختا وحملقتا بغضبٍ حولهما، لكن الكنَّاس الأعمى لم يرهما. وظل يكنس ويكنس ويَخِز كاحليهما الناعمين النحيلين. فكانتا تثبان مستشيطات من الاستياء والغضب وثبات سريعة كوثبات القطط على قِرميد ساخن، ثم ولَّتا منزعجتين إلى الأمام. فانحنى مرة أخرى لهما، وبدأ في كنس الشارع بهدوء وبراءة. زوجٌ من العشاق يبلغان من العمر خمسين عامًا، كانت هي ترتدي تنورة منفوشة وقبعة لها قمة بارزة ووشاحًا، ثم مرت بخجل مصطنع وهي متعلقة بذارعه، يا لتكلُّفها! لكني استغرقت وقتًا طويلًا حتى أتأكد أن «الفتاة» كانت شابًّا. امرأة عجوز في قميص نوم طويل تتحرك ببطء في كل مكان وهي تحمل شمعتها وتمعن النظر في الشارع كما لو أنها تبحث عن لصوص. كانت تقترب من الشابات الحقيقيات وتضع شمعتها أمام وجوههن وتحدق بدقة، وكأنها تشتبه بهن في شيء. ولهذا احمرت وجوههن وأدَرْنها بعيدًا واعترضن بارتباك. كانت هذه السيدة العجوز تمعن بخوفٍ شديد في وجه سيدة أخرى ذات بنية قوية ترتدي ثيابًا وردية وقِرمِزية وبدت لجميع الناس كباقة من زهور الجيرانيوم ذات اللون الوردي والأبيض، فكانت سيدة قروية حقيقية بدأت في هلعٍ تضرب الرجل المتنكِّر بقبضة يديها بانفعالٍ وغضب عارم. فولَّى هاربًا وهو يجري بشكلٍ مضحك في قميص نومه الأبيض الطويل.
ظهرت فساتين جميلة حقًّا من قماش مُطرَّز فاخر قديم، وبعض الشيلان القديمة البرَّاقة بلمعةٍ لونها أرجواني فاتح وفضي، أو بمزيج من الألوان القوية الداكنة ذات حواف عميقة ذات لون فِضي فاتح وذهبي مائل إلى الأصفر الشاحب كانت غاية في الجمال. ظننت أن اثنتين من هؤلاء النساء كانتا نساء حقيقيات، لكن ملكة النحل لم توافقني في ذلك. ظهر كذلك فستان على الطراز الفيكتوري من الحرير الأخضر السميك مع بقع بلونٍ أبيض مائل إلى الصُّفرة موزَّعة على الشال. كان كلانا متشككَين في حقيقة نوعها. ورأينا أختين حزينتين رقيقتين ترتديان ثيابًا بيضاء بالكامل ولهما قدمان كبيرتان. آنسة فارعة الطول ترتدي تنورة ضيقة من الأسفل من الساتان الأسود وقبعةً مزركشة بالريش. وكانت الطريقة التي تتبختر بها، وهي تهز مؤخرتها وتسير على أطراف أصابعها وتحدق من فوق كتفها وتُبقي مرفقيها إلى الداخل، طريقةً هزلية مثيرة للإعجاب. لا سيما أنها كانت تُقلد حركة الصعود والهبوط البذيئة لمنطقة «الأرداف»، وهي حركة مُميِّزة للنِّسوِية المعاصرة، مع قليل من المبالغة الرجالية، وهو ما أثار ضحكي. بل إنها ضللتني في البداية.
وقفنا نطل من نافذتنا، واتكأنا على سور الشرفة الصغير نتأمل سير الحياة. في الجهة المقابلة مباشرةً كان منزل الصيدلي، كان مواجهًا لنافذتنا أفضل غرفة نومٍ في منزل الصيدلي، بها فراش زوجي أبيض ضخم وستائر من قماش الموسلين. كان يجلس في الشرفة بنات الصيدلي اللاتي ظهرن بمظهر أنيق للغاية بالأحذية ذات الكعب العالي والشعر الأسود المصفف بشكلٍ منتفش مع شكلٍ دائري كبير على الجانبين. يا لأناقتهن! نظرن إلينا فنظرنا إليهم. ولكن من دون إبداء اهتمام. كان نهر الحياة متدفقًا في الأسفل.
•••
كان الجو شديد البرودة واليوم ينقضي. كنا نشعر بالبرودة أيضًا. فقررنا الخروج إلى الشارع والبحث عن مقهى. في لحظة كنَّا في الخارج سائرَين قريبًا من السور من دون أن نَلفت الأنظار قدر المستطاع. بالطبع لم يكن هناك رصيف. كان هؤلاء المهرجون في غاية اللطف وخياليين ولم يصدر منهم أي تصرف همجي على الإطلاق. وفي تلك اللحظة صرنا بالقرب منهم، فاستشعرنا مدى غرابتهم وحسَّهم الفكاهي. كان أحد الشباب يرتدي قميصًا نسائيًّا أبيض ضيقًا، وزوجًا من سراويل أخته الواسعة ذات الألوان المتنوعة وبها كشكشة مشغولة بالقرب من الكاحلين، وكذلك جوارب بيضاء. كان يسير من دون تصنع فكادت هيئته أن تبدو جميلة. جفلت ملكة النحل منزعجةً؛ ليس بسبب السروال النسائي، لكن بسبب طوله المريع الذي يصل تحت الركبتين. وشابٌّ آخر ملتفٌّ في مُلاءة سرير، والله وحده أعلم إن كان بوسعه أن يتحرر منها. وآخر كان ملتفًّا في غطاء سرير أبيض من الكروشيه، لكنَّ تأمُّله كان صعبًا للغاية. ولم يعجبني على الإطلاق، فكان أشبه بسمكة وقعت في شبكة. لكنه كان يمشي في الأرجاء بقوةٍ.
وصلنا إلى نهاية الشارع حيث كان يوجد ما يشبه ساحة خالية فسيحة مهجورة. وهنا حيث تقف الفرقة الموسيقية تعزف بصوت صاخب، اجتمع حشد كثيف من الناس، وفوق مكانٍ مرتفع قليلًا، تكوَّنت حلقة صغيرة من الشباب والرجال والمهرجين، وفتاة واحدة أو اثنتين، يرقص بعضهم بالقرب من بعض بحيث بدوا وكأنهم مجموعة من الأسطوانات العمودية تدور مترنحة وتتأرجح يَمنة ويَسرة فتصطدم الواحدة بالأخرى. وكانوا يؤدون رقصة أشبه برقصة الفالس بانفعالٍ شديد. لِمَ يبدو عليهم الانفعال هكذا؟ ربما لأنهم كانوا جميعًا متقاربين جدًّا، كأعدادٍ كبيرة من السمك في حوض سمك كُروي تنزلق فيه الأسماك بعضها بجوار بعض.
كان هناك مقهى في هذا المكان الأشبه بالميدان، لكنه لم يكن ميدانًا على الإطلاق، كان مساحة خالية لا معالم لها. كان الرجال يشربون مشروبات بسيطة، وكنت أعرف أنه أمر ميئوس منه أن أطلب أي شيء غير المشروبات الباردة أو القهوة السادة، وهو ما لم نكن نريده. لذلك واصلنا السير إلى الأمام، صعودًا على منحدر شارع القرية. سرعان ما تصل تلك القرى إلى نهايتها. لقد بدأنا بالفعل نتجول في مكان مفتوح. وعلى حافة ناتئة في الأعلى، كانت عائلة من القرية تشعل نار مخيم مهيبة بدت كبرجٍ من ألسنة اللهب البرتقالية اللون. وثمة صبيان شقيان كانا يلقيان فيها مزيدًا من القُمامة. كان الجميع في البلدة ما عدا هذه العائلة. لِمَ كان هؤلاء الناس في آخر البلدة يشعلون هذه النار وحدهم؟
وصلنا إلى نهاية المنازل، وألقينا نظرة فوق سور الطريق إلى الوادي العميق والمثير للاهتمام في الأسفل. بعيدًا على الجانب الآخر، يرتفع جبل أزرق مخروطي الشكل شديد الانحدار لكنه كان قصيرًا. وفي جميع الاتجاهات ترتفع تلالٌ قاتمة بلون أزرق داكن. وفي مكانٍ ما بعيد، كانت الشمس تغرب ففاضت بلمسةٍ من اللون القِرمِزي. كان منظرًا طبيعيًّا استثنائيًّا غير عادي. بدت التلال وكأنها لم تُمس، زرقاء داكنة، برية لم تمسسها أيدي البشر، أما المنطقة المنخفضة من الوادي فكانت مزروعة فبدت بعيدًا في الأسفل كبِساط مزخرف. وعلى مسافة بعيدة تندر مظاهر الحياة، بل تكاد تخلو منها. لا توجد حتى قلاع. في إيطاليا وصقلية تنتشر القلاع في كل مكان. في سردينيا لا يوجد شيء غير التلال البعيدة المتفرقة التي تظهر بلونٍ داكن وتقف خارج مجال الحياة.
•••
عندما عدنا كان الظلام يزداد، وكانت الفرقة الموسيقية الصغيرة على وشك أن تكف عن صخب آلاتها الموسيقية. ومع ذلك لا تزال الحشود تتدفق، ولا يزال المهرجون يتراقصون ويثِبون مرحًا بلا كلل. يا للطاقة الهائلة التي كان المرء يتمتع بها في الماضي! قبل أن يصبح متكلفًا بهذه الدرجة. هنا كان المكان لا يزال يعج بحركة سريعة.
لم نعثر على أي مقهًى يبدو مبشرًا. ما إن وصلنا إلى النُّزُل، حتى سألنا إن كان هناك مِدفأة في أي مكان. لكن لم توجد مدفأة. فصعِدنا إلى غرفتنا. كانت بنات الصيدلي قد أضأن غرفتهن في الجهة المقابلة، فرأيت غرفتهن كما لو أنها غرفتي. وفي عتَمة الشارع، لا يزال المهرجون يرقصون، ولا يزال الشباب يتخفَّون بمرحٍ في هيئة النساء لكن بنشاط أكبر قليلًا في تلك اللحظة. وبعيدًا فوق أسطح المنازل ينتشر لون أحمر وبنفسَجي من أثر غروب الشمس. وكان الجو قارس البرودة.
لم يكن هناك شيءٌ لنفعله للتدفئة سوى أن نستلقي في الفراش. أعدت ملكة النحل القليل من الشاي على الموقد الكحولي، وجلسنا في الفراش واحتسيناه. ثم تغطينا وبقينا مستلقيَين لنشعر بالدفء. لم يتوقف الصخب في الخارج. وأصبح الظلام دامسًا، وانعكست الأضواء داخل الغرفة. وسُمِع صوت أكورديون يتسلل وسط الأصوات القوية والحركة الكثيرة في الشارع، ثم سُمِع بعد ذلك أصوات غناء قوي ورنان لرجال كانوا ينشدون إحدى أغاني الجنود.
«عندما نعود إلى وطننا …»
نهضنا لنشاهد ما يحدث. تحت المصابيح الكهربائية الصغيرة، كان الشارع الضيق المرصوف بالحصى لا يزال ينضح بسيْلٍ من الناس، ولكن بعددٍ أقل من المهرجين. مهرِّجان يطرقان بشدةٍ بابًا متينًا كان مغلقًا. ظلا يطرقان بلا توقف. وأخيرًا انفتح الباب فتحةً ضيقة. فاندفعا محاولين الدخول لكن بلا جدوى. كان الباب قد أُغلق في اللحظة التي رآهما فيها من فتحه، فأصيبا بالإحباط وانصرفا إلى الشارع. تمتلئ المدينة بالرجال، ويتوافد الكثير من القرويين من الأماكن النائية، لهذا ظهر في الشارع في تلك اللحظة الكثير من الملابس السوداء والبيضاء.
أوينا إلى الفراش مرة ثانية بسبب البرد. تُسمع طرقةٌ على الباب ثم تقتحم ثامبلينا الغرفة في الظلام.
تقول ملكة النحل بالإيطالية: «نحن هنا!»
تندفع ثامبلينا نحو النافذة فتغلقها. ثم تندفع إلى رأس الفراش وتضيء النور ناظرةً لأسفل إليَّ كما لو أني أرنبٌ في العشب. ثم تترك عبوةً من الماء أمام حوضَي الغسيل، لكنه للأسف ماء بارد مثلج. ومن ثم تندفع خارجة من الغرفة مرة أخرى، وتتركنا في ضوء ساطع، بعد أن أجابت بأن الوقت الآن قد تجاوز السادسة بقليل والعشاء في الساعة السابعة والنصف.
هكذا استلقينا في الفراش في دفء وسلام، ولكن جائعين في انتظار الساعة السابعة والنصف.
•••
لمَّا نفدت طاقة ملكة النحل على الاحتمال لأكثر من ذلك انتفضت من مكانها، رغم أن ساعة البرج كانت قد دقت السابعة لتوها. حينها ركضتْ لأسفل لتستكشف، وعادت في التو لتخبرني بأن الناس يأكلون بنهم في غرفة الطعام الكبيرة. وفي اللحظة التالية كنا قد نزلنا أيضًا.
كانت الغرفة مضاءة بنورٍ ساطع، وعلى موائد بيضاء كثيرة جلس النزلاء الذين كان جميعهم من الرجال. كانت الأجواء تشبه أجواء المدينة إلى حدٍّ كبير. والجميع فيها يعيش حالةً من المرح. وقع نظر ملكة النحل على الرجال الجالسين في الجهة المقابلة وكانوا يأكلون الدجاج والسلاطة، فزاد أملها في أن تحصل على وجبة جيدة. لكن آمالها لم تَدُم طويلًا. عندما جاء الحَساء، أعلنت الفتاة أنه لم يعد هناك سوى البيستيكا الذي يُقصد به قطع من لحم البقر المقلي. وهكذا كان؛ قطع صغيرة جدًّا من لحم البقر المقلي وبعض البطاطس، وقطع صغيرة من القرنبيط. لم يكن ذلك كافيًا حقًّا لطفلٍ في الثانية عشرة من عمره. وانتهى الأمر على ذلك. وكان يتدحرج على الطبق بعض ثمرات اليوسفي للتحلية. كانت تلك قصة العشاء بإيجازٍ. سألت إن كان يتوفر أي جبن: لا، لا يوجد جبن. وهكذا لم يكن أمامنا إلا الخبز.
دخل ثلاثة قرويِّين يرتدون ثيابًا بيضاء وسوداء، وجلسوا على المائدة الوسطى. ظلوا يرتدون طواقيهم الطويلة. لكن بدت هيئة هؤلاء الرجال المسنين غريبة وهم يدخلون بتؤدة وروية ويجلسون بعيدًا نوعًا ما ويحيطون أنفسهم بمساحة تعزلهم عمن حولهم. إن العزلة التي ميَّزت مرتفعات سردينيا في الأزمنة القديمة قد تستمر معهم، وأيضًا ذلك الطابع الجاف الهادئ الذي كان سمة لعصر ما قبل الحداثة.
•••
كان جميع الرجال في نهاية الغرفة التي نحن بها مواطنين يعملون كموظفين بشكلٍ أو بآخر، وجميعهم كان يعرف بعضهم بعضًا. وثمة كلبٌ كبير، كبيرٌ للغاية حقًّا، له أنف كبير ويمشي بخطى خفيفة من مائدة لأخرى، وينظر إلينا بعينين كبيرتين متأملتين لونهما أصفر مائل إلى البني. عندما أوشك الطعام على النفاد، دخل سائق حافلتنا والمحصل باديًا عليهما الوهن من الجوع والبرد والإرهاق. كانا يقيمان في هذا النُّزُل. ولم يأكلا شيئًا منذ أن أكلا مرق الخنزير في جافوي.
في وقت قصير للغاية كانا قد أنهيا نصيبهما، ألم يكن هناك أي شيء آخر؟ لا شيء! لكنهما كانا جائعين إلى حدٍّ ما. فطلبا بيضتين في مِقلاة لكل منهما. أما أنا فطلبتُ قهوة وزجاجة براندي، ودعوتهما إلى أن يأتيا ليحتسياها معنا. فجاءا بعدما انتهيا من البيض.
في تلك اللحظة، حدث شيء جذب انتباهنا في الجانب الآخر من الغرفة. كانوا يشربون النبيذ الأحمر، الذي يتمتع بمذاق رائع في سردينيا، بحُرية. وكان يجلس أمامنا مباشرةً رجلٌ ضخم البنية له عينان زرقاوان جميلتان ورأس شكلها لطيف، كان يرتدي ثيابًا مثل ثياب أي رجل آخر من المدينة في يوم الأحد. كان الكلب قد مشى ببطء نحوه وجلس أمامه كتمثال. ولأن الرجل البدين كان ثملًا، بدأ يلعب مع الكلب الكبير اللطيف المرقَّط. فأخذ قطعة خبز ووضعها أمام خَطم الكلب، فحاول الكلب أن يأكلها. لكن الرجل، الذي كان يتصرف كصبيٍّ في تلك اللحظة لإسرافه في شرب النبيذ، أبعد الكلب بحركة رادعة من إصبعه وأمره بألا ينتزعها. ثم بدأ حوارًا مقتضبًا مع الكلب. ولمرة أخرى حاول الكلب أن ينتزعها بلطفٍ، فرفعها الرجل مرة أخرى وأنقذها من فم الكلب، فجفل الكلب وتراجع إلى الخلف وعوى عُواءً حزينًا وكأنه يقول: «لماذا تستفزني!»
قال الرجل: «والآن، عليك ألا تخطف الخبز. تعالَ هنا. تعالَ هنا. تعالَ» ثم حمل قطعة الخبز. فاقترب الكلب. قال الرجل: «الآن، سأضع قطعة الخبز على خطمك، وعليك ألا تتحرك، واحد … ها!»
حاول الكلب أن ينتزع الخبز، فصاح الرجل وأبْعَد الخبز، فرجع الكلب إلى الوراء وعوى عُواءً آخر يدل على الاعتراض.
استمرت اللعبة. وظلت الغرفة بأكملها تشاهد وتبتسم. لكن الكلب لم يفهم اللعبة مطلقًا. فأقبل مرة أخرى مضطربًا. وضع الرجلُ الخبزَ بالقرب من خَطمه ثم رفع إصبعه محذرًا. أرخى الكلب رأسه في حزن لكنه رفع عينيه إلى الخبز وفي داخله مشاعر مختلطة.
قال الرجل: «والآن …! ليس إلا بعد أن أقول ثلاثة، واحد … اثنان …» لم يعد الكلب يحتمل أكثر من ذلك، وألقى الرجل الخبز وهو يبتعد، ثم صاح بأعلى صوته: «ثلاثة!» فالتهم الكلب قطعة الخبز بسعادة راضية، وادَّعى الرجل أن كل شيء قد حدث كما ينبغي عند النطق بكلمة «ثلاثة».
ثم بدأ من جديد. «تعالَ إلى هنا، تعالَ إلى هنا!» فأقبل الكلب، الذي كان قد ابتعد بالخبز، في ترددٍ وارتباك مُرخيًا رجليه الخلفيتين في شكٍّ كما تفعل الكلاب، وخطى خطواتٍ إلى الأمام نحو قطعة خبزٍ جديدة. فألقى عليه الرجل خطبة موجزة.
«اجلس هناك وانظر إلى هذا الخبز. وأنا أجلس هنا وأنظر إليك، وأحمل هذا الخبز. عليك أن تتوقف تمامًا، وأنا أتوقف تمامًا، إلى أن أعدَّ حتى الرقم ثلاثة. والآن إذن … واحد …» لم يحتمل الكلب انتظار العد بهذا البطء الشنيع. فاختطف الخبز بسرعة. وصاح الرجل وفقد الخبز، وتسلل الكلب بعيدًا ملتهمًا إياه.
ثم بدأت اللعبة مرة أخرى.
«تعالَ هنا! تعالَ هنا! ألم أقل لك إني سأعد حتى الرقم ثلاثة؟ قلت ذلك من قبل! سأعد حتى الرقم ثلاثة. وليس حتى الرقم واحد، بل ثلاثة. وحتى تصل إلى الرقم ثلاثة، تحتاج إلى ثلاثة أرقام. ها! مستعد! ثلاثة أرقام. واحد … اثنان … ثلاثة!» قالها بصوت عالٍ للغاية لدرجة أن صوته تردد صداه في الغرفة. أطلق الكلب نُباحًا حماسيًّا، لكنه لم يُمسك بالخبز، فبحث عنه وهرب.
احمرَّ الرجل من الحماس فكانت عيناه تلمعان. وجه كلامه إلى المتفرجين بوجهٍ عام. وقال: «كان لديَّ كلب. أجل، كلب! وكنت أضع قطعة خبز على خطمه، وأقول بيتًا من الشِّعر. فينظر إليَّ هكذا!» أشاح الرجل بوجهه. وقال: «كان ينظر إليَّ هكذا!» ثم رفع بصره لأعلى. «وكان يخاطبني أيضًا: زيو! زيو! لكنه لم يتحرك أبدًا. لا، لم يتحرك أبدًا. إذا جلس وذلك الخبز على خطمه لنصف ساعة — وانهمرت الدموع على وجهه — لم يكن ليتحرك أبدًا، ليس إلا بعد أن أقول ثلاثة! بعدها … أوه!» رفع الرجل رأسه لأعلى، وتظاهر بأنه يلتهم كسرة خبز من الهواء. «أوه، كان الكلب مدربًا …» فهزَّ الرجل الأربعيني رأسه.
«تعالَ هنا! تعالَ! ها هنا! تعالَ!»
ربَّت على ركبته السمينة، واقترب الكلب منه أكثر ببطء. فحمل الرجل قطعة خبز أخرى.
وقال للكلب: «والآن، استمع! استمع! سأخبرك بشيء.
ذهب الجندي إلى الحرب …
لا … لا، ليس الآن. عندما أنطق ثلاثة!
ذهب الجندي إلى الحرب …
أكل ما لم يشبع جوعه، فنام على الأرض …
استمع. قف مكانك. اهدأ الآن. واحد … اثنان … ثلاثة!»
وقد تزامن في الوقت نفسه أن انطلقت صيحة من الرجل وأن فتح الكلب فكيه في ارتباكٍ شديد وسمح للخبز أن يسقط في حلقه، فهز ذيله لشعوره ببؤس مُربِك.
قال الرجل: «حسنًا، ها أنت تتعلم. تعالَ! تعالَ إلى هنا! تعالَ! والآن إذن! والآن كما تعرف. هكذا! هكذا! انظر إليَّ هكذا!»
مال الرجل الوسيم المكتنز ذو الأربعين عامًا إلى الأمام. كان وجهه محتقنًا وعروقه نافرة في رقبته. تحدث إلى الكلب وقلَّده. فقلَّد بمهارة فائقة حقًّا شيئًا من حالة الخنوع الشديد واللطيف والباعث على الحزن التي كان يعيشها هذا الكلب. كان الكلب بمثابة حيوان مقدس في حياته، ذلك الكلب الودود العطوف الذي لا يثق بنفسه.
ثم بدأ الهزل مجددًا. فقال: «استمع الآن. استمع! دعني أخبرك …
ذهب الجندي إلى الحرب!
فسد طعامه، فنام على الأرض …
الآن! الآن! لا، لست محتفظًا بهدوئك. الآن! الآن!
ذهب الجندي إلى الحرب!
فسد طعامه، فنام على الأرض …»
كانت هذه المقاطع، المعروفة لدى جميع الإيطاليين، تنشد في هيئة أغنية. وكان الحاضرون على قلب رجلٍ واحد أو طفلٍ واحد يستمعون للغناء الذي يرن صداه في قلب كل واحد منهم. انتظروا العد بكل حماس: واحد … اثنان … ثلاثة! كان آخر رقمين يُنطقان بصيحة مدوِّية. لن أنسى أبدًا القوة التي خرج بها الرقمان … وثلاثة! لكن الكلب أدى عرضًا ضعيفًا … فاكتفى بالتقام الخبز وبدا منزعجًا.
استغرقت هذه اللعبة من وقتنا ساعةً كاملة! لساعة كاملة جلس كل مَن بالغرفة في صمت مطبِق يشاهدون الرجل والكلب.
•••
أخبرَنا صديقانا بأن الرجل يعمل مفتشًا للحافلات … كان مفتشًا عليهما. لكنهما أحبَّاه. فقالا: «رجل طيب! رجلٌ طيب! صدقًا!» ربما أزعجهما قليلًا أن يرياه ثملًا وأن يسمعاه يصيح بصوتٍ صارخ: وثلاثة!
كنا نتحدث ونحن نشعر قليلًا بالحزن والأسى. في هذه الأيام، يبدو الحزن الشديد والجدية على شباب في مقتبل العمر، لا سيما لو كانوا أشخاصًا لطفاء مثل السائق. نظر إلينا بحزنٍ المحصلُ الشاب بعينيه البنيتين، فكان حزينًا لرحيلنا.
في الصباح كانوا سيعودون مرة أخرى إلى سورجونو سالكين الطريق المعروف، أما نحن فكنا سنسافر إلى تيرانوفا حيث الميناء. لكننا وعدناهما بالعودة في فصل الصيف عندما يزداد الجو دفئًا. وحينها لا بد أن يجمعنا لقاءٌ مرة أخرى.
قال السائق بحزن: «ربما ستجدنا لا نزال نسير على الطريق نفسه. مَن يدري!»