إلى تيرانوفا والباخرة
كانت السماء صافية زرقاء في الصباح. استيقظنا من النوم باكرًا. كانت السيدة العجوز صاحبة النُّزُل ودودة للغاية هذا الصباح. كنا سنرحل باكرًا عما كان متوقعًا! لم نكن قد مكثنا وقتًا طويلًا في نوورو. ألم نُعجب بها؟
بلى، أُعجبنا بها. وسنعود إليها في الصيف عندما يصبح الجو أكثر دفئًا.
قالت إن هذا عين الصواب، إذ إن الفنانين يأتون إليها في الصيف. فوافقتنا الرأي بأن نوورو مدينة جميلة، بل غاية في الجمال. وهكذا كانت بالفعل. كانت حقًّا سيدة عجوزًا غايةً في اللطف والبراعة والإنسانية، كنت قد حسِبتها عجوزًا شمطاء حين رأيتها تكوي الملابس.
قدمت لنا قهوةً منعشة وكذلك حليب وخبز، ثم خرجنا إلى المدينة. كانت تنتشر الأجواء المميِّزة لصباح يوم الإثنين في بلدة ريفية عتيقة: شعور فاتر تجاه استئناف العمل على مضض بعد إجازة يوم الأحد؛ فلا أحد يشتري أي شيء، ولا أحد يُجهد نفسه أبدًا في أي شيء. أبواب المتاجر ذات الطراز القديم مفتوحة، في نوورو لم تصل المتاجر إلى مرحلة الاستعانة بنوافذ العرض. فيجب على الواحد منَّا دخول متاجر كالمغارات المظلمة ليرى البضائع التي في داخلها. بالقرب من مدخل متاجر الأقمشة، تُعرض لفائف من ذلك القماش القِرمِزي الفاخر المخصص لثياب النساء. وفي نافذةٍ كبيرةٍ لمتجر خيَّاط، تجلس أربع نسوة يَخِطن، ويفصِّلن، ويتطلعن من النافذة بعيونٍ لا تزال تحاول التحرر من أثر يوم الأحد ولكنها تفشل. ورجالٌ غير مبالين، بعضهم يرتدي ثيابًا لونها أبيض وأسود، يقفون عند النواصي وكأنهم يمتنعون بعناد عن مجاراة سير العمل. فَبَعْد أن قضوا عطلتهم، وظل مذاق الحرية المميز باقيًا على شفاههم، فلن ينجرفوا بهذه السهولة إلى شقاء العمل. أتعاطف دومًا مع هؤلاء الرجال المتبرمين البائسين الذين يصرون على أن يجعلوا من هذا اليوم يومًا آخر سعيدًا. وهذا الإصرار يكشف عن بارقة أمل في النفس الإنسانية التي لا تزال تقاوم عالمنا الذي طغت عليه السُّخْرة.
لا شيء يستحق المشاهدة في نوورو، وبصراحة هذا أمرٌ باعث على الراحة. فالمعالم السياحية مملة لدرجة مزعجة. الحمد لله أنه لا توجد أعمال فنية للفنان بيروجينو أو لبيزان في هذا المكان، على حد علمي. سعيدة هي المدينة التي ليس لديها ما يستحق أن تعرضه. يا لها من مدينة تكفينا شر الادعاء والتكلف! فالحياة على طبيعتها، وليست تلك المحنَّطة في المتاحف. بوسع المرء أن يتجول صباح يوم الإثنين في الشارع الضيق الذي يخلو قليلًا من أي حركة، ويرى نساء يثرثرن قليلًا، ويرى عجوزًا شمطاء تحمل سلةً من الخبز فوق رأسها، ويرى رجالًا متمنعين يتلكئون عن العمل، ويرى سير العمل بأكمله متوقفًا. الحياة على طبيعتها والأشياء تبدو كما هي. سئمت من الأشياء متعددة المعاني، وحتى من أعمال بيروجينو. كانت أعمال الرسامَين كارباتشيو وبوتيشيلي تثير إعجابي. لكن الآن اكتفيت منهما. لكن باستطاعتي دائمًا أن أنظر إلى قروي عجوز، ذي لحية رمادية، يرتدي سروالًا أبيض متسخًا وكشكشة سوداء عند الخصر، ولا يرتدي أي معطفٍ ولا قطعة أخرى فوق ملابسه، لكنه يكتفي بالانحناء بجانب عربته الصغيرة التي يجرها ثور. سئمت من «الأشياء»، حتى من أعمال بيروجينو.
•••
إن مشهد السيدة التي تحمل سلة الخبز ذكَّرتنا بأننا نريد بعض الطعام. ومِن ثمَّ بحثنا عن خبز. ألا يوجد خبز، إذا تكرمت. كان صباح يوم الإثنين وقد نفد الخبز. ربما يتوفر خبز في المخْبز. وأين المخبز؟ على امتداد الشارع، في نهاية أحد الممرات. حسبتُ أننا من المفترض أن نَشُم رائحته. لكننا لم نشم شيئًا. تجولنا عائدَين. قد أخبرَنا أصدقاؤنا بأن نحجز التذاكر في وقت مبكر، لأن الحافلة ربما تصبح مزدحمة. فاشترينا ما خُبِزَ بالأمس من فطائر وقليلًا من الكعك، وكذلك شرائح من النقانق المصنَّعة محليًّا. لكن لا يتوفر خبز حتى تلك اللحظة. فذهبت وسألت صاحبة النُّزل العجوز.
قالت: «لا يتوفر خبز طازج. لم يأتِ بعد.»
– «لا عليكِ، أعطني خبزًا بائتًا.»
فذهبتْ وفتشت في أحد الأدراج.
– «يا إلهي، يا إلهي، لقد أكلته النساء كله! لكن ربما يوجد هناك …» وأشارت إلى آخر الشارع … «بإمكانهم أن يقدموا لك بعض الخبز.»
لكن لم يكن باستطاعتهم.
دفعت الحساب الذي، حسبما أظن، كان ثمانية وعشرين فرنكًا تقريبًا، ثم خرجنا لنبحث عن الحافلة. كانت تقف هناك. في مكانٍ قذرٍ صغير مظلم، أعطوني تذاكر طويلة للدرجة الأولى المتجهة إلى تيرانوفا. كلفتني التذكرتان قرابة سبعين فرنكًا. كانت ملكة النحل حتى تلك اللحظة تتفقد الشارع، عشوائيًّا ودون جدوى، بحثًا عن خبز.
قال سائق حافلتنا الجديد بحماس نوعًا ما: «أنا مستعد في حال أنكم مستعدون». كان شابًّا ذا وجه شاحب بادٍ عليه الغضب، وله عينان بُنيَّتان وشعر فاتح «مائل إلى الحُمرة». صعِدنا الحافلة، وودعنا أصدقاءنا السابقين الذين كانت حافلتهم على أهبة الاستعداد للسير في الاتجاه المقابل. أثناء سيرنا متجاوزين «السوق»، رأيت الزوج ذا البِذلة المُخملية يقف بعيدًا منعزلًا، ولا يزال واضحًا على وجهه نظرات متجهمة تنبئ بكدر لا يفتر.
أنا على يقين أنه ذو مال، وإلا فَلِمَ ركِب الدرجة الأولى بالأمس. ومتأكدٌ كذلك أن «زوجته» تزوجته لأنه أحد رجال البلدة الأثرياء ذوي الأملاك.
•••
تحركنا إلى رحلتنا الأخيرة في سردينيا. كان الصباح مشرقًا بديعًا سماؤه زرقاء. كان يمتد في الأسفل يمينًا وادٍ تكسوه الخضرة. وعاليًا في ضوء الصباح تبزغ تلال شاهقة خالية من جنس بشر وبها منحدرات قفراء لا أشجار عليها.
كانت النافذة اليسرى في الحافلة من دون زجاج، ولهذا عصفت بنا في الداخل رياحٌ باردة. تمددت على المقعد الأمامي، وتقوقعت ملكة النحل في زاوية، وأخذنا نراقب الأرض وهي تمر سريعًا. كم كان السائق الجديد متمكِّنًا من قيادته! كان رجلًا ذا أنف طويل يغطيه نَمَشٌ وعينين بنيتين تعكسان كآبة. كم كان بارعًا في تغيير السرعة، فكانت الحافلة تتحرك بنعومة كما لو كانت كائنًا حيًّا يجري ببساطة. وكم كان غير مبالٍ بالعالم من حوله غارقًا في كآبته وكأنه هاملت يقود الحافلة. كانت ردوده على زميله مقتضبة للغاية وأحيانًا كان يكتفي بعدم الرد نهائيًّا. كان واحدًا من الرجال الأكْفَاء الجديرين بتحمل المسئولية الذين تبدو الكآبة على وجوههم، والذين يؤدون عملهم بإتقانٍ دون أن يُسمَع لهم حسٌّ وكأنهم يقودون حافلاتهم على حافة الموت، فإذا تفوهت بكلمةٍ سقطوا بك من فوق تلك الحافة. لكنه كان لطيفًا بالطبع. اعتادت الروايات الأدبية أن تتخذهم أبطالًا لها: شخصية السيد روتشيستر الشاب ذي الشعر المائل إلى الحمرة الذي فقد حلم الزواج من جين إير.
ربما لم يكن مقبولًا أن أراقبه عن قربٍ هكذا من الخلف.
أما زميله محصل الحافلة فكان شخصًا غير مهذب، يرتدي واحدة من تلك القبعات العسكرية الأنيقة التي يميل الجزء العلوي المرن منها جانبًا أو إلى الوراء. وكان يرتدي سروالًا مصممًا لركوب الخيل باللون الكاكي الإيطالي ولِفافتي ساق. دخن سيجارته بأسلوبٍ غير مهذب، ولكن في الوقت نفسه أعطى واحدة إلى هاملت ذي الشعر الأحمر بمنتهى اللطف. قَبِلها هاملت، فحمل له زميله ولَّاعة بينما كانت الحافلة تتأرجح على الطريق. كانا أشبه برجلٍ وزوجته. كان الزميل يمثل شخصية جين إير الحذرة ذات العينين الواسعتين التي لم يكن السيد روتشيستر ليفسد طبيعتها في وقتٍ قصير.
•••
اختلف المنظر عن البارحة. بينما كنَّا ننحدر بسرعةٍ كبيرة على الطريق الضحل المتعرج من نوورو، بدت الأراضي القفر تتسع على كلا الجانبين، فكانت مهجورة خالية من الأشجار الطويلة لكنها مليئة بشجيرات صغيرة وصخور. يا لشدة الحرارة التي لا بد أن تشهدها في فصل الصيف! يعرف الواحد منَّا ذلك من كتب جراتسيا ديليدا.
مُهرٌ بعربة صغيرة كان يسير على مهل على جانب الطريق. فخففنا سرعتنا وسرنا وراءه حتى تجاوزناه دون وقوع ضرر. ثم بدأنا نسرع مرة أخرى في الطريق الملتوي الذي يلف حول نفسه كثعبان قد أصيب بجرحٍ. كان هاملت ينطلق بالحافلة حتى يصل إلى المنعطف؛ ثم يخفف سرعته تمامًا؛ ثم ينطلق مرة أخرى حتى يصل إلى المنعطف التالي.
خرجنا إلى مساحات واسعة مقفرة إلى حد ما من الأودية، تنتشر بها صخور منخفضة على اليسار، ومنحدرات شديدة صخرية كثيفة على اليمين. ومن حينٍ لآخر، تلوح مجموعات من الرجال يرتدون ثيابًا بلونٍ أبيض وأسود، يمارسون عملهم في المسافات البعيدة المهجورة. وسيدةٌ، ترتدي ثيابًا لونها بني مائل إلى الحمرة، كانت تقود حمارًا يحمل سلةً كبيرة على طول الأرض المقفرة. أشرقت الشمس في جلالٍ وبهاء، وكان الجو حارًّا هنا بالفعل. كان المنظر قد تبدَّل تمامًا. فكانت تلك المنحدرات تطل من جهتي الشرق والجنوب على البحر، وكانت مكشوفة إلى الشمس والبحر دون أن يحول بينها وبينهما حائل.
كانت أول نقطة تَوقُّف لنا عند نقطة التقاء طريقنا بطريق ضيق ووعر ينحدر من التل. عند الزاوية شُيِّد منزل وحيد، وعلى جانب الطريق وقفت أكثر عربة بالية ومتهالكة رأيتها في حياتي. بينما كنا واقفين على قارعة الطريق، فرز الزميل المرح البريد ووقَّع على السجل الصبيُّ صاحب العربة البنية البالية الخرِبة والمهر البني. أعقب ذلك فترة قصيرة انتظرنا فيها رجلًا كان يأتي بطردٍ آخر. تم تسلُّم حقيبة البريد والطرود من العربة المتهالكة والتوقيع عليها. اغتنمنا هذه الفترة في السير جيئة وذَهابًا في الشمس حتى نشعر بالدفء. كان منظرًا طبيعيًّا مفتوحًا من جميع الجهات.
بيب! يطلق السيد روتشيستر بوق الحافلة بحسم. كان صعودنا السريع إلى متن الحافلة في إذعان أمر مدهش حقًّا. تمضي الحافلة منطلقةً ناحية البحر بسرعة. في تلك اللحظة وعند منتصف الطريق، يستشعر المرء ضوءًا ساطعًا مميزًا يتسلل من السماء، فكان ضوءًا شديد التوهج في السماء الدنيا سببه انعكاس الشمس على سطح البحر.
وفي الأمام على مسافة بعيدة، كانت توجد ثلاث فتيات، يرتدين الزي البني، يمشين على جانب الطريق المتلألئ بوهج الشمس، وهن يحملن سلالًا ويتجهن نحو القرية التي تقع أعلى منحدر بسيط. سمِعونا، فاستدرن، وفي الحال فقدن صوابهن وكأنهن دجاجات على الطريق. أسرعن ناحيتنا وعبرن الطريق، وبسرعةٍ تفوق سرعة أي أرنب ركضن الواحدة تلو الأخرى إلى ممر جانبي عميق كان أشبه بخندقٍ متعامد على الطريق. هناك، بينما ننحدر بالحافلة، اختبأن كلهن وهن ينظرن إلينا في خوف كحيوانٍ يختلس النظر من جحره. ألقى مُحصل الحافلة التحية عليهن بصوتٍ عالٍ، واستكملنا السير ناحية القرية الجاثية على القمة المنخفضة.
•••
إنه مكانٌ صغير حجري عشوائي ويسكنه أناس فقراء. توقفنا هناك. كان هناك مجموعة من الفقراء. ترتدي النساء الزي البني الداكن، وقد تغير شكل السُّترة القصيرة مرة أخرى. فأصبحت أشبه بمِشد قصير مذهل يأخذ شكلًا غريبًا ومبتكرًا، وعلى ما يبدو كان مصنوعًا من قماش موشًّى بطريقة رائعة. لكن انظر إليه الآن بعد أن بَلِي من القِدم.
نشِب شجار سببه أن رجلًا يريد أن يصعد الحافلة ومعه خنزيران صغيران لونهما أسود، كل منهما ملفوف في حقيبة صغيرة، بحيث يظهر وجهه وأذناه مثلما تظهر الوردة من باقة ورود مغلَّفة. أُخبِر الرجل بأنه لا بد أن يدفع أجرة عن كل خنزير كما لو كان فردًا مسيحيًّا. يا إلهي! إنه خنزير، خنزير صغير فحسب، يُدفع له كما لو كان فردًا مسيحيًّا. ويُرخي حقيبتي الخنزيرين واحدة من كل يد، فيفتح الخنزيران الصغيران فاهيهما الأسودين ويزعقان لاستمتاعهما الواعي بحالة الإثارة التي يتسببان فيها. فليبارك الرب! إنها لازمة يرددها. لكن مُحصل الحافلة كان متعنتًا في رأيه. لا بد أن يُدفع لكل حيوان، حتى لو كان فأرًا، ويحصل على تذكرة كما لو كان فردًا مسيحيًّا. يتراجع صاحب الخنزيرين غاضبًا مذهولًا ومتأبطًا حقيبتي الخنزيرين. ويسأل شابٌّ في تهكم: «كم تدفعون أجرة للبراغيث التي تحملونها في أجسادكم؟»
تحت ضوء الشمس، تجلس سيدةٌ مرتاحة البال كانت تخيط سُترة جندي طويلة لتصنع منها معطفًا صغيرًا من أجل صبيها الشقي. وثمة ضحكات تتعالى من فتيات ذوات وجنات مكتنزة ولكنها متسخة قليلًا. أما صاحب الخنزيرين الذي عُقِد لسانه من الغضب فكان يُدلِّي حقيبتي الخنزيرين، وكأنهما زجاجتان، بحيث تتدلى كل حقيبة منهما على أحد جانبي سرج الحمار الذي كانت تُمسك بزمامه فتاةٌ تبتسم ابتسامة عريضة لكنها حاقدة أيضًا؛ حاقدة على ثمن الخنزيرين. أما الخنزيران، اللذان كانا يتطلعان إلى العالم من مكانهما الجديد، فكانا يصرخان في اعتراضٍ دائم على معاملة البشر التي لا تُحتمل.
يقول السيد روتشيستر بصوته الهادئ والجاد أيضًا: «هيَّا بنا! هيَّا بنا!». فاندفع مُحصل الحافلة صاعدًا وانطلقنا مرة أخرى في ضوء الشمس القوي نحو البحر.
•••
دلفنا إلى أوروسي، وهي بلدة صغيرة مهجورة متداعية تلفحها الشمس ولا تبعد كثيرًا عن البحر. نزلنا في الميدان. تظهر أمامنا واجهة كنيسة ضخمة، تحاكي الطراز الباروكي، وتعتلي مجموعة ضخمة من درجات السُّلم الواسعة، وعلى جانبها مبنى رائع يتكون من مجموعة من الأسطح القرميدية المستديرة التي ترتفع من المنتصف. لا بد أنه كان شيئًا أشبه بالدير. إنه إلى حدٍّ كبير ما يطلقون عليه «المشهد المُلهم للرسام»، تلك الواجهة الباهتة الكبيرة ذات الطراز الباروكي التي تعتلي منحدرًا متدرجًا، وذلك المبنى المعتم الغامض بجانبها الذي تميزه عدة أسطح دائرية على ارتفاعاتٍ متفاوتة، مزيَّنة بقرميد داكن ليشبه قبعات ذات حواف مدببة. يعكس المكان بأكمله طابعًا إسبانيًّا يغلب عليه الإهمال والجفاف، بيد أن ضخامة المكان وبهاءه الذي جار عليه الزمان وطبيعته الصخرية تعيدك إلى العصور الوسطى حينما كانت الحياة قاسية وكانت أوروسي بلا شكٍّ ميناءً ومكانًا له شأن. من المحتمل أنها كان لديها أساقفة.
اشتدت حرارة الشمس في الميدان الفسيح الذي يضم تلك الواجهة الضخمة الباهتة التي تعتلي منحدرًا صخريًّا على أحد الجوانب، وأقبيةً وساحة كبيرة وسلالم خارجية لمبنى مجهول يقع بعيدًا على الجانب الآخر، وكذلك طريقًا ينحدر من منطقة داخلية وصولًا إلى الأسفل حيث المستنقعات، فيعطي ذلك الميدان انطباعًا بأنه قد خضع في يومٍ من الأيام إلى سلطة فردية منحت هذا الميدان وحدةً وبهاءً معماريًّا، لكنه صار الآن مُهمَلًا ومنسيًّا، كانت أوروسي فاتنة حقًّا.
لكن كان لأهلها طبع فظ. ذهبنا إلى مكانٍ أشبه بمشربٍ لكنه بُدائي إلى أقصى حد، فطلبت خبزًا.
قال ذو الطبع الفظ: «أتريد خبزًا وحده؟»
– «نعم، إذا تكرمت.»
فأجاب قائلًا: «ليس هناك أي خبز.»
– «أوه … من أين نحصل على خبزٍ إذن؟»
– «ليس بوسعك شراء أي خبز.»
– «حقًّا!»
ولم يكن بوسعنا ذلك. كان الناس يتعاملون بسماجة وعبوس.
ثمة حافلة ثانية كبيرة كانت متأهبة للانطلاق إلى مدينة تورتولي التي تقع في أقصى الجنوب على الساحل الشرقي. مانداس هي نقطة التقاء قطارات السكة الحديدية القادمة من سورجونو وتورتولي. وقفت الحافلتان متقاربتين وتجاذبتا أطراف الحديث. وطفنا في البلدة — أو فلتسمِّها القرية — الهامدة التي تفتقر إلى روح الحياة إلى حدٍّ كبير. ثم بدأ السيد روتشيستر يزمر بالبوق في حسمٍ ولهذا أسرعنا بالصعود.
وُضِع البريد جانبًا. رجل من أهل المدينة يرتدي ثيابًا واسعة سوداء جاء مهرولًا يتصبب عرقًا، ويحمل حقيبة لونها أحمر قاتم، وأخبرنا بأن علينا أن ننتظر صهره الذي كان على بعد اثنتي عشرة ياردة. اعتلى السيد روتشيستر عرش السائق وحدق في الاتجاه الذي لا بد أن يأتي منه ذلك الصهر. قطَّب جبينه منزعجًا، وصار أنفه الطويل الحاد لا يبشر بأي صبر. وضغط على البوق حتى جعله يصدر ضجيجًا يشبه صوت بقرة البحر. لكن صهر الرجل لم يظهر.
قال السائق: «لن أنتظر أكثر من ذلك.»
اعترض زميله المُحصل قائلًا: «صبرًا! دقيقةً واحدة، دقيقة واحدة! لن تضيرنا في شيء.» لم يُبدِ هاملت ذو الشعر الأحمر والوجه والأنف الطويلين أي ردٍّ. جلس ثابتًا كالتمثال لكن عينيه السوداوين تنظران في غضبٍ إلى آخر الطريق الذي لم يظهر فيه أحدٌ حتى تلك اللحظة.
غمغم من بين شفتيه المطبقتين قائلًا: «حسنًا، ها نحن في سبيلنا للانطلاق»، ثم مال متجهمًا إلى الأمام ليمسك بذراع التشغيل.
صاح زميله: «الصبر … الصبر … لنصبر لحظةً … لِمَ العجلة …»
صاح الرجل ذو الثياب الواسعة السوداء، وهو يتميَّز من الغيظ وينتفض في غضب على الطريق بجوار حقيبته التي تقف في التراب: «لأجل الله!» ثم أردف قائلًا: «لا تذهب! لأجل الله، لا تتحرك. عليه أن يلحق بالسفينة. لا بد أن يكون في روما غدًا. لن يستغرق قدومه ثانية واحدة. ها قد وصل، ها قد وصل، ها قد وصل!»
أُذهل ذلك السائق ذو الأنف الحاد الذي يؤمن بما يمليه القدر. حرر الذراع ونظر حوله بعينين باحثتين. لكن لا أحد يظهر في مجال الرؤية. يقف بعض أهل البلد المتجهمين بلا حركة. ظهر الغضب في عيني روتشيستر الداكنتين المكفهرتين. لم يرَ أي أحدٍ على الإطلاق. فحرر المكابح! وصار وجهه ينعم بسلام ملائكي عندما فعل ذلك. كنَّا نقف على منحدرٍ، وفي حركة غدرٍ، بدأت الحافلة تميل قليلًا إلى الأمام وتتحرك.
صاح زميله المُحصل، وهو يتسلق إلى جانب روتشيستر الجديد الذي يبدو بوجهٍ ملائكي في تلك اللحظة: «يا إلهي، ما هذا … ما هذا الإصرار!»
صرخ ذو الثياب الواسعة، ما إن رأى الحافلة تسير إلى الأمام وتزداد سرعةً: «من أجل الله … يا الله!». ثم رفع يديه وكأنه يوشك أن يوقفها، وصاح في صراخٍ عنيف: «يا إلهي بيبن! بيبن … يا إلهي!»
لكن دون جدوى. كنَّا قد تركنا بالفعل الجماعات الصغيرة من المتفرجين خلفنا. كنا نتحرك لأسفل خارجين من الميدان. وكان صاحب الثياب الواسعة قد أمسك بحقيبته وأخذ يركض بجانبنا في حرقة. خرجنا من الميدان، لم يكن روتشيستر قد أدار المحرك وكنَّا نتدحرج فحسب حتى آخر المنحدر السلس بمشيئة الله. ثم توارينا عن النظر في الشارع الضيق قاصدين البحر الذي لم نره حتى تلك اللحظة.
سُمعت صرخة مفاجئة: «يا إلهي … أخيرًا!»
انقطع نفس صاحب الملابس الواسعة قائلًا أربع مرات: «ها قد وصل! ها قد وصل! ها قد وصل! ها قد وصل!» ثم أردف قائلًا: «ها هو هنا!» ثم تابع قائلًا: «بيبن … ستغادر الحافلة، سترحل!»
ظهر بيبن، رجل في منتصف العمر له ذقن غير مهذبة يرتدي أيضًا ثيابًا واسعة سوداء حاملًا صرة، ويجري ناحيتنا على قدميه السمينتين. كان جسده يتفصد عرقًا، لكن وجهه لا يظهر عليه أي تعبير وتبدو البراءة عليه. وبابتسامة سريعة متهكمة، تحمل شيئًا من الغيظ والارتياح، ضغط روتشيستر على المكابح مرة أخرى، فتوقفنا في الشارع. فترنحت سيدةٌ في فزعٍ ممسكةً بصدرها. وحينئذٍ حانت لحظة الوداع.
قال روتشيستر باقتضابٍ وهو يتطلع من فوق كتفيه ويلوي أنفه الصغير في خبث: «فلننطلق!». وفي الحال حرر المكابح مرة أخرى. دفعت السيدة البدينة بيبن إلى الداخل وكان يلهث بعبارات الوداع، وأدخل الصهر الحقيبة الحمراء في الحافلة، ثم تخلف هو في الوراء، واندفعت الحافلة بقوة خارجة من أوروسي.
•••
تقريبًا في غضون دقيقة كنَّا قد غادرنا البلدة سائرين على منحدرها، وكان تحتنا نهر ملتو يشق طريقه عبر أراضٍ سبخة حتى البحر حيث تتكسر الأمواج المتلألئة على الشاطئ الهادئ المعزول الذي يقع على بُعد ربع ميلٍ. يسير النهر سريعًا بين الصخور ثم بين سيقان البوص الذابلة المرتفعة التي يصل طولها إلى مستوى طول الإنسان. تصل تلك السيقان الطويلة تقريبًا إلى البحر الهادئ الذي ينبعث منه وهج ضوءٍ ساطع يتسع ليشمل المنطقة المنخفضة من منطقة البحر الأبيض المتوسط.
نزلنا سريعًا إلى مستوى النهر، ثم صعِدنا فوق جسر. فظهر أمامنا، في المنطقة التي تقع بيننا وبين البحر، تلٌّ آخر يشبه إلى حدٍّ كبيرٍ سورًا له قمة مستوية ويسير أفقيًّا، فكان التل مستويًا تمامًا وموازيًا لحافة البحر، فبدا أشبه بهضبة طويلة ضيقة. ولوهلة صرنا في المنطقة الواسعة لقاع النهر. وكانت بلدة أوروسي تقف على منحدر خلفنا.
على مسافة بعيدة جهة اليمين، تلتقي مع البحر الهادئ المتلألئ المستنقعاتُ الراكدة التي يتخللها النهر والمحفوفة بسيقان البوص السميكة الذابلة، فصار البحر والنهر مسطحًا مائيًّا واحدًا حيث تتدفق موجات صغيرة وهادئة إلى تيار الماء. أما جهة اليسار، فتبصر العين جمالًا خلَّابًا. يتخذ قاع النهر منعطفًا لأعلى بعيدًا عن الشاطئ، وعندئذٍ تظهر مساحة خضراء، وبالأخص أشجار اللوز الآسرة ذات الأزهار المتفتحة. كم كانت جميلة وهي تلمع بلونٍ وردي مفضض فتضفي جمالًا وكأنها حولت منظر الأشجار، فتقف فارعة وفي حالة مثالية في قاع النهر العجيب، الذي بدا كمهدٍ لها، السائر موازيًا للبحر. كانت أشجار اللوز مُزهرة أسفل بلدة أوروسي الباهتة، وحينما اقتربت أشجار اللوز من الطريق، أُتيح لنا أن نرى البتلات الزاهية لكل زهرة على حدة، وكانت أشجار اللوز تقف منتصبةً على المنحدر العلوي أمامنا. كانت أشجار اللوز قد أزهرت في مثل هذا الجمال الراقي، وفي هذا الغور الذي تلقي الشمس فيه أشعتها في بهاءٍ، ويعكس البحر وهجًا ساطعًا يشبه تجلي الإله، فتقف متلألئة بألوانها الوردية اللامعة التي تقارب اللون الوردي المنتشر في السماء. وبالكاد يلمح المرء جذوعها الصُّلبة في هذا الوادي الساحر.
لكن كنا قد تجاوزنا المكان بالفعل، واندفعنا مسرعين على الطريق الفسيح الذي كان يسير في اتجاهٍ مستقيم، وينحدر على امتداد جانب التل المواجه للبحر، وكأنه سُلَّم خارجيٌّ للمنزل. وهكذا اتجهت الحافلة نحو الجنوب صاعدة هذا المنحدر الذي يشبه درجات السُّلَّم حتى تصل إلى قمة الهضبة الطويلة المطلة على البحر. وحينما صعِدنا، رأينا أمواج البحر الأبيض المتوسط ترتطم بصخور سوداء لا تبعُد كثيرًا في الأسفل على يميننا. بمجرد أن صرنا على تلك الهضبة الطويلة، انعطف الطريق جهة الشمال حيث كان طريقًا طويلًا، أبيض من وهج الشمس، لا حركة فيه، يسير بين سرائح سَبخة برية ذات شجيرات صغيرة كثَّة. كان البحر على مسافة قريبة وكان ذا زُرقة واضحة يشع ضوءًا ساطعًا. حتى بدا أنه يفيض ضوءًا أكثر من الماء. أما جهة اليسار، فيظهر حوض الوادي الواسع حيث تشبه أشجار اللوز فيه سُحبًا سابحة في الهواء، فتخلق توازنًا بين اللون الوردي المنتشر في السماء فوق الأرض الشاحبة من أثر الشمس، وعلى الجانب الآخر من حوض الوادي، تتكدس على المنحدر منازلُ بلدة أوروسي الشاحبة المنسية. يا لروعة أوروسي بأشجار اللوز والنهر المحفوف بسيقان البوص! فتنبض حيويةً بالضوء الساطع ودنو البحر منها، ورغم أن كل هذا الجمال بات منسيًّا في عالم عفَّى عليه الدهر، فقد ظلَّ حيًّا في الأذهان مثلما تظل الأساطير. يصعب عليك أن تصدق أن ذلك المنظر حقيقيٌّ. يبدو أن زمنًا طويلًا قد مضى منذ أن فارقتها الحياة فحوَّلتها الذاكرة إلى ذكرى لمكان له جاذبية ساحرة، وباتت منسية كحبة لؤلؤ مُهمَلة على ساحل سردينيا الشرقي. لكن ها هي أوروسي بأهلها المتأففين الذين يأبون أن يمنحوك كِسرة خبز. وعلى الأرجح، بل أكاد أثق، أن الملاريا تنتشر هنالك. وستصير الحياة جحيمًا إذا مكثت لشهرٍ واحد. لكن في هذه اللحظة من صباح أحد أيام شهر يناير، تبيَّن لي مدى روعة ذلك البهاء الأزلي الذي اصطبغت به العصور الوسطى حينما كان الرجال يتمتعون بهيبة وقوة طاغية ورغم ذلك يحيط بهم الموت من كل مكان.
«الخوف من الموت يقلقني.»
سار الطريق موازيًا للبحر، لكن من فوقه، متأرجحًا برفق لأعلى ولأسفل، وممتدًّا نحو مُرتَفع زاحف حتى مسافة بعيدة في البحر. لم تكن هناك مناطق مرتفعة. أصبح الوادي خلفنا، وتحيط بنا أراضٍ مقفرة مهجورة غير مأهولة، لا تصلح للحياة، تمتد إلى اليسار وتنتهي حيث تنحدر الأرض، كالجُرف، نحو البحر على اليمين. لم نرَ أي مظهر دالٍّ على الحياة في تلك اللحظة، ولو سفينة في البحر الأزرق الشاحب. كانت السماء الشاسعة صافية ومبهرة بزُرقتها وضوئها اللامع. وفوق الأرض المقفرة حام صقر مَهيب. وبدت الصخور بارزة. كانت الأرض برية تكسوها شجيرات كثيفة، ولا شيء يحجبها عن السماء، ومهجورةً إلى البحر والشمس.
•••
كنَّا وحدنا في الحافلة. كان مُحصل الحافلة قد حاول لمرةٍ أو مرتين أن يفتح حوارًا معنا، لكنه أزعجنا إلى حد ما. كان شابًّا في الثانية أو الثالثة والعشرين تقريبًا من عمره. كانت هيئته أنيقة تمامًا، يرتدي قبعته العسكرية الأنيقة وله بِنية تليق تمامًا بالزي العسكري. لكن كانت له عينان داكنتان تشيان بأن لديهما كثيرًا من الأسئلة، أما طريقته في الحديث فكانت مباغتة ومتواصلة ومحرجة. قد سألَنا بالفعل إلى أين كنا سنذهب، وأين كنا نعيش، ومن أين أتينا، وما جنسيتنا، وما إذا كنتُ رسامًا. فعرف بالفعل الكثير عنَّا. علاوة على أننا صرنا ننأى بأنفسنا عنه. أكلنا تلك المعجَّنات المتواضعة غير الغنية التي اشتريناها من نوورو … لم تكن سوى معجنات هشة، مذاقها طيب، لكن لم يكن بداخلها أي شيء غير الهواء. وقضمنا شرائح من نقانق نوورو لها نكهة مميزة. وشربنا الشاي. كنا في جوعٍ شديد؛ إذ كنَّا تجاوزنا فترة الظهيرة ولم نكن قد أكلنا أي طعام على الإطلاق. كانت الشمس مَهيبة في السماء، واندفعنا بسرعة هائلة على الطريق المقفر فوق البحر.
تسلق محصل الحافلة إلى الداخل ليشاركنا المقصورة الأمامية. نظر إلينا بعينيه الداكنتين اللتين يملؤهما الرجاء، وفي الوقت نفسه الإصرار، وجلس أمامنا مباشرةً، وقد ربَّع ساقيه، وبدأ يجعجع بأسئلة مريبة بصوتٍ قوي فضولي. بالطبع كان من الصعب أن نسمعه بسبب الصخب الصادر من الحافلة المندفعة بشدة. كان علينا أن نحاول رفع صوتنا بلكنتنا الإيطالية، وكان هو الآخر محرجًا بدرجة لا تقل عنَّا.
على الرغم من اللافتة التي توضح أن «التدخين ممنوع»، عرَض علينا سجائر، وألحَّ على أننا لا بد أن ندخن معه. فكان الأسهل علينا الاستسلام إلى عرضه. حاول أن يَلفت أنظارنا إلى معالم تظهر في المنظر بالخارج، لكن لم يكن هناك شيء لنلتفت إليه عدا المكان الذي يمتد التل فيه ناحية البحر بعيدًا عن الأرض المقفرة، ليتخذ شكل لسان في البحر، فقال إن هناك منزلًا بعيدًا أسفل المنحدر يعيش فيه خفر السواحل. ولا شيء عدا ذلك.
ثم بدأ، مع ذلك، وابل الأسئلة. فسألَنا مرة أخرى عما إذا كنت إنجليزيًّا وملكة النحل ألمانية. فأخبرناه بأننا بالفعل هكذا. ثم بدأ القصة القديمة. انتفضت الدول فجأة وثارت محاربة بعضها بعضًا. إيطاليا لم تكن في نزاعٍ مع ألمانيا، لم يكن لديها أي نزاع معها قط، كانت الدولتان تربط بينهما صداقة وطيدة. لكن بمجرد أن نشِبت الحرب، كان على إيطاليا أن تشارك فيها. ما الداعي لذلك؟ ألمانيا ستهزم فرنسا وتحتل أراضيها ثم تزحف جنوبًا وتغزو إيطاليا. كان من الأفضل إذن أن تنضم إلى الحرب بينما كان العدو يغزو أرض دولة أخرى.
تصرفوا بسذاجة تامة في مسألة الحرب. وهذا ما أعجبني. استطرد في الحديث قائلًا بأنه كان واحدًا من الجنود؛ كان قد خدم لثماني سنوات في سلاح الفرسان الإيطالي. وأكَّد أنه كان فارسًا وخدم طَوال فترة الحرب. لكنه رغم ذلك لم يكن على خلافٍ مع ألمانيا. كلا، الحرب حرب، وانتهت. فلْنَجعلها تنتهي إذن.
لكن فرنسا … يا لفرنسا! وعندئذٍ عدل جلسته على مقعده، واقترب بوجهه من وجوهنا، وعيناه اللتان تشبهان عيني كلب متوسل صارت فجأة تستعر غضبًا على نحو غير منطقي بتاتًا. فرنسا! ليس هناك رجل في إيطاليا يطيق صبرًا حتى يُجْهِز على فرنسا. دع الحرب تنشَب، وسيهب كل إيطاليٍّ للانضمام إلى الجيش، حتى الطاعنون في السن. نعم، حتى الطاعنون في السن. أجل، لا بد أن تنشَب حرب مع فرنسا. الحرب قادمة، قادمة لا محالة. وجميع الإيطاليين باتوا في انتظارها. ينتظرون أن يسرعوا للإجهاز على فرنسا. تُرى ما السبب؟ لماذا؟ لقد قضى سنتين من الخدمة في الجبهة الفرنسية، ولهذا عرف السبب. أوه، الفرنسيون! يا لغطرستهم، وعجرفتهم، يا إلهي! إنهم غير محتملين. ظن الفرنسيون أنهم سادة العالم! ملوك الدنيا وسادتها. نعم. ظنوا أنفسهم لا ينزلون عن هذه المكانة وأنهم يستحقونها، لكن من هم في الحقيقة؟ قردة! قردة! ليسوا أفضل من القردة. دع الحرب تنشَب، وإيطاليا ستُريهم. إيطاليا ستلقن سادة العالم درسًا! إيطاليا متعطشة إلى الحرب، الجميع فردًا فردًا متعطشون إلى الحرب. ليس مع أحدٍ، ليس مع أحدٍ غير فرنسا. أجل، ليس مع أحد آخر … إيطاليا تحب كل البلاد الأخرى … كلها عدا فرنسا! عدا فرنسا!
تركناه يصرخ منفسًا عما في جعبته، حتى وصل إلى النهاية. الانفعال والطاقة بداخله كانا مذهلين. كان أشبه بشخصٍ مهوَّس. لم يكن بوسعي إلا أن أبدي دهشتي. ثم لا أتوانى عن إبدائها مرة أخرى. وذلك لأنه يبدو غريبًا مدى الانفعال المخيف الذي ينتاب تلك النفوس البائسة المتوسلة حينما تشعر بالإهانة. كان واضحًا شعوره بأنه قد تعرض للإهانة، ولهذا صار يشتعل غضبًا. لكن لم يكن من المفترض على الشاب اللطيف أن يتحدث بصوتٍ عالٍ هكذا نيابة عن جميع الإيطاليين، حتى العجائز منهم. إن السواد الأعظم من الإيطاليين مستعدون أتم الاستعداد أن يصنعوا من حرابهم مباسم للسجائر، ويدخنوا سيجارة يفوح دخانها برائحة سلام دائم لا ينتهي؛ لئلا يوافقوا صديقنا الرأي. لكنه حتى تلك اللحظة، كان ينفس عن غضبه معي في الحافلة أثناء سيرنا مندفعين على طول الساحل.
وبعد فترة من الصمت، خيَّم عليه الحزن والكآبة مرة أخرى، فنظر إلينا مرة أخرى بعينيه البنيتين المتوسلتين، متوسلًا شيئًا لا يعرفه، وأثق بأني لا أعرفه أنا أيضًا. ربما كان ما يريده حقًّا هو أن يعود ليمتطي الحصان مرة أخرى في سلاح الفرسان، حتى إذا اشتعلت الحرب.
لكن لم يكن الأمر كذلك، اتضح الشيء الذي كان يظن أنه يريده.
سألَنا متى سنسافر إلى لندن؟ وهل توجد سيارات بأعداد كبيرة في إنجلترا؟ أهي كثيرة فعلًا؟ وفي أمريكا أيضًا؟ هل يريدون عِمالة في أمريكا؟ فأجيب نافيًا، لأن لديهم بطالة هناك، ولديهم نية لإيقاف الهجرة في أبريل، أو خفض أعدادها على أقل تقدير. فيسأل بحدَّةٍ: لمَ؟ لأنهم يعانون من مشكلة البطالة. وتذكر ملكة النحل أن ملايين الأوروبيين يريدون الهجرة إلى الولايات المتحدة. تسلل الحزن إلى عينيه. وسأل: هل ستُحظَر هجرة جميع دول أوروبا؟ أجل، لن تصدر الحكومة الإيطالية للمهاجرين مزيدًا من جوازات السفر إلى أمريكا. لن تصدر جوازات سفر؟ وبالتالي لن يمكنك السفر؟ أكدت أنه لن يمكنه السفر.
وحينئذٍ كانت حماسته المتقدة وعيناه المتوسلتان الحماسيتان قد لمست قلب ملكة النحل. فسألته عما يطمح إليه. ومن وجهه المكفهر خرجت الكلمات منه فجأة وبقوةٍ: «الخروج من إيطاليا». أن أرحل … أرحل بعيدًا … أرحل بعيدًا. بات الأمر مطمحًا لهم وأمرًا منهكًا لأعصابهم.
أين منزله؟ يقع منزله في قريةٍ على بُعد بضعة أميالٍ على الساحل هنا. سنصل إليه بعد فترة وجيزة. هناك يقع منزله. وعلى بُعد بضعة أميالٍ من القرية في الداخل لديه مِلْك خاص به؛ يمتلك هو الآخر قطعة أرض. لكنه لا يريد فلاحتها. لا يريد ذلك. في الحقيقة هو لا يريد أن يثقل نفسه بها. يكره الأرض وتعاف نفسه أن يراعي كَرَمات العنب. ولا يطيق حتى أن يجبر نفسه على المحاولة أكثر من ذلك.
ماذا يريد إذن؟
يريد أن يرحل من إيطاليا، وأن يسافر إلى الخارج بصفته سائقًا. ومرة أخرى يسدد تلك النظرة الطويلة المتوسلة التي بدت كما لو أنها نظرة حيوان قلق متوسل. يفضِّل أن يعمل سائقًا خصوصيًّا لرجلٍ محترم. لكن بإمكانه أن يقود حافلةً، قد يمتهن أي عمل في إنجلترا.
في تلك اللحظة طرح مسألته. فأقول: حسنًا، لكن في إنجلترا تفوق العِمالة لدينا عدد الوظائف نفسها. رغم ذلك ظل ينظر إليَّ بعينيه المتوسلتين نظرةً تعكس يأسًا شديدًا، وحيوية وطاقة جمة ولهفة على أن يكرس نفسه لعملٍ، وإلا فسيمضي في هجومٍ مبالغ فيه ضد الفرنسيين. ما يثير خوفي هو شعوري بأنه يثق في طيبة قلبي. أما بالنسبة إلى السيارات، فكل ما في وسعي الاحتكام عليه هو أن أقتني زوجًا من الأحذية الطويلة، فكيف لي أن أُقدِم على استئجار سائق خصوصي؟
•••
عم الصمت بيننا مرة أخرى. ولهذا عاد أخيرًا وجلس في مقعده مع السائق مرة أخرى. يسير الطريق حتى الآن في اتجاه مستقيم، منعطفًا عبر الأراضي المقفرة بجانب البحر. وهو يميل على السيد روتشيستر، الصامت المتوتر، متوسلًا إياه مرة أخرى. وبعد فترة وقف السيد روتشيستر جانبًا، وسمح له بتولي عجلة القيادة. فصارت أرواحنا جميعًا في تلك اللحظة بين يدي صديقنا مُحصل الحافلة. لم يُجِد قيادة الحافلة. وبدا واضحًا أنه لا يزال يتعلم القيادة. وجدت الحافلة صعوبةً في الحفاظ على ثباتها على هذا الطريق البري المقفر المتهالك. يوقِف الحافلة عندما ننحدر إلى أسفل تلٍّ، وتظهر حالة من الفوضى العارمة أعلى المنحدر حينما يحاول تغيير السرعة. لكن السيد روتشيستر يجلس في ركنه ساكنًا ومنتبهًا في صمت. يمد يده ويوجِّه مبدل السرعات. لا خوف من أنه سيسمح بوقوع أي خطأ. أثق فيه حينما يقود الحافلة حتى وإن كان ينحدر إلى حفرة عميقة أو يصعد إلى قمة جبل. لكن الزميل المتوسل لا يزال ممسكًا بعجلة القيادة. نندفع بالحافلة في تردد. وهكذا وصلنا إلى سفح تلٍّ حيث يأخذ الطريق انحناءة مفاجئة. يدق قلبي بشدة في صدري. أعلم أنه لا يقدر على ذلك. يا إلهي، لن يقدر، لكن يد روتشيستر الهادئة التي يغطيها النمش تُمسك بعجلة القيادة، فنميل على الطريق. يستسلم مُحصل الحافلة، ويعاود السائق الهادئ المتماسك الإمساك بعجلة القيادة.
•••
شعر الرفيق محصل الحافلة في تلك اللحظة بالراحة معنا. فتسلق عائدًا إلى المقصورة، وعندما اشتد الصخب إلى درجة مزعجة منعته من الحديث، اكتفى بالجلوس والنظر إلينا بعينيه البنيتين المتوسلتين. امتد هذا الطريق الساحلي لأميالٍ وأميالٍ وأميالٍ دون أن نصادف أي قرية. ظهر لمرة أو مرتين شيء أشبه ببيوت حراسة مهجورة وكذلك جنود منتشرون على الطريق. لكن لم تصادفنا نقطة توقف أبدًا. وأحاطت بنا من جميع الجهات أراضٍ مقفرة وأخرى صحراوية تخلو من جنس بشرٍ.
أعيانا الجُهد والجوع وهذا السفر المتواصل. تُرى متى سنصل إلى سينيسكولا حيث من المفترض أن نتناول وجبة الظهيرة؟ يرد علينا مُحصل الحافلة. يوجد نُزُل في سينيسكولا يمكننا أن نأكل فيه ما نشتهيه. سينيسكولا … سينيسكولا! نشعر بأنه لا بد أن ننزل ونأكل، فالساعة تجاوزت الواحدة ولا يزال يحيط بنا ضوءٌ متوهج وعزلة شديدة.
•••
لكنها تقع خلف التل الذي نراه أمامنا. سألَنا المحصل إن كنا نرى التل. فأجبنا بالإيجاب. فقال إن سينيسكولا تقع وراءه. وبعيدًا على الشاطئ تقع حَمَّامات سينيسكولا التي يتوافد عليها الكثير من الأجانب في فصل الصيف. فبنينا آمالًا عريضة على سينيسكولا. هناك مسافة ميلين بين البلدة والبحر، يقطعها من يريدون السباحة على ظهور الحمير. مكان لطيف. إنها تقترب منَّا … صارت قريبة حقًّا. تظهر حقول مسوَّرة بأسوارٍ من الحجر، وكذلك مساحات ممتدة من الأراضي المُحاطة بأسوار. تظهر أيضًا خضراواتٌ في حقل صغير له سور حجري، وثمة مسار أبيض غير مألوف يتخلل الأرض الخالية ويفضي إلى شاطئ مهجور. أصبحنا على مسافة قريبة.
فوق قمة التل المنخفض، يظهر أمامنا قرية ذات منازل رمادية متكدسة، وبُرجان. ها هي هناك وقد وصلنا إليها. صرنا نتخبط فوق الحصى ثم توقفنا على جانب الطريق. هذه هي سينيسكولا، وهنا سنأكل.
نزلنا من الحافلة التي أنهكها السفر. يطلب محصل الحافلة من رجل أن يرشدنا إلى النُّزُل، فيرفض الرجل مغمغمًا بكلمات. فيتفاوض مع صبي ليقوم بهذه المهمة، فيوافق. هكذا كان الاحتفاء بنا.
لا يسعني أن أستفيض كثيرًا في ذكر محاسن سينيسكولا. إنها بلدة ضيقة، ذات طابع جاف، مبنية من الحجر، ساخنة تحت الشمس، وباردة في الظل. في غضون دقيقة أو دقيقتين كنَّا قد وصلنا إلى النزل، حيث يترجَّل شابٌّ بدين من فوق مهره البني ويربطه في حلقةٍ بجانب الباب.
لم يكن النُّزُل مبشرًا بالخير، كان به تلك الغرفة الباردة المعتادة الكئيبة التي تفضي إلى الشارع الكئيب. وبها المائدة الطويلة المعتادة، ولكن مفروش عليها هذه المرة مفرش ملطخ بشكلٍ منفِّر. وسيدتان شابتان قرويتان متعهدتان بالخدمة، ترتديان ثوبين لونهما بني، ولكنهما متسخان قليلًا، ووشاحين أبيضين مطويَّين فوق رءوسهما. كانت الأصغر سنًّا جاهزة لتقديم الخدمة. كانت شابة جريئة لها نهدان ممتلئان، معجبة بذاتها كإعجاب الملكات بأنفسهن، ويبدو عليها الغرور. كانت ترفع أنفها عاليًا في السماء، وبدت على استعداد لإبداء تعليقات ساخرة على أي طلب. يستغرق الواحد منَّا بعض الوقت حتى يعتاد على سلوك هؤلاء الفتيات الذي يعكس غرورًا واعتدادًا بالنفس، فتصرفاتهن تحمل إحساسًا بالمواجهة، وكأنهن يقلن: مَنْ سيجرؤ على الاقتراب مني. لكن هذا السلوك يحمل في باطنه شكلًا من أشكال الدفاع الغريزي عن النفس والخجل، فمن ناحية هو نتيجة انعدام ثقة بالآخرين، ومن ناحية أخرى هو بلا شك نتيجة شعور النساء في سردينيا بضرورة الاعتداد بذواتهن والاحتفاظ بالقدرة على الهجوم أولًا. أما هذه الملكة الشابة ذات الثياب المتسخة فكانت متأهبة للمواجهة. كانت تسير حول المائدة وهي تهز مؤخرتها، وتضع أرغفة من الخبز على المفرش المتسخ وكأنها تقول اعتبره تنازلًا مني أن أقدم لك الطعام، وارتسمت على وجهها ابتسامة خفيفة. إنها لم تقصد بهذا توجيه إهانة، لكنه شيء مهين. للحق، كان أسلوبها فظًّا. لكن عندما يشعر الإنسان بالتعب والجوع …
لم نكن نحن الوحيدين الذين كنَّا نأكل. كان جالسًا الرجل الذي ترجَّل من مهره، ورجلٌ — ربما كان عاملًا أو حمَّالًا أو مسئولًا جمركيًّا — وشابٌّ أنيق، ثم جاء بعد ذلك هاملت سائق حافلتنا. شيئًا فشيئًا أنزلت الشابة خبزًا وأطباقًا وملاعق وكئوسًا وزجاجات من النبيذ الأسود، في الوقت الذي كنا نجلس على المائدة المتسخة وننظر إلى اللوحة البشعة لجلالة الملك حاكم إيطاليا. وبعد فترة طويلة وصل الحَساء الذي لا مفر منه. وتعالى معه صوتٌ جماعي لرشف الحَساء. كان صوت رشف «الخنزير الصغير» الذي قابلناه في مانداس مدوِّيًا. لكن فاقه في الصوت ذلك الشاب الأنيق في هذه البلدة. ومثلما يُحدث الماء جلبةً وهو يتدفق في مجرى ضيق، كذلك كان حَساؤه يدخل فمه برشفة طويلة صاخبة، وكان الصوت يزداد صخبًا بينما تجد قطع الكرنب وخلافها من المكونات، طريقها إلى فمه.
كان الشباب هم من يديرون الحديث. كانوا يعاملون الشابة ذات الثياب المتسخة وغرور الملكات بأسلوبٍ فظٍّ ومُهين، وكأنهم يقولون: «علام تترفعين؟» فلم يُلقوا بالًا لتكلفها أبدًا. لكنها كانت لا تزال معجبة بذاتها. أي طعام آخر متوفر هنا لأكله؟ كان متوفرًا اللحم الذي سُلق من أجل إعداد الحَساء. كنا مدركين لما يعنيه ذلك. فكان يعني أن أكون مستعدًّا لأكل جورب قديم من الصوف. أليس هناك أي شيء آخر، أيتها الملكة المتسخة؟ نعم، ما نوع الطعام الآخر الذي تريده؟ شريحة لحم بقري … ما معنى أن تطلب شرائح لحم بقري أو أي نوع آخر من اللحم في يوم الإثنين. اذهب إلى الجزار واسأل بنفسك.
أما هاملت الحافلة، وصاحب المُهر، والحمَّال، فقُدِّمت إليهم قطع من اللحم المسلوق الباهت المنهك من الطهي. أما الشاب الأنيق فطلب بيضًا في مقلاة؛ بيضتين مقليتين في قليل من الزبد. وطلبنا نحن الشيء نفسه. لكن الشاب حصل على بيضتيه أولًا، وبالطبع كانتا دافئتين وغير متماسكتين. لهذا انقض عليهما بشوكةٍ، وبمجرد أن أمسك بطرف إحداهما شفطها من أعلى بشفطة طويلة وقوية، وكأنها مشروب لزج يُشفط من مقلاة صغيرة. كان عرضًا غير مصطنع. ثم انقض على الخبز ماضغًا إياه بصوتٍ عالٍ.
هل يوجد أي طعام آخر متوفر؟ برتقالة عادية صغيرة بائسة. هذا كثير على وجبة العشاء. أيوجد جبن؟ لا. لكن الملكة المتسخة أدارت حوارًا مع الرجال الشباب بلهجةٍ عامية لم أحاول فهمها، ترجم سائق حافلتنا المفكِّر ما قيل بأن هناك جبنًا متوفرًا لكنه لم يكن ذا مذاق طيب، لهذا لم يقدموه لنا. ثم تدخل صاحب المهر مضيفًا أنهم لم يرغبوا في أن يقدموا لنا أي شيء لم يكن على قدرٍ من الجودة. قالها بكل صدقٍ وإخلاص … بعد أن تناول مثل هذه الوجبة. أثار هذا فضولي، ولهذا طلبت الجبن أيًّا كان طعمه. لكنه في النهاية لم يكن بهذا القدر من السوء.
تكلَّفت هذه الوجبة خمسة عشر فرنكًا لكلينا.
•••
سلكنا طريقنا عائدَين إلى الحافلة، من بين الرجال السمجين الواقفين في الأرجاء. وللحقيقة، إن الغرباء عن المدينة غير محبوبين في تلك الأيام … في كل مكان. يُسِرُّ الجميع في أنفسهم ضغينة تجاههم من النظرة الأولى. وربما تذوب هذه الضغينة أو لا مع التعارف.
كان الحر قد اشتد في فترة الظهيرة، فلم تقل حرارتها عن حرارة إنجلترا في شهر يونيو. انضم إلينا راكبون آخرون على كل نوعٍ وشاكلة، على سبيل المثال: قسيس له عينان سوداوان وأنف طويل، تظهر أسنانه عندما يتكلم. لم تكن هناك مساحة كافية في المقصورة، ولهذا وضِعت البضائع فوق حامل صغير.
مع شدة الشمس، ووجود ستة أو سبعة أشخاص في الداخل، أصبحت المقصورة خانقة. ففتحت ملكة النحل نافذتها. لكن القسيس، الذي كان من الشخصيات التي تتحدث بصوتٍ جَهْوَري، قال إن تيار الهواء كان مؤذيًا، مؤذيًا بشدة، لهذا رفع زجاج النافذة مرة أخرى. كان شخصيةً اجتماعية، جَهْوَرية عند الحديث، عصبيًّا، وفي منتهى الود مع جميع الراكبين. وكل شيء يفعله الإنسان يصير في نظره مؤذيًا. فتيار الهواء كان مؤذيًا له وبشدة. أليس كذلك؟ موجهًا سؤاله إلى جميع الرجال من سينيسكولا. وجميعهم أجاب وكأنهم جَوقة: «صدقت … صدقت».
صعِد مُحصل الحافلة إلى المقصورة، ليحصِّل تذاكر ركاب الدرجة الثانية من نافذة التذاكر الصغيرة الدائرية. كان هناك زحام شديد وصراخ وأصوات عدٍّ لنقود معدِنية. توقفنا عند نقطة توقُّف، ثم اندفع المحصل بعيدًا بالبريد ونزل القسيس ليتناول مشروبًا مع رجال آخرين. أما هاملت الحافلة فجلس متيبسًا في مقعده. ضغط على البوق مزمِّرًا. ثم زمَّر مرة أخرى بإصرار. أقبل الرجال ليصعدوا الحافلة. لكن بدا الأمر وكأن القسيس المزعج لن يلحق الحافلة. تحركت الحافلة في خبث، فجاء القسيس راكضًا وهو يمسح شفتيه، وعباءته ترفرف.
ارتمى القسيس في مقعده بضحكة رنانة كاشفًا عن أسنانه الطويلة. وقال إنه كان من المحبَّذ أن يتناول مشروبًا تحصينًا للمعدة. أن تسافر والمعدة مضطربة، فهذا مؤذٍ للإنسان؛ مؤذٍ، مؤذٍ للغاية … أليس كذلك؟ فردَّت الجَوقة: «صدقت.»
عاود مُحصل الحافلة أخذ التذاكر من نافذة التذاكر الصغيرة، دافعًا مؤخرته بيننا. بينما كان يقف وقفته هذه، كان مُرخيًا على رأس ملكة النحل معطفه العسكري المبطَّن بفراء الخروف. كانت نفسه تمتلئ حزنًا. طوى معطفه ووضعه فوق المقعد، وكأنه وسادة لها، يا للطفه! كم كان سيكرس نفسه لخدمة سيده وسيدته.
جلس إلى جانبي، ومواجهًا لملكة النحل، وقدم لنا نوعًا من الحلوى لها مذاق حمضي. أخذنا الحلوى الحمضية. فابتسم بلهفة حماسية إلى ملكة النحل، وعاد إلى أحاديثه مرة أخرى. ثم عرض علينا سجائر … وألحَّ علينا لنأخذ السجائر.
وجه القسيس ذو الأسنان الطويلة نظرة جانبية إلى ملكة النحل عندما رآها تدخن. وانتشل سيجارًا طويلًا وقضمه، وبصق الجزء الذي قطعه بأسنانه. عرضت عليه سيجارة. لكن مستحيل، السجائر ضارة مؤذية. ورق السجائر ضار بالصحة، ضار للغاية. إما غليون أو سيجار. لهذا أشعل سيجارًا طويلًا وبصق على الأرض عدة بصَقات بلا توقف.
جلس إلى جانبي رجل ضخم، له عينان لامعتان، ومظهر مهندم نوعًا ما لكنه أحمق. ما إن سمعني أتحدث إلى ملكة النحل، حتى قال للقسيس بثقةٍ: «يجلس هنا ألمانيان … ألا ترى؟ انظر إليهما. السيدة تدخن. إنهما زوجان ممن كانوا محتجزين هنا. بإمكان سردينيا أن تستغني عنهما.»
احتُجز الألمان في إيطاليا عند اندلاع الحرب، وحسبما يصل إلى مسامعي، فإنهم تُركوا أحرارًا سعداء، وكانوا يُعاملون معاملة حسنة، فأهل سردينيا كانوا ولا يزالون يتمتعون بسخاء مثلهم كمثل جميع الأشخاص ذوي النفوس الأبية. لكن في تلك اللحظة كان الرجل الأحمق ذو العينين اللامعتين سببًا في إثارة ضحكات مكتومة في الحافلة، غير مدرك إطلاقًا أننا نفهم ما قاله. لم يقل شيئًا مهينًا، لكن مثل هذه الضحكات المكتومة التي يطلقها العامة ظنًّا منهم أنك لا تفهم ما يقولون هو ما أزعجني. ومع ذلك، ظلِلت صامتًا لأسمع ما سيبوحون به. لكن كانت مجرد تفاهات عن الألمان وعن أنهم رحلوا جميعهم تقريبًا إلى بلادهم، وعن منحهم حرية السفر، وعن عودتهم إلى سردينيا لأنهم أحبوها أكثر من ألمانيا. أوه نعم … إنهم جميعًا يريدون العودة إلى سردينيا. يريدون جميعًا العودة إلى سردينيا. أوه نعم، إنهم يعرفون أين سيهنَئون بالحياة. يعرفون مصلحتهم. سردينيا مكان مناسب من شتى المناحي، علاوة على أن السردينيين أناس لطفاء. إنها فكرة جيدة أن يدلي كل امرئ بدلوه. أما بالنسبة لألمانيا … كانت تعاني من ركود، ركود وتدنٍّ. كم يدفع المرء من أجل شراء رغيف خبزٍ في ألمانيا؟ خمسة فرنكات للكيلو، يا صديقي.
•••
توقفت الحافلة مرة أخرى، فخرجنا جميعًا إلى الشمس الحارقة. أما القسيس فسار متثاقلًا نحو ناصيةٍ هذه المرة. إن تجنب الاقتراب من الناصية كان بلا شك مؤذيًا. انتظرنا. قطَّب هاملت سائق الحافلة ما بين حاجبيه. بدا مرهقًا ومنهكًا. كانت الساعة الثالثة. وكان علينا أن ننتظر رجلًا آتيًا من القرية بالبريد. لكنه لم يظهر.
قال السائق: «سأذهب! لن أنتظر.»
قال المحصل في محاولةٍ لتهدئة الموقف: «انتظر، انتظر لحظة». جال هنا وهناك ليتفقد الرجل. لكن الحافلة تحركت فجأة متمايلةً بشدة. فجاء المحصل مسرعًا وتشبث بسُلم صعود الحافلة. كاد أن يُترَك هناك. ألقى السائق نظرة حوله بسخرية ليرى ما إذا كان قد وصل. ثم انطلقت الحافلة. فهز المحصل رأسه في استنكار.
قالت ملكة النحل: «السائق عصبي قليلًا. مِزاجه عَكِر!»
علَّق المُحصل المهندم، وهو يميل إلى الأمام ناظرًا بعينيه المتوسلتين اللتين تفيضان بسماحة شديدة: «هذا حقيقي، يا له من رجل مسكين!». ثم تابع حديثه قائلًا: «على المرء أن يشعر بالأسف من أجله. الناس أمثاله، يعانون كثيرًا في داخلهم، فكيف لنا أن نغضب منهم! مسكين. لا بد أن نتعاطف معه.»
لا توجد لغة تضاهي الإيطالية في تعبيرها عن التعاطف. «مسكين!» الإيطاليون لا يشعرون بسعادة أبدًا إلا إذا تعاطفوا مشفقين على شخصٍ ما. وشعرت أنا كذلك بأنه دُفع بي إلى التعاطف مع هذا المسكين الذي كان لا بد من الإشفاق عليه لكونه عصبيًّا. وهو أمرٌ لم يحسِّن مِزاجي.
على أي حالٍ، جلس مُحصل الحافلة فجأة في المقعد المقابل بين القسيس وملكة النحل. ثم قَلَب دفتره الرسمي، وبدأ يكتب بتأنٍ على ظهر الغلاف بيدٍ إيطالية متمكنة. ثم انتزع ما كان قد كتبه، وبنظرة لامعة وحماسية سلَّمني الورقة وهو يقول: «أستجد لي وظيفة في إنجلترا عندما تسافر إليها في الصيف؟ ستجد لي مكانًا في لندن كسائق خصوصي …!»
قلت: «إذا استطعت. لكن الأمر ليس سهلًا.»
هز رأسه إليَّ بثقة واضحة، واثقًا تمامًا بأنه قد عرض طلبه وأتم مهمته على أكمل وجه.
كان قد كتب على الورقة اسمه وعنوانه، وأنه إذا أراد أي شخصٍ أن يستأجره كسائق خصوصي فليس عليه سوى أن يخبره بذلك. وعلى ظهر الورقة كلمة وداع لا مفر منها: «مع خالص التمنيات بالتوفيق وقضاء رحلة سعيدة.»
طويت الورقة ووضعتها في جيب معطفي، شاعرًا في نفسي بقليل من الارتباك من المسئولية الجديدة التي صارت على عاتقي. كان رجلًا لطيفًا ذا عينين لامعتين مفعمتين بالثقة.
•••
ما إن انتهي الموقف، حتى سادت لحظة صمت. واستدار محصل الحافلة ليأخذ تذكرةً من رجلٍ بدين يجلس بهدوء كان قد صعِد إلى الحافلة في آخر نقطة وقفنا بها. ثم دار بينهما حوارٌ عابر.
سأل الرجل الوسيم الأحمق الذي كان جالسًا بجانبي، وهو يومئ برأسه نحونا: «من أين هما؟»
أجاب صديقنا، في رضًا، بالإيطالية: «من لندن»؛ فاتفقوا جميعًا على أن لندن هي أعظم مدينة في العالم، فكلمة لندن وحدها كفيلة بأن تجعلك تدرك كل شيء. كان عليك أن ترى النظرة الطفولية التي اعتلت وجه الرجل الضخم الأنيق عندما سمع أننا مواطنان من أعظم مدينة في العالم.
وسأل، وهو محرج قليلًا: «أيفهمان الإيطالية؟»
قال صديقنا باحتقار: «قطعًا! وكيف من المفترض ألا يفهمانها؟»
«أف!» ترك جَاري الكبير فاهه فاغرًا للحظات معدودة. ثم اعتلى وجهه شكل آخر من الابتسامة. بدأ يختلس النظر جانبًا إلينا بعينيه البنيَّتين اللامعتين، وكان منذ ذلك الحين توَّاقًا ليبدأ حوارًا مع المواطنين الآتين من أفضل مدينة في العالم. اختفت تمامًا نظرته التي غلبت عليها العجرفة، وحل محلها نظرة إعجاب متملقة.
والآن أتوجه إليك بالسؤال، أهذا أمر يمكن احتماله؟ أجلس هنا، وهو يتحدث عني بأسلوبٍ تغلب عليه الوقاحة والاستعلاء. ثم أجلس في نفس المكان، وهو يختلس النظر إليَّ كما لو أنه رأى هالةً أسفل قبعتي الرمادية. كل شيء تبدل في غضون عشر دقائق. لمجرد أني أصبحت إنجليزيًّا، بدلًا من ألماني. ربما أكون كذلك في نظره مجرد مكان على الخريطة، أو منتَجًا يحمل علامة تجارية. يا لانطباعه السطحيِّ عن ذاتي الحقيقية! كثيرون هم من ينساقون وراء التصنيفات! وددت لو كان بإمكاني أن أفيقه مما يتوهم. كنت أود أن أخبره بأني ألمانيٌّ لعشرات المرات، وأرى الأحمق يغيِّر ابتسامته البلهاء مرة أخرى.
•••
تدخل القسيس حينها وأخبرنا بأنه قد زار أمريكا. كان قد زار أمريكا ومنذ ذلك الحين وهو لا يهاب أن يعبر البحر من تيرانوفا في سردينيا إلى تشيفيتا فيكيا. لأنه كان قد عبر المحيط الأطلسي العظيم.
لكن على ما يبدو أن أهل البلد كانوا جميعًا قد سمعوا هذه القصة المملة مرارًا وتَكرارًا، ولهذا بصق بصقة كبيرة على الأرض. وعندئذٍ سأله الجار الجديد البدين عما إذا كان حقيقيًّا أن الكنيسة الكاثوليكية صارت في ذلك الحين هي الكنيسة الوحيدة في الولايات المتحدة؟ فقال القسيس إنه لا شك في ذلك.
•••
انقضت فترة العصر الساخنة. كان الساحل مأهولًا بعددٍ أكبر قليلًا من السكان، لكننا غالبًا لم نرَ أي قرية. كان المشهد بائسًا نوعًا ما. ومن وقتٍ لآخر كنَّا نتوقف عند مَقصِف تبدو القذارة عليه. ومن حين لآخر كنَّا نمر بأهل البلدة وهم يمتطون مهورهم، وفي أحيان أخرى نرى عرضًا فروسيًّا حينما كانت تتراجع المهور القوية الجامحة وتركض سريعًا إلى الخلف لتنأى بنفسها عن الذعر الذي أثارته حافلتنا الضخمة. لكن فرسانها جلسوا ثابتين لا يهتزون متحلِّين بقوة رجال سردينيا. ضحك جميع مَنْ في الحافلة، ومضينا، ونحن ننظر خلفنا لنرى المهر وهو لا يزال يدور حول نفسه، لكن بلا جدوى، في وسط الطريق الرئيسي المحفوف بالعشب من الجانبين.
•••
جاء مُحصل الحافلة إلى داخل المقصورة ثم خرج منها، ثم جاء ليجلس قريبًا منَّا. كان يشبه حمامةً قد وجدت أخيرًا غصن زيتون لتعشش فيه. وكنَّا نحن غصن الزيتون في هذا العالم الذي تغمره مياه صرفٍ صحي. وبكل أسفٍ، شعرت في نفسي أني شخص لا يعوَّل عليه. لكنه جلس، في ذلك الحين، في سكينة تامة قريبًا منَّا، مثل كلبٍ عثر على سيده.
كانت فترة العصر آخذة في الزوال، والحافلة تندفع بسرعة هائلة. رأينا أمامنا كتلة كبيرة من جزيرة تافولارا، وهي كتلة صخرية بديعة أبهرني جمالها وشكلها المهيب. تتخذ شكل رأسٍ؛ إذ إنها حسب ما يبدو تلمس الأرض. وتستقر هنالك عند حافة البحر في هذا العالم المنسي في فترة العصر. غريبٌ أن هذه البلدة الساحلية لا تنتمي إلى عالمنا المعاصر. وأثناء سيرنا مسرعين على الطريق رأينا بواخر؛ باخرتين تتجهان جنوبًا، وسفينة شراعية قادمة من إيطاليا. وفي الحال، بدت البواخر شبيهة بعالمنا الذي نألفه. لكن لا تزال هذه البلدة الساحلية مهجورة ومنسية، ولا تنتمي إلى عالمنا. لا تنتمي إليه على الإطلاق.
•••
كم تتعب الواحد منَّا تلك الرحلات الطويلة المتواصلة! بدا أننا يجب ألا نصعد أبدًا إلى تافولارا. لكننا صعِدنا. وصلنا بالقرب منها مباشرة، ورأينا الشاطئ بأمواجه المترقرقة الهادئة، رأينا مجرى ماءٍ ضيق بين كتلة الصخر والشاطئ. وكان الطريق الآن على مستوى سطح البحر. لم نكن بعيدًا بالدرجة عن تيرانوفا. لكن بدا أن المنطقة لا تزال مهجورة، وخارج نطاق الحياة في هذا العالم.
كانت الشمس تميل إلى المغيب مبتعدةً عن الشاطئ، لكنها بدت قوية ذات حُمرة متوهجة. في الحافلة، التزم الجميع الصمت مُنزوِين إلى الغفوة التي تباغت الراكبين أثناء السفر. اندفعنا على طريقٍ ممهد، منحدرين على سهلٍ ممتد في ذلك الحين. وأخذت ظلمة الغسق تنتشر بقوة فوق الأرض.
رأينا الطريق الرئيسي ينعطف على الأرض المنبسطة. إنه رأس الميناء. رأينا ميناءً ساحرًا تحيط به اليابسة من كل مكان، وتطوِّق فيه الصواري والأرض الداكنة حوضَ السفن المتلألئ. رأينا كذلك باخرةً راسية عند نهاية حاجز أرضي طويل ورفيع في الميناء الضحل الواسع المتلألئ، وكأنها تحطمت هناك. كانت هذه هي باخرتنا. لكنها بدت في ضوء الغروب وكأنها باخرة وحيدة مستقرة في خَورٍ حبيس في أرخبيل سبيتسبرجن، ناحية القطب الشمالي؛ خَور مهيب غامض تكسو أرضه زرقة ولم يطأها قدم بشرٍ من قبل.
•••
جاء مُحصل حافلتنا وأخبرنا بأن علينا البقاء في الحافلة حتى الانتهاء من مهمة البريد، ثم سنتوجَّه إلى الفندق حيث بإمكاننا أن نأكل، وبعدها كان سيرافقنا في حافلة البلدة إلى السفينة. لا داعيَ لنا أن نصعد على متن السفينة حتى الساعة الثامنة، وكانت الساعة في ذلك الوقت قد تجاوزت الخامسة. كنَّا لا نزال جالسيْن حينما اندفعت الحافلة وانعطف الطريق وتغير مشهد الميناء الغريب المحاصر باليابسة، ومع ذلك كانت الصواري الواضحة المحتشدة لا تزال تحجب الضوء المنتشر في السماء، والباخرة تستقر بعيدًا وكأنها تحطمت على ضفة رملية، وكل ذلك كان محاطًا بأرض مظلمة غامضة تستقر عليها مجموعة من التلال، تبدو، في الضوء الذهبي، مكسوةً بلون أزرق داكن وذات إحساسٍ شتوي بارد، بينما كان الخَوْر الضحل الرائع يلمع كالمرآة.
مضينا في سرعة، متجاوزين السكة الحديدية، إلى الطريق الداكن الممهد الذي يفضي إلى بلدة مهجورة بيوتها داكنة، عند بداية الخليج المحاط بمنطقة سبخة. كان المنظر يوحي بأنها مستوطنة أكثر منها بلدة. لكنها كانت بلدة باوسانياس في تيرانوفا. وبعد اهتزاز ورجرجة على طريق وعر موحش، مقفر، وجدنا أنفسنا فجأة عند مدخل باب، فكان مكتب البريد. وكان الفتيان نابشو الوحل يصرخون من أجل حمل الحقائب. وخرج الجميع وانطلقوا نحو البحر، وحمل الفتيان الحقائب. وبقينا نحن في الحافلة حيث كنا.
•••
بقينا هكذا حتى نفد صبري. لم أكن أريد البقاء في الحافلة للحظةٍ أخرى، ولم أرِد بتاتًا أن يرافقنا صديقنا الجديد إلى الباخرة. لهذا خرجت مندفعًا، وتبعتني ملكة النحل. كان يريحها هي أيضًا أن تهرب من هذا التعلُّق الجديد، رغم أنها كانت تشفق عليه. لكن في النهاية، يهرب المرء ممن يشفق عليهم أكثر مما يهرب من الأشخاص القساة.
انقض علينا نابشو الوحل. هل لدينا أي حقائب أخرى، هل سنتجه إلى الباخرة؟ سألت: كيف بإمكاني الذَّهاب إلى الباخرة … هل سيرًا على الأقدام؟ ظننت أنه ربما من الضروري أن نجدف بعيدًا. فأجاب علينا صبي وقح بأنه يمكننا أن نذهب سيرًا على الأقدام، أو في عربة، أو في طائرة. كم تبعد المسافة؟ عشر دقائق. هل بالإمكان أن نصعد على متنها في الحال؟ أجل، بكل تأكيد.
أعطيت الحقيبة إلى صبي شقي ليقودنا إلى الباخرة بالرغم من اعتراض ملكة النحل. كانت ملكة النحل تريدنا أن نذهب وحدنا … لكني لا أعرف الطريق، وأخشى أن أقع في ورطة في تلك الأماكن.
أخبرت هاملت سائق الحافلة، الذي كان شاردًا بأعصابه المنهكة، أن يتكرم بإخبار زميله أننا لن ننسى طلبه: ثم نقرت على جيب معطفي، حيث كانت الورقة تستقر فوق قلبي. فوعدَنا باقتضاب وفررنا نحن. فررنا من أي صداقة أخرى.
•••
أمرت الصبي نابش الوحل أن يقودني إلى مكتب برق، فكان بكل تأكيد بعيدًا تمامًا عن مكتب البريد. ما إن حمل الحقيبة على كتفه، وتعالى صوته لحمل حقيبة المطبخ المتنقل التي كانت ملكة النحل ملتصقة بها، حتى مضى الصبي إلى الأمام. وفقًا لطوله، كان يبلغ من العمر عشر سنوات، لكن وفقًا لوجهه الشاحب الخبيث ذي الملامح الوسيمة، كان رجلًا أربعينيًّا. كان يرتدي سُترة عسكرية يصل طولها حتى ركبتيه، وكان حافي القدمين، يمتلئ حيويةً ويتمتع بالسرعة والانتباه المميزَين للأطفال الذين ينبشون في الوحل.
اتجهنا إلى آخر الممر وصعِدنا سُلَّمًا فوصلنا إلى مكتبٍ يتوقع المرءُ أن يُسجَّل فيه المواليد والوَفَيات. لكن الصبي قال إنه مكتب البرق. لا دليل فيه على وجود حياة. ولمَّا اختلست النظر من النافذة رأيت رجلًا بدينًا جالسًا كان يكتب على مسافة بعيدة. أضْفَت الأضواء الخافتة إحساسًا مريحًا على المساحات الكبيرة الخاوية المخصصة للموظفين … أتعجب من أن الموظف البدين لم يكن خائفًا من البقاء هنا وحده.
لم تصدر منه حركة. طرقت على مصراع النافذة وطلبت ورقة تلغراف فارغة. ارتفع كتفاه حتى أذنيه، فكان يلمِّح لنا بوضوحٍ إلى نيته أن يتركنا ننتظر. لكني قلت للصبي الشقي: «أهذا حقًّا موظف التلغرافات؟» فأجاب الصبي: «أجل، سيدي.» … ومن ثَم كان على الموظف أن يأتي.
•••
بعد تأخير لا يستهان به، انطلقنا مرة أخرى. كانت الحافلة، لحسن حظنا، قد رحلت، وكان الطريق الداكن الموحش خاليًا من الأصدقاء. اتجهنا نحو واجهة الميناء. كان الظلام قد ساد في تلك اللحظة. رأيت قطار سكة حديدية على مسافة قريبة، ومجموعة من الصواري الداكنة، والباخرة تنبعث منها بعض الأضواء بعيدًا عند طرَف اللسان البري الطويل، بعيدًا وسْط الميناء. فانطلقنا على الطريق الممتد من اللسان البري، والصبي حافي القدمين كان يسير مسرعًا على بُعد ياردات في الأمام. كان اللسان واسعًا بما يكفي ليتسع لهذا الطريق والسكة الحديدية. وعلى اليمين، ثمة منزل هادئ يبدو أنه مشيَّد على ركائز في الميناء. بعيدًا في الواجهة، كانت باخرتنا المتلألئة تقف، وقطارٌ صغير يجر عرباتٍ وسْط أكواخٍ صغيرة نُصبت بجانبها. كان الليل قد أرخى سدوله، والتمعت نجوم رائعة في السماء. كانت كوكبة الجوزاء في السماء تليها كوكبة الكلب الأكبر. تابعنا السير نحو اللسان المعتم بين المياه الهادئة المتلألئة. كان الميناء أملس كالزجاج، ولامعًا كالمرآة. والتلال تلتف حوله لتحيط به من كل مكان، فكانت أرضًا مظلمة ترتفع لأعلى وتمتد لمسافة بعيدة حتى ناحية البحر. لم أكن واثقًا أي تلٍّ تحديدًا كان مواجهًا للبحر. بدا الظلام المحيط بالأرض كشبحٍ متخفٍّ، ووقفت تحرسها في صمتٍ تلك التلال البعيدة. ربما كانت الكتلة الضخمة البعيدة جزيرة تافولارا مرة أخرى. بدت وكأنها جبل جليدي مهيب يحرس خليجًا حبيسًا في منطقة القطب الشمالي حيث تستقر عنده السفن بلا حركة.
مضينا قُدمًا وراء الصبي، إلى أن صارت المدينة خلفنا، وإلى أن لاحت لنا أضواء خافتة وسط العتَمة المحيطة بها عند رأس الميناء، في الجهة المقابلة من البحر. كنا قد غادرنا صواري السفن والمنازل. سار الصبي الشقي بخطواتٍ هادئة، واكتفى بأن يلتفت من حين لآخر باسطًا يدًا نحيلة متحمسة ناحية حقيبة المطبخ المتنقل. كان يريد أن يحملها خاصةً عندما تقدم بعض الرجال قاصدين السكة الحديدية؛ شعر بأنه انتقاص من قوته أن تحملها ملكة النحل. لذلك تركتها له، وسار الصبي بخطًى واسعة وهو راضٍ.
•••
إلى أن وصلنا أخيرًا إلى الأكواخ المنخفضة الرابضة بين الباخرة ونهاية السكة الحديدية. قادني الصبي الشقي إلى أحد تلك الأكواخ، حيث كان موظفٌ ذو قبعة حمراء منشغلًا بالكتابة. تركني صاحب القبعة أنتظر لدقائق معدودات قبل أن يخبرني بأن ذلك المكتب هو مكتب البضائع … أما مكتب التذاكر فكان الكوخ الذي بعده. هاجمه الصبي الشقي قائلًا: «لقد غيَّرت مكانه، أليس كذلك؟» ثم قادني إلى كوخٍ آخر كان في تلك اللحظة على وشك أن يغلق بابه. وهنالك تكرَّموا أخيرًا بإعطائي تذكرتين مقابل مائة وخمسين فرنكًا للتذكرتين. وبهذا تبِعنا الصبيُّ الشقي الذي كان يسير بخطًى واسعة مثل شيبيون الأفريقي على معبر الباخرة حاملًا الحقيبة.
•••
كانت باخرة صغيرة إلى حدٍّ كبير. أسكنني خادم السفينة في الغرفة رقم واحد، وملكة النحل في الغرفة رقم سبعة. وبكل غرفة أربعة أسرَّة. ومن ثَم لا بد أن يُفصل الرجال عن النساء على نحوٍ صارم في هذه السفينة. هنا كانت الصفعة لملكة النحل التي تعرف طبيعة الركاب من النساء الإيطاليات. ومع ذلك، بقينا هناك. جميع الغرف كانت بالأسفل، ولم يوجد داخل جميع الغرف، لسببٍ غامض، كُوَّة تطل على الخارج. كان الجو حارًّا وخانقًا في الأسفل بالفعل. رميْت الحقيبة على سريري، وهناك كان يقف الصبي الشقي على السجادة الحمراء عند الباب.
أعطيته ثلاثة فرنكات. نظر إليها وكأنها قرار مني بالإعدام. أمعن النظر في النقود تحت ضوء المصباح. ثم بسط ذراعه بحركةٍ في منتهى الوقاحة مُلقيًا إليَّ عملاتي الذهبية من دون أن يتفوه بكلمة.
قلت: «عجبًا!» ثم تابعت قائلًا: «ثلاثة فرنكات مبلغٌ كافٍ تمامًا.»
– «ثلاثة فرنكات … مقابل كيلومترين … وثلاث حقائب! لا يا سيدي. لا! خمسة فرنكات. خمسة فرنكات!». ومُشيحًا بوجهه الممتقع الناضج الموحل، ودافعًا يديه إليَّ، وقف الصبي بهيئة تنم عن استنكار واستياء. وصدقًا، لم يكن طوله يتجاوز الجيب العلوي لمعطفي. صبي وقح! يا له من صبي وقح! لم يكن سوى ممثل وصبيٍّ وقح لدرجة أني كنت مذبذبًا بين الشعور بالتعجب والاندهاش بأدائه وبين ميل شديد إلى ركله على درجات السُّلم. لكني قررت ألا أهدر طاقتي في الغضب.
قلتُ بصوتٍ عالٍ وأنا مستغرقٌ في التفكير: «يا له من صبي همجي! يا له من صبي بشع! يا له من صبي بشع! إنه حقًّا لصٌّ صغير. محتالٌ صغير!»
قال الصبي، خلفي، بصوتٍ مرتجف: «محتال!». وشعر بالانهزام. وجعلته كلمة «محتال» ينحني إلى الأمام متألمًا، بالإضافة إلى النبرة الهادئة التي تلفظت الكلمة بها. وحينها كان سيذهب بالثلاثة فرنكات. لكني الآن، وباحتقارٍ قاطع، أعطيته فرنكين إضافيين.
اختفى بسرعة البرق نحو معبر السفينة خائفًا من أن يأتي خادم السفينة ويمسك به وهو يحتال علي. وفيما بعدُ رأيت خادم السفينة يدفع بصبيان آخرين لطلب ما يزيد على خمسين فرنكًا. الوقح.
•••
كانت القضية في تلك اللحظة هي أمر الغرفة؛ لأن ملكة النحل رفضت أن تتقبل فكرة مشاركة الغرفة مع ثلاث نساء إيطاليات حيث كنَّ سيتقيأن ببساطة لإثارة القلق فحسب، رغم أن البحر كان هادئًا ناعمًا كالزجاج. بحثنا عن خادم السفينة حتى عثرنا عليه. فقال إن غرف الدرجة الأولى كلها بها أربعة أسرَّة … أما الدرجة الثانية فَبِها ثلاثة أسرَّة، لكنها أصغر كثيرًا. لا أدري كيف أن ذلك ممكن. ولكن، إن لم يأت أحدٌ، فسيعطينا غرفةً لنا.
كانت السفينة نظيفة وذات ذوقٍ راقٍ، رغم ضيقها الشديد. وها نحن فيها.
•••
صعِدنا إلى سطح السفينة. سأل شخصٌ آخر عما إذا كنَّا سنأكل على متن السفينة. لا، لن نأكل. فخرجنا من السفينة متجهَين إلى الكوخ الرابع الصغير الذي كان كُشكًا لبيع المرطبات والوجبات الخفيفة، فاشترينا خبزًا وسردينًا وشوكولاتة وتفاحًا. ثم صعِدنا إلى السطح العلوي في السفينة لنُعِدَّ طعامنا. في مكانٍ معزول، أشعلت الموقد الكحولي، ووضعت عليه ماء ليغلي. كنَّا قد أتينا بالماء من الغرفة. ثم جلسنا وحدنا في الظلام، على مقعد كان ظهره مقابلًا لغرف سطح السفينة التي يقيم فيها طاقم السفينة نفسه في ذلك الحين. ثمة ريح باردة خفيفة تجوب المكان. تدثرنا نحن الاثنين بوشاحٍ ذي نقوش مربعة، واحتمينا فيه معًا منتظرَيْن الشاي حتى يغلي. كان بإمكاني أن أرى، من حيث كنَّا جالسَين، طرَف شعلة الموقد الكحولي وهو يرتعش.
•••
كانت النجوم بديعة كبيرة للغاية في السماء الهادئة، حتى كان بإمكانك أن تراها أجسامًا كُروية معلَّقة، ووحيدة سابحة في فضائها الخاص، رغم أن أعدادها كانت لا تُعد ولا تُحصى. وكانت نجمة المساء مضيئة على نحو استثنائي. كانت متدلية ينبعث منها وميض قوي في سماء الليل لدرجة جعلتني أحبس أنفاسي. كانت مهيبة قوية، ينبعث منها وهج متلألئ حتى بدا أنها أشد قوةً من وهج الشمس أو القمر. ومن الأرض المرتفعة المظلمة، أهدتنا دربًا من الضوء عبر البحر، فكان دربًا نجميًّا. وهكذا ارتفعت النجوم فوقنا ونبضت، فوق ذلك الميناء الهادئ المظلم الحبيس.
•••
غلى الماء بعد وقت طويل، وشربنا الشاي الساخن وأكلنا السردين والخبز وقطعًا مما تبقى من نقانق نوورو، ونحن جالسان هناك وحدنا في الظلام الحالك المرصع بالنجوم على السطح العلوي للسفينة. قلت وحدنا، لكننا في الحقيقة لم نكن وحدنا؛ كان ثمة قطتان وحشيتان على سطح السفينة جاءتا تموءان طلبًا لبقايا الطعام. وحتى عندما انتهى الطعام كله، وألقينا بعلبة السردين في البحر، استمرتا تحومان حولنا وتموءان.
بقينا جالسَين في استرخاءٍ تحت السماء العميقة المَهيبة، متدثرَين معًا في وشاحٍ صوفي أهداني إياه صديقٌ اسكتلندي، كنَّا شبه مختبئَين من ريح الليل الباردة، نتعافى قليلًا من رحلة اليوم التي قطعنا فيها مسافة ستين ميلًا بالحافلة.
في ذلك الوقت لم يوجد أحدٌ على متن السفينة، كنَّا أول المسافرين، على الأقل مسافري الدرجة الأولى. في الأعلى كل شيء كان هادئًا ومهجورًا. في الأسفل كل شيء كان مضاءً ومهجورًا. لكنها كانت سفينة صغيرة ذات غرفٍ تتسع لما يقارب ثلاثين شخصًا من ركاب الدرجة الأولى وأربعين شخصًا من ركاب الدرجة الثانية.
في طابق السفينة السفلي، يقف صفَّان من الماشية يصل عددها إلى ثمانية عشر رأسًا من الماشية. تقف كل واحدة مربوطةً بالأخرى جنبًا إلى جنب، بلا حركة تمامًا، وكأنها مُخدَّرَة. لم تستلْقِ منها سوى اثنتين. أما البقية فظلت واقفة بلا حركة، مرخية الذيل ومطأطئة الرأس، وكأنها تحت تأثير مخدِّر أو فاقدة للإحساس. أبهرت تلك الماشية، التي كانت في السفينة، ملكةَ النحل. فأصرت على النزول إليها، وتفحُّصها بدقة. لكن الماشية تكاد أن تكون متيبسة كأبقار سفينة نوح. عجزت ملكة النحل عن استيعاب أن الماشية لم تكن تصرخ ولا تقاوم. فكانت ثابتة على نحوٍ مفزع. كان في مخيلتها أن الماشية كائنات عنيفة لا يمكن قهرها. لم تدرك أن القوة المريعة الكامنة في الاستسلام والجمود هي تقريبًا القوة المسيطرة على الكائنات المستأنسة، ويستوي في ذلك البشر والدواب. رغم ذلك هناك طيور تعيش في أقفاصها مضطربة وتضرب بجناحيها.
•••
وصل أخيرًا، في حوالي الساعة السابعة والنصف، القطار القادم من الجزيرة، واندفعت الناس خارجة من القطار بأعدادٍ كبيرة. ووقفنا ننظر لأسفل ونحن نميل بجسدينا من فوق سطح السفينة العلوي. تدفق المسافرون بأعدادٍ ضخمة، متجهين إلى معبر السفينة، وحاملين جميع أنواع الحقائب التي يمكن تصورها: صرر، حقائب قماشية مطرَّزة، أمتعة، حقائب تشبه السرج، حينها شعرت ملكة النحل بالأسف على أنها لم تشترِ واحدة لها. هناك جنود أيضًا، لكنهم مصطفون على جزء من رصيف الميناء، منتظرين.
انصب اهتمامنا على أن نرى ما إذا كان سيصعد أي ركابٍ آخرين من الدرجة الأولى. وبعد صعود الركاب على اللوح الخشبي العريض، الذي اتخذوا منه معبرًا إلى السفينة، يسلِّم كل فردٍ تذكرته إلى الرجل في الأعلى، ثم يُرسَل إلى مكانه الذي غالبًا ما يكون الدرجة الثانية. هناك ثلاثة أنواع من التذاكر: الخضراء للدرجة الأولى، والبيضاء للدرجة الثانية، والوردية للدرجة الثالثة. يتجه ركاب الدرجة الثانية إلى مؤخرة السفينة، أما ركاب الدرجة الثالثة فيتجهون إلى الأمام، إلى الممر الذي يمر بغرفنا، نحو الغرف الزهيدة. وبهذا ظللنا نراقب الراكبين المتحمسين وهم يصعدون على متن السفينة وينقسمون. يكاد يكون جميعهم من الدرجة الثانية، وكان أغلبهم من النساء. رأينا بعض الرجال من الدرجة الأولى. لكن حتى الآن لا توجد سيدات. فكل قبعة تحمل ريشة فوقها كانت تُخِيف ملكة النحل.
بقينا في مأمنٍ لفترة طويلة. توافدت النساء على الدرجة الثانية. وكانت ثمة سيدةٌ من الدرجة الثالثة، تترجى وتتوسل لترافق صديقتها في الدرجة الثانية. ويسرني القول إن محاولتها باءت بالفشل. ثم بعد ذلك، ظهر رجل عجوز وابنته، من الدرجة الأولى. يظهر عليهما الوقار ولهما هيئة حسنة. لكن ملكة النحل ولولت قائلةً: «أنا واثقة بأنها ستتقيأ.»
•••
في المرحلة الأخيرة جاء ثلاثة مدانين مقيَّدين معًا. كانوا يرتدون ملابس بسيطة بها خطوط بلونٍ بني، ولا يبدو الشر عليهم. يبدو أنهم يتشاركون الضحك، ولا يظهر الانزعاج عليهم إطلاقًا. بينما بدا التوتر على الجنديين الشابَّين الموكلَين بحراستهم وكانا يحملان بندقيتين. وهكذا سار المتهمون إلى الأمام نحو الغرف الزهيدة التي كانت خلف غرفنا.
•••
في النهاية اعتدل الجنود، وصعِدوا على متن السفينة. وبدءوا على الفور في نصب خيمةٍ؛ بسطوا قماشًا كبيرًا من المُشمَّع فوق حبل في الطابق الأوسط من السفينة أسفل منَّا، بين أماكن الدرجة الأولى والثانية. شدوا المشمع الكبير جيدًا على كلا الجانبين ثم ثبتوه، وبهذا نصبوا خيمة كبيرة معتمة. تسلل الجنود إلى الداخل ووضعوا أمتعتهم.
وها هم الجنود الذين يثيرون إعجاب ملكة النحل. تُميل جسدها من فوق السور في الأعلى، لتنظر إليهم. نظم الجنود أنفسهم في صفين. سينامون ورءوسهم مستندة إلى أمتعتهم على جانبي الخيمة، بينما أقدامهم جميعًا تتجه نحو الداخل. لكن عليهم أن يتناولوا الطعام أولًا؛ إذ إن الساعة كانت قد تجاوزت الثامنة.
أخرجوا عشاءهم: دجاج مشوي كامل، وقطع من لحم الضأن، وأرجل خروف، وخبز ضخم. يتم تقطيع الدجاج بسكين جيب في لمح البصر ويتشاركون أكله. كل شيء يتشاركه الجنود فيما بينهم. يجلسون هناك في خيمتهم المفتوحة الأطراف، مجتمعين في سعادة وهم يأكلون طعامهم بشهية ويربت الواحد منهم على كتف الآخر في محبةٍ، ويشربون بنهمٍ من زجاجات النبيذ. نحن نَغبطهم على ما لديهم من طعامٍ شهي.
•••
أخيرًا صعِد الجميع على متن السفينة … جاءت الحافلة من البلدة وعادت مرة أخرى. شابٌّ أحمق أخير أتى مسرعًا في عربة ثم صعِد مهرولًا على متن السفينة. بدأ طاقم السفينة في الركض هنا وهناك. أما الحمالون في رصيف الميناء فراحوا يُهرَعون إلى السفينة حاملين آخر ما لديهم من صُرر وصناديق … وشُحِن كل شيء بحرص. صفرت الباخرة ثم صفرت. رجلان وفتاة يقبِّلون أصدقاءهم ثم يغادرون السفينة. والليل يردد صدى صفير السفينة. صارت جميع الأكواخ مظلمة. ومن بعيد تلمع البلدة بأضواء خافتة متناثرة. كل شيء صار مهجورًا في عتَمة الليل. وهكذا رُفع معبر السفينة، ولُفَّت حبالها. وبدأنا نبتعد عن الرصيف. ولوح بعض المودعين بمناديلهم البيضاء، وتضاءلت أحجامهم على الرصيف الصغير المظلم في جوف الميناء المظلم المهجور. راحت سيدةٌ تبكي وتلوِّح وتنتحب. ورجلٌ يبالغ في التلويح بمِنديله الأبيض المرفرف، ويشعر بأهميته. ابتعدت السفينة وبدأ صوت المحرك في الارتفاع. وشرعنا نتحرك في الميناء الحبيس.
•••
انشغل الجميع في المشاهدة. وتعالت أصوات القبطان وطاقم السفينة بالأوامر. وفي بطءٍ، ومن دون صعوبة على الإطلاق، كرجل يدفع عربة يدٍ خارج بوابة الحظيرة، تحركنا رويدًا رويدًا خارجين من الميناء، فمررنا بنقطةٍ، ثم النقطة التالية، بعيدًا عن التلال المحيطة، وبعيدًا عن كتلة جزيرة تافولارا المهيبة التي صارت ناحية الجنوب، وبعيدًا عن الأرض الممتدة ناحية الشمال، حتى وصلنا إلى البحر المفتوح.
•••
والآن نحاول الحصول على غرفةٍ لأنفسنا. تحدثت إلى خادم السفينة. فقال إنه يتذكر طلبنا. لكن هناك ثمانين راكبًا من الدرجة الثانية سيقيمون في غرفٍ تتسع لأربعين راكبًا. يفكر المشرف في الأمر. على الأرجح سينقل بعض السيدات من الدرجة الثانية إلى الغرف الشاغرة في الدرجة الأولى. وإن لم يفعل ذلك، فسيضعنا خادم السفينة في غرفةٍ خاصة بنا.
أدركت ما يعنيه هذا، إنها مراوغة. قررنا ألا نسأل مرة أخرى. فأخذنا جولة في السفينة لنشاهد الجنود الذين قد فرغوا من الطعام وهم جلوس يتسامرون، في حين كان بعضهم ممددًا بالفعل في الظلام للنوم. ثم لنشاهد قطيع الماشية الذي يقف في ثبات على سطح السفينة الذي كانت تعمه الفوضى في تلك اللحظة. ولنشاهد الطيور التعيسة في أقفاصها. ثم لنختلس النظر إلى ركاب الدرجة الثالثة، الذين كان منظرهم مروِّعًا.
ثم اتجهنا إلى النوم. شُغِلت بالفعل الأسرَّة الثلاثة الأخرى في غرفتي، وأُطفئت الأنوار. حينما دخلت، سمعت شابًّا يسأل برفقٍ صاحب السرير في الأسفل قائلًا: «أتشعر بالتعب؟» فيجيب الآخر في وهن: «همم … ليس كثيرًا … ليس كثيرًا!»
ولا يزال البحر أملس كالزجاج.
تدحرجت سريعًا في سريري السفلي حيث كنت أشعر بارتجاج السفينة التي يدفعها المحرك، وأسمع صوت طقطقة السرير من فوقي أثناء تقلُّب شاغله فيه؛ أستمع إلى تنهيدات الآخرين، وصوت تلاطم المياه السوداء. وهكذا مر الليل في قلقٍ، وجو ساخن خانق، وإزعاجٍ من صوت المحرك وتنهيدات المرافقين، وديك يصيح صياحًا عاليًا من أحد الأقفاص ظنًّا منه أن أضواء السفينة هي ضوء الفجر. أنام، لكن نومي لا راحة فيه. لو أن هناك نسمة هواء باردة، ولو أني لم أنم في هذا السرير السفلي داخل غرفة ينعدم فيها الهواء.