العودة
لأن البحر كان مستقرًّا كطريقٍ مستوٍ ممهد، لم يفلح أحدٌ في التقيؤ بشدة. نهض الشباب المرافقون لي فجرًا … ولم يمضِ وقت طويل حتى لحقت بهم. كان صباحًا رَماديًّا على سطح السفينة، وكان البحر رماديًّا، والسماء رمادية، وساحل إيطاليا، الذي بدا ضبابيًّا، كان على مسافة ليست ببعيدة. لحقت بي ملكة النحل، كانت سعيدة تمامًا برفيقتها في الغرفة، قالت: يا لها من فتاة لطيفة! فعندما أسدلت شعرها الطبيعي ذا اللون البني، وصل متموجًا إلى قدميها مباشرة! أرأيت! لا يمكنك أبدًا التنبؤ بحظك.
لمرة أخرى صاح الديك، الذي ظل يصيح طَوال الليل، بصوتٍ أجش وحلقٍ موجع. والماشية البائسة بدت أكثر بؤسًا من التعب، لكنها لا تزال ثابتة بلا حركة، كالإسفنج الذي ينمو في قاع البحر. أما المدانون فخرجوا ليستنشقوا الهواء، وعلى وجوههم ابتسامة عريضة. أخبرنا شخصٌ ما أنهم فارُّون من الجندية. بالنظر إلى رؤية هؤلاء الناس للحرب، بدا الفرار لي العمل البطولي الوحيد. لكن ملكة النحل، التي نشأت في بيئة عسكرية، حدقت فيهم كمن يحدِّق في رجال ظلوا بأعجوبة على قيد الحياة تحت شبح الموت. وَفقًا لعُرفها، فإنهم قد أُعدموا رميًا بالرَّصاص لمَّا أُمسِك بهم في المرة الثانية. كان الجنود قد نزعوا قماش المشمع، وتبدد منزلهم الذي باتوا فيه في الليل مع تبدد الظلام، ولم يبدُ منهم في هذا الجو الغائم سوى أجسامهم الرمادية المتحركة تدخن السجائر وتحدق من فوق السفينة.
اقتربنا من تشيفيتا فيكيا؛ ذلك الميناء العتيق ذي الطراز الذي ينتمي للعصور الوسطى، بقلاعه وثكناته الحصينة عند المدخل. صاح الجنود على متن السفينة ولوَّحوا إلى جنودٍ على المتاريس. عدنا بكل هوانٍ إلى الميناء الحقير المتواضع. وفي غضون خمس دقائق كنا في الخارج سائرَين في الشارع العريض المهجور قاصدَين المحطة. نظر إلينا الرجال ذوو القبعات شَزْرًا: والسبب بلا شك هو حقيبة الظهر، فاعتبرونا ألمانيَّين مسكينَين.
•••
احتسينا قهوة بالحليب، ثم بعد خمس وأربعين دقيقة فقط من التأخير، جاء القطار من الشمال. إنه قطار النوم السريع قادمًا من تورين. كانت هناك أماكن كثيرة متوفرة … ولهذا دخلنا، وتبِعَنا ستة من السردينيين. وجدنا في العربة رجلًا كبيرًا ضخمًا من تورين، له عينان مرهقتان. بدت الحياة على اليابسة عالمًا جديدًا كليًّا؛ في الحال يبدأ المرء في استشعار حالة من الترقب والقلق تجوب المكان. فَلِمرة أخرى أقرأ صحيفة «كورييري ديلا سيرا» من أولها لآخرها. تعرفنا مرة أخرى على أنفسنا في هذا العالم الحقيقي النابض بالحياة، حيث الهواء فيه يبدو كنبيذٍ منعش تذوب فيه حبيبات النظام القديم. أرجو، عزيزي القارئ، أن ينال إعجابك هذا التصوير المجازي. لا يسعني أن أمنع نفسي من تَكرار مدى قوة إحساسي بقدرة الأجواء على إحداث تغيير، لا سيما حين نصل فجأة ولمرة أخرى إلى اليابسة. وفي غضون ساعة واحدة تتبدل روح الواحد منَّا. الإنسان هو أكثر مخلوقٍ مثيرٍ للعجب. يظن أنه وُهِب روحًا واحدة، في حين أنه وُهِب عشرات الأرواح. شعرت أن روحي السردينية السوية ترق وتذوب، وأن ذاتي تتبخر في اللايقين والزوال الإيطالي الحقيقي. لذلك استكملت قراءة الصحيفة بينما يحدث هذا التحول في روحي. أحب الصحف الإيطالية لأنها تقول ما تعنيه، ولا تكتفي بانتقاء الأكثر ملاءمة للإدلاء به. نسمي هذا سذاجة … وأسميه أنا شجاعة. عندما تقرأ الصحف الإيطالية تشعر بأن من كتبها رجال شجعان، وليس جبناء يملأ نفوسهم الخوف والحذر.
•••
سار القطار مسرعًا على طول بلدة ماريما. بدأت السماء تمطر. فتوقفنا عند محطةٍ لم يكن من المفترض أن نتوقف عندها … في مكانٍ ما في بلدة ماريما حيث لم يكن البحر المتواري بعيدًا، والبلدة التي تقع على ارتفاعٍ منخفض مستصلحة ولكنها مع ذلك مهجورة. أوه، كم انزعج الرجل التوريني، وكم حرك قدميه في تعبٍ عندما توقف القطار بلا جدوى. ها قد توقف عن الحركة … في المطر. يا له من قطار سريع!
وأخيرًا تحركنا من جديد، ورحنا ندور في المنخفضات الطويلة العجيبة لمنطقة رومان كامبانيا. وهناك كان الرعاة يرعون الخراف؛ خراف المارينو ذات الأرجل النحيلة. إن خراف المارينو في سردينيا كانت ناصعة البياض وبرَّاقة، ولذلك عندما تراها يخطر ببالك وصف الكتاب المقدس «أبيض كصوف الغنم». أما الخراف السوداء وسط القطيع فكانت حالكة السواد. لكن تلك الخراف في كامبانيا لم تَعُد بيضاء، إنما هي متسخة. رغم أن الطبيعة في كامبانيا هي طبيعة برية حقيقية حتى اللحظة، طبيعة برية لها تاريخ تشعر فيها بالأُلفة كما تشعر بالقرب من المدفأة.
اقتربنا من روما المعاصرة المترامية الأطراف … فوق نهر التِّيبِر الأصفر، ووراء المقبرة الهرمية الشهيرة، نسير بمحاذاة أسوار المدينة، إلى أن اندفعنا أخيرًا إلى الداخل، في المحطة الشهيرة، بعيدًا عن أي فوضى.
وصلنا متأخرَين. إنها الثانية عشرة إلا ربعًا. وعليَّ الذهاب لتغيير النقود، وأتمنى أن أجد صديقيَّ. اندفعت أنا وملكة النحل إلى رصيف المحطة، فلم نجد الصديقين عند بوابة التذاكر. المحطة شاغرة إلى حدٍّ ما. اندفعنا إلى الجهة المقابلة إلى أرصفة المغادرة. يقف قطار نابولي متأهبًا. ألقينا حقائبنا في الداخل، وطلبنا من رجلٍ بحَّار ألا يسمح لأحدٍ بسرقتها، ثم أسرعت إلى الخارج متجهًا إلى البلدة بينما تشتري ملكة النحل طعامًا ونبيذًا من المَقصِف.
توقف المطر، وروما تبدو كعادتها ذات أجواء باعثة على الاسترخاء، شبيهة بأيام الإجازات. حصلت على مائة وثلاث ليرات مقابل كل جُنيه، وضعتُ النقود في جيبي في تمام الساعة الثانية عشرة ودقيقتين، واندفعت عائدًا خارجًا من ميدان تيرما. يا للحظ! رأيت هناك الاثنين اللذين أفتقدهما، وهما ينزلان من عربة، أحدهما يمعن النظر بنظارته ذات العدسة الواحدة في الجهة المقابلة لخطوط الترام، والآخر فارع الطول يقظ ذو مظهرٍ أنيق، ينظر وكأنه يتوقَّع منَّا أن نظهر أمامه وقتما يتمنى.
وهذا بحذافيره ما حدث. أسرعنا نرتمي في أحضان أحدنا الآخر. «يا إلهي، ها أنت هنا! أين ملكة النحل؟ لمَ أنت هنا؟ ذهبنا عند رصيف الوصول … لم يكن هناك أثر لوجودكما. بالطبع لم أستقبل برقيتك سوى من نصف ساعة مضت. لهذا أسرعنا إلى هنا. كم تسرني رؤيتك … يا إلهي، دع الرجل ينتظر. ماذا، أتذهب في الحال إلى نابولي؟ لكن هل من الضروري الآن؟ يا لتعجلك! رحَّالٌ حقًّا! إذن فلنعثر على ملكة النحل، سريعًا! لن يسمحوا لنا بالبقاء على الرصيف. لا، فهُم لا يصدرون تذاكر الانتظار على الرصيف حاليًّا. ليس إلا أن بعض المدعوِّين عائدون من عُرس سافوي وبافاريا في الشمال، لهذا تجد بعض الدوقات من العائلة المالكة هنا وهناك. حسنًا، لا بد أن نحاول ونتحايل عليه.»
عند بوابة التذاكر، ثمة سيدة تُجري محاولة غير مجدية حتى يُسمح لها بدخول المحطة. لكن ما يستعصي على سيدة متزوجة من روما أن تفعله، يُجاز فعله لشاب إنجليزي وسيم. وبهذا ينجح بطلانا في التسلل إلى الداخل، وأن يرتميا بين ذراعَي ملكة النحل بجانب القطار المتجه إلى نابولي. حسنًا، والآن أخبرانا عن أحوالكما! اندفعنا إلى تجاذب أطراف الحديث نحن الأربعة. في أذني يتمتم الرجل ذو العدسة الواحدة بصوتٍ خافت عن الصحراء الكبرى؛ إذ إنه عاد منها منذ أسبوعٍ: يا لجمال شمس الشتاء في الصحراء! أما الآخر، الذي يحمل بقع الطلاء على بنطاله الأنيق، فيعطي لملكة النحل صورة مبدئية عن شغفه الأكبر في الوقت الحالي. وسرعان ما كان الرجل ذو العدسة الواحدة يسرد لملكة النحل بالتفصيل رحلته إلى اليابان التي سيبدؤها في غضون ستة أسابيع، بينما الرجل ذو بقع الطلاء يستفيض في الحديث عن الحماس الذي تبثه إبرة النقش في نفسه، وعن إعداده لخطةٍ من أجل قضاء شهر بصحبتي في سردينيا في مايو، لأكتب أنا ويرسم هو. أي نوعٍ من اللوحات؟ فانطلق منه اسم جويا … حسنًا في تلك اللحظة، أسرعنا بالوقوف جميعًا معًا، ألن يأتيا إلينا في صقلية للاستمتاع بأزهار اللوز، في غضون عشرة أيام. أجل سيأتيان … سنرسل برقية إليهما عندما تبدأ أزهار اللوز في التفتح، وسيأتيان في اليوم التالي. شخص ما قد طرق على عجلة العربة طرقتين رنانتين بمطرقة. هذه علامة على أنه قد حان وقت الدخول. ذُعرَت ملكة النحل لأن القطار سيفوتها. «أخشى أن يفوتنا، لا بد أن ندخل.» فقال أحدهما: «حسن جدًّا! هل أنتِ واثقة أن لديك كل ما تحتاجين إليه؟ كل شيء؟ زجاجة نبيذ؟ أوه زجاجتين! هذا أفضل! حسنًا نراكم بعد عشرة أيام. حسنًا … بالتأكيد … سُررنا لرؤيتكما، حتى وإن كانت لمدة قصيرة. أجل، أجل، أيتها الملكة المسكينة! أجل، أنتِ في أمان تمامًا. إلى اللقاء! إلى اللقاء!»
أغلق الباب … وجلسنا في أماكننا … وتحرك القطار من المحطة. وسرعان ما اختفت روما. خرجنا إلى طريق كامبانيا البارد. بعيدًا إلى اليسار نرى تلال تيفولي، ونفكر في الصيف الذي انقضى، والحرارة، ونوافير فيلا دي إيستي. انطلقنا مسرعين على طريق كامبانيا، نحو جبال ألبانيا، في طريق العودة.
•••
التهمنا طعامنا، بما فيه من شرائح رائعة من اللحم البقري وقطع خبز وبيض مسلوق، وتفاح وبرتقال وتمر، وشربنا نبيذًا أحمر له مذاق طيب، وناقشنا خططنا وأحدث الأخبار بكل حماس، كنَّا نشعر بالحماس حيال بعض الأمور. كنَّا متحمسين أننا بعيدًا وسط الجبال الرومانسية للمركز الجنوبي قبل أن ندرك أن هناك راكبين آخرين بجانبنا في العربة. قطعنا نصف المسافة. عجبًا، هناك دَير أعلى التل! وفي لحظة حماسية اقترحت النزول وقضاء ليلة في الأعلى عند مونتي كاسينو، ونرى صديقنا الآخر، وهو الراهب الذي يعرف كثيرًا عن العالم، لأنه يراه من بعيد. لكن ملكة النحل ترتجف، وهي تفكِّر في برودة الشتاء القاسية في هذا الدَّير الحجري الضخم، حيث لا وجود لأي جهاز تدفئة. ولهذا تراجعنا عن الخطة، وعند محطة كاسينو لم أنزل إلا لإحضار قهوة وكعك لذيذ. دائمًا ما تتوفر في محطة كاسينو أصناف شهية لتناولها؛ في الصيف، توجد مثلجات منعشة كبيرة وفواكه وماء مثلج، وفي الشتاء يوجد كعك شهي يمثل إضافة فائقة الروعة على أي وجبة.
•••
أعتقد أن كاسينو تقع في منتصف الطريق المؤدي إلى نابولي. بعد أن غادرنا كاسينو، بدأ يتلاشى تمامًا الحماس النابع من كوننا في الشمال. وبدأت كآبة الجنوب تخيِّم علينا. كذلك بدأت السماء تصير قاتمة، وأخذ المطر يهطل. أفكر في الليلة التي ستحل علينا، على البحر مرة أخرى. تكدرت بدرجةٍ ما خشيةً من ألا نجد سريرًا. على أي حال، يمكننا أن نقضي الليل في نابولي، أو حتى نجلس في هذا القطار، الذي يمضي على مدار الليل الطويل متجهًا إلى مضيق ميسينا. لا بد أن نقرر إذ إننا نقترب من نابولي.
وأنا شبه غافٍ، أصبحت مدركًا الناس من حولي. نسافر في الدرجة الثانية. تجلس أمامنا شابة لها هيئة معلمة واثقة بنفسها، ترتدي نظارة تُثبَّت على الأنف فقط. ويجلس إلى جانبها جندي أبيض شديد النحافة تزين صدره الشرائط. ثم رجل بدين يجلس في إحدى الزوايا. ثم ضابط بحري يحمل رتبة صغيرة. وهذا الضابط قادم من مدينة فيوميه، وكان يغط في نومٍ عميق وربما كان شاعرًا بالخزي. لقد استسلم دانونزيو لتوه. نسمع من مقصورتين بعيدتين نشيدًا عسكريًّا لكن بصوتٍ واهن، كانت أغنيةً من الأغاني التي يتفاخر بها دانونزيو بمدينة فيوميه. فهم جنود تابعون لفيلق دانونزيو. سمعت الجندي المتعب يقول إن أحد الجنود لا يزال شديد الولع بالنظام الجمهوري. لا يُسمح للعساكر الذين يحملون تذاكر مخفَّضة بالسفر في القطارات السريعة. لكن تلك الفيالق ليست مُفلسة؛ فقد دفعوا الفَرق واستقلوا هذا القطار السريع. يُرسَلون في ذلك الوقت إلى منازلهم. نسمعهم من آخر العربة يواصلون الغناء لدانونزيو ورءوسهم مطأطئة من التعب.
مرَّ ضابط جيش، كان قائدًا إيطاليًّا لا ينتمي لجيش فيوميه. سمع الغناء فدخل العربة. كانت الفيالق هادئة، لكنهم كانوا جالسين في استرخاء ولم يعيروا اهتمامًا لدخول الضابط. فصاح على الطريقة الإيطالية: «ثابتٌ على قدمك!». لقد نفعت الشدة معهم. وعلى مضضٍ، كما ربما يبدو، وقفوا في المقصورة. «سلام!» ورغم أن الموقف كان ثقيلًا على النفس، رفع الجنود أيديهم للتحية، بينما هو واقفٌ يراقبهم. ثم، في تعالٍ شديد، سار بعيدًا مرة أخرى. فجلسوا متجهمين. بالطبع لقد هزموا. ألم يدركوا ذلك. ابتسم الرجال في عربتنا على نحوٍ غريب، باستهزاءٍ بائس وبطيء من كلا الطرفين.
كان المطر يهطل في الخارج، والنوافذ يكسوها بخار كثيف، ولذا صرنا في معزلٍ عن العالم. كان القطار بأكمله، ولم يكن كامل العدد وقتها، يشعر بالتعب المضني والاكتئاب المثبِّط لهمم فيالق دانونزيو المسكينة. رغم هدوء وقت العصر الذي عمَّ القطار المعزول من الشبورة، والممتلئ حتى نصفه، كانت تُسمَع فجأة مقاطع من الأغنية مرة أخرى، ثم لا تلبث أن تختفي وسط إنهاك يائس محض. شققنا طريقنا بسرعة شديدة متهورة. لكن ثمة شابًّا لم يكن محرجًا مما حدث. كانت له بنية قوية وشعر أسود كثيف ممشَّط لأعلى كعُرْفٍ منتفش فوق رأسه. سار في الممر برويَّة وعزم وراح يكتب بإصبعه على كل ألواح الزجاج المغطاة ببخار الماء «دابليو دانونزيو جابرييلي … دابليو دانونزيو جابرييلي».
ضحك الجندي المُتعب ضحكة واهنة، وهو يقول للمُعلِّمة: «حسنًا، إنهم شباب صالحون. لكن ما حدث كان فكرة حمقاء. دانونزيو شاعرٌ عالمي … أحد عجائب الدنيا … لكن ما حدث في فيوميه كان خطأً كما تعلمين. وهؤلاء الشباب كان لا بد أن يُلقَّنوا درسًا. لأنهم تجاوزوا حدودهم. بالطبع، لا ينقصهم مالٌ. كان دانونزيو يمتلك أموالًا طائلة في فيوميه، ولم يكن بخيلًا على الإطلاق.» أما المُعلمة، التي كانت من الشخصيات ذات الطابع الحاد، فأعطته محاضرة تشرح فيها سبب أن ما حدث في فيوميه كان خطأ، فأظهرت أنها تعرف أكثر مما يعرفه الشاعر العالمي أعجوبة الدنيا.
يزعجني دائمًا أن أسمع الناس يرددون ما تقوله الصحف.
لم يكن الجندي الواهن عنصرًا في الفيلق. كان قد جُرِح جرحًا نافذًا إلى الرئة. لكنه قال إنه الْتأم. رفع طية جيبه في منطقة الصدر، فكان معلقًا فيه وسام فضي صغير. كان وسام جرحى الحرب. ارتداه في مكانٍ مخفي؛ فوق مكان الجرح. وتبادل هو والمُعلِّمة نظرات تقديرٍ واحترام.
ثم تحدثا عن الرواتب: وسرعان ما عادا إلى الحديث عن الموضوع القديم. كانت المُعلِّمة لها هيئة حازمة كما ينبغي أن تكون لمُعلِّمة. عجبًا لأن يتقاضى محصِّل التذاكر، الذي يثقب تذاكر ركاب القطار، اثني عشر ألف ليرة في العام؛ اثني عشر ألف ليرة. مبلغ ضخم! في حين أن مُعلمًا لا ينقصه من المؤهلات شيء، وكان ينجح في اجتياز فترات تدريبه ودرجاته العلمية، لا يتقاضى سوى خمسة آلاف ليرة. خمسة آلاف ليرة لمعلم مؤهل تأهيلًا كاملًا، واثني عشر ألف ليرة لموظف يثقب التذاكر. وافقها الجندي الرأي، وأشار إلى أجور وظائف أخرى. لكن السكة الحديدية كانت المَظلمة الأبرز. تقول المعلمة: إن كل صبي أراد أن يتسرب من المدرسة في ذلك الحين، يذهب للعمل في السكة الحديدية. فقال الجندي: «يا إلهي، هؤلاء هم رجال القطار!»
•••
أما الضابط البحري، الذي تقوقع في أوضاع غريبة وهو نائم، فنزل في مدينة كابوا ليستقل قطارًا صغيرًا سيعيده إلى محطته التي لم يكن قطارنا قد توقف فيها. في مدينة كازيرتا خرج الجندي المُتعب. وكان المطر يهطل في الشارع الكبير الممتلئ بالأشجار. ودخل شابٌّ. وظلت المُعلِّمة والرجل البدين. ولأن المُعلِّمة كانت تعلم أننا كنا نستمع إليها، تحدثت معنا عن الجندي. ثم، أخبرتنا بأنها ستلحق بسفينة في الليل متجهة إلى باليرمو، فسألتها إن كانت تظن أن السفينة ستكون مشغولة بالكامل. وأكدت أنها بالطبع مشغولة بالكامل. وذلك لأن رقم غرفتها كان أحد أرقام الغرف الأخيرة، فكانت قد حصلت على تذكرتها في ساعة باكرة من صباح ذلك اليوم. انضم إلى الحديث في ذلك الوقت الرجلُ البدين. كان هو الآخر ينوي العبور إلى باليرمو. وكان واثقًا بأننا سنجد السفينة ممتلئة كليًّا حتى تلك اللحظة. أكنَّا نعتمد على حجز غرفٍ في ميناء نابولي؟ أجل كنَّا كذلك. وعندئذٍ هزَّ هو والمعلِّمة رأسيهما وقالا إنها مسألة مشكوك كثيرًا في أمرها … بل إنها تقريبًا مستحيلة. فالسفينة المعروفة باسم «تشيتا دي تريستي»، ذلك القصر العائم، اشتهرت بجمالها حتى إن الجميع أراد أن يسافر على متنها.
سألت: «هل تستوي صعوبة الحجز في الدرجة الأولى والثانية؟»
أجابت المُعلِّمة بنبرة حاقدة إلى حد ما: «نعم، الأمر كذلك حتى مع الدرجة الأولى.» لذا عرفت أنها تحمل تذكرة بيضاء … تذكرة الدرجة الثانية.
لعنتُ سفينة «تشيتا دي تريستي» ولعنت جمالها، واحتقرتها. صار أمامنا خياران حينها: إما قضاء الليلة في نابولي، أو مواصلة الجلوس خلال الليل وصباح اليوم التالي، والوصول إلى المنزل، بعون الله، في ساعة باكرة من العصر. مع أن تلك القطارات التي تقطع مسافات طويلة لا تبالي بالتأخير لست ساعاتٍ. لكننا كنَّا بالفعل متعبَيْن. فماذا سيصير حالنا بعد أربع وعشرين ساعة أخرى من الجلوس، الله وحده يعلم. ولا يزال علينا أن نحاول العثور على سرير في فندق بنابولي هذه الليلة في المطر، وجميع الفنادق في ذلك الوقت مكدسة بالأجانب، وذلك لم يكن داعيًا للتفاؤل. يا إلهي!
على أي حال، لم أكن لأتأثر بإحباطهم بمنتهى السهولة. اعتدت على هذه الطريقة من قبل. فهم يحبون أن يجعلوا الوضع ميئوسًا منه.
سألَت المُعلِّمةُ عما إذا كُنَّا إنجليزيين؟ فأجبنا أن نعم. أوه، شيء لطيف أن تكون إنجليزيًّا في إيطاليا الآن. اندفعت أسأل بأسلوبٍ حادٍّ: «لِمَ؟» بسبب فرق العملة. أنت إنجليزي، وبفرق العملة، تأتي إلى هنا وتشتري كل شيء بلا مقابل يُذْكَر، تنتقي الأفضل في كل شيء، وبعملتك لا تدفع شيئًا يُذكر في المقابل. بينما نحن الإيطاليين المساكين نَغْرم مقابل كل شيء أسعارًا مبالغًا فيها، ولا نَقدِر على اقتناء أي شيء. لهذا، من اللطيف للغاية أن تكون إنجليزيًّا تعيش في إيطاليا الآن. بإمكانك السفر، ارتياد الفنادق، بإمكانك أن ترى كل شيء وتشتري كل شيء، دون أن تتكلف أي شيء. سألتني فجأة. «ما سعر الصرف اليوم؟» مائة وأربع ليرات، مقابل عشرين جنيهًا إسترلينيًّا.
ألقت ما قالته لي في وجهي دون تجميل. وغمغم الرجل البدين بمرارة: «صحيح! صحيح … نعم، نعم!» أثارت وقاحتها، والمرارة الصامتة التي ظهرت على الرجل البدين، غضبي واستيائي. ألا تتكرر هذه النغمة معي كثيرًا جدًّا من هؤلاء الناس؟
قُلت للمُعلِّمة إنها مخطئة. نحن لا نعيش في إيطاليا دون مقابل بأي حال من الأحوال. حتى مع فرق العملة، فنحن لا نعيش بلا مقابل. نحن ندفع، وندفع مبالغ كبيرة، مقابل أي شيء نشتريه في إيطاليا، وأنتم أيها الإيطاليون شاهدون على أننا ندفع. عجبًا! تفرضون جميع هذه الرسوم على الأجانب، ثم تقولون إننا نعيش هنا دون مقابل. أؤكد لكِ أن بوسعي أن أعيش في إنجلترا بالتكلفة نفسها … وربما في مستوى أفضل. قارني تكلفة الأشياء في إنجلترا بالتكلفة هنا في إيطاليا، وحتى مع مراعاة فرق العملة، فإيطاليا تكاد تكون مكلفة كثيرًا مثل إنجلترا. تجدين بعض الأشياء أرخص هنا … السكة الحديدية أقل تكلفة بقليل، لكنها أكثر رداءةً على نحوٍ منقطع النظير. السفر عادةً شاقٌّ. أما ما عدا ذلك من الأشياء: الملابس بشتى أنواعها، وأصناف كثيرة من الطعام أغلى ثمنًا هنا عن إنجلترا، مع مراعاة فرق العملة.
علَّقتْ بأن الكلام صحيح، فإنجلترا قد خفَّضت أسعارها في الأسبوعين الأخيرين. خدمةً لمصالحها بكل تأكيد.
قلتُ: «في الأسبوعين الأخيرين! بل في آخر ستة أشهر.» ثم أردفتُ قائلًا: «في الوقت الذي ترتفع فيه الأسعار هنا يوميًّا.»
ثم تحدث الشاب الهادئ الذي صعِد من كازيرتا.
قال: «صحيح.» ثم تابع قائلًا: «صحيح. أرى أن كل بلدٍ تدفع بعملتها الخاصة، بصرف النظر عن فرق العملة. وهكذا يصير الجميع سواسية.»
لكني شعرت بالغضب. هل يجب أن يُلقَى عليَّ اللوم دائمًا بسبب فرق العملة، كما لو أني لصٌّ؟ لكن السيدة واصلت في إصرار.
فقالت: «لكن، نحن الإيطاليين، شعب في منتهى اللطف، مهذبون للغاية. نحن غاية في اللطف. نحن شعب طيب. لكن الآخرين، ليسوا لطفاء، ولا يتعاملون معنا بطيبة نفسٍ.» ثم أومأت برأسها. وصدقًا، لم أكن أشعر بطيبة النفس نحوها أبدًا: وهو ما كانت تدركه. أما بالنسبة لطيبة الإيطاليين، فصارت تشكل أساسًا قويمًا وثابتًا في هذه الأيام يستندون إليه في ابتزازهم وتبريراتهم لأنفسهم وحقدهم.
•••
حل الظلام على الأراضي المنبسطة الغنَّاء التي تقع حول نابولي، وعلى كَرَمات العنب العالية المدهشة بقطوفها البنيَّة في الأرض الخِصبة الكثيفة الزرع. كان الوقت ليلًا حينما وصلنا إلى تلك المحطة الشاسعة الموبوءة بالسرقة. كانت الساعة الخامسة والنصف. ولم نكن متأخرين بدرجة كبيرة. أعلينا أن نظل جالسين في عربتنا الحالية، وننزل إلى الميناء مع المُعلِّمة، ونغامر؟ ولكن فلنلقِ أولًا نظرة على العربة التي كانت ستذهب إلى صقلية. لهذا نزلنا وركضنا على امتداد القطار حتى عربة سيراكيوز. هرج ومرج، وازدحام في الممر، وبالطبع لا توجد أي أماكن. بالطبع لا توجد أماكن للاستراحة فيها ولو لقليل. ولم يكن بمقدرتنا أن نجلس في مكانٍ ضيق لمدة تزيد على أربع وعشرين ساعة.
فقررنا أن نذهب إلى الميناء … وأن نذهب سيرًا. الله يعلم متي ستتحرك عربة القطار. لذلك عُدنا لنأخذ الحقائب، وأخبرنا المُعلمة بما ننوي فعله.
قالت ببرود: «ليس بوسعك سوى المحاولة.»
•••
فاتجهنا، حاملًا أنا الحقيبة على كتفي وملكة النحل تحمل في يدها حقيبة المطبخ المتنقل، مندفعَين خارج هذه المحطة اللعينة المزعجة، وركضنا في جوف ليلة حالكة في نابولي في الوقت الذي يتساقط فيه مطرٌ خفيف. وسائقو العربات ينظرون إلينا. لكن حقيبتي أنقذتني. أقلق من سائقي العربات المراوغين في نابولي بعدما يحل الظلام. فالأجرة التي تُفرَض في النهار تكون ثابتة بشكل أو بآخر.
تساوي المسافة ميلًا واحدًا تقريبًا من المحطة إلى رصيف الميناء حيث ترسو السفينة. شققنا طريقنا عبر الشوارع العميقة التي تشبه الخُلْجان، وفوق الحصى الأسود الزلق. ترتفع المنازل القاتمة ارتفاعًا شاهقًا على الجانبين، لكن الشوارع في هذه المنطقة تحديدًا ليست ضيقة بدرجة كبيرة. نندفع إلى الأمام في هذا الجو الغريب الذي يغلب عليه الظلام في هذه المدينة التي لا يمكن السيطرة عليها. لا تنبعث من المباني أي أضواء على الإطلاق … ليس سوى مصابيح الشارع الصغيرة الكهربائية.
وصلنا إلى الواجهة الأمامية للميناء، ثم أسرعنا مارين بالمستودعات الضخمة في هذه الليلة المطيرة، قاصدين المداخل الفعلية. يُصدر الترام ضجة وهو يمر بنا. جررنا قدمينا بمحاذاة حافة الرصيف التي تقع مثل برزخٍ على الرمال المتحركة الشاسعة لطريق الميناء. يشعر المرء بخطر محدق من جميع النواحي. لكن في النهاية وصلنا إلى بوابةٍ بجانب سكة حديد الميناء. لا، ليست تلك. واصلنا السير إلى البوابة الحديدية التالية لمعبر السكة الحديدية. وهكذا ركضنا بعيدًا خلف الأكواخ والمباني الكبيرة لمحطة الميناء، حتى رأينا سفينة ترتفع أمامنا، والبحر أسود بالكامل. لكن الآن أين تلك النافذة الصغيرة التي نحصل منها على التذاكر؟ نحن خلف كل شيء في هذه الأدغال الموحشة التي تغشاها عتَمة الميناء.
•••
أرشدنا رجلٌ إلى مكانٍ قريبٍ، ولم يطلب منَّا مالًا في المقابل. يأتي أمر الحقيبة مرة أخرى. هكذا وصلنا، أرى حشدًا متكتلًا من الرجال، أغلبهم من الجنود، يتعاركون في غرفة جرداء حول نافذة تذاكر صغيرة. فتبيَّن لي أنه هو ذلك المكان الذي كنت أتعارك فيه من قبل.
بينما تقف ملكة النحل لتحرس حقيبة المطبخ المتنقل وحقيبة الظهر، أقتحمُ ساحة المعركة. إنها حرفيًّا معركة. ما يقرب من ثلاثين رجلًا يريدون جميعًا في وقت واحد الوصول إلى نافذة تذاكر صغيرة في حائط أبيض. لا حواجز لاصطفاف طوابير، ولا نظام؛ مجرد فتحة في حائط أبيض، وثلاثين رجلًا، أغلبهم من الجنود، يضغطون على الحائط مجتمعين. لكني خضت هذا من قبل. إن الطريقة المُثلى هي أن يُقحِمَ المرء نفسه على نحو جانبي، ومن دون أي عنف، بالضغط والتشبث المستميتين يصل إلى الهدف. يجب إبقاء يد واحدة ثابتة فوق جيب النقود، ويجب أن تكون اليد الأخرى حرة للإمساك بجانب نافذة التذاكر عند الوصول إليها. وهكذا يشعر المرء أنه حبة قمح مطحونة في طواحين الرب، وسْط شياطين تصارع من أجل التذاكر. الوضع ليس لطيفًا البتة، فالأجساد شديدة التلاصق إلى حد السحق على نحو منقطع النظير. ولا يجدر بك أن تَغفُل عن حراسة ساعتك أو مالك أو حتى مِنديلك للحظة واحدة. عندما جئت لأول مرة إلى إيطاليا بعد الحرب سُرقت مرتين خلال ثلاثة أسابيع؛ إذ كنت أثق بالناس ثقةً ساذجة بريئة. ومنذ ذلك الحين، لم أتوانَ أبدًا أن آخذ حذري. بشكلٍ أو بآخر، سواء كنت مستيقظًا أو نائمًا، لا بد للنفسِ أن تكون حذرة هذه الأيام. وهذا ما أفضله حقًّا، بعد أن تعلمت الدرس حينها. الثقة في طيبة البشر هو سِترٌ واهٍ حقًّا. أما الاستقامة ونبل الأخلاق فلن يجديا نفعًا مع البشر، رغم أنهما ربما يجديان مع الأسود والذئاب. لذلك، بحذر شديد شققت طريقي بصعوبة وحرص وسط كتلة الرجال، مثلما يشق مسمارٌ طريقه في قطعة خشب، حتى وصلت إلى نافذة التذاكر، وعلا صوتي بطلب تذكرتين في الدرجة الأولى. تجاهلني الموظف في الداخل لفترةٍ، ليلبي مطالب الجنود. لكنك إذا حافظت على مكانك بقوة، فستصل إلى مرادك. سألني الموظف إن كنت أريد تذكرتين في الدرجة الأولى. فقلت إنهما لزوجٍ وزوجة، عسى أن توجد غرفة بفراشين. سمعت نِكاتًا في الخلف. لكني حصلت على التذكرتين. كان مستحيلًا أن أضع يدي في جيبي. تكلفت التذكرتان مائة وخمسة فرنكات للفرد الواحد. أمسكت بباقي النقود وبالتذكرتين الخضراوين، وخرجت من تلك الكتلة البشرية بصعوبة شديدة. وهكذا … أنجزنا المهمة. في الوقت الذي كنت فيه أرتب نقودي وأضعها في جيبي، سمعت شخصًا آخر يطلب تذكرة واحدة في الدرجة الأولى. فأجاب الموظف بأنه لم تتبقَّ أي تذاكر. وهكذا يمكنك أن ترى كيف على المرء أن يحاول جاهدًا.
لا بدَّ أن أذكر عن تلك التجمعات أنها كثيفة فحسب، لكنها ليست عنيفة، ولا همجية بأي حال من الأحوال. أشعر دائمًا بشيء من التعاطف تجاه الرجال المعتصَرين فيها.
•••
اندفعنا تحت المطر المنهمر إلى السفينة. وفي غضون دقيقتين أصبحنا على متنها. رأينا أن كل واحد منَّا له غرفة على سطح السفينة، غرفة لي، وأخرى بجوارها لملكة النحل. كانت فخمة وليست مجرد غرفة في سفينة على الإطلاق؛ إذ كانت غرفة نوم صغيرة مناسبة بها فراش محاط بستائر تحت نافذة مستديرة، وبها أريكة وثيرة، وكراسي، ومائدة، وسجاد، وحوض كبير للاغتسال، به صنبور فضي … الغرفة بأكملها كانت فاخرة. ألقيت حقيبتي على الأريكة منبهرًا، وأزحت الستائر الصفراء المحيطة بالفراش، وتطلعت من النافذة المستديرة إلى أضواء نابولي، فتنهدت تنهيدة راحة. بوسع الواحد منَّا أن ينعم بحمام منعش، وأن يغيِّر ملابسه. رائع!
•••
تشبه الصالة العامة في السفينة غرفة جلوسٍ في فندق، بها الكثير من الموائد الصغيرة التي تعتليها زهورٌ وصحف، وكراسي ذات مساند، وسجادة دافئة، وأضواء زاهية لكنها هادئة، وأناس جالسون هنا وهناك يتسامرون. وكان يوجد مجموعة من الإنجليز جالسين في إحدى الزوايا، تبدو عليهم الثقة، يتحدثون بصوتٍ عالٍ، سيدتان إنجليزيتان هادئتان، وإيطاليون كُثر يبدو عليهم التواضع. هنا بإمكان الواحد منَّا أن يجلس في سلام وهدوء، متظاهرًا بتصفح مَجلة مُصوَّرة. حصلنا على قسط من الراحة. بعد ساعةٍ تقريبًا دخل رجلٌ إنجليزي وزوجته، وهما اللذان كنَّا قد رأيناهما في قطارنا. وبهذا كانت العربة قد تحركت أخيرًا إلى الميناء. أين كان سينتهي بنا الحال لو كنَّا قد انتظرنا!
•••
بدأ النُّدُل في فرد مناديل الموائد البيضاء وبسط الموائد الأقرب إلى الجدران. كان العشاء سيبدأ في الساعة السابعة والنصف، فور أن تتحرك السفينة. جلسنا في صمت، حتى بُسطت سبع موائد أو ثمانٍ. ثم تركنا الفرصة للآخرين حتى يختاروا أماكنهم. وبعدها اخترنا مائدة لنا وحدنا، فَلَم يرغب كلانا في الجلوس بصحبة أحد. وهكذا جلسنا أمام الأطباق وزجاجات النبيذ وتنهدنا على أمل أن نحظى بوجبة شهية. على أي حال الطعام ليس ضمن المائة والخمسة فرنكات.
للأسف، لم تسنح لنا فرصة أن نجلس وحدنا؛ جلس إلينا شابان نابوليان لطيفان، هادئان، أشقران أو تغلب الشقرة عليهما. كانا مهذبَين، ومن الواضح أنهما من أصول شمالية. بعد ذلك اكتشفنا أنهما صائغا مجوهرات. لكني أحببت هدوءهما، ودماثة خلقهما. بدأ العشاء، وكنَّا انتهينا من تناول الحَساء، عندما ظهر شابٌّ آخر قوي البنية وصاخبٌ إلى حدٍّ ما، كان تاجرًا، بكل تأكيد. كانت تصرفاته الواثقة المتعجرفة تعكس انعدام ثقته بنفسه. له جبين مرتفع قليلًا، وشعر أسود ممشط لأعلى بطريقة استعراضية، ويرتدي خاتمًا كبيرًا في إصبعه. لكن الخاتم لم يكن دالًّا على أي شيء. هنا يرتدي أغلب الرجال خواتم كثيرة، جميعها مرصعة بالمجوهرات. إن كان المرء يؤمن بأن جميع هذه المجوهرات حقيقية، فلربما كانت إيطاليا أغنى من الهند المشهورة بمجوهراتها. لكن صديقنا الجلف كان أنيقًا تفوح منه رائحة النقد. ليس المال، بل النقد.
واتتني فكرة عندما ناولني المِلح وقال بإنجليزية ركيكة: «مِلح، شكرًا لك.» ولكنى تجاهلت محاولته بدء حوار. ومع ذلك، لم ينتظر طويلًا. من النافذة في الجهة المقابلة من الغرفة رأت ملكة النحل أضواء الميناء تتحرك ببطء. فصاحت بالإنجليزية: «يا إلهي، أسنمضي؟» وسألت السؤال نفسه بالإيطالية: «هل سنرحل؟» شاهد الجميع الأضواء، أما الرجل الجلف فكان يتسكع في الأرجاء. كانت هيئته من الخلف موحية بأنه جلف.
قال: «أجل. سنمضي.»
صاحت: «يا إلهي! أتتحدث الإنجليزية؟»
«أجل. أتحدث الإنجليزية بدرجةٍ ما.»
في واقع الأمر كان الرجل يتحدث حوالي أربعين كلمة متقطعة. لكن لكنته كانت جيدة جدًّا بالنسبة إلى الأربعين كلمة. لم يتحدث هو الإنجليزية، إنما كان يحاكي صوت الإنجليز عند نطق الأصوات. والنتيجة كانت مذهلة. كان الرجل قد خدم في الجبهة الإيطالية مع وحدات الحرس الاسكتلندي، هذا ما أخبرنا به بالإيطالية. كان من ميلانو. وقد أمضى وقتًا مع قوات الحرس الاسكتلندي. ويسكي … ها؟ ويسكي.
صاح بالإنجليزية: «تعالَ هنا، يا ولد!»
كانت صيحة لها تلك النبرة الاسكتلندية، كان صوته عاليًا وغير مصطنع، لدرجة أني كدت أختبئ تحت المائدة. فأفزع كلينا كفزعنا من صوت انفجار.
بعد ذلك ظل يثرثر من دون تردد. كان تاجرًا لنوعٍ محدد من الآلات، وكان يعمل في صقلية. بعد مدةٍ قصيرة كان سيسافر إلى إنجلترا؛ ولهذا سأل كثيرًا عن فنادق الدرجة الأولى. ثم سأل عما إذا كانت ملكة النحل فرنسية؟ أكانت إيطالية؟ لا، إنها ألمانية. أوه … ألمانية. وفي الحال تفوه بكلماتٍ ألمانية مُفادها: «ألمانية! ألمانية، صحيح؟ من ألمانيا. حقًّا! ألمانيا فوق الجميع! أها، هذا ما أعرفه من الألمانية. لا أكثر من ذلك … ماذا؟ هل ألمانيا فوق الجميع في زمننا هذا؟ إن ألمانيا أدنى من الجميع.» ثم قفز على مقعده مبتهجًا من الكلمات التي نطقها. إن معرفته بالألمانية لا تختلف عن معرفته بالإنجليزية فكان يعرف ست عباراتٍ فحسب.
قالت ملكة النحل: «لا. ألمانيا ليست أدنى من الجميع. لن تبقى على هذا الحال لفترة طويلة على أي حال.»
قال الرجل الجلف: «كيف هذا؟ كيف لن تبقى على ذلك طويلًا؟ أتظنين هذا؟ هكذا أظن أنا أيضًا.» ثم قال بالإيطالية: «ألمانيا لن تظل أدنى من الجميع لفترة طويلة. لا، إطلاقًا. في الوقت الحالي إن إنجلترا هي التي فوق الجميع. إنجلترا فوق الجميع. لكن ألمانيا ستنهض من جديد.»
قالت ملكة النحل: «بالطبع. وكيف لها ألا تنهض؟»
قال الرجل الجلف: «أها، ما دامت إنجلترا تحتفظ بالمال في جيبها، فلن ينهض أحدٌ منَّا. إيطاليا كسبت الحرب، وألمانيا خسرتها. وصارت إيطاليا وألمانيا تحت، وإنجلترا فوق. كلانا صار تحت، وإنجلترا فوق. إنجلترا وفرنسا. شيء غريب، أليس كذلك؟ الحلفاء. ما الهدف من الحلفاء؟ أن تبقى إنجلترا في الأعلى، وفرنسا في طريقها للصعود، وأن تظل ألمانيا وإيطاليا تحت.»
قالت ملكة النحل: «صحيح، لكنها لن تبقى تحت إلى الأبد.»
«أتظنين ذلك؟ سنرى. سنرى كيف ستصبح إنجلترا في وقتنا هذا.»
قلت: «إنجلترا لا تسير بهذه الخطى المبهرة، رغم كل شيء.»
«كيف هذا؟ أتقصد أيرلندا؟»
«لا، ليست أيرلندا وحدها. المنطقة بأكملها. تقترب إنجلترا من الانهيار مثلها مثل باقي الدول الأخرى.»
«ماذا تقول! رغم كل هذا المال، ونحن أصحاب الدول الأخرى بلا مال؟ كيف لها أن تنهار؟»
«وبم يفيدك انهيارها؟»
«حسنًا … من يدري. لو انهارت إنجلترا …» ثم تهلل وجهه بابتسامة متمنية. كم يتمنى ذلك … كم يتمنون جميعهم ذلك، يتمنون أن تنهار إنجلترا. ربما كان الجانب التجاري فيهم لا يحب لإنجلترا ذلك. لكن الجانب الإنساني فيهم يتمنى لها ذلك. إن الجانب الإنساني يتطلع بشوق إلى انهيار إنجلترا. أما الجانب التجاري، فيتبرأ بشدةٍ مما يأمله الجانب الإنساني. وهذا ما يحدث في الواقع. تتحدث الصحف بشكلٍ أساسي بصوت الجانب التجاري. لكن على مستوى الأفراد، عندما تستقل عربة قطار أو كما نحن الآن على متن السفينة، يعلو الصوت الإنساني، فتدرك مدى كرههم لك. هذا مؤكدٌ بلا شك. عندما يستقر سعر الصرف عند مائة وستة، أظن أن الرجال سيغضون أبصارهم عن الجانب الإنساني، وسيبقون أعينهم يقظة على التجارة. وبعدما يخسرون إنسانيتهم، يصطدمون بذاتهم البشرية البغيضة صدمة بشعة. وستعرف حينها مدى كرههم لك. في باطِنهم يكرهوننا، وكنفس بشرية فنحن مثار للحقد والشر. هم يكرهوننا بحقدٍ، ويزدروننا بغيرةٍ. وهذا ربما لا يضير تجاريًّا. لكنه إنسانيًّا مزعج بالنسبة لي.
انتهى العشاء، كان الرجل الجلف يُسرف في شرب السجائر … سجائر موراتي إذا تكرمت. كُنَّا قد شربنا جميعًا زجاجتي نبيذ. وكان قد انضم إلى الرجل الجلف على مائدتنا تاجران آخران … كانا شابين أنيقين؛ أحدهما جلف والآخر لطيف ومهذب. أما رفيقانا صائغا الجواهر فظلا هادئين، يشاركان في الحديث أحيانًا، لكن بهدوء وحساسية بالغة. لم أكن أملك سوى الإعجاب بهما. وبهذا كنَّا سبعة أشخاص، منهم ستة رجال.
قال صاحبنا الجلف الأول: «ويسكي! أستشرب ويسكي يا سيدي؟» «أجل، كأسًا صغيرة من السكوتش! كأسًا من ويسكي سكوتش.» كل هذا بنبرة اسكتلندية ممتازة صادرة من رجل يقف عند المشرب يطلب مشروبًا. كان الموقف فكاهيًّا، فلم أتمالك نفسي من الضحك، وكان الموقف كذلك وقحًا للغاية. نادى على النادل، وأمسك به من عُروة أزراره، فصار الصدران متقاربين ثم سأله عما إذا كان هناك ويسكي. قال النادل، بنبرة صوتٍ كمن يقول: «أنا رجلٌ مثلي مثلك لدينا مشاعر»، إنه لا يظن أن هناك ويسكي، لكنه سيرى. ودار الرجل الجلف حول المائدة ليدعونا جميعًا لشرب الويسكي، ويُلح علينا في ثقة رهيبة بسجائره الإنجليزية الغالية.
وصل الويسكي وتشارك في شربه خمسة أشخاص. كان نبيذًا حارًّا دُهنيًّا لا أعرف من أين أتى. ثرثر الرجل، متحدثًا ببعض كلماتٍ بالإنجليزية والكلمات الأربع التي يعرفها بالألمانية. كان يشعر بالإثارة، فأخذ يتلوى في كرسيه ويلوِّح بيديه. كان له أسلوب مميز في التلوي يعكس اعتدادًا صاخبًا بالنفس. حان دوري لأعرض عليهم الويسكي.
سنح لي الوقت في لحظة هدوءٍ أن أمعن النظر من النافذة وأبصر الأضواء الخافتة لجزيرة كابري، ومدينة أناكابري وكذلك المنارة. كنَّا قد مررنا بالجزيرة بالفعل. ووسط أصوات الضجيج مرَّ بذهني بعض أشخاصٍ في الجزيرة. ثم كان لزامًا عليَّ أن أعاود التفكير مرة أخرى في اللحظة الراهنة.
كان الرجل الجلف قد عاود مرة أخرى فتح موضوعه عن إنجلترا وإيطاليا وألمانيا. تباهى بإنجلترا بأقصى ما في وسعه. فالزعامة لإنجلترا بلا شك، وما دام هو يستطيع أن يتحدث بعض الإنجليزية، ويتحدث إلى إنجليز، وسيسافر على حد قوله إلى إنجلترا في أبريل، فلا عجب أن مكانته تفوق مكانة رفقائه ممن عجزوا عن بلوغ كل تلك المزايا. في الوقت نفسه، توترت أعصابي كثيرًا لدرجة فاقت الاحتمال.
من أين نحن وأين كنَّا وأين نعيش؟ آه، حسنًا، إنجليز يعيشون في إيطاليا. آلاف مؤلفة من الإنجليز عاشوا في إيطاليا. حسنًا، هذا أمر في صالحهم كثيرًا. من المعتاد أن يوجد ألمان كثر، لكن الألمان محبطون الآن. أما الإنجليز … فأي مكان سيصبح أفضل بالنسبة إليهم من إيطاليا في الوقت الحالي؟ لديهم الشمس، والدفء، ووفرة من كل شيء، ويتعاملون مع شعب لطيف، ويتمتعون بفرق العملة! والترحيب! وافقه في الرأي التاجران الآخران. والتفتوا إلى ملكة النحل طلبًا لموافقتها على ما يقولون. وكنت قد اكتفيت من الأمر برمته.
قلت: «يا إلهي، أجل. إنه شيء رائع أن تعيش في إيطاليا، خاصةً إذا لم تكن نزيلًا في فندق، وعليك أن ترعى شئونك بنفسك. إنه شيء رائع أن تُفرَض عليك نفقات إضافية في كل مرة، ثم تُهان إن تفوهت بكلمة. إنه شيء رائع أن تُلام على فرق العملة إن تفوهت بكلمتين إلى أي إيطالي أو حتى إلى أجنبي تمامًا. إنه شيء رائع أن يكون لديك نُدُل وبائعون وحمَّالون في السكك الحديدية يتهكمون بمزاجٍ حاد ويهينون الناس بأساليب منحطة ومتدنية طَوال الوقت. إنه أمر رائع أن تشعر بأنهم جميعًا ضدك. وإذا كنت تفهم الإيطالية بما يكفي، فهو أمر رائع أن تسمع ما يقولونه عنك عندما تمر بجوارهم. أمر رائع للغاية. رائع للغاية حقًّا!»
أظن أن الويسكي قد أجَّج هذه الثورة بداخلي. جلسوا في صمت مُطبِق. ثم بدأ صاحبنا الجلف الحديث بصوته المستنكر المعسول.
«أوه لا! أوه لا! هذا غير حقيقي يا سيدي. لا، هذا غير حقيقي. إن إنجلترا في طليعة دول العالم …»
«وأنت تريد الانتقام منها لأجل ذلك.»
«بالطبع لا يا سيدي. بالطبع لا. ما الذي دفعك لتقول ذلك؟ عجبًا، إن الإيطاليين شعبٌ طيب. نحن الإيطاليين طيبون. نحن شعب طيب.»
كانت تلك هي الكلمات نفسها التي استخدمتها المُعلِّمة.
قلت: «طيب!» ثم تابعت قائلًا: «أجل، ربما. طيب عندما تصبح المسألة بعيدة عن فرق العملة وعن المال. لكن ما دامت المسألة دائمًا تمس فرق العملة والمال، فإن الواحد منا يتعرض دائمًا إلى إهاناتٍ بسيطة.»
أظن أنه الويسكي لا محالة. على أي حال لا يمكن للإيطاليين أبدًا أن يحتملوا هذه المرارة القاسية. بدا الانزعاج على صائغَي الجواهر، أما الرجال الأجلاف فنظروا نظرةً متعالية، جزء منها يغلب عليه الابتهاج، والجزء الآخر يغلب عليه الخجل، وذلك لأنهم كُشِفوا. أما التاجر الثالث، ذلك الرجل اللطيف، فكان فاغر العينين ومذعورًا من أنه على وشك أن يتقيأ. وقدم نوعًا من مشروب كحولي إيطالي، وسألَنا في تواضع إن كنَّا نرغب في تناول زجاجة منه. فذهب مع النادل ليحضر صنفًا فاخرًا. وبهذا شربنا … وكان مذاقه جيدًا. لكنه، ذلك مَنْ قدم الكحول، جلس بعينٍ متسعة وقلقة. ثم قال إنه سيأوي إلى الفراش. منحه صاحبنا الجلف نصائح متنوعة عن دُوار البحر. كان في البحر موجٌ طفيف. ولهذا انصرف الرجل الذي دعانا إلى المشروب الكحولي.
•••
دندن صاحبنا الجلف على المائدة وهَمْهَم بشيء، ثم سأل ملكة النحل إن كانت تعرف «روزنكافالييه». كان يلجأ دائمًا إلى ملكة النحل. فأجابت بأنها تعرفه. فحكى أنه مغرمٌ بالموسيقى. ثم غنَّى بصوتٍ حاد مقطعًا آخر. وقال إنه لا يعرف سوى الموسيقى الكلاسيكية. ثم مَاءَ بمقطعٍ لموسورسكي. قالت ملكة النحل إن موسورسكي كان الموسيقيَّ المفضل لها في الأوبرا. فصاح الرجل الجلف: لو أن هناك بيانو! فقال رفيقه: إن هناك بيانو، لكنه مقفل عليه. ثم قال رفيقه بثقة: «لنحصل على المفتاح.» والنُّدُل، لكونهم رجالًا يحملون المشاعر نفسها مثل صاحبينا، سيعطونهما أي شيء. ولهذا فالمفتاح آتٍ. دفعنا حسابنا … فكان حسابي يقارب ستين فرنكًا. ثم سرنا واهنين في السفينة المتأرجحة، متجهين إلى السُّلَّم الملتوي المؤدي إلى غرفة الجلوس. فتح صاحبنا الفظ باب غرفة الجلوس، وأضاء الأنوار.
كانت غرفة مبهجة للغاية، مفروشة بمقاعد عميقة ألوانها فاتحة، وبها أشجار نخيل خلف الموائد بمسافة صغيرة، وبيانو أسود قائم. جلس صاحبنا على كرسي البيانو وقدَّم لنا عرضًا. وأخذ ينثر ضجيجًا على البيانو مثلما يُنثر الماء من الدلو. ثم رفع رأسه وهزَّ كتلة شعره الأسود، وتعالى صوته ببعض مقاطعَ من الأوبرا. ثم التفت بظهره الضخم على كرسي البيانو وهز مؤخرته الممتلئة. من الواضح أنه يتمتع بقدر من الحس المرهف بالموسيقى، لكن مهارته محدودة للغاية. كان يصرخ، ثم يلتف، ثم ينثر ضجيجه على البيانو. وقف بجانب البيانو أثناء عزف هذا الشاب صديقُه الجلف الآخر، رجلٌ هادئ في بِذلة لونها فاتح، ذو أطرافٍ قصيرة ومكتنزة، ويَكبُر الرجل كثير الحركة الذي يعزف، في العمر. في الجهة المقابلة من السجاد جلس الأَخَوان صائغا الجواهر مغمورَين في إحدى الأرائك، فكانا غامضَين بجسدهما النحيل، ووجههما الذي تغلب عليه الشقرة. جلست ملكة النحل بجواري بعينين لامعتين، تطلب أن تُعزف هذه الموسيقى وتلك، لكن الرجل الملتوي لم يفلح أن يقدم أيًّا منها. اقتصرت حدود معرفته على أربع مقطوعات، وبعض الرذاذ … لا أكثر من ذلك. أما الجلف الأكبر فوقف قريبًا منه ليطمئنه بكل هدوء، ويشجعه، ويبدي إعجابه كحبيبٍ يشجع ويُعجب بخطيبته البسيطة. جلست ملكة النحل متحمسة بعينين لامعتين، تبدي إعجابها بجرأة هذا الرجل على العزف بينما هو غير واثق من نفسه، وهو ما تدل عليه حركاته العصبية الكثيرة. أما من جانبي، كما لعلك تُخمن، لم أُعجَب به.
اكتفيت من كل هذا. فنهضت. وانحنيت احترامًا ثم انصرفت. تبعتني ملكة النحل. قلت: ليلة سعيدة، عند أول الممر. أوَت هي إلى الفراش، وتجولت أنا في السفينة لأشاهد هذه الليلة المعتمة في البحر.
•••
كان الصباح مشمسًا، وظهرت بعض السحب في السماء، وعلى مسافة بعيدة ظهر ساحل صقلية بلون أزرق شاحب. كم كان حتمًا مذهلًا لأوليسيس أن يغامر في هذا البحر الأبيض المتوسط ويفتح عينيه على كل هذا الجمال الذي تتمتع به هذه السواحل المرتفعة. كم كان مدهشًا أن يتسلل بسفينته إلى تلك الموانئ الساحرة. ثمة شيء من سحر الصباح لا يغيب أبدًا عن تلك الأراضي وهي تظهر من البحر. وعندما ينظر إليها المرء تستدعي في ذهنه دائمًا قصيدة الأوديسة. وكأن كل سحر الصباح الآسر في هذا العالم يبدو تمامًا كما كان يراه هومر!
كان صاحبنا الجلف يندفع هنا وهناك على ظهر السفينة، مرتديًا أحد المعاطف الواقية من المطر التي رُبطت بحزام عند خَصره وانتفخت لتتخذ شكل تنورة أسفل خصره. حيَّاني بصيحة قائلًا: «المسافة طويلة، طويلة جدًّا إلى تيبيراري.» فعلَّقت: «طويلة للغاية». فتابع قائلًا: «إلى اللقاء بيكاديللي.» فقلت بالإيطالية، أثناء اندفاعه متبخترًا أسفل السُّلم: «إلى اللقاء». وسرعان ما رأينا الآخرين أيضًا. لكن كنَّا في الصباح، ولهذا لم تكن لديَّ، بكل بساطة، الرغبة في التحدث إليهم … باستثناء أن أقول طاب يومكم فحسب. ولم يكن بوسعي أن أزيد على كلمتين معهم في هذا الصباح، باستثناء أن أسأل أكثرهم لطفًا إن كان قد تقيأ. لكنه لم يفعل ذلك.
انتظرنا أن تسلك باخرة «تشيتا دي تريستي» العظيمة مسارها إلى ميناء باليرمو. بدت البلدة قريبة للغاية، وكذلك الحلقةُ الكبيرة للميناء، ومجموعة التلال المحيطة بها. إنه ميناء باليرمو العظيم. تمنيت لو أن الباخرة الضخمة تسرع في إبحارها. لأني كرهتها في تلك اللحظة. كرهت فخامتها؛ إذ بدت كما لو أنها مصممة للتجار العامرة جيوبهم بالنقد. كرهت الصورة الكبيرة التي شغلت أحد جدران غرفة الجلوس بالسفينة؛ صورة — تجسد إيطاليا — لفتاة قروية مثالية أنيقة تتنزه على حافة جُرفٍ بهي ومثالي، بين عدد لا حصر له من الأزهار، وتحمل فوق ذراعها، بمنتهى الرقي والجمال، غصنًا من أزهار اللوز وحُزمة من شقائق النعمان. كرهت النُّدُل، والأناقة المبتذلة، والفخامة المبالغ فيها. نفرت من الناس على هذه السفينة الذين كشفوا جميعًا عن جانبهم الأسوأ الغارق في المادية. وكذلك النزعة التجارية البذيئة التي تفشت بعد الحرب، ورائحة المال النتنة التي تفوح من حيتان التجارة. تاقت نفسي إلى النزول. أخذت السفينة الضخمة تقترب ببطء من الميناء، ثم ازدادت بطئًا أثناء توجيه مؤخرتها الضخمة. وعندئذٍ بقينا إلى خمس عشرة دقيقة في انتظار شخصٍ حتى يضع المعبر لركاب الدرجة الأولى. أما الدرجة الثانية، بكل تأكيد، فكانوا يتدفقون ويختفون مثل الثلج الذائب وسط حشود المتفرجين على رصيف الميناء، وذلك لفترة طويلة قبل أن يُسمح لنا بالنزول.
•••
كنت سعيدًا فَرِحًا أني سأنزل من تلك السفينة، لا أدري ما السبب، رغم أنها كانت نظيفة ومريحة، ورغم أن طاقمها كان مهذبًا تمامًا. كنت سعيدًا فَرِحًا أني لم أعد مضطرًّا لمشاركة سطح السفينة مع تجارٍ لوقت أطول. كنت سعيدًا بأني سأسير على قدمي مرة أخرى، على الأرض. لا، لن أستقل عربة. حملت حقيبتي على ظهري في طريقي إلى الفندق ناظرًا بعينٍ حاقدة على الحركة المتثاقلة أمام الميناء. كانت الساعة التاسعة تقريبًا.
•••
فيما بعد، حينما كنت قد نمت، فكرت كما كنت أظن من قبل، أن الإيطاليين يجب ألا يلاموا على حقدهم علينا. فنحن — إنجلترا — قد أخذنا على عاتقنا منذ فترة طويلة دور الدولة الرائدة. والآن إذا كانت إنجلترا قد زجت بهم جميعًا، سواء أثناء الحرب أو بعدها، في هذا الوحل — وهذا ما فعلناه رغم كل الهراء عن الوفاق — فإن من حقهم أن يحقدوا علينا. فأنت إذا أخذت على عاتقك مهمة القيادة وقدت الناس إلى مستنقع قذر، فلا بد أن تتوقع أن تُرمى بالوحل. لا سيما إذا كنت، بمجرد دخولك ذلك المستنقع، لا تفكر في شيء آخر غير الصعود سريعًا فوق ظهور البائسين الذين أغرقتهم في المستنقع. وهو سلوك معهود نوعًا ما من الدول العظمى!
ومع ذلك، ورغم كل شيء، لا بدَّ أن أشدد على أني إنسان واحد، فرد، ولست وحدة وطنية، ولا ممثل لإنجلترا أو ألمانيا. لست ممثلًا لأي كيان سالف بغيض. أنا لا أمثل إلا نفسي.
•••
في المساء أصرَّت ملكة النحل على الذَّهاب إلى عرض الدمى المتحركة الذي تحبه حبًّا شديدًا. وبهذا أسرع ثلاثتنا؛ إذ كنا برفقة صديقتنا الأمريكية مرة أخرى، في الظلام وبين الشوارع الجانبية المتعرجة وأسواق باليرمو في الليل، حتى أرشدنا في النهاية رجلٌ ودود إلى المكان. تبدو الشوارع الخلفية في باليرمو ودودة، لا هي ضخمة ولا مريعة مثلما كانت نابولي تبدو بالقرب من الميناء.
كان المسرح مكانًا صغيرًا مفتوحًا على الشارع. لم يكن بكشك التذاكر الصغير أحدٌ، لهذا مضينا إلى الباب الحاجز. أقبل مسرعًا رجلٌ عجوز رث الثياب يحمل عودًا طويلًا من الشمر وأرشدنا إلى أماكن في المقاعد الخلفية، وأومأ لنا بالسكوت عندما تحدثنا عن التذاكر. كانت المسرحية قد بدأت. ثعبان تنين كان في صراعٍ مع فارسٍ يرتدي درعًا نحاسيَّة لامعة حتى ارتعدت فرائصي. كان الجمهور أغلبهم من الصبية الذين كانوا يحدقون باهتمام حماسي فيما يدور على خشبة المسرح المنيرة. حضر عدد محدود من الجنود وكبار السن. فكان المكان مكتظًّا بما يقرب من خمسين فردًا محتشدين في صفوف صغيرة من المقاعد، ومتقاربين الواحد وراء الآخر، حتى إن آخر رجل أمامي كان يتجاوز حدوده طَوال الوقت ويجلس على ركبتَيَّ. رأيت على أحد الإعلانات أن سعر تذكرة الدخول كان أربعين سنتيمًا.
كنا قد شارفنا على نهاية العرض، ولهذا جلسنا حائرين قليلًا؛ لعدم قدرتنا على الفهم. القصة لا محالة كانت عن فرسان شارلمان فرنسا … سمعنا اسمي «رينالدو!» و«أورلاندو!» لمراتٍ ومرات. لكن القصة كان تُروى بلهجةٍ يصعب فهمها.
كنت منبهرًا بالشخصيات المجسَّدة. المشهد بدا بسيطًا، يعرض قلعةً من الداخل. لكن الشخصيات المجسَّدة، التي كانت تقريبًا ثُلثي حجم الإنسان، كانت مدهشة بدروعها الذهبية اللامعة وبحركاتها الواثبة القتالية. جميعهم كانوا فرسانًا، حتى ابنة ملك بابل. لم يكن يميزها سوى شعرها الطويل. كان الجميع يرتدون دروعًا جميلة لامعة مع خوذات وأقنعة يمكن خلعها متى شاءوا. أُخبرت بأن هذه الدرع تناقلتها أجيالٌ كثيرة. إنها حقًّا جميلة. ممثلٌ واحد لم يكن يرتدي الدرع وهو الساحر ماجيس أو مالفيج الذي كان شبيهًا لشخصية ميرلين في فرسان شارلمان. كان يرتدي عباءة قِرمِزية طويلة، لها حافة من الفراء، وقبعةً قِرمِزية لها ثلاث زوايا.
شاهدنا التنين وهو يقفز ويتلوى حتى يُمسك بالفارس من قدمه، ثم يموت. شاهدنا الفرسان يندفعون داخل القلعة. وشاهدنا عِناقًا رائعًا تصادمت فيه دروع الفرسان المنقذين، أورلاندو وصديقه المقرب والقزم الصغير، فكانت صدورهم المدرَّعة تصطك بصدور إخوانهم المنقذين. وشاهدنا تمثيلهم لانهمار الدموع. ثم من دون مقدمات أُضرمت النيران في تمثال الساحرة، وعندئذٍ تهلل الصبية فرحًا. ثم انتهى العرض. صار المسرح شاغرًا في لحظة، لكن أصحاب المسرح والرجلين اللذين كانا يجلسان بالقرب منَّا لم يدَعونا نمضي. فلا بد أن ننتظر العرض التالي.
أخبرني الشخص الجالسُ بجواري بكل شيء عن العرض، وكان رجلًا بدينًا مرِحًا. أما الشخص المجاور له، وكان رجلًا وسيمًا ثملًا، فظل يعارضه ويقول إن المشهد لم يكن هكذا. لكن الرجل البدين بجواري غمز لي، لئلا أحمل الأمر على محمل الإهانة.
استمر عرض قصة فرسان شارلمان لثلاث ليالٍ. وكنَّا قد وصلنا، بالطبع، في عرض الليلة الثانية. لكن لا يهم … فكل ليلة تُعرَض فيها قصةٌ كاملة. يؤسفني أني نسيت أسماء الفرسان. لكن القصة كانت تدور حول أورلاندو وصديقه والقزم الذين أُسِروا بسبب حيلٍ قام بها ذلك القزم نفسه الذي ينتمي إلى فرسان شارلمان، وحُبسوا داخل قلعة مسحورة لساحرة عجوز مخيفة كانت تقتات على دماء المسيحيين. وكانت مهمة رينالدو وبقية فرسان شارلمان حينها، بمساعدة الماجيس الحكيم الطيب، أن يحرروا رفاقهم الأسرى من قبضة الساحرة العجوز الشريرة.
فهمت الكثير من القصة التي رواها لي الرجل البدين بينما كان المسرح يزداد امتلاؤه بالحضور. كان يعرف كل تفاصيل أحداث فرسان شارلمان بأكملها. ومن الواضح أن سلسلة أحداث فرسان شارلمان لها أكثر من رواية. إذ إن الرجل الوسيم الثمل ظل يقول إنه مخطئ، ويصر على ذلك، ثم يحكي روايات مختلفة، ثم يصرخ مطالبًا بحكام ليحكموا أيهما على صواب، هو أم صديقي البدين. وسرعان ما تجمع الكثير من الحكام، ثم بدأت الزوبعة. لكن صاحب المسرح البدين الذي يحمل عود الشمر جاء وأسكت هذا الصخب، مخبرًا الرجل الوسيم الثمل بأنه يعرف الكثير ولم يُطلب منه أن يدلي بشيء. وحينها صار الرجل الثمل متجهمًا.
سألني صديقي إن كان بإمكاني أن آتي يوم الجمعة. فالجمعة ليلة عظيمة. تُعرَض فيها مسرحية «بياتي باولي»: جماعة باول المقدسة. وأشار إلى الجدران حيث كانت لوحةٌ معلقة تُعلن عن عرض جماعة باول المقدسة. من الواضح أن هؤلاء الأفراد كانوا من الجماعات السرية المخيفة التي تتخفى في قلنسوة حاجبةٍ للوجه وتحمل خناجر ولهم عيون مخيفة تتطلع من ثقوب القلنسوة. سألت إن كانوا سفاحين لا يختلفون عن عصابة اليد السوداء. فكانت الإجابة: كلا على الإطلاق. إن جماعة باول المقدسة هي جماعة لحماية الفقراء. مهمتها العثور على الأغنياء الطغاة وقتلهم. حقًّا، إنها جماعة رائعة مدهشة. سألت إن كانت أشبه بمافيا الكامورا؟ بل العكس … وهنا انقلب صوته إلى صوتٍ متوتر؛ إذ إنهم يكرهون الكامورا. إن جماعة باول المقدسة هي العدو اللدود والمفزع لمافيا الكامورا الكبرى. لأن مافيا الكامورا الكبرى تقمع الفقراء. ولذلك تقتفي جماعة باول سرًّا قادة مافيا الكامورا الكبرى، ثم تقتلهم، أو تخضعهم إلى محكمة ملثمة مخيفة تنطق بحكم مفزع صادر من جماعة باول المقدسة. وما إن تحكم جماعة باول المقدسة بالموت على شخص … فقد قُضي الأمر. يا له من عرض رائع حقًّا! لمَ لا آتي يوم الجمعة؟
يبدو لي أن ثمة درسًا أخلاقيًّا غريبًا لهؤلاء الصِّبية المتكدسين والمحدقين في خشبة المسرح. جميعهم من الذكور: صِبية ورجال. أسأل صديقي البدين: لمَ لا توجد هنا نساء أو فتيات. فيقول: إن المسرح مساحته صغيرة للغاية. لكني قلت إنه إذا كان هناك متسع لكل هؤلاء الصبيان والرجال، فهناك المتسع نفسه للفتيات والنساء. مستحيل … ليس في هذا المسرح الصغير. علاوة على أن هذا العرض لا يناسب النساء. ثم أسرع بإضافة أن السبب بالتأكيد ليس هو وجود أي شيء منافٍ للآداب. ولكن ماذا ينبغي للنساء والفتيات أن يفعلن في عرضٍ لدُمًى متحركة؟ إن هذا شأن الرجال.
وافقته حقًّا في الرأي، وكنت ممتنًّا أنه لم يكن بيننا الكثير من الفتيات والصبايا المتململات المتكلفات في ابتسامتهن. وكان هذا الجمهور من الذكور مشدود الأعصاب ومنتبهًا للغاية.
لكن سكوت! ستبدأ المسرحية. صبيٌّ يعزف بعنفٍ على بيانو مكسور تحت خشبة المسرح. تتعالى صيحات صاحب المسرح «هدوء!»، ثم يصل إلى الصبيان المشاغبين ويخِزهم بعود الشمر مثلما يفعل شماس في كنيسة. عندما رُفِع الستار، توقف البيانو، وعمَّ صمتٌ تام. وبحركة سريعة دخل فارسٌ مبهر، يسير بإيقاع حيويٍّ مدهش، ويحدق حوله بعينيه الثابتتين الحازمتين. ثم يبدأ المقدمة الاستهلالية التي يخبرنا فيها بموقعنا من الأحداث. ثم يشهر سيفه بطريقة مؤثرة ويدبدب بقدميه، ويعلو صوته الرجولي العسكري الأجش. ثم يدخل فرسان شارلمان — أصدقاؤه الذين عليهم مرافقته — واحدًا تلو الآخر على خشبة المسرح حتى يصل إجمالي عددهم إلى خمسة فرسان مذهلين من بينهم الأميرة البابلية وفارس بريطانيا. يقف الفرسان جميعًا في صفٍّ مذهل يعكس بريقًا. ثم يأتي ميرلين في عباءته الحمراء. يتمتع ميرلين بوجه مشرق أشقر ممتلئ قليلًا وعينين زرقاوين، ويبدو أنه يمثل رجاحة عقل أهل الشمال. وفي تلك اللحظة كان يُبصِّرهم بإسهابٍ كيف لهم أن يتصرفوا وماذا عليهم فعله.
وعندئذٍ يصبح الفرسان المتألقون مستعدين. أهم مستعدون؟ رينالدو يشهر سيفه بصرخة هائلة قائلًا: «آنديامو!» أي: هيَّا بنا. فيرد الآخرون: «آنديامو!». كلمةٌ لها وَقْع رائع.
كان أول عدوٍّ لهم فرسان إسبانيا الذين ظهروا بجلابيب حمراء وعمامات. نشِبت معركة مروعة مع هؤلاء الفرسان. في البداية، بدأ القتالَ فارسُ بريطانيا. فهو الشخص المتباهي الذي يفعل كل شيء بالكلمات. لكن في الواقع، سقط فارس بريطانيا المسكين واهنًا. وقف الفرسان الأربعة المتألقون كتفًا إلى كتف يشاهدون المعركة. ثم دخل في تلك اللحظة فارسٌ آخر، وبدأت المعركة من جديد. بدا مفزعًا صليل السيوف، وكذلك الأنفاس اللاهثة خلف الأقنعة المنسدلة. استمر المشهد إلى أن سقط في النهاية فارس إسبانيا ووقف فارس شارلمان وقدَمُه فوق الجثة الهامدة. فارتفعت أصوات التهليل من فرسان شارلمان، وصيحات الفرح من الحضور.
يصرخ صاحب المسرح شاهرًا عود الشمر: «هدوء!»
يسود صمت تام ثم تستمر القصة. يدَّعي فارس بريطانيا، بكل تأكيد، أنه مَنْ قتل العدو، فيهمس الجمهور باستهزاء بصوت خافت. يهمس صديقي البدين: «إن فارس بريطانيا هو المتباهي دومًا، ولا يفعل أي شيء أبدًا». لقد نَسِيَ جنسيتي. أتساءل إن كان فارس بريطانيا هو شخصية تقليدية، أم أن القصة قد أضيفت لها لمسة سياسية حديثة.
على أي حال، انتهت هذه المعركة … وجاء ميرلين ليُدلي بدلوه في الخطوة التالية. هل نحن مستعدون؟ نحن مستعدون. هيَّا بنا! مرة أخرى تنطلق الكلمة بصرخةٍ عالية، فينطلقون. في البداية يظل الواحد منا مأخوذًا تمامًا بمشاهدة الشخصيات المجسَّدة: لمعانها، نظرتها الثابتة الصارمة، إيماءاتها المفاجئة الحادة. ثمة شيء فيها مُلهِم للغاية. كم بدت هذه المجسَّمات لائقة لتجسيد الحكايات الأسطورية القديمة أكثر من العنصر البشري. كلا، إذا كنَّا سنلجأ إلى عناصر بشرية على خشبة المسرح، فلا بد أن يصبحوا مقنَّعين ومتنكرين. في حقيقة الأمر تُمثَّل المسرحيات بكائنات رمزية من وحي الإدراك البشري؛ دُمًى متحركة إن شئت، لكن ليس بعناصر بشرية. فمسارحنا تسلك مسلكًا خاطئًا؛ ولذا تكون في غاية الملل.
شيئًا فشيئًا، وجدت أن عينيَّ كانت لهما أهمية ضئيلة. شيئًا فشيئًا، كان الصوت هو الذي استحوذ على مشاعري. فكان صوتًا ذكوريًّا قويًّا، خشنًا إلى حدٍّ ما، أحدث صدًى فوريًّا في مشاعري، وليس في عقلي. من جديد، بدأ العِرْق الذكوري يظهر في أعماق نفسي. لمرة أخرى تندفع في عروقي تلك الدماء الغنيَّة السالفة المحمَّلة بالطابع الذكوري الأصيل الذي لا يبالي بشيء ولا يقيده شيء. ما الذي يهم الواحد منَّا؟ فيما يُعنَى المرء بما تمليه عليه المبادئ والعقل؟ ألا يحرك نفوس الرجال هذا الطيش المندفع الجامح الذي تلخصه تلك الكلمة المفاجئة: آنديامو! آنديامو! هيا بنا. لنمضي حيث تحملنا قدمانا، لكن الأهم هو ألا نتوقف عن المُضي. إنهما الشغف والطيش الرائعان اللذان لا يعرفان التقيُّد بالمبادئ والانصياع لتعليمات معلمي المدارس، ويتخذان من العفوية السلسة دليلًا مرشدًا.
أحببت أصوات فرسان شارلمان … صوت رينالدو، وصوت أورلاندو؛ أصوات رجال حقيقيين، أولئك الذين لا يحتاجون إلى تعليم. بالتأكيد كان هناك ميرلين يلقي خطاباته الطويلة بنبرةٍ رتيبة مملة. لكن مَن هو؟ أكان أحد فرسان شارلمان العظماء؟ كلا لم يكن كذلك. كان مجرد رجل ثرثار طويل الثوب. إن الدم المغامر هو الذي يحقق كل شيء، بينما التفكير العقلي والأخلاقي مجرد مساعدة ثانوية، أداة لا أكثر.
كان التنين رائعًا، رأيت تنانين في عرض واجنر بحديقة كوفنت جاردن، وفي مسرح برينس ريجنتن في ميونخ، فكانت أشكالها مثيرة للضحك. لكن هذا التنين أرعبني تمامًا بحركاته الواثبة والملتوية. وتجمد الدم في عروقي عندما أمسك بالفارس من قدمه.
صاحب ظهور «بعل زبوب» هبَّات الدخان والكبريت. لكنه كان مجرد خادم للساحرة العظيمة العجوز. كان أسود ويبتسم ابتسامة عريضة، وكان يستعرض مؤخرته وذيله. لكنه كان غير مؤثر، كأنه لا يملك أي قوًى شريرة.
أما الساحرة العجوز ذات الشعر الشائب والعينين الجاحظتين فنجحت في أن تكون مخيفة. وبلمسة واحدة فقط تتحول إلى سيدة عجوز طويلة طيبة. لكن استمع إليها. استمع إلى صوتها الأنثوي المريع وصرخاتها المزعجة التي تعكس شهوةً إلى الشر. أجل، ملأت قلبي رعبًا. وأنا مندهش أن أجد نفسي مصدِّقًا دورها بصفتها رأس الشر. أما بعل زبوب، الشيطان المسكين، فهو مجرد أداة من أدواتها.
إن روحها الأنثوية العجوز المخيفة المتلذذة بالشر هي التي تحبس الأبطال وتطلق قوة شريرة مرعبة لا تُقهر. تمثل هذه الروح العجوز المخيفة منبع الأذى. ولهذا شعرت بأن قلبي يشتعل كرهًا لها مثلما تشتعل قلوب الصبيان الحاضرين. شعرت بكراهية شديدة وعميقة نحو هذه المرأة العجوز المخيفة التي ترمز للشر. أما بعل زبوب الذكر المسكين فهو عبدها المطيع. وللقضاء عليها وهزيمتها نحتاج لكل ما يملكه ميرلين ذو الوجه المضيء من ذكاء، ولكل ما يملكه فرسان شارلمان من إمكانيات وحماس.
لن تُهزم نهائيًّا … ولن تموت أبدًا حتى يُحرَق تمثالها الذي كان محبوسًا في قبو القلعة. يا للجمال، كان عرضًا تحليليًّا نفسيًّا للغاية، وأستطيع أن أقدم تحليلًا فرويديًّا جيدًا للغاية له. لكن انظر إلى تمثال الساحرة، إنه يمثل هذه الفكرة الموجودة في أعماق اللاوعي. انظر كيف سيتخلص منها الفرسان الذكور المتهورون الذين لا يمكن ترويضهم. بينما كانت النيران تُضرَم في التمثال — لم يكن سوى تمثال ورقيٍّ مثبَّت على أسلاك — يصيح الجمهور! ويصيح مرة أخرى. ليتنا نستطيع تحقيق هذا العرض الرمزي. لم يَصِحْ إلا الصبيان الصغار. أما الرجال، فابتسموا فحسب على هذه الحيلة. فهم يدركون تمامًا أن هذا التمثال الأبيض لن يمَسَّه سوء.
وهكذا انتهى العرض. نظر إلينا الفرسان مرة أخرى. كانت عينا أورلاندو — بطل الأبطال — تحيدان إلى الداخل قليلًا. وهذا منحه تلك الهيئة التي تعكس طيبة نفس شديدة يُغرم بها الناس؛ هيئة رجلٍ لا يفكر بالمنطق، لكن قلبه طَوال الوقت يمتلئ شغفًا وحماسة فيَّاضة. وهذا ما يُغرمون به.
انصرف فرساني. كانوا جميعًا يتألقون بوجوه مذهلة، ويلمعون على نحوٍ مبهر، ويتمتعون بطابعٍ رجولي. يؤسفني أنهم سيوضَعون في صندوقٍ في تلك اللحظة.
انطلقت تنهيدة راحة كبيرة. وبدأ البيانو في عزف لحن رتيب. أحدهم يلتفت ويضحك. فنلتفت جميعًا. كان جالسًا فوق مكتب التذاكر طفل صغير سمين ووقور يبلغ من العمر سنتين أو ثلاث سنوات، ويداه مطويتان فوق بطنه، وله جبين كبير أبيض وكأنه تمثال بوذا صغير. يضحك الجمهور مظهرًا التفاعُل المميِّز لأهل الجنوب؛ ذلك التفاعل الجسدي، فذلك ما يحبون أن يشعروا به ويستثيروه.
بدأت فقرةٌ بعد انتهاء العرض بقليل: يدخل أمام ستار المسرح المسدل كاريكاتير ساخر بدين لشخصٍ نابوليٍّ، ومن الجانب الآخر يدخل كاريكاتير طويل لشخصٍ صقلي. اندفع كل منهما نحو الآخر فاصطدما بقوة. ووقع النابولي على مؤخرته. فتعالت صيحات الصبيان بالضحك. إنه الصدام الأبدي بين الشعبين النابولي والصقلي. واستمر في تلك اللحظة الكثير من المزاح بين المهرجَين باللهجتين. للأسف، استعصى عليَّ أن أفهم منهما أي شيء على الإطلاق. لكن المشهد بدا فكاهيًّا ومضحكًا للغاية. تلقى النابوليُّ بكل تأكيد أغلب الصفعات. لم يظهر أي شيء غير لائق على الإطلاق فيما عدا مرة واحدة. يصرخ الصبية من الضحك ويتهللون فرحًا، ولا أحد يقول: «هدوء»!
لكن العرض انتهى. وانتهى كل شيء. انفضَّ المسرح في لحظة. وصافحتُ جاري البدين بحبٍّ وبروح طيبة. حقًّا أحببت كل من في المسرح؛ روح أهل الجنوب السخية المتحمسة المميَّزة بخفة الدم والعفويَّة، التي تسعى إلى الاتصال الجسدي، وليس التواصل العقلي أو التعاطف الروحي. أحزنني فراقهم.