بين ليل وصباح
اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك.
اسكت فالأثير المثقل بالنواح والعويل لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك، ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح. فمن يترقَّبِ الصباحَ صابرًا يُلاقِ الصباح قويًّا، ومن يهوى النور فالنور يهواه.
اسكت يا قلبي واسمعني مُتكلمًا.
•••
في الحلمِ رأيتُ شحرورًا يُغرِّد فوق فُوَّهة بركان ثائر.
ورأيتُ زنبقةً ترفع رأسها فوق الثلوج.
ورأيتُ حوريةً عارية ترقص بين القبور.
ورأيت طفلًا يلعبُ بالجماجم وهو يضحك.
رأيتُ جميع هذه الصور في الحلم، ولمَّا استيقظتُ ونظرت حولي رأيت البركانَ هائجًا، ولكني لم أسمع الشحرور مُغردًا ولا رأيته مُرفرفًا.
ورأيتُ الفضاءَ ينثرُ الثلوج على الحقول والأودية، ساترًا بأكفانه البيضاء أجسامَ الزنابق الهامدة.
ورأيت القبور صفوفًا مُنتصبة أمام سكينة الدهور، وليس بينها من يتمايل راقصًا ولا من يجثو مُصَلِّيًا.
ورأيتُ رابيةً من الجماجم، وليس هناك من ضاحكٍ سوى الريح.
في اليقظة رأيتُ الحزن والأسى، فأين ذهبَتْ أفراح الحلم ومسرَّاته؟
أنَى توارت بهجة المنام؟ وكيف اضمحلَّتْ رسومه؟
وكيف تتجلد النفس حتى يُعيد النوم أشباح أمانيها وآمالها؟
اصغَ يا قلبي واسمعني مُتكلمًا.
•••
كانت نفسي بالأمس شجرة قوية مُسنَّة، تمتدُّ عروقها إلى أعماق الأرض وتتعالى غصونها نحو اللانهاية.
ولقد أزهرتْ نفسي في الربيع وأثمرتْ في الصيف، ولمَّا جاء الخريف جمعتُ أثمارها في أطباقٍ من الفضة ووضعتُها على قارعة الطريق، فكان العابرون يتناولون منها ويأكلون ثم يسيرون في سبيلهم.
ولمَّا انقضى الخريف وتحولتْ تهاليله إلى الندب والولولة، نظرتُ فلم أرَ في أطباقي سوى ثمرة واحدة أبقاها الناس لي، فتناولتُها وأكلت، فألفَيتها مُرَّة كالعلقم، حامضة كالحصرم. فقلتُ لنفسي: «ويحي، لقد وضعتُ في أفواهِ الناس لعنة، وفي أجوافهم عداء، فماذا تُرى فعلتِ يا نفسي بالحلاوة التي امتصتها عروقكِ من أحشاء الأرض؟ وبالأريج الذي تشرَّبَتْهُ قضبانكِ من نور الشمس؟»
بعد ذلك اقتلعتُ شجرة نفسي القوية المُسِنَّة.
اقتلعتُها بعروقها من التربة التي نَمَتْ فيها وترعرعتْ.
اقتلعتُها من ماضيها ونزعتُ عنها ذكرى ألف ربيع وألف خريف.
وعدتُ فزرعتُ شجرةَ نفسي في مكانٍ آخر.
زرعتها في حقلٍ بعيد عن سبل الزمن، وكنتُ أسهر بجانبها قائلًا: إن السهر يُدنينا من النجوم. وكنتُ أسقيها بدمي ودموعي قائلًا: إن الدم نكهة، وفي الدموع حلاوة.
ولمَّا عاد الربيع أزهرت نفسي ثانيةً.
وفي الصيف أثمرتْ نفسي. ولمَّا جاء الخريف جمعتُ أثمارها الناضجة بأطباقٍ من الذهب ووضعتها على مُلتقى السبل، فمرَّ الناس أفرادًا وجماعات، ولكن لم يمد أحد يده ليتناول منها.
فأخذتُ إذ ذاك ثمرةً وأكلتُ، فوجدتها حُلوة كالشهد، لذيذة كالكوثر، طيبة كالخمر البابلية، كأنفاس الياسمين، فصرختُ قائلًا: «إن الناس لا يُريدون البركة في أفواههم ولا الحق في أجوافهم؛ لأن البركة ابنة الدموع، والحق ابن الدماء.»
ثم عُدتُ وجلستُ في ظل نفسي المنفردة في حقلٍ بعيد عن سبل الزمن.
•••
اسكت يا قلبي حتى الصباح.
اسكت فالفضاء قد أتخمَتْهُ رائحة الأشلاء فلن يتشرب أنفاسك.
اصغَ يا قلبي واسمعني مُتكلمًا:
كانت بالأمس فكرتي سفينة تتقلَّب بين أمواج البحار وتتنقل مع الأهوية من شاطئٍ إلى شاطئ.
ولقد كانت سفينة فكرتي خالية إلَّا من سبعةٍ أكواب طافحة مختلفة، بألوانٍ مختلفة تُشابه ألوان قوس القزح بنضارتها.
وجاء زمن مللتُ فيه التنقُّل على وجه البحار، فقلتُ سأعود بسفينة فكرتي الفارغة إلى ميناء البلد الذي ولدتُ فيه.
ثم أخذتُ أَطلي جوانب سفينتي بألوانٍ صفراء كشمس المغيب، وخضراء كقلب الربيع، وزرقاء ككبد السماء، وحمراء كذَوب الشقيق، وأرسم على شراعها ودفَّتها رسومًا غريبة تجذب العين وتُبهج البصيرة. ولمَّا انتهيت من عملي وقد ظهرتْ سفينة فكرتي كرؤيا نبي تطوف بين اللانهايتين: البحر والسماء، دخلتُ ميناء بلدي، فخرج الناس لملاقاتي بالتهليل والتعظيم، وأدخلوني المدينة ضاربين الدفوف نافخين الزمور.
فعلوا ذلك لأن خارج سفينتي كان مزخرفًا بَهِجًا.
ولم يدخل أحد جوف سفينة فكرتي.
ولم يسأل أحد ماذا جلبتُ فيها من وراء البحار.
ولم يدْرِ أحد أني عُدْتُ بها فارغة إلى الميناء.
عند ذلك قُلتُ في سرِّي: «لقد ضلَّلْتُ الناس، وبسبعة أكوابٍ من الألوان قد كذبتُ على باصرتهم وبصائرهم.»
•••
وبعد عام ركبتُ سفينة فكرتي وأبحرتُ ثانيةً.
سرتُ إلى جُزُر الشرق، فجمعتُ منها المر واللبان والند والصندل وأدخلتها إلى سفينتي.
وإلى جزر الجنوب، فجلبتُ منها التبر والعاج والياقوت والزمرد وجميع الحجارة الكريمة.
وإلى جزر الشمال، فعدتُ منها بالخز والوشي والبرفير.
وإلى جزر الجنوب، فحملت منها الدروع المزردة والسيوف المشرفية وسائر أنواع الأسلحة.
ملأتُ سفينة فكرتي بنفائس الأرض وغرائبها، وعُدتُ إلى ميناء بلدي قائلًا: «سوف يُمجِّدني قومي ولكن عن جدارة، وسيُدخلونني المدينة مُنشدين مُزمِّرين ولكن عن استحقاق.»
ولكن لمَّا بلغتُ الميناء لم يخرج أحد لملاقاتي، ودخلتُ شوارع بلدي فلم يلتفتْ إليَّ أحد.
ووقفتُ في ساحتها مُعلنًا للناس ما جلبتُ لهم من ثمار الأرض وطرائفها، فكانوا ينظرون إليَّ والضحك ملءُ أفواههم والسخرية على وجوههم، ثم يتحوَّلون عني.
فعدتُ إلى الميناء كئيبًا مُستغربًا، ولكنني ما لمحتُ سفينتي حتى فطنتُ لأمرٍ كنت مشغولًا عنه بمنازع أسفاري ورغائبها، فهتفتُ قائلًا: «إن أمواج البحار قد مَحَت الطلاء من جوانب سفينتي، فبانت كهيكلٍ من عظام، وعفَتِ الأرياح والأنواء وحرارة الشمس الرسوم عن أشراعها، فظهرت كأثوابٍ رمادية بالية.»
لقد جمعتُ طرائفَ الأرض ونفائسها في تابوتٍ يعومُ على وجه الماء، وعدتُ إلى قومي فنبذوني؛ لأن عيونهم لا ترى سوى المظاهر الخارجية.
في تلك الساعة تركتُ سفينة فكرتي وذهبتُ إلى مدينةِ الأموات، وجلستُ بين القبور المكلسة مُفكِّرًا بأسرارها.
•••
اسكت يا قلبي حتى الصباح. اسكت فالعاصفة الهوجاء تسخر بهمس أعماقك، وكهوف الوادي لن تُرجِّع بصداها رنَّات أوتارك.
اسكت يا قلبي حتى الصباح. فمن يترقب الصباح مُتجلِّدًا يُعانقه الصباح مشتاقًا.
ها قد طلع الصباح يا قلبي، فتكلم إن كنت تستطيع الكلام.
هو ذا موكب الصباح يا قلبي. فهل أبقى سكوت الليل في أعماقك أغنية تُلاقي بها الصباح؟
هو ذا أسراب الحمام والشحارير تتطاير مُتَنَقِّلَة في أطراف الوادي، فهل أبقى هول الليل في جناحيك صلابة لتطير معها؟
هو ذا الرعيان يسيرون أمام قُطعانهم من الحظائر والمرابض. فهل أبقتْ لك أشباح الليل عزمًا لتسير وراءها إلى المروج الخضراء؟
هو ذا الفتيان والصبايا يمشون الهويناء نحو الكروم، فهلَّا نهضت ومشيت معهم؟
قُم يا قلبي. قُم وسِر مع الفجر فالليل قد مضى، ومخاوف الليل قد اضمحلَّتْ مع أحلامه السوداء.
قُم يا قلبي وارفع صوتكَ مُترنمًا، فمن لا يشارك الصبح بأغانيه كان من أبناء الظلام.