المليك السجين
خفِّف عنك أيها المليك الأسير، فلستَ في سجنك أشد بلاءً مني في جسدي. اربض وكُن مُتجلِّدًا يا أبا الأهوال؛ فاضطرابٌ أمام النوائب حريٌّ ببنات آوى، ولا يجمُل بالملوك المسجونين سوى الاستهزاء بالسجن والسجَّان.
سَكِّن روعكَ يا أبا العزم وانظر إليَّ، فأنا بين عبيد جبناء مثلك بين قضبان القفص، وما الفرق بيننا سوى حلم مزعج يجاور روحي، ولا يخشى الاقتراب إليك.
كِلانا منفيٌّ عن بلاده بعيدٌ عن أهله وأحبابه، فخفِّض عليكَ جأشكَ وكُن مثلي صابرًا على مضض الأيام والليالي، ساخرًا بهؤلاء الضعفاء الذين يتغلَّبون علينا بعددهم لا بعزم أفرادهم.
وماذا عسى ينفعُ الزئير والضجيج والناس طُرشٌ لا يسمعون؟
لقد صرختُ قبلكَ في آذانهم فلم أستوقف غير أشباح الدُّجَى، وتفتَّحتُ مثلك طبقاتهم فلم أجد بينهم سوى جبان يستبسل مُتجبِّرًا أمام المقيدين بالسلاسل، وضعيف يتوقَّح مُتصلبًا أمام المسجونين في الأقفاص.
•••
انظر أيها المليك الجبار، انظر إلى هؤلاء المحيطين بسجنك الآن، تفرَّس في وجوههم تجد ملامحهم ما كنتَ تراهُ في سحنات أدنى رعاياك وأعوانك في مجاهل الصحراء، فمنهم من يُشبه الأرنب بضعف قلبه، ومنهم من تَماثَلَ الثعلب باحتياله، ومنهم من يُضارع الأفعى بخبثه، ولكن ليس بينهم من له سلامة الأرنب، وذكاء الثعلب، وحكمة الأفعى.
انظر، فهذا كالخنزير قذارةً، أمَّا لحمه فلا يؤكل. وهذا كالجاموس خشونةً، أما جلده فلا ينفع. وذاك كالحمار غباوةً، ولكنه يمشي على الاثنتين. وذلك كالغراب شؤمًا، ولكنه يبيع نعيبه في الهياكل، وتلك كالطاوس تِيهًا وإعجابًا، أما ريشها فمستعار.
وانظر أيها السلطان المهيب، انظر إلى تلك القصور والمعاهد؛ فهي أوكار ضيقة يسكنها الإنسان، مُفاخرًا بزخارف سقوفها التي تحجبه عن النجوم، مُغتبطًا بصلابة جُدرانها التي تفصله عن أشعة الشمس. هي كهوف مُظلمة تذبُلُ في ظلالها أزاهر الشباب، وتترمَّد في زواياها جمرة الحب، وتتحوَّل في فضائها رسوم الأحلام إلى أعمدة من دخان. هي سرادب غريبة يتماثل فيها سرير الطفل بجانب فراش المنازع، وينتصب فيها تخت العروس بقُرب نعش الميت.
وانظر أيها الأسير الجليل، انظر إلى تلك الشوارع المُنفرجة والأزِقَّة الضيقة، فهي أودية خَطِرَة المعابر، يتربصُ اللصوصُ بين مُنعرجاتها، ويختبئ الخوارجُ في جنباتها. هي ساحة قتال مُستتبٍّ بين الرغائب والرغائب، تتنازل فيها الأرواح مُتضاربة ولكن بغير سيوف، وتتصارع مُتناهشة ولكن بغير الأنياب، بل هي غابة أهوال تسكنها حيوانات داجنة المظاهر، مُعطرة الأذناب، مسقولة القرون، لا تقضي شرائعها ببقاء الأنسب، بل بدوام الأروغ والأحبل. ولا تئول تقاليدها إلى الأفضل والأقوى، بل إلى الأخبث والأكذب. أما رجالها فليست أسدًا نظيرك، بل هم مخاليق عجيبة، لهم مناقب النسور، وبراثن الضبع، وألسنة العقارب، ونقيق الضفادع.
•••
فدَتكَ روحي أيها المليك، فقد أطلتُ الوقوفَ لديك، وأسهبتُ بالكلامِ أمامك، ولكن هو القلب المخلوع عن عرشه يتعزَّى بالملوك المخلوعين، وهي النفس السجينة المُستوحشة تستأنس بالسجناء والمستوحشين. فسامح فتًى يلوك الكلام مُتسليًا به عن الطعام، ويرتشف الأفكار مُستعيضًا بها عن الشراب.
إلى اللقاء أيها الجبار المهيب، فإن لم يكن اللقاء في هذا العالم الغريب فسيكون في عالم الأشباح، حيث تجتمع أرواح الملوك بأرواح الشعراء.