الشاعر

أنا غريب في هذا العالم.

أنا غريب وفي الغربة وحدة قاسية ووحشة موجعة، غير أنها تجعلني أفكر أبدًا بوطنٍ سحريٍّ لا أعرفه، وتَملأ أحلامي بأشباح أرضٍ قصية ما رأتها عيني.

أنا غريبٌ عن أهلي وخِلَّاني، فإذا ما لقيتُ واحدًا منهم أقول في ذاتي: «من هذا؟ وكيف عرفته؟ وأيُّ ناموس يجمعني به؟ ولماذا أقترب منه وأُجالسه؟»

أنا غريب عن نفسي، فإذا ما سمعت لساني مُتكلِّمًا تستغرب أذني صوتي. وقد أرى ذاتي الخفية ضاحكة باكية، مُستبسلة خائفة، فيعجب كياني بكياني، وتستفسر روحي روحي. ولكنني أبقى مجهولًا، مُستترًا، مكنفًا بالضباب، محجوبًا بالسكوت.

أنا غريب عن جسدي، وكلما وقفت أمام المرآة أرى في وجهي ما لا تشعر به نفسي، وأجد في عيني ما لا تكنُّه أعماقي. أسير في شوارع المدينة فيتبعني الفِتيان صارخين: «هو ذا الأعمى، فلنُعطِهِ عكازًا يتوكَّأ عليها.» فأهرب منهم مُسرعًا. ثم ألتقي بسربٍ من الصبايا فيتشبَّثن بأذيالي قائلات: «هو أطرش كالصخر، فلنملأ أذنيه بأنغام والغزل.» فأتركهن راكضًا. ثم ألتقي بجماعة من الكهول، فيقفون حولي قائلين: «هو أخرس كالقبر، فتعالوا نُقَوِّم اعوجاج لسانه.» فأغادرهم خائفًا. ثم ألتقي برهطٍ من الشيوخ، فيومئون نحوي بأصابع مُرتعشة قائلين: «هو مجنون أضاع صوابه في مسارح الجن والغيلان.»

أنا غريب في هذا العالم.

أنا غريب وقد جُبتُ مشارق الأرض ومغاربها، فلم أجد مسقط رأسي، ولا لقيت من يعرفني ولا من يسمع بي.

أستيقظ في الصباح فأجدني مسجونًا في كهفٍ مُظلم، تتدلَّى الأفاعي من سقفه وتدبُّ الحشرات في جنباته، ثم أخرج إلى النور فيتبعني خيال جسدي، أما خيالات نفسي فتسير أمامي إلى حيث لا أدري، باحثةً عن أمورٍ لا أفهمها، قابضة على أشياء لا حاجة لي بها، وعندما يجيء المساء أعود وأضطجع على فراشي المصنوع من ريش النعام وشوك القتاد، فتراودني أفكار غريبة، وتتناولني أميال مُزعجة مُفرحة موجعة لذيذة. ولمَّا ينتصف الليل تدخل عليَّ من شقوق الكهف أشباح الأزمنة الغابرة وأرواح الأمم المنسية، فأحدق بها وتُحدق بي، وأخاطبها مُستفهمًا فتجيبني مبتسمة، ثم أحاول القبض عليها فتتوارى مضمحلة كالدخان.

أنا غريب في هذا العالم.

أنا غريب وليس في الوجود من يعرف كلمة من لغة نفسي.

أسير في البرية الخالية فأرى السواقي تتصاعد متراكمة من أعماق الوادي إلى قمة الجبل، وأرى الأشجار العارية تكتسي وتزهو وتثمر وتنثر في دقيقةٍ واحدة، ثم تهبط أغصانها إلى الحضيض وتتحول إلى حيَّات رقطاء مرتعشة، وأرى الأطيار تنتقل متصاعدة هابطة مغردة مولولة، ثم تقف وتفتح أجنحتها وتنقلب نساءً عاريات محلولات الشعر ممدودات الأعناق، ينظرن إليَّ من وراء أجفان مكحولة بالعشق، ويبتسمن إليَّ بشفاهٍ وردية مغموسة بالعسل، ويمددن نحوي أيادي بيضاء ناعمة معطرة بالمن واللبان، ثم ينتفضن ويختفين عن ناظري ويضمحللن كالضباب، تاركات في الفضاء صدى ضحكهن مني واستهزائهن بي.

أنا غريب في هذا العالم.

أنا شاعر أنظم ما تنثره الحياة وأنثر ما تنظمه؛ ولهذا أنا غريب، وسأبقى غريبًا حتى تخطفني المنايا وتحملني إلى وطني.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤