في العهد الجديد
في الشرق اليوم فكرتان متصارعتان: فكرة قديمة، وفكرة جديدة. أمَّا الفكرة القديمة فستُغلب على أمرها لأنَّها منهوكة القوى، محلولة العزم.
وفي الشرق يقظة تراود النوم، واليقظة قاهِرَة؛ لأنَّ الشَّمس قائِدُهَا، والفجر جيشها.
وفي حقول الشَّرق، ولقد كان الشرق بالأمس مبانة واسعة الأرجاء، يقف اليوم فتى الرَّبيع مناديًا سُكَّانَ الأجداث ليهبُّوا ويسيروا مع الأيَّام. وإذا ما أنشد الربيعُ أُغنِيَتَه بُعِثَ مَصْرُوعُ الشتاء وخَلَعَ أكفانَه ومشى.
وفي فضاءِ الشرق اهتزازات حَيَّة تنمو وتتمدَّد وتتوسع، وتتناوَل النفوسَ المنتبهة الحسَّاسة فتضمُّها إليها، وتحيطُ بالقلوبِ الأبيَّة الشَّاعرة لِتَكْتَسِبَها.
وللشرق اليوم سَيِّدان: سَيِّدٌ يأمُرُ وينهى ويُطاع ولكنه شَيْخٌ يحتضر. وسيدٌ سَاكِتٌ بسكوتِ النواميس والأنظمة، هادِئ بهدوء الحق، ولكنه جبَّار مفتول السَّاعدين، يعرف عزمَه، ويَثِقُ بِكيَانه، ويؤمِنُ بِصَلَاحِيَته.
•••
في الشرق اليوم رجلان: رجلُ الأمس ورجل الغد، فأيٌّ منهما أنتَ أيها الشرقي؟
ألا فاقتَرِبْ مِني لأتفرَّسك وأتبصَّرك وأتحقَّقُ من ملامِحِكَ ومظَاهِرِك، ما إِذا كُنْتَ من الآتين إلى النور؟ أو الذَّاهبين إلى الظَّلام.
تعالَ وأخبرني ما أنت ومن أنت.
أسياسيٌّ يقول في سره: «أريد أن أنتفع من أُمَّتي»؟ أم غيورٌ مُتَحَمس يهمس في نفسه: «أتوق إلى نفع أُمَّتي»؟
إن كنتَ الأوَّل فأنتَ نبتة طفيلية، وإن كنت الثاني فأنت واحة في صحراء.
أتاجر يتَّخِذُ عَوَزَ الناس وسيلةً للربح والانتفاع، فيحتكر الضَّروريَّات ليبيع بدينار ما ابتاعه بدرهم؟ أم رجلُ جِد واجتهاد يُسهل التَّبادل بين الحائك والزَّارع، ويجعل نفسه حلقة بين الراغب والمرغوب، فيفيد المرغوب والرَّاغب ويستفيد بعدلٍ منهما؟
إن كنتَ الأول فأنت مجرمٌ سَكَنْتَ القصور أم السُّجون، وإن كنتَ الثاني فَأَنْتَ مُحْسِنٌ شَكَرَكَ النَّاسُ أم جَحَدُوك.
أرئيس دينٍ يحوك من سذاجة القوم بزفيرًا لجسده، ويصوغ من بساطة قلوبهم تاجًا لرأسه، ويدَّعي كُره إبليس ويعيش بخيراته؟ أم تقيٌّ ورِع يرى في فضيلة الفرد أساسًا لرقيِّ الأمَة، وفي استقصاءِ أسرار روحه سُلَّمًا إلى الروح الكلي؟
إن كنت الأول فأنت كافر مُلحد صُمْتَ النَّهارَ أو صَلَّيتَ الليل، وإن كنتَ الثاني فأنتَ زنبقَةٌ في جَنَّةِ الحق ضاعَ أريجُهَا بينَ أنوفِ البَشَر، أم تَصَاعد حُرًّا طليقًا إلى الغلافِ الأثيري حيثُ تُحفَظ أَنْفَاسُ الأزهَار.
أَصَحَفِيٌّ يبيعُ فِكْرَتَه ومبدَأَه في سوق النخَّاسين، وينمو ويترعرع على ما يفرزه الاجتماع من أخبارِ المصائب والويلات، ونظير الشُّوحة الجائعة لا تهبِط إلَّا على الجِيَفِ المُنتنة؟
أم معلمٌ واقفٌ على منبرٍ من منابر المَدنيَّة، يستمدُّ من مآتي الأيام مواعظ يُلقيها على الناس بعد أن يتَّعِظَ بها نفسُه؟
إن كنتَ الأول فأنتَ بُثورٌ وقُرُوح، وإن كنتَ الثاني فدواء وبلسم.
أَحَاكِمٌ يتصاغر أمامَ من وَلَّاه ويستصغِرُ من تولَّى عليهم، فلا يُحَرِّك يَدًا إلَّا ليضعها في جيوبهم، ولا يخطو خطوةً إلَّا لمطمعٍ له فيهم؟
أم خادمٌ أمين يدير شئون الشعب ويسهر على مصالحه ويسعى إلى تحقيق أمانيه؟
إن كنتَ الأول فأنتَ زوانٌ في بيادر الأمة، وإن كنتَ الثاني فأنت بركة في أهرائها.
أَزَوْجٌ يستبيح لنفسه ما يُحَرِّمه على زوجته، ويسرح ويمرح وفي حزامه مفتاحُ سِجْنِها، ويلتهم ما يشتهيه حتى التُّخمة وهي جالسة في وَحْدَتِهَا أمام صحفة فارغة؟
أم رفيقٌ لا يسير إلى أمرٍ إلَّا ويدُه بيدِ رفيقته، ولا يَفْعَلُ أمرًا إلَّا ولها فيه فكرة ورأي، ولا يفوز بأمر إلَّا لتُسَاهِمَه أفراحَه وأمجادَه؟
إن كنت الأول فأنت ممَّن بَقِيَ حَيًّا من قَبائل انقرَضَت وهي تسكُنُ الكُهُوف وتلبَسُ الجلود. وإن كنت الثاني فأنتَ في طليعة أمَّةٍ تسير مع الفجر نحو ظَهِيرَةِ العدالة والحَصَافَة.
أَكَاتِبٌ بَحَّاثَةٌ يشمَخُ برأسِه إلى ما فوقَ رءوسنا ما بقي في داخِلِ رأسِهِ، فيدبُّ في هوتة الماضي الغابر حيثُ أَلْقَتِ الأجيال ما رَثَّ مِن أثوابِهَا، وَرَمَتْ ما لم يَعُدْ صَالِحًا لها؟ أم فكرةٌ صافِية تَتَفَحَّصُ محيطَها لتعلَم ما ينفعُه وما يضرُّه، فَتَصْرِفَ العمرَ في بناءِ النافع وهَدْمِ المُضِر؟
إن كنتَ الأول فأنت سخافة مُطَرَّسَة وبلادَةٌ مزركشة. وإن كنتَ الثاني فأنتَ خُبْزٌ للجائعين وماءٌ للظَّامِئين.
أشاعِرٌ أَنْتَ يضرب الطنبورَ أبواب الأمراء، وينثر الأزهار في الأعراس، ويسير وراء الجُثَثِ الهامدة وبين فَكَّيهِ إسفنجة مُثقلة بالماء الفاتر، حتى إذا ما بلغ المقبرة ضَغَطَ عَلَيها بلسانه وشفتيه؟ أم موهوبٌ وَضَعَ الله في يَدِه قيثارَةً يستولدها أنغامًا علوية، تجذِبُ قلوبنا وتوقفنا مُتهيبين أمامَ الحياة وما في الحياة من الجمال والهَوْلِ؟
إن كنتَ الأوَّل فأنت من المشعوِذين الذين لا يُنبِّهون في نفوسِنَا سوى عَكْسِ ما يقصِدُون، فإن تباكوا نضحك، وإن مَرِحُوا نكتئب. وإن كنتَ الثاني فأنتَ بصيرَةٌ مُشَعْشَعَةٌ وراءَ بَصَرِنا، وشوقٌ عَذْبٌ في قُلوبِنَا، ورؤيا رَبَّانِيَّة في غيبوبتنا.
•••
أقول في الشرق موكِبَان؛ موكِبٌ من عجائز محدودبي الظُّهور يسيرون مُتوكِّئين على العصيِّ العوجاء، ويلهَثُونَ منهوكين مع أَنَّهم ينحدرون من الأعالي إلى المنخفضات، وموكِبٌ من فتيانٍ يتركضون كأن في أرجلهم أجنِحَةً، ويُهَللونَ كأنَّ في حناجرهم أوتارًا، وينتَهِبونَ العقبات كأن في جبهات الجبال قوةً تجذبهم وسحرًا يختَلِبُ لبابَهم.
فمن أية فئة أنت أيها الشرقي؟ وفي أي موكِبٍ تسير؟
ألا فاسأل نفسك. استَجْوِبْهَا في سَكِينَةِ اللَّيل وقد صَحَتْ من مخدرات محيطِهَا عَمَّا إذا كنتَ مِنْ عَبِيدِ الأمس؟ أم من أحرار الغد؟
أقول لك: إِنَّ أبناءَ الأَمسِ يمشُونَ في جِنَازَةِ العهد الذي أوجدهم وأوجدوه. أقول: إِنَّهم يشدون بِحَبْلٍ أوهَتِ الأيَّامُ خُيُوطَه، فإذا ما انقطع — وعمَّا قريب ينقطع — هَبَطَ مَن تَعَلَّقَ به إلى حُفرَةِ النسيان. أقول: إنهم يسكنون منازِل مُتَداعِيَة الأركان، فإذا ما هبَّتِ العاصفة — وهي على وشك الهبوب — انهَدَمَتْ تلك المنازل على رءوسهم وكانت لهم قبورًا. أقول: إن أفكارَهُم وأقوالَهم ومنازعَهم وتصانيفَهم ودواوينَهم وكل مآتيهم، ليست سوى قيود تجرُّهم بثقلها ولا يستطيعون جرَّها لضعفهم.
أما أبناء الغد فهم الذين نادتهُمُ الحياة فاتَّبَعُوها بأقدامٍ ثابتة ورءوس مرفوعة. هم فجرُ عهدٍ جديدٍ، فلا الدخانُ يحجُبُ أنوارَهم، ولا قلقَلَةُ السَّلاسِل تغمُرُ أصواتَهُم، ولا نتن المستنقَعَاتِ يتغلَّب على طِيبهم. هم طائفة قليلةُ العَدَد بينَ طَوَائِف كَثُرَ عَدَدُهَا، ولكن في الغصن المُزهر ما ليسَ في غابةٍ يابسة، وفي حبَّةِ القَمْحِ ما ليسَ في رابِيَةٍ مِنَ التِبن. هم فِئَةٌ مجهولة لكنَّهم يعرِفُونَ بعضهم بَعْضًا، ومثلَ قِمَم عالِيَة يَرَى واحدهم الآخر ويسمع نداءه ويُناجيه، أما المغاور فعمياءُ لا تَرَى، وطرشَاءُ لا تسمع. هم النواة التي طرحها الله في حقلةٍ ما، فشقَّتْ قِشرَتَها بعَزْمِ لبابها، وتمايَلَتْ نصبة غضَّة أمامَ وجهِ الشَّمسِ، وسوفَ تنمُو شَجَرَةً عُظْمَى، تَمْتَدُّ عُرُوقُهَا إلى قلب الأرضِ وتَتَصَاعَدُ فروعُهَا إِلى أعْمَاقِ الفَضَاء.